كلمات تحت كلمات
كنا معًا في جوف حوتٍ طائر، يعبُر بنا المحيط إلى أمريكا، لنقضي بضعة أيام في مهمةٍ علميَّةٍ دُعينا من أجلها، وجلسنا على مقعدَين متجاورَين، فأخذنا نسمر حينًا ونصمت حينًا — كما هي عادة المسافرين — وفجأة، وبِغير مُقدماتٍ قال لي: أنا لا أقرأ الصحف، أكتفي بنظرةٍ خاطفةٍ إلى صفحاتها الأولى، وتبقى الصحيفة مطويَّة كما اشتريتُها، فرددتُ عليه مُسرعًا: وأنا كذلك أفعل، ثم بدأت معنا بعد ذلك فترة صمتٍ طويلة، أسندت خلالها رأسي على ظهر مقعدي، وتقاطرَتِ الخواطر تتْرَى، خاطر منها يشدُّ خاطرًا. وأما الخاطر الذي بدأت به السلسلة، فهو — بالطبع — ما قاله زميل السفر عن قراءته — أو عدم قراءته — للصخف، وما رددتُ به عليه! فمنذ اللحظة الأولى لم تُخامرني ذرة شكٍّ في أنه لم يكن في قوله صادقًا، كما أني أعلم عن نفسي علم اليقين أنني كذلك لم أكُن صادقًا في الرد، فلا هو ممَّن يتركون الصحيفة مطوية غير مقروءة، ولا أنا! فلماذا كذب ولماذا كذبت؟ على أن كِلَينا حين كذب، فإنما كذب في ظاهر القول ليكون صادقًا مع خوالج النفس من باطن، فهو حين قال إنه لا يمسُّ الصحيفة إلا بلمحةٍ سريعةٍ وهو منها على مبعدة، فإنما أراد أن يقول لي: أنا لا أقرأ ما تكتبُه، بل ولا أعلم أنك تكتُب، فلئن كذَبَني القول في الظاهر، فلا شك أنه قد كان صادقًا في التعبير عن شعوره أو قل في التعبير عن نفوره! وأما أنا حين رددتُ عليه كذبًا بأنني كذلك أفعل مع الصحيفة كما يفعل أردتُ أن أقول — صادقًا: لا عليك، وماذا لو قرأت؟ لن يتغيَّر من الأمر شيء لا خيرًا ولا شرًّا.
كِلانا نطق بكلماتٍ لم يُرِدها، ودسَّ تحتها كلماتٍ خرساء، وكانت هي التي أرادها. تلك كانت فاتحة خواطري؛ إذ أسندت رأسي على ظهر مقعدي، مفتوح العينين، لكني لا أنظر بهما إلى شيء! وكان أول ما توارَدَ بعد ذلك من خواطر، هو أن تذكرتُ عبارة عن طبيعة الشعر، قالها ناقد إنجليزي، وقرأتُها له، غير أني لا أذكُر أين قرأتها، ولا متى، بل لا أذكر اسم قائلها، وماذا يعنيني من كل ذلك ما دُمتُ أذكر العبارة نفسها، كما أذكُر كم رأيتُ فيها من الصدق، وما أزال أرى، فهي تقول في تعريف الشعر: إنه كلمات تحت كلمات. وفي هذا القول المُوجَز إشارة إلى كثيرٍ جدًّا مما يُميز لغة الشعر من لغة العلم، بل إن الأمر في ذلك لا يقتصر على الشعر وحده دون سائر الأجناس الأدبية، بل إنه ليصدُق على لغة الأدب، كائنةً ما كانت صورته، إذا ما قورن بالعلم، فالمثل الأعلى في دُنيا «العلوم» هو أن يجيء المُصطلح العلمي مُحدَّد المعنى تحديدًا لا لبسَ فيه ولا غموض ولا ترادُف ولا إيحاء ولا أي شيء من شأنه أن يجعل المصطلح العلمي دالًّا على أكثر من مدلولٍ واحد، فلا تحته مدلولٌ آخر، ولا فوقه ولا إلى جواره، فإذا قلتَ كلمة «مثلث»، فيستحيل أن تعني في علم الهندسة إلا المثلث بتعريفه المُحدد، وإذا قلت «أوكسجين» فلن يُفهم من الكلمة إلا ما أراده علم الطبيعة بهذا الاسم، حاملًا للخصائص المُعينة المُحددة التي يتميز بها ذلك العنصر. هذا هو العلم وما يقيد نفسه به في لُغته. ولمَّا كان مثل ذلك التحديد القاطع للمعاني، قلَّما يتوافر في اللغة المتداولة في الحياة الجارية، لجأ العلم — كلما أمكن ذلك — إلى خلق لغةٍ خاصةٍ به، قوامها رموز من حروف أو أرقام، حتى لا يفسح المجال لأحد أن يفهم من المصطلح العلمي، أو من العبارة العلمية إلا شيئًا واحدًا فقط، هو ما اتُّفِق على أن يكون مدلول ذلك المصطلح أو تلك العبارة. وبقدْر ما يتعذَّر على علمٍ من العلوم تحويل لُغته إلى مصطلح لا تشاركه فيه لغة الحياة الجارية بين الناس يكون بُعد ذلك العِلم عن الدقة المُثلى كما هي الحال في مواضع كثيرة من العلوم الإنسانية.
وأما الشعر — والأدب عامة — فشأنه في لغته غير ذلك، فلئن كان المثل الأعلى عند العِلم أن يُحال دون ازدواجية المعنى للمصطلح الواحد أو العبارة الواحدة، فالمثَل الأعلى في لُغة الشعر هو أن تُوحي اللفظة الواحدة، أو العبارة الواحدة، بألف معنًى ومعنًى إذا أمكن ذلك. موضع المُباهاة عند العلم أن كل قارئٍ له، مهما كان مكانه أو زمانه، فهو ككل قارئٍ آخر من حيث المدلول الذي يُشير إليه الرمز العلمي، وأما موضع المُباهاة عند الشعر، فهو أن يفهمه كل قارئ على نحوٍ يختلف به عن سائر قُرَّائه، وكلما كانت اللغة التي استخدمها الشاعر في شعره قابلةً لتعدُّد الإيحاءات وكثرة التأويلات، كان ذلك أدلَّ على موهبته في اختيار ألفاظه وتركيب صوره. وبعبارةٍ أخرى كلما كان تحت كلماته الظاهرة كلمات دفينة، يظهر منها شيء لكل قارئٍ وفق ما تستدعيه الخبرات السابقة لهذا القارئ كان الشاعر أعلى رُتبة في موهبته الشعرية. ومن هذه النقطة نفسها جاز الغموض في الشعر؛ إذ كان من شأن ذلك الغموض أن تتعدَّد الإيحاءات عند مختلف القارئين، فإذا قال شاعر في وصف الخمر وكأسها إن زجاج الكأس قد رقَّ وإن الخمر قد راقت إلى الحد الذي يتعذَّر معه على الرائي أن يُفرق بينهما، فإما أن تكون الكأس المليئة بخمرها في عين الرائي خمرًا بلا كأس، أو كأسًا بلا خمر، أقول إن الشاعر إذا قال شيئًا كهذا فهِمَه قارئ بالمعاني المباشرة لألفاظه، وفهمه قارئ آخر أنه إنما يعني قلبه وما امتلأ به من حب الله، حتى بات القلب ومحبوبه وكأنهما شيء واحد.
وإنما ضربتُ هذا المثل لأنه هو الذي ورد على ذهني وأنا أكتب هذه السطور، إذ تذكرت جلسة جلستها مع نفرٍ من أدباء وشعراء منذ أعوامٍ طويلة، وكان ذلك في بيروت — وا حسرتاه عليك يا بيروت — وحدث أن تغنَّى أحدهم بهذين البيتين:
ودار حولهما نقاش، وكان لكلٍّ من الحاضرين طريقة في الفهم، فلم يكن هذا الاختلاف نفسه إلا شاهدًا على شاعرية الشاعر.
ولم أكد أفرغ من تذكُّري لتلك الجلسة البيروتية وما دار فيها، حتى وثبت إلى خاطري — في تسلسل الخواطر، ورأسي مُسند إلى ظهر مقعدي في جوف الحوت الطائر بنا فوق المحيط — وثب إلى خاطري كلام جميل قرأته لأبي حيَّان التوحيدي، حول بيت الشعر الذي يقول:
فيسأل أبو حيان نفسه: قلبُ من يا ترى الذي أراده الشاعر؟ أأراد قلبه هو، وأن ذلك القلب يفعل كل ما تأمُره به الحبيبة؟ أم أراد قلبها هي، وإنها تملك زمام قلبها، فيأتمِر بأمرها، إن شاءت أذِنت له بأن ينبض للحبيب، وإن شاءت له أن يُمسِك أمسك؟ وأبو حيان يختار هذا المعنى الثاني، بل ويستهجن أن يؤخَذ بالمعنى الأول؛ لأنه ما دام حبُّها قد قتل الحبيب كما ورد في الشطر الأول من البيت، فلم يعُد هنالك إمكان أن يظلَّ قلبه حيًّا يفعل ما تأمُرُه الحبيبة بفعله، كما قد يفهم من الشطر الثاني.
فالشعر — إذن — كلمات تحت كلمات، وها هنا أوشكتُ أن أصحو من أسْر الخواطر المُتعاقبة، لولا أنَّ سؤالًا نشأ عندي هو: أهو الشعر وحدَه الذي يُقال عنه إنه كلمات تحت كلمات؟ أليست الفلسفة هي الأخرى، في كثيرٍ جدًّا مما أورده أصحابها فيما قالوه أو كتبوه، كلمات تحت كلمات؟ وعدتُ من جديد إلى انسياب خواطري، أقفز من فيلسوفٍ إلى فيلسوفٍ باحثًا عن الشواهد، كما يقفز العصفور المرح بين أفنان الشجر.
خُذ أفلاطون نموذجًا بارزًا لفيلسوف عظيم، لا يُجادل في ذلك مُجادل، من داخل الأسرة الفلسفية أو من خارجها، وراجِعْ محاوراته — ومحاوراته هي مؤلفاته — وانظر فيمَ تبحث، تجدْها تتناول أفكارًا مما يتداوله عامة الناس في حياتهم اليومية، كلهم يتداولونها وهم على غير وعي بما تتضمَّنه تلك الأفكار من تفصيل. وإذن فالفيلسوف هنا بمثابة من يكشف عما يستتِر وراء كلماتهم من كلمات، وهل رأيتَ بين عامة الناس من لا يتحدَّث عن الحُب، والجمال، والصداقة، والعدالة، والفضيلة والشجاعة؟ وتلك وأمثالها هي الموضوعات التي يتناولها أفلاطون في محاوراته ليسبر أغوارها، ويتحسَّس أبعادها، فهو يحاور على لسان سقراط عن الحُب في المأدبة، وعن الجمال في هبياس، وعن الصداقة في ليسيز، وعن العدالة في الجمهورية والقبيادس، وعن الفضيلة في خرميدس، وعن الشجاعة في لاحيس وهكذا. واختياره لأسلوب الحوار في البحث عن حقائق تلك الأفكار وأمثالها، هو في حدِّ ذاته دليل على أنها تحتمِل الاختلاف في وجهات النظر، فما يراه فيها هذا المفكر، قد يرى فيها شيئًا غيره مُفكر آخر، أي إن المُتحدِّثين عن المعاني التي من هذا القبيل إنما يُضمرون حقائق لها، وأبعادًا هي التي يكشفها الفيلسوف — من وجهة نظره على الأقل — فيكشف بذلك ثقافة مُعاصريه عند جذورها.
وأترك أفلاطون مُمثلًا للفلسفة في عصرها القديم، لأقفز نحو خمسةٍ وعشرين قرنًا من الزمان، فأقف عند واحدٍ ممن يُمثلون الفلسفة في عصرنا، وليكن برتراند رسل، فأجد الصورة قد ازدادت وضوحًا بأن العمل الفلسفي في كثيرٍ من حالاته إنما هو كشفٌ لكلماتٍ قد اختبأت تحت كلمات، أي عن أفكار قد استترَتْ في جوف أفكار؛ فمن أشهر الأمثلة على طريقة التحليل عند برتراند رسل، تحليله لهذه العبارة «مؤلف رواية ويفرلي هو اسكوت»، وهو التحليل الذي قِيل عنه إنه النموذج الدال على اتجاه الفلسفة المُعاصرة في تصوُّرها لعِلمها كيف يكون، ولماذا اختار رسل عبارة كهذه لا يبدو على مفرداتها ولا على تركيبها شيء من العُسر الذي يتطلَّب التحليل؟ إنه فعَل ذلك؛ لأن ما يستهدفه هو بيان ما تنطوي عليه أيَّة عبارة تُشير إلى مُسمَّاها عن طريق صفاته، فها هنا في عبارة «مؤلف رواية ويفرلي» مُركَّب وصْفي يُراد به الإشارة إلى شخصٍ بعينه، فيُحللها الفيلسوف لتكون مثالًا لكل عبارةٍ وصفيةٍ أخرى، وليس هنا مكان التفصيلات في تلك القطعة التحليلية النموذجية، فالذي يعنينا في سياق هذا الحديث الآن هو أن نذكُر كم أخرج رسل من هذه الجملة البسيطة مُضمَرات لا تخطُر لنا على بال لا عند الوهلة الأولى ولا الوهلة العاشرة. وإذن فهنالك كلمات كثيرة جدًّا قد اختفت وراء هذه الكلمات، ولم يرفع عنها القناع إلا فيلسوف في مثل قامة برتراند رسل في براعة التحليل.
عند هذا المنعطف من خواطري المنسابة — وما زلت على جلستي المُسترخية في جوف الحوت الطائر بنا عبر المُحيط — أوشكتُ على الوثوب من ميدان الفلسفة إلى ميدانٍ آخر، لعله أوضحها دلالة على طبيعة الإنسان كيف تطوي كلماتٍ تحت كلمات، وأعني ميدان التحليل النفسي، وكدت عندئذٍ أنطق بصوتٍ مسموع: وماذا تقول في فلتات اللسان وقُدرتها على فضح المستور في صدر من أَفلتت منه خلال الحديث؟ لكن رفيقي في تلك اللحظة ذاتها أخرجني من دُنياي الباطنية، بسؤالٍ ألقاه في أذني:
قال: أراك تُحدِّق بعينيك في لا شيء، فأين سرحت بك الأفكار؟
قلت: في الكلمات التي تكمُن تحت كلمات.
قال: ما تعني؟
قلت: أعني شيئًا كالذي قرأته ذات يوم من زمنٍ بعيد، لكاتبٍ إنجليزي، يروي عن خادمةٍ له في مسكنه في الريف، فيقول إنها كانت تُراسِل رجلًا مجهولًا لها، سمِعَت عنوانه مما تُذيعه نوادي هواة التراسُل، ولبثَتْ تُبادله خطابًا بخطابٍ مدة طويلة، وفاجأت مخدومها ذات صباح بأنها تريد السفر إلى لندن لتقضيَ يومَين؛ إذ جاءتها دعوة ممَّن يُراسِلها ليلتقِيا هناك، وقدمت للكاتب ذلك الخطاب الذي حمل لها الدعوة، فقرأه الكاتب، وقطَّب جبينه عند موضعٍ منه، ثم سأل وكأنه يُوجِّه السؤال إلى نفسه: لماذا أقحم هذه الكلمة إقحامًا هنا؟ فقالت الخادمة: أية كلمة يا سيدي؟ أجابها: قوله عن نفسه «أنا مسيحي»، فماذا دعاه إلى ذكر ذلك؟ سألته الخادمة في شيءٍ من الدهشة؟ وماذا لو قالها؟ أجابها الكاتب: أنا لا أقولها عن نفسي في خطاب ويقيني أنك كذلك لا تقولينها. قالت: لستُ أرى في ذِكرها بأسًا، فأجابها: بل فيها البأس كل البأس؛ لأنها كلمة زائدة واحذري يا ابنتي من أمثال هذه الكلمات التي تشعُرين أنها جاءت مُقحَمة في السياق بغير داع؛ لأنها تُنبئ بأن تحتها كلماتٍ حُذفت عن عمد، لكن الفتاة ألحَّت في طلب الإذن بالسفر، وسافرت إلى لندن، وكان مُراسلها قد حدَّد لها مكان وقوفه انتظارًا لقدومها تحت الساعة في محطة بادنجتن، وستكون في عروة سُترته وردة حمراء، وذهبت الفتاة إلى المكان المُحدَّد في الموعد المُحدَّد، فلمَّا أن أصبح الرجل ذو الوردة الحمراء، الواقف تحت الساعة، في مرأى بصرها، وجدته أبعد ما يكون إنسانًا عما كانت قد تصوَّرَت، لونًا وعمرًا وصورة وجه، فلم تُكمِل طريقها إليه، وعادت إلى مخدومها في الريف، وما إن التقَتْ عيناهما حتى قالت في لعثمة الخجل: نعم يا سيدي كانت الكلمة التي في خطابه تُخفي تحتها كلمات.