الدين والتديُّن وعلم الدين
شاءت لي المُصادفات منذ وقتٍ قريب، أن أسمع من عالِمَين من علماء الدين، قد يكونان مُختلفَين في كثيرٍ جدًّا من جوانب الحياة وأوضاعها، لكنهما بغير شكٍّ يتفقان في أنهما من ذوي الفضل والعلم ورفعة المقاصد. أقول إن المصادفة قد شاءت لي أن أسمع منهما كلامًا يُفرقان به بين «الدين» من جهة و«التدين» من جهةٍ أخرى، وكان الذي يقصدان إليه من هذه التفرقة، هو أنه إذا كان التدين واجبًا على كل مُسلمٍ على السواء، فالدين هو من شأن علمائه وحدَهم، دون سائر المؤمنين به. ويترتَّب على ذلك أن تكون الكلمة فيما يجوز وما لا يجوز من أمور الدين، مقصورة على العلماء، وواجب العامة بعد ذلك هو السمع والطاعة. وكان ممَّا سمعته من العالِمَين الفاضلين في سياق الحديث مع كلٍّ منهما (وكان الحديث مقروءًا في إحدى الحالتَين، ومسموعًا مباشرة في الحالة الأخرى) تأكيدهما بأن الدين عِلم، وأما «التدين» فهو وحده الجانب المتروك لكل مؤمنٍ في انفراده.
ولم يكن العالِمان الفاضلان على صواب — كل الصواب — فيما ذهبا إليه؛ فليس الأمر مقصورًا على طرفَين: دين في ناحية، وتديُّن في ناحيةٍ أخرى، بل هو ثلاثي الأطراف: فهنالك «الدين» أولًا، وهنالك من يتديَّن به ثانيًا، ثم هناك «العلم» الذي يُقام عليه ثالثًا، وقبل أن أتناول هذه الفكرة بالشرح الذي يوضحها، أقول إنه لو كان الفرق بين الرأيين فرقًا شكليًّا فقط، لما تعرَّضتُ له هنا، وحاولتُ عرضه؛ لأنني — والله يعلم — ما فعلت ذلك إلا بعد تردُّد طويل، لكنه فرق يجاوز مجرَّد الشكل إلى صميم الموضوع، مما قد يترتب عليه غموض فيما يجب على المؤمن العِلم به، وما ليس له وجوب. وعلى أية حال، فتحديد الفواصل بين المعاني المُختلفة في مثل هذا المجال الحيوي الهام، إنما هو من أوجب الواجبات على من يستطيع بذل المحاولات الواعية في سبيل ذلك التحديد، وأحسبني ممَّن يستطيعون.
- والحقيقة الأولى: التي أُقدِّمها لتكون هي الركيزة التي نُقيم عليها تفكيرنا، هي أن حقائق الواقع في ذاتها ليست هي العِلم، وإنما هي ما يُقام عليه العلم، فانظُر إلى هذه الأمثلة المُختلفة التي أسوقها بين يديك، وتدبَّرْها مليَّا، قبل أن ننتقِل إلى موضوعنا الذي أردْنا الحديث فيه: إذا رأيت شجرة يستظل بها عابر سبيل، فهنالك ثلاثة أطرافٍ مُتميز بعضها من بعض، ولكنها كذلك موصولة بعضها ببعض؛ فهنالك الأمر الواقع الذي هو الشجرة، ثم هنالك من شاء له حظه أن ينعم بها فيستريح، وهنالك فوق ذلك «عِلم» أُقيم على هذه الشجرة وأمثالها، وهو علم النبات. فإذا قال لك قائل في هذه الحالة: الشجرة علم، فماذا أنت قائلٌ له إلا أن تُصحِّحه بقولك: إن الشجرة ذاتها ليست هي العلم، وإنما هي وأمثالها، موضوع طرح للبحث العِلمي، وأُقيمَ عليه علم يُسمُّونه علم النبات. وواضحٌ أن الشجرة والعلم المُقام عليها يختلفان عن طرفٍ ثالث، هو عابر الطريق الذي التمس راحته في ظلِّها.
- خذ مثلًا ثانيًا: «اللغة» — ولتكن لُغتنا العربية — فهي كذلك حقيقة من حقائق الواقع الفعلي؛ إذ هنالك أمة تتكلَّمها وتكتُبها، وهنالك كتُب كُتِبت بها تُعدُّ بالملايين. وهنا في حالة اللغة — كما رأينا في مثال الشجرة — نستطيع أن نُميز بين ثلاثة أطراف، مُنفصلة ومُتصلة في آنٍ واحد، فهنالك «اللغة» واقعًا من الواقع، نسمعها بآذاننا، ونكتبها بأقلامنا، ونقرؤها بأبصارنا، ثم هنالك «علم» (أو علوم) تُقام على تلك اللغة، كعِلم النحو وعلم الاشتقاق، وغيرهما. وقد كان يمكن أن تقوم اللغة ولا تقوم علومها، مما يقطع بأن اللغة ذاتها شيء، وعلومها شيءٌ آخر. وهنالك إلى جانب اللغة وعلومها طرف ثالث، هو من يستخدمون تلك اللغة كلامًا وكتابة.
- خذ مثلًا ثالثًا: «الضوء»، فانظُر إلى شخصي ساعة كتابتي لهذه الكلمات، واضعًا أمامي مصباحًا مُضيئًا أستعين به مع ضوء النهار، فها هنا أيضًا ترى ثلاثة أطراف، مُتصلة منفصلة، فهنالك ظاهرة الضوء نفسها، سواء جاءت على الصورة التي يجيء بها ضوء الشمس، أو جاءت كما يجيء ضوء المصباح، وإلى جوار هذه الظاهرة هنالك المُستضيء بالضوء ليكتُب، ثم هنالك فوق الضوء والمستضيء طرفٌ ثالث، هو العِلم الذي يُسمونه «علم الضوء» أقامه أصحابه على ما درسوه من ظاهرة الضوء. ولعلك الآن تعرف بماذا تَردُّ على من يزعم لك أن الضوء نفسه الذي تراه العين آتيًا من الشمس، أو من المصباح هو «علم»، فأحسبُك قد أدركتَ أن ظاهرة الضوء شيء، والعلم القائم عليها شيءٌ آخر. وقد كان يمكن لظاهرة الضوء أن تُوجَد ولا يُوجَد إلى جانبها علماء يقيمون عليها علمًا.
- خُذ مثلًا رابعًا: «علم الاقتصاد»، تجد الأطراف الثلاثة التي حدَّثتُك عنها؛ فطرفٌ منها هو أولئك الذين يُنتجون في مزارعهم، أو في مصانعهم، أو في مكاتبهم، أو فيما شئتَ من أوجه النشاط البشري، وطرف ثانٍ يتمثَّل فيمن يُبادل هؤلاء إنتاجًا بإنتاج، أو خدماتٍ بإنتاج. وقد كان يمكن لأسواق البيع والشراء أن تحيا بكل نشاطها دون أن يتناولها الباحثون بالبحث العلمي لاستخراج القوانين التي تُستخلَص من ذلك النشاط وطبيعته، لكن حدث أن أُقيم ذلك «العلم» — علم الاقتصاد — ليُحلِّل ذلك الضرب من التفاعُل البشري تحليلًا يستخرج ما قد انطوى عليه من قوانين. وهكذا ترى مرةً أخرى، أن حقيقة الأمر الواقع في ذاتها ليست هي العِلم، وإنما العلم فعلٌ آخر يؤديه أصحابه على أساس ذلك الأمر الواقع.
وقد كان يكفيني ذِكر هذه الأمثلة، لأنتقِل منها إلى موضوع حديثنا، وهو المُتمثل في الأطراف الثلاثة المذكورة في العنوان، والتي لحظتُ في رؤية الناس لها — حتى أهل التخصص منهم — شيئًا من الخلط، وهي: الدين، والتدين وعلم الدين (أو علوم الدين)، أقول إنه كان يكفيني ما ذكرته من أمثلة، لأُقرِّر على ضوئها أن «الدين» قائمٌ في نصوصه المُحدَّدة المُعيَّنة، ثم يأتي الطرفان الآخران، طرف منهما مُتمثل فيمن يؤمنون بذلك الدين، وهم من يصفونهم «بالتدين»، وأما الطرف الثاني فهو «علم الدين» (أو علومه) التي تقام على تلك النصوص — وهي واقع الدين — فتستخرج منها ما تستخرجه من مبادئ وأحكام. فلو قال لنا قائل: الدين علم (كما سمعتهم يقولون) ردَدْنا عليه بقولنا: بل الدين يُقام عليه العلم، وكان يمكن أن يقوم الدين والمؤمنون به، دون أن يتولاه نفرٌ من العلماء بالبحث العلمي، كما هو من المُمكن كذلك أن يتولى غير المؤمنين بدينٍ مُعين، نصوص ذلك الدين بالتحليل والاستدلال؛ وذلك لأن «العلم» المُقام على نصٍّ مُعين، لا يُشترَط له أن يكون الباحث العلمي «مؤمنًا» بمضمون ذلك النص.
مرةً أخرى أقول إنه قد كان يكفيني ما قدَّمته من أمثلةٍ لأوضح به أن «الدين» شيء، و«علم الدين» شيءٌ آخر، والإنسان المُتديِّن بذلك الدين شيءٌ ثالث، لكنني أرى أن أزيد الأمر جلاءً، بأن أعرض بإيجازٍ شديد طبيعة العلم ما هي، حتى إذا ما صادفتْنا بعد ذلك عبارة «علم الدين» عرفنا المعنى المقصود، ونجَونا من الخلط بينه وبين غيره من المعاني في هذا المجال.
العلامة الفاصلة بين ما يجوز له أن يكون علمًا وما لا يجوز له أن يكون، هي قابلية الحُكم بالصواب أو بالخطأ. فإذا كان القول المعروض بين يديك، مما يُمكن أن يُوصَف بأنه صواب أو بأنه خطأ، وذلك بعد فحصه وتمحيصه، كان مما يجوز إدراجه في مجال المعرفة العلمية، وأما إذا وجدتَ القول المُعين مما يستحيل وصفه بالصواب أو بالخطأ، إلا على قائله، فهو وحده الذي يزعم له الصِّدق، دون أن يكون في مُستطاع الآخرين أن يُراجعوه ليتحققوا من صِدق زعمه، فمثل ذلك القول لا يحمل جواز المرور الذي يُدخله في عالم المعرفة العلمية، مهما كان له من أهمية في حياة الإنسان.
قارن — مثلًا — بين رجلٍ يقول لك عن بقعةٍ من الأرض إنها مُحبَّبة إلى قلبه، ورجلٌ آخر يقول عن تلك البقعة من الأرض، إنها تحتوي في جوفها على بترول، فبينما القول الأول مُعتمِد كل الاعتماد على صِدق قائله، بحيث لا يجد الآخرون وسيلةً أمامهم للتحقُّق بأنفسهم من ذلك الصدق، نجد القول الثاني ممَّا يمكن إخضاعه لوسائل البحث التي تنتهي بنا إلى قبوله أو رفضه، فالقول الأول يُشير به صاحبه إلى حالة شعورية باطنيَّة يُحسُّها هو في دخيلة نفسه، وأما القول الثاني فيتحدَّث به صاحبه عن أمرٍ واقعٍ خارج نفسه، والطريق إلى مراجعته، للتحقق من صدقه، مفتوح أمام كل إنسان تؤهله دراسته للقيام بتلك المراجعة.
ولئن كانت العلامة الفاصلة بين ما يصح إدراجه في المعرفة العلمية وما لا يصح، هي قابلية القول المُعين لأن يتحقَّق الآخرون — غير قائله — من أنه حق، أو من أنه باطل، فلقد حدث في عصرنا هذا تعديل في هذا المعيار، قد يبدو طفيفًا، لكنه في حقيقته ذو أهميةٍ كبرى، وهو أن قابلية القول المُعين للحُكم عليه بالبطلان، لها الأولوية على قابليته لأن يُحكم عليه بأنه حق؛ وذلك لأنه قد تتكاثر بين أيدينا الشواهد الدالة على صِدق قولٍ مُعين، فيُغرينا ذلك بالاطمئنان لذلك القول، وفجأة تظهر بَيِّنة جديدة تقلِب لنا ذلك الحُكم رأسًا على عقب. فكم من رجلٍ يظل يُعطيك من شواهد إخلاصه لصداقتك، حتى لتتوهَّم أنت بأنه لا بدَّ أن يكون صادقًا؛ لكثرة الشواهد الدالة على ذلك، وفجأة يظهر لك الخبيء، فإذا حقيقة الأمر أنه كان يلبس لك قناع الصداقة المُخلصة، لكنه كان في الوقت نفسه يُخفي عنك ما يُخفيه، انتظارًا للحظة المناسبة، فيقذف ذلك الخبيء في وجهك وأنت منه على غرةٍ غافلة.
فالفيصل الحاسم في قبول الفكرة المُعينة عضوًا في الأسرة العِلمية، هو — إذن — قابليتها للبطلان، بمعنى أن يحاول الباحثون إبطالها بكل ما في وسعهم من تجارب. فإذا صمدت لهذه المحاولات، كانت فكرة صحيحة — مؤقتًا — إلى أن يظهر في مُستقبلٍ قريبٍ أو بعيدٍ ما يُبين بطلانها.
لكننا لكي نحكم على فكرةٍ، أو قولٍ، بأنها فكرةٌ صحيحة أو خاطئة، فذلك لا يكون إلا بالرجوع بها إلى مِقياسٍ قائمٍ خارجها، فإذا قلتَ عن الجدار إن طوله أربعة أمتار، فلا بدَّ أن يكون هنالك مقياس «المتر» في وجود مُستقل عن وجود الجدار. وها هنا نتقدَّم بأساسٍ هو من أهم الأُسس المنهجية في التفكير العلمي وخصائصه، وذلك أنَّ للعلم طريقَين مُختلفين باختلاف نوع المادة المعروضة للفكر، ولكل طريقٍ من الطريقَين ضربٌ من المقاييس التي يُرجَع إليها في تقرير الصواب والخطأ. أما أحد الطريقين فخاص بالتفكير العلمي عندما يكون الموضوع المطروح للبحث ظاهرة من ظواهر الواقع الطبيعي، وأما الطريق الآخر فمَجاله عندما يكون الموضوع المطروح للنظر العلمي توليدًا لأفكارٍ من أفكار، أو توليدًا لنتائج تترتَّب على نصوصٍ مُعينة، ففي هذه الحالة لا يكون لظواهر الواقع الطبيعي دخْل في سَير الباحث العلمي.
ونُعيد ما قُلناه عن الطريقَين المختلفَين في التفكير العلمي، نُعيده بصورةٍ أخرى ابتغاء مزيدٍ من التوضيح، فنقول إنَّ هنالك مجموعتَين من العلوم، وذلك إذا قسَّمنا العلوم على أساس «المنهج»؛ فهنالك مجموعة العلوم الطبيعية، بما فيها العلوم الإنسانية إذا نحن أخذنا الإنسان من ظاهر سلوكه، ثم هنالك مجموعة العلوم الرياضية، بما في ذلك كل علمٍ يَنهج نهجَ الرياضة في اتخاذ مُقدِّماتٍ مُسلَّمٍ بها لتكون هي السند الذي يُرجَع إليه في إثبات صِدق النتائج. أما مجموعة العلوم الطبيعية فنقطة البدء في طريق سَيرها معلومات أولية نستمدُّها من مشاهدات الحواس وتجاربها، وأما مجموعة العلوم الرياضية (أو ما يدور مدارها في المنهج)، فنقطة البدء في طريق سَيرها مُقدمات لفظية مُسلَّم بصوابها مُقدمًا.
ونعود بعد هذا التقسيم إلى ما أسلفناه، من أن الفيصل الحاسم في تمييز ما يصلح أن يكون علمًا ممَّا لا يصلح، هو القابلية لإثبات بُطلانه، حتى إذا ما استعصى على ذلك الإبطال، عُدَّ مما يجوز قَبوله في عالَم التفكير العلمي، فنسأل إزاء مجموعتي العلوم اللتَين ذكرناهما: ماذا تكون وسائل التحقُّق من الصدق واستحالة البطلان في كلٍّ منهما؟ والجواب هو أننا في العلوم الطبيعية، نجعل إمكان تطبيق نتائجنا التي نصِل إليها على الواقع الفعلي، هو مقياس القبول، وأما في مجموعة العلوم الرياضية، أو ما ينهج نهجها، فوسيلتنا إلى الحُكم بصواب النتيجة أو بخطئها، هو الرجوع بها إلى المُسلَّمات الأولى، التي صَدَّرْنا بها خطوات السَّير، والتي جعلناها مفروضة الصِّدق مُقدمًا، فإذا وجدنا أن النتيجة المُعينة قد تولَّدت تولُّدًا سليمًا من تلك المُقدمات المُسلَّم بصوابها، كانت نتيجة صحيحة. وألفت نظرك مرةً أخرى، إلى أن هذا الضرب من التفكير العلمي، لا شأن له بأمرٍ من أمور الواقع الفعلي، في عملية الحُكم بالصواب وبالخطأ.
وبعد هذا كله، نعود إلى «علم الدين»، فنراه علمًا قائمًا ضمن المجموعة الرياضية من حيث المنهج؛ وذلك لأن الباحث العلمي فيه، يسير على خطوتَين، هما كالخطوتَين اللتَين يسيرهما الباحث في العلوم الرياضية. أما الخطوة الأولى في عِلم الدين، فهي المُقدِّمات المُسلَّم بصوابها بادئ ذي بدء، وأُولى تلك المُقدمات عند العالِم الديني المُسلم، هو بالطبع النص القرآني الكريم. وأما الخطوة الثانية في طريق السير، فهي استخراج ما يمكن استخراجه من نتائج، تتولَّد من ذلك النص، فإذا تولَّدَت لأحد العلماء نتيجةٍ مُعينة — كأن يتولَّد له حُكم شرعي مُعين مثلًا — كان من حق من يراجعونه أن يسألوه عن النص الذي وَلَّد منه ذلك الحُكم، وطريقة الاستدلال التي مكَّنته من ذلك التوليد. وقد يختلف العلماء بعد ذلك فيما يرونه مُترتبًا على نصٍّ مُعين، فتنشأ بذلك الاختلاف مذاهب.
هذه العملية الاستدلالية التي تنصبُّ على النص المُعين لتستخرج منه ما يجوز استخراجه مع التزام منطق القياس، هي عملية «علمية» كأدقِّ ما تكون العلوم. فمن الحقائق التي يجب توضيحها في سياق حديثنا هذا عن التفكير العلمي وطبيعته، أن العلم لا يشترط لنفسه موضوعًا بعَينه؛ إذ العلم إنما يكون عِلمًا بمنهجه لا بموضوعه، فاختر ما تشاء من موضوع للنظر، وتناوله بالمنهج الذي يضمَن لنا سلامة الوصول إلى نتائج صحيحة، تكُن بموضوعك ذاك صاحبَ نظرة علمية. فقد تختار لبحثك «العلمي» صخور المُقطم، أو دودة القطن، أو تلوث الهواء في سماء القاهرة، أو المسرح الشعري عند شوقي، أو موقف المصري تجاه الولادة والموت، أو أي موضوعٍ يعنُّ لك أن تتناوله بالبحث العلمي، فأنت بما اخترته تكون في دائرة العِلم ما دُمتَ تنهج نهج العلم في خطوات سيرك، بغض النظر عن الموضوع المختار، وأما نهج العلم فهو — كما أسلفنا لك القول — إما أن يرتكز على مشاهدات الحواسِّ في حالة العلوم الطبيعية، ويكون مقياس الصدق هو التطبيق على الواقع، وإما أن يرتكز على مُسلَّماتٍ مفروض فيها الصدق مُقدمًا، في حالة العلوم الرياضية أو ما يدور مدارها. ويكون مقياس الصدق هو سلامة استدلال النتائج من تلك المُسلَّمات. وعلم الدين (أو علومه) من هذا الضرب الثاني.
لكن علم الدين، لا هو «الدين» ولا هو «التديُّن»، إنما هو فاعلية عقلية تُقام على الدين. ومن الجائز أن يكون للقوم «دين» يعتنقونه بمعنى أن يكون لهم «كتاب» يؤمنون بما جاء فيه، دون أن يكون قد ظهر من بينهم من يتناولون ذلك الدين بالتفكير العِلمي ومنهجه. ولعلِّي لا أُخطئ إذا قلتُ إن الإسلام قد لبث «دينًا» للمؤمنين «يتديَّنون» بمبادئه وتعاليمه فترةً قبل أن يظهر «الفقهاء» ليُقيموا عليه العِلم بمنهج التفكير العلمي.
إنه عندما نزلت الآية الكريمة، وفيها قول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … كان قد كمُل دين الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ولم يكن قد كُتِب بعد سطر واحد في أي علمٍ من علوم الدين، مما يقطع بأن الدين نفسه شيء، والمُتدينين به شيء ثان، والعلوم التي تُقام عليه شيءٌ ثالث.
وتسألني: فيم هذا العناء كله، وهو عناء قد لا يُغير من الأمر الواقع شيئًا؟ فأُجيبك بإجاباتٍ ثلاث؛ أولاها: إجابة تُشبه إجابة أول رجلٍ استطاع صعود جبال الهملايا إلى قِمتها، فسأله سائل: ولماذا عانيتَ كل ما عانيتَه عدة أعوامٍ مُتعاقبة، حتى استطعتَ تسلق الهملايا إلى قمتها؟ فقال له المُتسلق (وأظنه كان «مالوري»): لأن الهملايا موجودة. وإجابتي الثانية: هي أن الحياة الفكرية بمعنًى من أدقِّ معانيها، هي تحديد الفواصل بين المعاني المتداخلة أو المتشابهة. ولك أن تحكُم على أمةٍ بدرجتها في مدارج الحياة الفكرية، بمِقدار ما استطاع أبناؤها تحديد المعاني التي يتداولونها. وإجابتي الثالثة: هي أنني — كما ذكرت لك في أول الحديث — صادفتُ اثنين هما من أفضل علمائنا في الدين، لكنني عجبتُ لهما — لكل منهما على حدة حين صادفته مقروءًا أو مسموعًا — إذ رأيتهما لا يُفرقان بين الدين وعلم الدين. والتفرقة الوحيدة عندهما هي بين الدين من جهة، والمُتديِّن من جهةٍ أخرى. ولهذه النظرة ما لها من نتائج، لعلَّ أيسرها هو حرمان المؤمن العادي البسيط، من أن يكون له «دين» يعرفه، ويقرأ كتابه، ويقيم عليه حياته مُستهديًا بمبادئه، دون أن يكون إلى جواره علماء دين أقاموا عِلمهم على أساس نصوصه. نعم، إن وجود العلماء أضمن لدقة المعرفة وضبطها، ولكن ماذا إذا لم يجد مؤمن في مُحيطه عالمًا؟