التخلي عن التجارِب النووية
في أبريل من عام ١٩٥٧، طالبتُ، بمشاركةِ آخَرين، بتوجيه الانتباه إلى الخطرِ الهائل الناتج عن التسمُّم الإشعاعي للهواء والأرض، عقِبَ إجراء تجارِبَ بالقنابل الذرية (قنابل اليورانيوم) والقنابل الهيدروجينية. وناشدتُ، مع آخَرين، القوى النوويةَ للتوصُّل إلى اتفاقٍ لوقف التجارب بأسرعِ ما يمكن، وذلك إبَّانَ إعلانهم عن رغبتهم الحقيقية في التخلي عن استخدام الأسلحة الذرية.
في ذلك الوقت كان ثَمَّة أملٌ معقول في اتخاذ هذه الخطوة. لكنها لم تحدث. فمُفاوضات صيف عام ١٩٥٧ التي عُقدت في لندن، بقيادة السيد هارولد ستاسين، من الولايات المتحدة، لم تُحقِّق شيئًا. وعانى المؤتمر المنظَّم من قِبَل الأمم المتحدة في خريف ذلك العامِ المصيرَ ذاتَه إثر انسحاب الاتحاد السوفييتي من المناقشات.
قدَّم الاتحاد السوفييتيُّ مؤخرًا مقترَحًا لنزع السلاح قائمًا على أن تكون النقاشات مخطَّطًا لها بوضوح. وكخطوةٍ أولى، يقتضي هذا المقترحُ ضِمنًا ضرورةَ توقُّف التجارب النووية على الفور.
ما احتمالات تحقُّق هذا الوضع؟
ربما يُعتقد أنه سيكون من اليسير على جميعِ الأطرافِ المعنيَّةِ التوصُّلُ إلى اتفاقٍ بشأن هذه النقطة. فلا أحد منهم سيكون عليه التضحيةُ بأيٍّ من الأسلحة الذرية التي في حوزتهم، بينما سيَسري القيد المتمثِّل في عدم القدرة على اختبار أسلحة جديدة على الجميع.
ومع ذلك، من الصعب على الولايات المتحدة وبريطانيا القَبولُ بهذا الاقتراح. وبالفعل عارَضتاه عند مناقشة الأمر في ربيع عام ١٩٥٧. ومنذ ذلك الحين والدعايةُ المتواصلة تزعمُ أن الإشعاع الذي يعقب التجاربَ النووية يشكِّل خطرًا داهمًا يقتضي وضعَ حدٍّ لها. فالصحافة الأمريكية والأوروبية تتلقَّى باستمرار مادةً دعائية وفيرة من وكالات وهيئات الطاقة الذرية الحكومية والعلماء الذين يشعرون بقوةٍ بضرورةِ إبداء دعمهم لهذا الرأي.
ومن بيانٍ صادر عن اللجنة الفرعية للوكالة الأمريكية للطاقة الذرية؛ أقتبسُ العبارات التالية:
من المستحسَن، في إطارِ المتطلبات العِلمية والعسكرية، أن يتمَّ الحدُّ من التجارِب النووية إلى أقصى حدٍّ. وينبغي اتخاذُ الخطوات الضرورية لتصحيحِ الالتباسِ الحاليِّ لدى عامة الناس. فالآثار الآنيَّة والمحتملة على الوراثة من جرَّاء الازدياد التدريجي للنشاط الإشعاعي في الهواء باقيةٌ ضمن الحدود المسموح بها. واحتماليةُ وجودِ أثرٍ ضارٍّ يعتقد الناسُ أنه خارج حدود السيطرة، له تأثير عاطفي قوي. فاستمراريَّة التجارِب النووية هي أمرٌ ضروري ومبرَّر في إطار مصالح الأمن القومي.
والمقصود بعبارة «الالتباس لدى عامة الناس» هو حقيقة أن الناس يزدادون وعيًا بالمخاطر الناجمة عن التجارب النووية.
إن المنطقَ المحتملَ وراء العبارة الغامضة أن «الآثار على الوراثة من جراء الازدياد التدريجي للنشاط الإشعاعي في الهواء باقيةٌ ضمنَ الحدودِ المسموحِ بها»، هو أن عددَ الأطفال الذين سيولَدون مُشوَّهين — نتيجةً للضرر الذي يلحق بالخلايا التناسلية — يفترض أنه لن يكون كبيرًا بما يكفي لتبرير وقف التجارِب.
يعبِّر عن رؤية العلماء الذين يشعرون بضرورةِ دعمِ الحدِّ من خطر النشاط الإشعاعي لما يعتقدون أنها النِّسَب الصائبة، أحدُ علماء أوروبا الوسطى، الذي اختتم خُطبةً له حول هذا الموضوع بالكلمات الجريئة والتنبؤية التالية:
إذا أُجرِيَت الاختبارات بالوتيرةِ نفسِها كما في السنوات القليلة الماضية، فإن التسمُّم الإشعاعي سيكون أقوى أربعة أضعاف في عام ١٩٨٣ مما هو عليه الآن، وبنحوِ ستةِ أضعافٍ في عام ٢٠١٠. حتى هذه القوة ستكون ضئيلةً مقارنةً بالإشعاع الطبيعي. ويمكن القول بصورةٍ قاطعة إن الخطرَ المحدِقَ بالبشرِ المنخرطين في التجارِب النووية محدود. هذا لا يعني عدمَ وجود أي خطر. وفي هذا السياق أودُّ أن أقتبس كلمات الفيزيائي الأمريكي وعضوِ هيئة الطاقة الذرية، د. ليبي: «إن خطر التسمُّم الإشعاعي يجب أن يكون متوازنًا في مواجهة الخطر الذي سيتعرَّض له العالمُ الحر بأكمله، إذا تم التخلي عن التجارب النووية قبل التوصُّل إلى اتفاقيةٍ دوليةٍ آمنةٍ لنزع السلاح. فالتجارب ضرورية إذا أرادت الولاياتُ المتحدة ألا تتخلف عن رَكْب تطوير الأسلحة النووية.»
وفي إطار حمْلة التطمينات المستمرَّة، ذهب فيزيائيٌّ نووي أمريكي بارز إلى حدِّ الإعلان عن أن إجمالي عدد أقراص الساعات المضيئة في العالم يُشكل خطرًا أكبرَ من التساقط الإشعاعي للتجارب النووية حتى الآن.
وتتوقَّع الدعاية المُطمئِنةُ الكثيرَ من الأنباء السارة عن نجاح العلم في تصميمِ النموذج الأوَّلي لقنبلةٍ هيدروجينية تُنتج موادَّ إشعاعيةً خطرةً أقلَّ بكثير من تلك المعتادة. ويُطلق على القنبلة الجديدة «القنبلة الهيدروجينية النظيفة». وبذلك ينبغي أن يحمل النوع القديم من الآن فصاعدًا اسمَ القنبلة القذرة.
تختلف القنبلة الهيدروجينية النظيفة عن الأخرى في وجودِ غِلافٍ مصنوع من مادةٍ ما لا تُطلق كمياتٍ هائلةً من العناصر المشعَّة عند درجات الحرارة الانفجارية الشديدة، على عكس اليورانيوم ٢٣٨. وهذا هو سببُ كونها أقلَّ ضررًا من حيث النشاطُ الإشعاعي. غير أنها أيضًا أقلُّ قوة.
إن القنبلة الهيدروجينية الجديدة التي يُشاد بها أشدَّ الإشادة — وليكن ذِكرُنا لذلك عابرًا — نظيفةٌ نسبيًّا فحسب. فزنادُها عبارة عن قنبلةِ يورانيوم مصنوعةٍ من اليورانيوم ٢٣٥ الانشطاري، وهي قنبلة ذرية تُعادل في قوَّتها قوةَ تلك التي أُسقِطَت على هيروشيما. تُنتج هذه القنبلة، عندما تنفجر، نشاطًا إشعاعيًّا أيضًا، كما تفعل النيوترونات التي تنبعث بأعدادٍ كبيرة عند التفجير.
في إحدى الصحف الأمريكية في مطلع عام ١٩٥٨، راح د. إدوارد تيلر، أبو القنبلة الهيدروجينية القذرة، يتغنَّى بالحرب النووية الرائعة التي من المقرَّر أن تُشَنَّ كليةً بالقنابل الهيدروجينية النظيفة. ويُصرُّ على مواصلة التجارب، لإتمام هذه القنبلة المثالية على نحوٍ متقَن: «إن إجراء المزيد من التجارِب سيضعُنا في موقفٍ يسمح لنا بمحاربةِ آلةِ حربِ خُصومنا، مع حماية المارَّة الأبرياء في الوقتِ نفسِه. فالأسلحة النظيفة من هذا النوع سوف تحدُّ من الخسائر غيرِ الضرورية في أي حرب مستقبلية.»
وبالطبع، لا الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوفييتي يُفكران في إنتاج هذه القنبلةِ الأقلِّ فاعليةً لاستخدامها في أي حربٍ محتملة. فقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية في الآونة الأخيرة أن تعريضَ مناطقَ بأكملها للإشعاع قد أصبح سلاحًا هجوميًّا جديدًا.
إن القنبلة الهيدروجينية النظيفة للعرض فحسب، وليست للاستخدام. لقد ظهرت هذه القنبلة لحثِّ الناس على الاعتقاد بأن التجارِب النووية المستقبلية سيعقبها إشعاعٌ أقلُّ وأقل، وأنه لا يوجد حُجة تُبرِّر معارضة استمرار التجارب النووية.
•••
إن أولئك الذين يعتقدون أن الخطر الناجم عن التجارب النووية خطرٌ ضئيل يأخذون في الاعتبار، في المقام الأول، الإشعاعَ الجوي؛ ليُقنعوا أنفسهم بأننا لم نبلغ حدَّ الخطر بعد.
ومع ذلك، لا يمكن الركون إلى نتائجِ حِساباتهم كما يودُّون الاعتقاد بذلك. فعلى مرِّ السنين كان ثَمة اضطرارٌ إلى تقليلِ الحدِّ المسموح للإشعاع مراتٍ عدة. ففي عام ١٩٣٤، كان الحد يبلغ ١٠٠ وحدةِ إشعاع في العام. وفي الوقت الراهن تحدَّد رسميًّا بخمس وحدات. بل ويصل إلى أقل من ذلك في العديد من البلدان. ويعتبر د. لوريستون تايلور (من الولايات المتحدة الأمريكية)، الذي يعدُّ حجةً في مجال الحماية من الإشعاع، يعتبر، مع آخرين، أن مسألةَ وجودِ ما يُسمَّى ﺑ «القدْر غير الضار» من الإشعاع من عدمها مسألةٌ مفتوحة. ويعتقد أننا لا يسَعُنا إلا الحديثُ عن قدْرٍ من الإشعاع نعتبره نحن قدْرًا مسموحًا به.
دائمًا ما يتم إخبارنا بشأنِ وجود «قدْر مسموح من الإشعاع». فمَن سمح به؟ ومَن ذا الذي يملك أيَّ حق ليسمح به؟
عند الحديث بشأن خطورة الإشعاع، لا بد ألَّا نأخذ في الاعتبار فقط الإشعاعَ القادم من الخارج، بل أيضًا ذلك الذي ينبعث من العناصرِ المشعَّة في أجسامنا.
ما مصدرُ هذا النشاط الإشعاعي؟
إن العناصر المشعَّة التي تنبعث في الجو عبْر التجارب النووية لا تبقى هناك بصورةٍ دائمة. فهي تتساقط على الأرض في صورةِ أمطارٍ مشعَّة وثلوجٍ مشعة. وتخترق هذه العناصرُ النباتاتِ عبْر الأوراق والجذور وتبقى هناك. ونحن نمتصُّها عبر النباتات عن طريقِ شربِ حليبِ الأبقارِ أو تناوُل لحوم الحيوانات التي تغذَّت على هذه المزروعات. كما أن المطرَ المشعَّ يُصيب ماء الشرب.
يحدث التسمُّمُ الإشعاعيُّ الأشدُّ قوةً في المناطق الواقعة بين خطَّي عرض ١٠° و٦٠° الشماليَّين؛ نظرًا إلى التجارب النووية العديدة التي أُجريت تحديدًا في خطوط العرض هذه من قِبَل الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
لا تُوزَّع العناصر المشعَّة التي تمتصها أجسادنا عبر السنين على نحوٍ متساوٍ في النسيج الخلوي، بل تترسَّب وتتراكم في نقاطٍ معينة. ومن هذه النقاط يتخذُ الإشعاع الداخلي مكانًا له، مسببًا إصاباتٍ لا سيما للأعضاء الضعيفة. وما يفتقر إليه هذا النوع من الإشعاع في القوة، يُعوَّض عنه من خلال مُثابرته واستمراره، والعمل كما يجب ليلًا ونهارًا لسنوات.
من الحقائق المعروفة جيدًا أن من أكثر العناصر خطورةً وانتشارًا التي تمتصها أجسادُنا عنصرَ السترونتيوم ٩٠. فهو يُختزَن في العظام ومن هناك يبعث أشعَّتَه إلى خلايا النخاعِ العظميِّ الأحمر، حيث تتكوَّن الكُرَيات الحمراء والبيضاء. ويترتَّب على ذلك الإصابةُ بأمراض الدم، المميتة في أغلب الحالات. وتتَّسم خلايا الأعضاء التناسلية بحساسيةٍ خاصةٍ تجاه هذا العنصر. فحتى الإشعاع الضعيف نسبيًّا قد يؤدي إلى عواقبَ وخيمة.
أما الجانب الأكثر سوءًا لكلٍّ من الإشعاع الداخلي والخارجي، فهو أنه قد تمضي سنواتٌ قبل أن تظهر التَّبِعات الخبيثة لهما. فالواقع أن الشعورَ بآثارهما لا يبدأ في الجيل الأول، ولا الجيل الثاني، بل في الأجيال التالية. فسيشهد جيلٌ بعد جيل، ولقرون مقبلة، ميلادَ عددٍ متزايد باستمرارٍ من الأطفال بإعاقات ذهنية وجسدية.
إن القول الفصل بشأنِ مخاطرِ التجارِب النووية ليس لعالِم الفيزياء، الذي يختار الأخذ في الاعتبار الإشعاعَ القادمَ من الجو فحسب. فهذا الحق يُعزى إلى علماء الأحياء والأطبَّاء الذين درَسوا الإشعاع الداخلي والإشعاع الخارجي على حدٍّ سواء، وأولئك الفيزيائيِّين الذين يَلفِتون الانتباه إلى الحقائق التي أرساها علماءُ الأحياء والأطباء.
جاءت الضربة القاضية للدعاية المطمئنة مع الإعلان الموقَّع من قِبَل ٩٢٣٥ عالِمًا من جميع الدول، والمسلَّم يدًا بيدٍ من العالِم الأمريكي الشهير د. لينوس بولينج إلى السكرتير العام للأمم المتحدة، في ١٣ يناير ١٩٥٨. فقد أعلن العلماء أن النشاط الإشعاعي الذي ينشأ تدريجيًّا عن التجارِب النووية يُشكِّل خطرًا بالغًا على أنحاء العالَم كافَّة، ويُعد خطيرًا للغاية؛ لأن عاقبته ستكون عددًا متزايدًا من الأطفال المشوَّهين في المستقبل. ولهذا السبب، طالبوا باتفاقٍ دولي يضع حدًّا للتجارب النووية.
لم تَعُد الدعاية من أجل مواصلة التجارب النووية قادرةً على ادعاء أن العلماء غير متفقين بشأن مسألةِ خطرِ الإشعاع؛ ومن ثم ينبغي انتظارُ قرار الهيئات الدولية، والامتناع عن إثارة فزع العامة بالقول إن الإشعاع يمكن أن يُشكِّل خطرًا فعليًّا تتزايد حِدَّته كل يوم.
سوف تستمرُّ هذه الدعاية في ترسيخ هذا التوجُّه في صحفٍ بعينها. ولكن الحقيقة بشأنِ خطرِ التجارب النووية تمضي معها بثبات جنبًا إلى جنب، مؤثِّرةً على شريحةٍ متزايدة باستمرار من الرأي العام. وعلى المدى البعيد، حتى أكثر الدعاية المنظمة فاعلية لن تَقْوى على فعل شيء في مواجهة الحقيقة.
لعل أحدَ الجوانب الغامضة للدعاية من أجل مواصلة التجارب النووية هو تجاهُلها التام للآثار الضارة لهذه التجارب على أجيال المستقبل التي ستكون، وَفقًا لعلماء الأحياء والأطباء، نتيجةً للإشعاع الذي نتعرَّض له.
وقد نجح الإعلانُ الموقَّع من قِبَل ٩٢٣٥ عالمًا في التأكيد على هذا الخطر.
لا يجب أن نكون مسئولين عن ولادةِ آلاف الأطفال في المستقبل يُعانون أخطرَ الإعاقات العقلية والجسدية؛ لأننا ببساطة لم نُولِ اهتمامًا كافيًا لهذا الخطر. أولئك الذين لم يسبق لهم الوجود عند ميلاد طفل مشوَّه، ولم يَشهدوا مطلقًا ما أحاط بأمِّه من يأسٍ وبؤس، هم فقط مَن يَجرُءون على ادِّعاء أن المخاطرة التي ينطوي عليها الاستمرارُ في التجارب النووية هي مخاطرةٌ لا بد من خوضها في ظل الظروف الراهنة. ويُطلِق عالِمُ الأحياء والوراثة الفرنسيُّ الشهير جان روستان، على الاستمرار في التجارب النووية «الجريمة الممتدَّة آثارها إلى المستقبل». والمهمة مُلقاةٌ على عاتق النساء خصوصًا في منع هذه الخطيئة في حق المستقبل. عليهن أن يرفعنَ أصواتهن ضد ذلك الخطر بطريقةٍ من شأنها أن تَلقى آذانًا مصغِيةً.
•••
من الغريب أنه حتى الآن لم يُشدِّد أحدٌ على أن مسألةَ توقُّفِ التجارب النووية أو استمرارِها لا تخصُّ القُوى النووية وحدَها. مَن الذي يمنح هذه الدول حقَّ تجريبِ أسلحةٍ تنطوي على أشدِّ المخاطر فتكًا على العالم بأسرِه في وقت السِّلم؟ ماذا لدى القانون الدولي — الذي تُمجِّده الأمم المتحدة ويحظى بأقصى آيات الإشادة والإطراء في عصرنا — ليُدلِيَ به في هذا الصدد؟ هل لم يَعُد ينظر إلى العالم من بُرجِه العاجيِّ؟ إذن لا بد من إعادته من جديدٍ إلى العالم حتى يُمكن أن يُواجهَ الحقائق ويقوم بواجبه وفقًا لذلك.
سيكتشفُ القانون الدولي في الحالِ الحالةَ المزريةَ لليابان، التي تُعاني أشدَّ المعاناة من آثار التجارب النووية. فالسُّحب المشعَّة التي نجمَت عن التجارب السوفييتية في شمال شرق سيبيريا وكذلك التي نجمت عن التجارِب الأمريكية في جزر بيكيني المرجانية في المحيط الهادئ حمَلَتها الرياح إلى اليابان. وهذا التسمُّم الإشعاعي الناتج هو أسوأ ما يمكن أن يحدث. وصار هطولُ أمطارٍ مشعَّة أمرًا شائعًا ومألوفًا تمامًا. والتسمُّم الإشعاعي للتربة والمزروعات قويٌّ للغاية حتى إنه فرَض على السكان في مختلف المناطق الامتناعَ عن استخدام مَحاصيلهم للغذاء. ولكن لا بديلَ لهم سوى تناول الأرُز الملوَّث بعنصر السترونتيوم، وهو عنصر يُشكِّل خطورةً لا سيما على الأطفال. وكذلك المحيط الذي يُحيط باليابان يكون مشعًّا في بعض الأحيانِ إلى حدٍّ خطير؛ ومن ثَم يصبح مصدرُ الإمداد الغذائي للبلاد — الذي تلعب فيه الأسماكُ دائمًا دورًا مهمًّا — مهدَّدًا بسبب القدْر الكبير من الأسماك المشعَّة غير الصالحة للاستهلاك.
ونظرًا إلى أن كلَّ تجرِبة نووية جديدة تَزيد الموقفَ سوءًا، كانت الحكومة اليابانية، عند سَماعها عن مخطَّطاتٍ لتجارِبَ جديدةٍ على شمال أو جنوب اليابان، تُقدِّم نداء بلادها العاجل في واشنطن دي سي أو موسكو، راجيةً من السلطات الأمريكية أو السوفييتية التخلِّي عن مُخططاتهما. وكان الجواب دائمًا واحدًا؛ إذ يُعربون عن أسَفِهم لعدم وجودِ مجالٍ للقيام بذلك في ظل عدمِ توصُّل القُوى بعد إلى اتفاقٍ في هذا الصدد. ومؤخرًا في ٢٠ فبراير ١٩٥٨، حدث هذا مرةً أخرى في عاصمة إحدى القوى النووية.
دائمًا ما نعلم بشأن هذه النداءات ورفضِها من خلالِ فِقراتٍ صغيرة في الصحف، مثل أي خبرٍ آخَر. فالصحافة لا تُزعجنا بالافتتاحيات التي تَلفت انتباهَنا وتُطلِعُنا على ما وراء مثلِ هذه الأخبار؛ كالمأساة التي يعيشها الشعبُ الياباني. وبذلك نكون نحن والصحافة متَّهَمين بانعدام الرحمة. غير أن المذنب الأكبر هو القانون الدولي، الذي التزم الصمتَ واللامبالاة بشأن هذه المسألة عامًا بعد عام.
حان الوقت لكي نُدرك أن مسألة استمرار التجارب النووية أو توقُّفها مسألةٌ ملحَّة بالنسبة إلى القانون الدولي. فالبشرية في خطرٍ بسبب التجارب النووية. والبشر يُصرون على ضرورةِ توقُّفها، ولهم كل الحق في ذلك.
إذا كان لا يزال متبقِّيًا في حضارةِ عصرنا أيُّ شيء حي من القانون الدولي، أو إذا كان ينبغي أن يُعاد تأسيسه، فإن على الدول المسئولة عن التجاربِ النوويةِ التخلِّي عن تلك التجارب على الفور، دونما أن تجعلَ توقُّفها ذاك متوقفًا على اتفاقٍ لنزع السلاح. فهذا الأمر لا علاقة له بنزع السلاح. فالدول المعنيَّة ستُواصل امتلاك تلك الأسلحة التي تمتلكها الآن.
ليس هناك وقتٌ لنُضيعه. فالتجارب الجديدة التي تَزيد الخطرَ يجب ألا يُسمَح لها بأن تحدث. ومن المهم أن ندرك أن الخطرَ سيتزايد خلال السنوات المقبلة حتى من دون تجاربَ جديدة؛ فجزءٌ كبير من العناصر المشعة التي قُذِفت في الغلاف الجوي وفي طبقة الاستراتوسفير خلال التَّجارب النووية لا يزال هناك. وسيسقط بعد عدة سنوات فقط، ربما بعد خمسة عشر عامًا.
إن التخلِّيَ الفوريَّ عن إجراء المزيد من التجارب سوف يخلق أجواءً مواتيةً لإجراء محادثات بشأنِ حظرِ استخدامِ الأسلحة النووية. وحينما تُتخَذ هذه الخطوة ذات الضرورة الملحة، يمكن لمثل هذه المفاوضات أن تتمَّ في سلام.
إن استعداد الاتحاد السوفييتي الآن للتخلي عن إجراء المزيد من التجارِب أمرٌ على جانبٍ كبير من الأهمية. وإذا تمكَّنتْ كلٌّ من بريطانيا والولايات المتحدة من التوصُّل إلى هذا القرارِ العقلاني ذاتِه الذي يُطالب به مِن قبلُ القانونُ الدولي، فسوف تتحرَّر الإنسانية من الخوف من أن يكون وجودها مهدَّدًا في ظل تزايد التسمُّمِ الإشعاعي للهواء والتربة الناجمِ عن هذه التجارب النووية.