ما لهذه الشجرة لا تنمو؟!
أصدقائي من علماء الزراعة كثيرون، أزداد من علمهم علمًا كلما دارت بينهم وبيني أحاديث. وفي آخِر لقاءٍ بيننا، حدث لي أن تمتمتُ لنفسي قائلًا — على إثر سرحة خاطفة جريت فيها مع خواطري: «ما لهذه الشجرة لا تنمو؟» فسألني محدثي: ما هذا الذي تقوله؟ فأعدتُ عليه عبارتي بصوتٍ مسموع، فسأل: وأي شجرةٍ تعني؟ فقلت: إنها شجرة في حديقتنا لا تنمو، رَويناها بالماء آنًا وبالدماء آنًا، ولو كانت شجرةً كسائر الشجرات في حديقتنا، لهان خطبها، ولكنها عندنا بمثابة الشجرة الأم، غرسناها منذ قرنٍ ونصف قرن، ثم أخذنا من بذورها لنزرع في الحديقة أشباهًا لها، ولم يكن في حسابنا أنها لعلةٍ فيها لن تنمو إلا لبضعة أقدام، فجاءت سائر الشجرات مثيلاتٍ لها.
قاطعني محدثي قائلًا: ما هذا الكلام العجيب الذي أسمعه؟ إنني ما عرفت لكم حديقة ولا أشجارًا، فأجبته ضاحكًا: إنما أردت شجرة العِلم في بلادنا يا صديقي، فعلاقة القُربى وثيقة بين الأشجار والأفكار، كلتاهما تبذر لها البذور فتنمو وتتفرَّع وتُورق وتُثمر، فشجرة طيبة ككلمةٍ طيبة، والكلمة فكرة، وشجرة خبيثة ككلمةٍ خبيثة، فقل لي: لماذا لا تنمو شجرة في علم النبات؟ أقل لك لماذا لم تنمُ شجرة العلم في حياتنا؟
قال صديقي: أما في علم النبات فالشجرة يُصيبها مثل هذا الشلل، إما لأنها غُرست في غير تربةٍ صالحة، وإما لأنها أُحيطت بمناخٍ غير صالح، وفي الحالة الأولى قد تصلح حالها لو حرثت الأرض حرثًا عميقًا يصِل بجذورها إلى طبقةٍ أرضيةٍ خصبة، وفي الحالة الثانية قد تزول عنها عوائق النمو إذا استطعنا أن نزيل عن المناخ عوامل الفساد. هذا هو ما عندي عن نبات الشجر، فهات أنت ما عندك عن شجرة العِلم في بلادنا.
قلت: سأقصُّ عليك قصتي مع تلك الشجرة: بدأت القصة معي سؤالًا يُحيرني كما يُحير غيري، هو: لماذا وقد بدأنا النهضة الحديثة منذ مائة وثمانين عامًا، نلحظ في حياتنا الفكرية بصفةٍ عامة — والجانب العلمي منها بصفةٍ خاصة — أنها وإن تكن تتطوَّر وتتَّسِع بوثباتٍ ملحوظة، فذلك لا يتجاوز مجال «الكم»، وأما «الكيف» فباقٍ على حاله، لم يتغيَّر عما كانت عليه الحال في القرن الثامن عشر، أعني الحالة التي كنا عليها عندما طرقت أوروبا أبوابنا ودخلت ربوعنا. مهلًا، أرجوك ألا تفزع لقولي هذا، على ظنٍّ منك — فيما أرى من ملامح وجهك — أنني قد بالغتُ وأسرفتُ في المبالغة، فسأُبين لك ما قصدت إليه.
أما التطوُّر الكمي فذلك ما لا يستطيع أحد أن يُنكره، وماذا يُنكَر إذا كنا قد انتقلنا في عدد المُتعلمين على المستوى الأعلى، من مئات أو آلاف إلى ملايين؟ وإذا كنا قد ارتفعنا في عدد المدارس على مستوى التعليم العام هذا العدد الضخم الذي أوشك أن ينال جميع أبنائنا وهم في سنِّ التعلُّم، وإذا كان قد أصبح لدينا من الجامعات عشرات، ثم أضفْنا إلى هذا كله أكاديمية للبحث العلمي، ومراكز قومية للبحوث في شتَّى فروع العلم؟ إنك إذا سرت في هذا الخط — خط الأعداد — فسوف تجِد ما يُشرفنا بأي مقياسٍ نختاره للحُكم، وكان من نتيجة ذلك أن بات منَّا مئات الألوف من الأطباء والمهندسين ودارسي العلوم بكل فروعها، وبينهم عشرات الآلاف من حمَلة الدكتوراه والماجستير في ميادين تخصُّصاتهم. لا ليس لأحدٍ ما يشكو منه في حياتنا العلمية إذا كان الأمر أمر أعداد، لكن تجوَّل بنظرك إلى «الكيف» تجد أمام عينيك ما أعنيه حين أقول إنه قد تحجَّر عند حالته التي كانت إبان القرن الثامن عشر، وتسألني: وماذا تقصد بكلمة «كيف» هنا؟ وأجيبك بأنني أقصد إلى ما هو أبعد جدًّا مما يقصد إليه مَن يتحدَّثون في أيامنا هذه عن تدهور التعليم من حيث الكيف، بمعنى ضعف التحصيل، وقلة الاهتمام وضيق الأفق، على أن هذا كله صحيح، ولكنه ليس ما أردتُه، فما أردته أبشع من ذلك وأشدُّ هولًا؛ لأن تلك العلل التي ذكرناها يمكن مُعالجتها إذا أخذنا أمورنا بعزيمةٍ أمضى. وأما الجانب المتحجِّر الذي أعنيه، فالله أعلم بأي الوسائل يزول، فهو هو الجانب الذي أوقفَ شجرة الحياة العلمية في بلادنا، ولم يأذن لها بأن تنمو، فها نحن أولاء نرويها كما نرويها، ولكنها لا تنمو، ونُسمِّد لها الأرض بأطيب السماد، ولكنها لا تنمو، وإنما أردتُ بذلك الجانب الكيفي المُتحجِّر، الذي يكرث حياتنا العلمية بكارثةٍ ليس لها إلا الله لتنزاح، إننا مهما حصَّلنا من العلوم، فنحن «حُفَّاظ» عِلم، لا علماء، نحفظ علومًا أنتجها غيرنا، ولا نبلغ أن نكون علماء نضيف مع هؤلاء الآخرين جديدًا يُبيح لرجالنا أن يسيروا معهم كتفًا إلى كتفٍ في موكبٍ واحد، إلا أنَّ فداحة الخطب لتحتاج منا إلى رويَّةٍ في التفكير وأناة في التحليل، لعلنا نردُّ النتائج إلى أسبابها، فينفتح أمامنا طريق العلاج.
لنعد معًا بخيالنا إلى مصر القرن الثامن عشر، لنرى — عندما فتحت علينا أوروبا أبوابنا، ودخلت بثقافتها العلمية الجديدة — كيف التقت ثقافتان بينهما من الاختلاف ما بين الأبيض والأسود من تضاد؟ فهل تفاعَلَتا لتخرج لنا من ذلك التفاعُل صيغة ثالثة اجتمع فيها العنصران معًا؟ أو أن مثل ذلك التفاعُل قد استعصى، فسارت كل منهما في طريقها؟ وإذا كان أمرهما كذلك من استقلال الواحدة عن الأخرى، فكيف انقسم شعبنا بين ذَينك الضدَّين؟ لكننا قبل أن نحاول الجواب عن أسئلةٍ كهذه، يجمُل بنا أن نُقدِّم وصفًا موجزًا لكلٍّ من الثقافتَين.
عندما أصدرنا الميثاق الوطني سنة ١٩٦٢م، قرأت في الفصل الأول منه تفنيدًا للرأي الشائع، والذي يؤمن بصوابه كاتب هذه السطور، حتى هذه الساعة، وهو أن نهضة مصر الحديثة بدأت يوم أن اتصلت بأوروبا عن طريق الحملة الفرنسية بقيادة نابليون «١٧٩٨م»، وقيل في تفنيد هذا الرأي، إن الأزهر الشريف كان قبل ذلك — خلال القرن الثامن عشر — يعجُّ بالعلماء، ولم تكن مصر بحاجةٍ لنهضتها إلى انتظار فرنسا وحملتها، ومن صحِبوها من علماء. وأذكر أني إذ قرأتُ ذلك في الميثاق عند صدوره، صمَّمتُ على ألا أترك نفسي نهبًا لأحكامٍ قد تكون قائمة على أساسٍ علميٍ صحيح، وقد لا تكون، فبحثتُ عما أقرؤه من مراجع لأكون على بينةٍ من أمري، فما الذي كان قائمًا في الأزهر من علمٍ في تلك المرحلة من تاريخنا — على سبيل اليقين، لا جريًا مع الإشاعة؟ فرجعتُ إلى مجلدٍ موسوعي يُحصي كل المُشتغلين بالعلم، ولمعت أسماؤهم في البلاد الإسلامية جميعًا، وهو كتاب «سلك الدُّرر في أعيان القرن الثاني عشر»، أي القرن الثامن عشر بالتاريخ الميلادي، وأخذت نفسي باستخلاص ما ورد فيه عن علماء مصر إذ ذاك، وفيم كان علمهم، وماذا خلَّفوا وراءهم من مؤلفات؟ فوجدتُ ما توقَّعت أن أجده، وأعني الدوران فيما هو موروث، فإما أن يتركوه كما هو بعد أن يُهمِّشوه بشروح، وإما أن يُعيدوا محتواه مُلخصًا ليسهل على الدارسين. وكثيرًا ما وقعتُ على علماء وكلُّ ما نُسِب إلى الواحد منهم من فضل، هو أنه قرأ الكتاب الفلاني كذا مرة، أو أنه قرأ كتاب كذا على شيخه فلان، أو أنه حفظ كذا وكذا من الكتب القديمة عن ظهر قلب. وليس في ذلك كله ما يُعاب عليهم، فذلك هو ما بين أيديهم من علم، فماذا يصنعون كسبًا للعلم أكثر من أن يُحصِّلوه ويجمعوه ويشرحوه ويحفظوه؟
وفجأة هبطت عليهم ثقافة أخرى وعِلم آخر، فإذا كان علمهم قراءة ما قد ورثوه من كتب، فها هي ذي وقفة أخرى جاءتهم عبر البحر، تجعل العلم قراءة لظواهر الطبيعة. وبدل أن تكون موضوعات العلم مقصورةً على اللغة وقواعد نحوها واشتقاقها، وأحكام الشريعة في كذا وكيت، طلعت عليهم علوم أخرى تنظُر في قوانين الكهرباء والضوء والمغناطيس وما إلى ذلك من أمور. ولقد روى لنا الجبرتي كيف تعمَّد علماء الحملة الفرنسية أن يُبهروا علماء الأزهر بما جاءوا به مما ليس عندهم، فكانوا يدعون المشايخ جماعةً جماعة، ليُطلعوهم على فعل الكهرباء وغيرها، وكأنهم سحرة يعرضون ألعابهم السحرية التي تُثير العجَب في الناظرين، حتى لقد بلغ الغيظ بأحد الشيوخ العلماء ذات مرة، عندما أحسَّ أن هؤلاء العلماء الإفرنج إنما أرادوا من علماء المسلمين خلع قلوبهم، فقال لهم الشيخ: هل يستطيع عِلمكم أن يجعل الإنسان قادرًا على الانتقال إلى بلاد المغرب خطوة واحدة؟ فكان الجواب بالنفي، فقال الشيخ: لكن علمنا نحن يستطيع فعل ذلك.
والسؤال الذي يُهمنا نحن الآن فيما نعرِض له من حديثٍ هو: هل كان يمكن لهذَين الضربَين من العلم أن يتفاعلا بالمعنى الصحيح للتفاعل؟ إن شواهد التاريخ الفكري تدلُّنا على أن الثقافة الوافدة لا تتفاعَل مع الثقافة المُوفَدة إليها، إلا إذا كان في هذه عناصر مُشابهة من بعض الوجوه لتلك، وعندئذٍ يجوز للثقافتَين أن تتفاعلا فيُخرجا نتيجةً جديدة. بعبارة أخرى يُصبح في مُستطاع الثقافة التي تستقبل تلك الوافدة، أن تصبَّها في قالَبها لتخلع عليها طابعها التقليدي في مجال الفكر والقصيدة، وكان ذلك هو الشأن في كل فروع العقائد والمذاهب العقلية أو الفنية. حتى الديانات نفسها، فقد ذهب الإسلام إلى إيران وجاء إلى مصر، فبينما جعلته إيران إسلامًا شيعيًّا استقرَّ في مصر إسلامًا سُنيًّا. وليست هذه مصادفات، وأنَّ العكس كان يمكن أن يكون، بل كان لا بدَّ لمن كانت ديانتهم قبل الإسلام مُلتفة بالألغاز والإيحاء، والرمز أن يكسوا العقيدة الجديدة بما يُشبه هذا الذي ألِفوه، كما كان لا بدَّ لمن كانت ديانتهم قبل الإسلام مُتميزة بالاعتدال وإقامة البنيان على قواعد واضحة، أن ينظروا إلى الدين الجديد مثل هذه النظرة.
وشبيه بذلك ما حدث للمسيحية في أوروبا، فهي كاثوليكية في الجنوب، حتى إذا ما انتقلت إلى الشمال الذي كان يغلب على أهله أن يكون الأفراد أحرارًا من القيود على أن تقع على كل فردٍ تبعة الإرادة الحرة فيما تختار، جاء اليوم الذي يظهر لهم فيه من فقهاء الدين من يستخلصون تأويلًا للمسيحية يكفُل لهم ما يُساير طبائعهم، فنشأت البروتستانتينية، ثم عبرت المسيحية إلى أمريكا مع المهاجرين إليها، فأضافت إلى نفسها جانبًا عمليًّا في خدمة الناس، يتناسَب مع الروح العملية التي سادت جوانب الحياة كلها هناك.
هكذا يكون التفاعُل بين الوافد وما يُحيط به من ظروف في البلد المُستقبِل. وإن ذلك ليظهر جليًّا في الفنون، فانظر — مثلًا — إلى المساجد بمآذنها وقبابها في مختلف الأقطار الإسلامية، تجد الفروق واضحة في فن العمارة، ولا يصعُب عليك من نظرةٍ واحدة إلى القباب والمآذن، أن تقول هذه مصر، وتلك تركيا، والثالثة الأندلس، أو المغرب، أو إيران وباكستان، فكلٌّ قد صاغ عمارته وفق ما أملَتْه عليه مقومات ذَوقه واتجاهه وتاريخه الثقافي.
ونعود إلى سؤالنا الهام: هل كان يمكن للعمل الأوروبي الحديث عندما وفد إلى مصر لأول مرة مع الحملة الفرنسية، أن يتفاعل مع العلم كما كانت صورته هناك؟ ولماذا نلجأ في إجابتنا عن هذا السؤال إلى التخمين؟ لماذا لا نتعقَّب ما قد حدث بالفعل؟ والذي حدث — بصفةٍ عامة — هو أن الدارسين للعلوم الحديثة بعد ذلك، نقلوا معهم طريقة «الحفظ» والوقوف بجهودهم عند حد الشرح والتعليق والاختصار. بعبارةٍ ثانية: إن كل ما حدث في عملية التفاعُل بين الثقافتَين — عند من كان حظهم دراسة العلوم الحديثة — هو أنهم استبدلوا موضوعًا بموضوع، وأما الطريقة فلم تتغيَّر عما كانت عليه في القرن الثامن عشر، وتلك هي كارثة الكوارث في حياتنا العلمية إلى اليوم، فلبثت شجرة العلم كما غُرست أول ما غُرِست في أرضنا، لا تنمو.
قال صديقي عالم الزراعة الذي ظل يستمع إلى حديثي: أيكون معنى قولك هذا أن لا أمل في إصلاح؛ إذ كيف يكون أمل إذا كان الأمر مرتبطًا بتاريخنا وتقاليدنا كما زعمت؟
فأجبته بأن أمل التغيير مفتوح الأبواب على مصاريعها، إذا حسُنت النوايا، واشتدَّت العزائم، فهل نسيتَ ما قلتَه لي عند حديثنا عن الشجرة التي جمدت فلا تنمو؟ ألم تقُل لي إن حالها لينقلب إذا ما ضربنا بنصل المحراث إلى طبقةٍ أرضية عميقة يكون فيها صلاحية التربة وخصبها؟ هذا إن وُجِدت تلك الطبقة. وتاريخ مصر وتقاليدها ليست كلها مُنحصرة في القرون الظلام الثلاثة التي امتدَّت من السادس عشر إلى التاسع عشر، والتي عقمت خلالها إلا من المُحاكاة والحفظ والتعليق والشرح، فمصر — خلال تاريخها الإسلامي وحده — عاشت على الأقل خمسة قرون غزيرة الإنتاج من العاشر الميلادي إلى الخامس عشر أثبتت فيها ذاتها الخلَّاقة في كل فروع العلم المعروف إذ ذاك، فعلماء الأزهر في محاولاتهم لصَون التراث الإسلامي، لم يكونوا آلاتٍ صماء، يُحاكون ويحفظون عن ظهر قلب، بل وأنشئوا معاجم اللغة الكبرى التي حفظت مُفرداتها في تعقُّبٍ حي للحياة المُتطورة التي تسلسلت فيها سِيرة كل مفردةٍ منها، وأنشئوا من كتب النحو ما قيل عنه بعد ذلك إنه من أعظم ما شهدته العربية في تاريخها، وكتبوا التاريخ كتابةً جعلته أقربَ إلى العِلم المنهجي، لا مجرد حكاياتٍ تُروى، إلى آخر ما أبدعوه في شتَّى ميادين الفكر والأدب ومختلف العلوم.
تلك هي الطبقة العميقة الخصبة التي يمكن أن يصل إليها نصل المحراث، ودع عنك ما قد سبق بكل ما احتوى عليه من عظمةٍ ومجد، فلماذا نترك وقفاتنا تلك، التي كانت لَتصلُح كل الصلاحية للتفاعل المنتج مع العلم الحديث، ونقنع بإطارٍ نأخذه من فترة العُقم والظلام؟ ولستُ أعني بذلك — طبعًا — أن يحدث التفاعُل المطلوب بين مادة العلم الحديث ومادة العلوم التي شُغل بها علماء مصر في الحقبة التاريخية التي أشرْنا إليها، بل الذي أعنيه هو أن يحيى في نفوس الدارسين «علمية المنهج»، فهذا وحدَه يكفُل لدارسينا أن يتلقَّوا علوم العصر بروحٍ أُخرى، غير الروح التي لا تعرف فيما تتلقَّاه إلا الحفظ والتسميع.