قيمة من التراث تستحق البقاء
١
هي حقيقة توشك أن تكون واضحةً بذاتها، ليست بحاجةٍ إلى برهانٍ يُقام على صوابها؛ لأنها حقيقة يُدركها الإنسان بفطرته إدراكًا مباشرًا أو تكاد؛ وأعني بها أن الولد إذا أراد أن يحيا على نهج والده، فهو لا يُطالَبُ أن تجيء المُحاكاة قولًا بقولٍ وفعلًا بفعل، فذلك في منطق الحياة ضرب من المُحال؛ فشجرة الورد تجيء على صورة شجرة الورد التي سبقتْها، لكنها لا تجيء مطابقةً لها مطابقة كاملة في فروعها وأوراقها وورودها. وإن أصحاب المعرفة بدنيا النبات ليزعمون لنا بأنك لن تجد في ملايين الملايين من وحدات النبات، ورقتَين تطابق إحداهما الأخرى في كل أجزائها، وذلك هو سِر الحياة في شتى كائناتها: أن يكون لكلِّ كائنٍ على حدة فردية لا يُشاركه فيها كائن آخر، وحتى التوائم، فمهما بلغ التشابه بينهم، فيكفي لاختلافهم اختلاف البصمات.
وإذا كان ذلك هو مبدأ الحياة في تصويرها للأحياء من أدناها إلى أعلاها، فكيف بالإنسان الذي جعله الله مسئولًا عما يفعل، لا يشفع له أن يكون قد جرى في فعله مجرى السالفين، وإذن فهي — كما قلتُ — حقيقة توشك أن تكون من البدائه الأولية؛ ألَّا يكون المقصود بمُحاكاة الأواخر للأوائل، مُحاكاة لا تدع مجالًا للإبداع وللإرادة الحُرة تختار لتقع عليها تبِعة اختيارها.
فماذا نعني حين نوصي المُعاصرين بأن يترسَّموا في سيرهم خطو السالفين؟ ماذا نعني حين ندعو إلى إحياء تراث الآباء ليسري في حياتنا الحاضرة سريان الزيت في الزيتونة؟ ماذا نعني حين نلتمِس لأنفسنا طريقًا نجمع فيه بين القديم والجديد، بين الموروث والمعاصر؟ ولقد يسهُل على بعضنا — أحيانًا — أن يُطالبوا الشاعر في يومنا بأن ينظِم على غرار ما نظم الشعراء الأقدمون، أو أن يحكُم القاضي في الناس بما كان يحكُم به قضاة الأمس البعيد، ولكن ماذا عساهم أن يقولوا في علماء اليوم وبين أيديهم من المسائل والتجارب ما لم يحلُم به أحد من السابقين — ولست أريد بالسابقين أولئك الذين عاشوا منذ كذا قرنًا من الزمان، بل أريد من عاش منهم في القرن الماضي أو الذي سبقه؟ إن حياة الناس اليوم، ليست كلها مُركبات لفظية، صِيغت شعرًا أو نثرًا، حتى يسهل علينا أن نُطالب المعاصرين بأن يحركوا أقلامهم أو ألسنتهم بمثل ما تحركت عند القدماء ألسنة وأقلام، بل الحياة أبحاث علمية تجري في المعامل، والحياة مكنات تدور تروسُها وعجلاتها في المصانع، والحياة نظم في التعليم، ونظم في الإدارة، ونظم في إنتاج السلع وتوزيعها، والحياة طائرات وصواريخ، والحياة نقل للأعضاء من بدنٍ إلى بدن، والحياة استزراع للصحراء، بل هي استزراع للهواء وسطح الماء. وإن طريق القول ليطول بنا، لو أخذنا نسرد الأمثلة بالمئات، لنقول ماذا هي حياة اليوم، فكيف يجوز للوهم أن يتوهَّم بأن حياة العصر يمكن أن تُصَبَّ بحذافيرها في قوالب السالفين؟
ومع ذلك، فهنالك معنًى مفهوم — نبحث عنه لنبسُطه فيصير واضحًا بعد إبهام — إذا ما طالبنا أنفسنا بإحياء الماضي إحياءً يسري به في جسم الحياة الحاضرة. وإن ذلك المعنى المُبهم ليأخُذ في الظهور، حين نتصور محاكاة الأواخر للأوائل، على نحوٍ يجعلها محاكاةً في «الاتجاه» لا في خطوات السير، مُحاكاة في «الموقف» لا مادة المشكلات وأساليب حلِّها، محاكاة في «النظرة» لا في تفصيلات ما يقع عليه البصر، محاكاة في أن يكون العربي الجديد مبدعًا لما هو أصيل، كما كان أسلافه يبدعون، دون أن تكون الثمرة المُستحدثة على يدي العربي الجديد هي نفسها الثمرة التي استحدثها العربي القديم، محاكاة في «القيم» التي يُقاس عليها ما يصح وما لا يصح، كما يأخُذ زيد من خالد مسطرته ليقيس عليها قطعة من قماش، بعد أن كان خالد لا يقيس عليها إلا خطوطًا على ورق؛ المسطرة واحدة، وأما المواد المقيسة فمُختلفات. وهكذا تكون حالنا إذا ما استعَرْنا من الأقدمين «قيمة» عاشوا بها، ونريد اليوم أن نعيش بها مثلهم، لكن الذي نختلف فيه وإياهم، هو المجال الذي نُدير عليه تلك القيمة المُستعارة.
٢
والقيم كثيرة، تلك التي كانت تنتظم حياة أسلافنا فكرًا وسلوكًا، والتي يمكن أن نستعيرها لحياتنا المُعاصرة، لتكون هي الحلقة الرابطة بين ماضٍ وحاضر، لكني سأقصر الحديث في هذا المقال على إحداها، فأتعقَّبها تحليلًا وتوضيحًا؛ لأُبيِّن كيف كانت منزلتها في فكر السلف، وكيف يمكن امتدادها إلى حياتنا الفكرية الراهنة، فتُصبح إحدى همزات الوصل التي تجعل من الحلقات سلسلةً متصلة أولًا بآخِر.
والقيمة التي اخترتها لتكون مدار النظر، هي الطريقة الإدراكية التي أزعُم أنها كانت نهجًا مأثورًا عند آبائنا العرب والمُسلمين، فطريقتهم في التفكير — فيما أزعم — لم تكن تصعد من الشواهد الجزئية، والأحداث الجارية، إلى المبدأ العام الذي يَستقطبها، بل كانت تهبط من مبدأ يفرِض نفسه عليهم فرضًا؛ ليستخرجوا منه ما يستخرجونه من قواعد للفكر والسلوك. على أن مصادر ذلك الإلزام قد تتعدَّد، فإما أن يكون المبدأ المفروض مُلزِمًا لكونه وحيًا من السماء، أو إلهامًا بفكرة، أو حدسًا لها (بالمعنى الاصطلاحي لكلمة حدس، وهو أن يكون الإدراك عيانًا عقليًّا مباشرًا) أو أن يكون مُلزِمًا؛ لأنه تقليد راسخ، أو عُرف بين الناس تواترت به الأعوام.
وسنضرب للقارئ أمثلةً من مجالات التفكير على اختلافها؛ ليرى كيف كانت الحركة هابطةً من العام إلى الخاص، لا صاعدةً من الخاص إلى العام، لا فرق بين أن يكون المجال مجال علم رياضي أو طبيعي، أو أن يكون مجال أدبٍ أو فن، أو مجال لغة أو تشريع، ففي جميع الحالات كان العقل العربي يلمع أولًا بالمبدأ العام، ثم يتدرَّج منه نزولًا إلى تفصيلات التطبيق.
ولنبدأ باللغة العربية؛ لأن أول ما يميز العربي — بداهةً — هو أن لسانه عربي. وإذا كان ذلك صحيحًا بالنسبة إلى كل لغةٍ وأصحابها، فهو صحيح بصفةٍ خاصةٍ بالنسبة إلى العربي؛ وذلك لأن عبقرية العرب الأولى، هي — كما قد قيل — في لسانهم. إنهم لم يعتزُّوا بشيءٍ اعتزازهم بلغتهم؛ إذ هي لم تكن بينهم مجرد أداة للتفاهم، بل كانت أكثر من ذلك، كانت هي المجال الأساسي الذي انصبَّت عليه طاقتهم الفنية. ولا عجب أن يكون القرآن الكريم هو معجزة الإسلام.
فانظر إلى هذه اللغة، تجد مفرداتها قد جاءت انبثاقًا من ينابيع، فتدفقت منها مجموعات مجموعات، وكأن هذه المجموعات انعكاس للقبائل والعشائر، يرتدُّ كل منها إلى جدٍّ كبير. وأما تلك الينابيع الدفَّاقة بمجموعات الألفاظ، فهي الأصول الثلاثية — في الأعم الأغلب — ويكفيك الأصل الثلاثي لتظلَّ تُخرج من جوفه مُشتقاته، فيكون لك من هذه المُشتقات ما تواجِه به مواقف الحياة الواقعة جميعًا. إنك في اللغات الأخرى قد تُضطر في حالاتٍ كثيرة إلى حفظ المفردات كما هي، وبغير تعليل؛ لأنها هكذا جاءت، وأما في العربية فعندك أصل واحد — هو الثلاثي في معظم الأحيان — ولا ضرورة بعد ذلك لحفظ المفردات، وكل ما عليك أن تفعله، هو أن تشتق من ذلك الجِذر أيَّ فرعٍ تشاء؛ فهي لغة تُنسقها قواعد مُطردة، لا يشذ فيها إلا أقل من القليل. والقواعد بدورها تنحدِر من مبدأ يضمها، فإذا عرفت المبدأ، نزلتَ منه إلى القواعد، ومن القواعد تنزل إلى مواقف التطبيق.
إذا بدأتَ من كلمة «عَقَدَ» — مثلًا — انبثقت لك فروع قد تبدو مُتباعدة المعاني، لكنها معانٍ من أُسرة واحدة، جدُّها الأول هو هذا الثلاثي، فمنه تجيء: عاقد، ومعقود، وعقْد (بسكون القاف)، وعِقد (بكسر العين) وعقيدة، وعقدة، ومُعَقَّد … إلخ. وإنك لتعرف مدى علمية هذه اللغة واطرادها، إذا حاولتَ أن ترجع إلى ما يُقابل هذه المعاني الفرعية في الإنجليزية — مثلًا — فعندئذٍ تجد كل معنًى قد جاء من ناحية، بحيث لا يُدرك الفاحص صِلة الرحم بين أفراد الأُسرة الواحدة، وعليك في الإنجليزية — في حالةٍ كهذه — أن تحفظ كل لفظة بمعناها، مُستقلة عن أخواتها. وأما في العربية فإذا عرفتَ الجد عرفت شجرة الأسرة بكل فروعها، من الإخوة إلى أبناء العمومة والخئولة، إلى الأحفاد وما بعد الأحفاد.
وبسبب هذه الروابط العضوية في مفردات اللغة العربية، كان في مقدور بعض علماء اللغة (ولا سيما مدرسة البصرة) أن تضع القواعد «العقلية» العلمية التي يُقاس إليها في معرفة الصواب والخطأ، وفي صياغة كلماتٍ جديدة للمواقف الجديدة، دون الخروج على أصول اللغة وروحها.
٣
ونسوق مثلًا آخر للنهج العقلي عند أسلافنا، وهو النهج الذي يجعل سَيرَه — كما قلنا — مُتجهًا من مبدأ عامٍّ مجرد، إلى تطبيقاته. وسنأخذ هذا المثل من أحد ميادين الفكر الفلسفي، وهو ميدان «الأخلاق». ولقد تعمَّدنا اختيار هذا الميدان، لكون «الأخلاق» طابعًا مُميزًا للثقافة العربية والإسلامية، إذا ما أجرينا موازنةً بينها وبين ثقافاتٍ أخرى؛ فبينما نجد من الثقافات الأخرى ما يضع ارتكازه على التحليل العلمي لظواهر الطبيعة، ومنها ما يُدير أرجاءه حول محور العسكرية والقتال والغزو، مُنتصرًا مرةً ومدحورًا مرة أخرى، ومنها ما يجعل الأولوية للإبداع الفني من عمارة ونحت وتصوير؛ نجد الثقافة العربية والإسلامية قد أقامت بناءها على ركيزةٍ أساسية، هي المبادئ التي ينبغي أن تحكُم طرُق التعامُل بين الناس، وتلك هي مبادئ الأخلاق.
ونرجع إلى ألمع فيلسوف عربي في مجال «الأخلاق»، وهو ابن مسكويه، لنُطالع كتابه «تهذيب الأخلاق، وتطهير الأعراق»، مُتجهِين بأنظارنا نحو منهج السير، فلا نكاد نقرأ صفحاته الأولى، حتى يتبيَّن ذلك المنهج في جلاء، ويظلُّ يزداد لنا وضوحًا كلما أوغلنا في القراءة، فهو منذ البداية يبحث عن المبدأ العام الذي يصلح لأن تُشتَقَّ منه قواعد الأخلاق، التي على أساسها نُميز بين ما هو خير وما هو شر في الفعل الإنساني.
وكان ذلك المبدأ العام عند ابن مسكويه هو: طبيعة النفس الإنسانية؛ ما جوهرها الذي تتميز به من سائر الطبائع؟ لأننا إذا ما عرفنا حقيقة الإنسان التي فُطر عليها لكي يكون إنسانًا، عرفنا بالتالي بأي مقياسٍ نقيس الأفضل والأرذل، فكل صفة أو فعل، تدنو بصاحبها — أو يدنو بصاحبه — من تمثُّل الجوهر الإنساني، كانت تلك الصفة، أو كان ذلك الفعل فضيلة. وضد ذلك هو الرذيلة. ولا يفوت ابن مسكويه أن يلفت أنظارنا إلى أن الكمال في الإنسان من حيث هو إنسان، ليس مجرد حاصل جمع كمالات أجزائه، كأن يكون البصر سليمًا والسمع دقيقًا، والكبد والرئتان … إلخ؛ إذ الحكم على أخلاقية الإنسان لا يُبنى على هذه الأعضاء في أدائها لوظائفها البدنية، وإنما يُبنى ذلك الحكم على أن يُحقِّق الإنسان من حيث هو كائن متكامل، الغاية التي من أجلها صوَّره الله إنسانًا.
ولا يطول النظر بابن مسكويه، حتى يتبيَّن له أن للنفس قوتَين، ولكل منهما كمالها، فله — من جهة — «القوة العالمة» وكمالها إدراك المعارف والعلوم، ثم له — من جهة أخرى — القوة العاملة، وكمالها تدبير وسائل العيش ونظمه تدبيرًا مُحكمًا.
وما دُمنا قد وضعنا الأساس العام، فيسهل علينا بعد ذلك أن نستخرج القواعد الفرعية التي يجب اتباعها، لكي يتحقق لنا الكمال الذي تتطلبه فطرة الإنسان. ولعل هذا الموضع من الحديث، أن يكون أنسبَ موضع تجري فيه مقارنة سريعة بين الوقفة العربية في منهاجها، والوقفة اليونانية؛ وذلك لأن أقل إلمام بالفلسفة اليونانية، يدفع صاحبه دفعًا إلى السؤال: ولماذا يكون هذا الاتجاه في السَّير من المبدأ العام إلى المواقف التطبيقية، مُميزًا للعقل العربي؟ أليس هو بعينه ما قد جرى عليه فلاسفة اليونان، بل وغيرهم من فلاسفة سائر العصور؟ وأضف إلى ذلك أن ابن مسكويه قد أخذ عن أفلاطون أخذًا مباشرًا تحليل النفس إلى جوانبها الثلاثة: الناطقة، والغضبية، والشهوانية.
وجوابنا على هذا السؤال ذو شقَّين: أولهما أنه لولا أن العقل العربي قد تميز بهذه الصفة نفسها التي تميز بها العقل اليوناني، من حيث وضع المبدأ الأول، ثم النزول منه إلى نتائجه، لما استطاع ذلك العقل العربي أن يتمثَّل الفلسفة اليونانية التي نقلها إلى لغته العربية نقلًا كاد أن يكون كاملًا. وثانيهما أن ابن مسكويه — شأنه في ذلك شأن سائر الفلاسفة المُسلمين — لم يقصر نفسه على الحدود الأفلاطونية، بل إنه استخدمها مع غيرها من المصادر التي بين يديه، في تكوين فكرته الخاصة. على أن ما يعنينا نحن في هذا المقال، هو معالم الوقفة العربية والإسلامية عند التفكير النظري. ولا يُغير من الأمر شيئًا بعد ذلك، أن يكون هنالك من شاركوه في تلك المعالم؛ كلها أو بعضها.
ولقد جاء هذا الطريق النازل من المبدأ العام إلى الموقف الخاص، من حيث التفكير النظري في فلسفة الأخلاق، مُتطابقًا أشدَّ التطابق مع ما تقتضيه العقيدة الإسلامية في هذا الباب؛ إذ إن مبادئ الأخلاق عند تلك العقيدة، هي ما نزل وحيًا من الله سبحانه على نبيِّه المُصطفى، عليه الصلاة والسلام. وإذن فنحن مرة أخرى أمام فكرة ترتسِم لنا بادئ ذي بدء، ومنها نبدأ سيرنا نحو التطبيق في عالَم السلوك. فلو سُئلنا بعد ذلك: كيف عرفتم أن الفعل الفلاني فضيلة؟ كان جوابنا: عرفناه فضيلة؛ لأنه مُتفِق مع الفكرة الأولى المُوحى بها.
وليس مثل هذا الاتجاه في السير هو الملحوظ دائمًا عند جميع الشعوب ومختلف الثقافات، فهنالك من يرون أن نقطة البدء لم تكن مبدأً كاملًا، أو فكرةً عامة، بل كانت نقطة البدء خبرات إنسانية في ممارسة الحياة مع وقائع الطبيعة والمجتمع، ثم استخلص الإنسان مع الزمن ما قد نفعه، وما قد ألحق به الضرر، فجعل الأول خيرًا والثاني شرًّا. ومعنى ذلك أنه بينما أُسُس الحياة الخلقية نراها نحن وكأنها هبطت علينا من السماء، فقد يراها سوانا وكأنها نبتت لهم من جوف الأرض.
٤
ومن وقفة العربي في فلسفته الأخلاقية، حيث جعل الأسبقية للمبادئ العامة، يتلقاها وحيًا أو حدسًا أو تقليدًا وعرفًا، وعليه تطبيقها بغض النظر عن النتائج التي تترتَّب في مجرى حياته العملية على هذا التطبيق، أقول: من تلك الوقفة في مجال الأخلاق، ننتقِل إلى وقفةٍ له أخرى شبيهة، في مجال الفنون، سواء في ذلك فن الأدب أو فن التصوير أو غيرهما من فروع الإبداع الفني. فها هنا كذلك نجد اتجاه السير نازلًا من «الفكرة» العامة إلى تفصيلاتٍ تجسدها. إن الفنان العربي لا يبدأ من لقطة حسية إلى فكرة تكمُن وراءها — كما قد تكون هي الحال عند رجال الفن في ثقافاتٍ أخرى — بل يبدأ الفنان العربي من تصوُّر عقلي مجرد، ثم يضع له التفصيلات التي تُلائمه.
ولمَّا كان الشعر هو الفن العربي الأول بلا نزاعٍ ولا شكٍّ، فانظر إلى الشاعر العربي من أين يبدأ، وإلى أين ينتهي. إنه إذا ما تغزل، فالأرجح أن ترتسِم في ذهنه صورة مُثلى للمرأة على إطلاقها، كأنما هو يبدأ بتعريف منطقي للمرأة «النوع» وليس الذي أمام تصوُّره امرأة بعينها، حتى ولو أطلق على الصورة التي يتمثلها اسمًا، فقال إنها ليلى، أو هند، وحتى لو حاول أن يخلع ذلك الثوب العام لامرأةٍ بعينها؛ لأنه في هذه الحالة يرفع تلك المرأة المُفرَدة إلى الفكرة المثلى المقصورة، ولا ينتقِص من الصورة المُثلى لكي تتناسب مع البشر ونواقصه.
وإذا وصف الشاعر العربي حصانًا، فقال عنه إنه: «مِكر، مِفر، مُقبل مُدبر معًا، كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل» فهو إنما يصوِّر المثال الأفلاطوني للحصان كما ينبغي أن يكون، ثم يخلع ذلك التعريف الأمثل على حصانه الفرد، ولا يعنيه ألا يكون حصانه الفرد مُطابقًا للمثل الأعلى المرسوم. وهكذا قل في شتَّى الصفات التي ينعتُ بها الشاعر العربي سائر الأشياء، فشعره أقرب إلى أن يكون صورةً لفكره منه إلى أن يكون صورة لحسِّه. ولقد كان العقاد في تعريفه للشاعر إنما يُعرِّف الشاعر العربي قبل أي شاعرٍ سواه، وذلك حين قال عن الشعر إنه مُقتبس من نَفَس الرحمن، وأن الشاعر الفذ هو للأناسيِّ بمثابة الرحمن للشاعر؛ أي أن الشاعر ينزل منزلةً وُسطى بين الخالق من جهة وسائر المخلوقات من جهةٍ أخرى، فيستلهِم من الله سبحانه وتعالى صورًا مجردة، ومنها يهبط إلى الكائنات الجزئية التي تتفاوت بُعدًا أو قربًا من تلك الصور المجردة، وبذلك يكون الشاعر أقرب من غيره إلى فهم حقائق الكائنات؛ لأن بين يديه النماذج الإلهية التي على ضوئها ينفُذ إلى حقائق الأفراد.
ولعل شيوع «الحكمة» في الشعر العربي أن يكون دالًّا على تلك الخاصة المُميزة التي أشرْنا إليها، وهي نزوع العقل العربي نحو إدراك الحقيقة في صورتها المجردة العامة، حتى ولو لم يكن قد صادف لها في دُنيا الكائنات الجزئية أفرادًا تؤيد صوابها. ومن ناحيةٍ أخرى نقول كذلك إنَّ نزوع العقل العربي نحو ما هو مجرَّد، يُدركه بلمعةٍ مباشرة، لا استخلاصًا من أمثلةٍ فردية، قد جَرَّ وراءه نتيجةً أخرى في الأدب العربي القديم، وهو خلوه من أدب القصة وأدب المسرح، لماذا؟ لأن هذا الأدب إنما يرتكز أساسًا على تصوير اللحظات الجزئية، مُتمثِّلة في سلوك الأفراد، وفي خاطرات الوجدان، فإذا لم تكن «الجزئيات» المُفردة من أحداثٍ ومن أشخاصٍ تسترعي انتباه الأديب، انصرافًا منه إلى ما هو مجرد وعام، سقط من حسابه — بالتالي — أدب القصة، وأدب المسرح.
ومن وقفة العربي إزاء الفن الأدبي، ننتقِل إلى وقفته في مجال الفن التشكيلي من تصوير وزخرفة وما إليهما، فها هنا كذلك نرى في وضوحٍ ما قد زعمناه، وهو ميل العربي نحو رؤية المجرد العام، غاضًّا بصره — عن عمدٍ أو عن غير عَمد — عن التفصيلات التي تُميز الأفراد. إن المصور العربي والإسلامي، إذا ما صور شخوصًا إنسانية أو حيوانية، صورها على كثيرٍ من الإبهام، فالملامح مُدمَج بعضها في بعض، وليست مُفصلة، على نحوِ ما يرسُم الفنان التجريدي في عصرنا، إلى حدٍّ كبير، فهل نُسرف في التعليل إذا قُلنا إن الفنان العربي بِمثل هذا التجريد والتبسيط، يستهدف الأنواع والأجناس، لا الأفراد، أو قل إنه يستهدف تصوير «الفكرة» وليس تصوير الفرد المُتعين الذي يجسدها؛ إذ الأفراد — في عقيدته — مصيرهم إلى زوال، وهو إنما ينشد الدوام والخلود، والدائم الخالد هو «الفكرة» لا تجسيداتها المُشخَّصة الفانية، حتى ليحقُّ لنا أن نؤكِّد ما كرَّرناه في مناسباتٍ كثيرةٍ أخرى، وهو أن ثقافتنا العربية التقليدية، محورها «مبادئ» لا «أشياء»، أي أن محورها «أخلاق» لا «جمال» (وأستخدم هذه الكلمة بالمعنى المقصود بها في الأستاطيقا أو ما يطلق عليه في مباحث الفلسفة اسم علم الجمال)، وربما كان ذلك هو ما قصد إليه ماسنيون، في حديثه عن طرُق التعبير الفني عند المسلمين؛ إذ قال: إنه لا وجود «للأشياء» في الفكر الإسلامي، والمسلمون في فن التصوير يُسقِطون الوجوه والملامح لبطلانها.
وهذه الإشارة من ماسنيون تفتح لنا بابًا للحديث عن موقف المُسلم من الفن التشكيلي بصفةٍ عامة، فلماذا لم يُوجِّه إليه الفنان الإسلامي اهتمامًا كافيًا، وصبَّ معظم طاقته الفنية في هذا المجال التشكيلي على فن الزخارف؟ أكان ذلك خوفًا على نفسه من الردَّة إلى الوثنية؟ أكان استجابةً منه لمانعٍ ديني ورَدَ صراحةً في الشريعة الإسلامية؟ أم كان ذلك قصورًا من الفنان الإسلامي، لا أكثر ولا أقل؟
والجواب عندنا هو أن الأمر لا يُعلله شيء من هذه الفروض، بل يُعلله على الوجه الصحيح طريقة العربي في إدراك الحقيقة المُجردة قبل تجسيداتها المُفصَّلة، وتطبيق ذلك في مجال الفن هو أن يتَّجِه الفنان إلى هندسة الأشكال لما تنطوي عليه من حقائق رياضية، ولأن رؤية الحقائق في تجريدها، هي عنده أقرب الطرُق التي ينتقل بها إلى شهود الله عز وجل. ويُخيَّل إليَّ أنك إذا ما سألت فنانًا عربيًّا أو إسلاميًّا: لماذا لا تتَّجِه إلى «الواقع»؟ لأجاب: وهل يكتمل الواقع إلا إذا مدَدْنا الوجود الجزئي إلى ما يرتبط به من جوانب وراء هذا الواقع؟ إن «الواقع» لا يقتصر على الجزئي كما تُحدِّده حدوده المرئية، بل إن ما هو مُتضمَّن وراء تلك الحدود، جزء من حقيقة ذلك الجزئي نفسه، وأنا (والكلام للفنان الذي نفترضه) أصور «الحقيقة» الواقعة، بجانبيها المنظور والمستور معًا.
ولست أريد أن تفلت مني هذه الفرصة، قبل أن أدحض الزعم بأن الإسلام يُحرِّم الفن التشكيلي (التصوير والنحت) بدليل الحديث الشريف: «يُعذَّب المصورون يوم القيامة.» ولن أجد ما أستند إليه خيرًا من نصٍّ ورد في ذلك عند «أبي علي الفارسي» النحوي، في مخطوطةٍ ذكرها بِشر فارس في كتابه عن «سر الزخرفة العربية»، وقال إن تلك المخطوطة موجودة في مكتبة البلدية بالإسكندرية، فأبو علي الفارسي يُقيم رأيه على أساسٍ لُغوي في فَهمنا للحديث الشريف السالف الذكر، قياسًا على فهمنا للآية القرآنية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (سورة الأعراف) فيقول أبو علي الفارسي إن الإشارة هنا إلى «العبادة» لا إلى من «صاغ عجلًا، أو نَجَره، أو عمله بضربٍ من الأعمال.» وعلى هذا الغرار ينبغي أن نفهم الحديث الشريف: «يُعذَّب المصورون يوم القيامة.» فالمقصود هو أولئك الذين يضعون الله (تعالى) في صورةٍ يعبدونها، لا الذين يُصوِّرون كائنًا ما، دون أن تكون فكرة العبادة واردة في الأذهان.
وإذن فلا بأس في أن يكون للمُسلم فن تشكيلي. وخلاصة ما أردنا أن نُثبته عن الفن العربي والإسلامي في هذا المجال، هو أنه فن «فكرة» قبل أن يكون فنًّا مراده أن يعكس الكائنات على الخامة التي يستخدمها، بكل تفصيلاتها أو ببعضها، على سبيل المحاكاة للمحاكاة ذاتها. وإذا قلنا إنه فن «فكرة»، فقد قُلنا بالتالي إنه فن للمبادئ المجردة، لا للمخلوقات المجسَّدة.
٥
هذه صور من مجالات الفكر والفن في تراثنا العربي والإسلامي، سُقناها لنُبين بها ما قد زعمناه، من أن اتجاه العقل العربي، إذ هو ينتج فكرًا أو يبدع أدبًا وفنًّا، هو أن يسير من مبدأ عام يأخُذه منذ البداية مأخذ التسليم، نزولًا إلى ما يترتَّب عليه من تفصيلات الحياة العملية. وأهمية هذه الطريقة في النظر والعمل، هي أن يدخل الإنسان خضم الحياة مُزودًا ببوصلة تهديه سواء السبيل.
وواضح أنها طريقة تختلف كثيرًا عما يقتضيه المنهج العلمي في هذا العصر الذي استُحدِث له منهجه مع النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر؛ فمنهج العلم — إذا كان علمًا طبيعيًّا (أعني الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا … إلخ) — يقتضينا أن نبدأ بالمُعطيات الجزئية صعودًا إلى المبدأ العام أو القانون العلمي.
على أن الاقتصار على أحد هذين المنهجين دون الآخر في جميع ميادين الفكر والفن، له خطورته البالغة في حياة الناس. فإذا كان لأبناء الحضارة الغربية القائمة من شكاةٍ يصرخون بها في ألمٍ وحسرة، فهي أن طغيان العِلم ومنهجه على الإنسان، قد قضى على شعور الفرد بذاته المُستقلة المتميزة؛ لأن ما هو خاضع للعلم، مُشترك وموحَّد بين الناس أجمعين، فماذا يصنع الفرد المُتميز بشخصيته، بجوانبه الفريدة التي تميَّز بها، ويريد أن يُفصح عنها في حياته الجارية.
وكذلك إذا كانت لنا أبناءَ الأمة العربية من شكاةٍ نصرخ بها في خشيةٍ وقلق، فتلك هي أننا لو أسلمنا كل جوانب حياتنا لمبادئ صاغها لنا الآباء الأولون، فماذا نصنع بتفصيلات الحياة العصرية المليئة بالعلوم والصناعات، إذا رأينا أن تلك التفصيلات تأبى أن تنصاع للمبادئ المأخوذة بادئ ذي بدءٍ مأخذ التسليم؟
وهنا ينشأ السؤال الهام، وهو: أمِنَ الحتْم أن يكون إما الحياة كلها للعلم ومنهجه الاستقرائي، وإما حياة كلها للانضواء تحت مبادئ مقبولةٍ سلفًا؟ أهو مُستحيل على الإنسان أن يحيا في ساحةٍ من قِسمين، لكلٍّ منهما منهجه الذي يلائمه؛ فقسمٌ للعلوم وما يتفرَّع عنها من صناعات؛ ويكون له منهجه القائم على تقصِّي الوقائع قبل صياغة القوانين، وقسمٌ آخَر لحياة القيم الخلقية والجمالية، وفيها يكون السير مُهتديًا بمبادئ مُسبقة.
على أننا حتى في هذا القسم الثاني، لا بدَّ من مرونة التكيُّف كلما ارتدَّ إلينا سلوكنا العملي بنتائج ليست هي التي أردناها، ففي حالاتٍ كهذه لا مناص من مراجعة المبادئ، لنُحِلَّ غيرها مكانها، وفي هذه المراجعة المستمرة، والسائرة مع الأحداث، يكون تطوُّر الحياة وتجدُّدها نحو ما هو أصلح وأرقى.
وعَوْدًا بنا على ما بدأنا به في عنوان هذا المقال، ففي تراثنا الفكري والفني قيمة سارية، هي النزوع نحو الاهتداء بمبادئ أولية قبل الخوض فيما نهم بالخوض فيه، ونحن هنا نقول إنها قيمة تستحق منَّا أن نُبقي عليها في ميادين الحياة الخلقية والفنية، ولا نستثني إلا ميدان العلوم؛ لأنه ميدان لا حيلة للإنسان فيه إلا أن يلتزم منهج التفكير العلمي، وبالتالي فلا اختلاف فيه بين شعبٍ وشعب من حيث الخصائص القومية. على أننا نعود إلى الإشارة بأن القيمة الموروثة في جوانب الحياة اللاعلمية، وإن تكن حقيقةً منا بالبقاء، لِما تحمِله في طيِّها من ملامح مميزة، إلا أنه لا مندوحة لنا عن تعديلها هنا وهناك، آنًا بعد آن، كلما جاءتنا الدنيا بمشكلاتٍ يستعصي حلها بذلك الجانب الموروث.