أبراج بلا نوافذ
إذا كانت الذاكرة أمينة فيما تُمِدُّني به من قراءات الماضي البعيد، فأذكُر أنني قرأتُ لحافظ إبراهيم — وربما كان ذلك في كتابه «ليالي سطيح» — قوله عن المصري: «المصري والمصري كشُعبتَي المقراض، لا تلتقيان على شيءٍ إلا افترقتا.» ولم أكن حين قرأتُ ذلك فيما أذكر قد جاوزتُ الخامسة عشرة من عمري، وأعجبتني العبارة بإيقاع لفظها، وصدَّقتُها، ومن ذا الذي في مثل تلك السن المُراهقة، كان في وُسعه أن يتشكك في أي شيءٍ مطبوع في كتاب؟ لا سيما إذا كان مؤلِّف الكتاب تُحيط به هالات من النور، وإذا كان ذلك المراهق القارئ قد نشأ نشأةً تُخيفه من أصحاب السلطان، كائنًا ما كان نوع السلطة التي يتسلَّطون بها على الناس، ومنها سلطان الشهرة لمن كانت أسماؤهم تملأ القلوب والأسماع.
قرأت تلك العبارة، وأعجبتني، فصدَّقتُها، ثم ذهبَتْ من الحياة أعوام وجاءت أعوام، وأراد لي الله خيرًا؛ إذ هيَّأ لي ظروفًا أرهفت عندي حاسة النقد، فأصبحَتْ حاسةً قادرة على النظر إلى الأمور من شتَّى جوانبها، وعندئذٍ عادت إلى ذاكرتي تلك العبارة القديمة، محمولةً مع غيرها في تيار الذكريات، وفجأة وقفت عندها: أحقًّا يكون المصري مع المصري الآخر، كشُعبتَي المِقراض، لا تكادان تتلاقيان تحت ضغطة الأصابع، حتى يعودا ليفترِقا من جديد؟ كلَّا، كلَّا لقد أخطأ صاحب هذا القول من وجهَين: أولهما هو أن الصورة التي اختارها ليدلَّ بها على امتناع روح التعاون بين أبناء مصر، إنما هي صورة تدلُّ على عكس ما أراد؛ وذلك لأن شعبتَي المقراض حين تفترقان بعد إذ تلاقتا، تكونان قد فرغتا من أداء ما تلاقتا لأدائه، أي أن التعاون بينهما يكون قد تمَّ وأَنجَز ما أُريد له أن يُنجِزه. وأما الوجه الثاني لخطأ ذلك القول، فهو أهم وأخطر؛ لأنه زعْم يكذِّبه تاريخ مصر، منذ أول خطوة له على الطريق وإلى عدة قرون توالَت بعد ذلك على امتداد الزمن، وتكفيك نظرة سريعة إلى مُنجزات الحضارة المصرية، لترى أن كثيرًا جدًّا من تلك المُنجزات هو من ذوات الجسامة والضخامة ممَّا يستحيل على فردٍ واحد، أو عددٍ قليل من الأفراد، أن يؤدِّيَه بل لا بدَّ له من جماعاتٍ كبيرة تتعاون على إنجازه كالأهرامات والمسلَّات وأعمدة الهياكل، وإقامة الجسور أيام الفيضان وغير ذلك، فكيف جاز لمصر أن تصنع كل هذا، إذا كان المصري بطبيعته لا يتعاون مع زميله المصري على إنتاجٍ مشترك؟
ولم يكن ذلك التعاون — كما يبدو في مُنتجاتهم الضخمة المتروكة لنا — مقصورًا على عصور الحضارة الفرعونية من تاريخنا، بل نراه ظاهرًا كذلك فيما تركته العصور التالية، فحتى المصنوعات الخشبية أو النحاسية أو غيرهما، هي في معظمها مما كان يستحيل إنجازه بغَير تعاونٍ وثيق بين العاملين. ولقد حدثني خبير في الفنون — إبداعًا، ونقدًا، وتاريخًا — عن مزاجٍ موروث عند الفنان المصري، منذ عهود أسلافه القدماء، في أن يستخدِم الوحدات الضخمة في عمله كلَّما أمكن ذلك، وأذكُر أنه في حديثه ذاك، قد ساق شاهدًا جامع السلطان حسن بالقاهرة، قائلًا: إن أحجاره في ضخامتها، تُعيد إلى الذاكرة أحجار الأهرامات، فالمبدأ واحد في الحالتَين، ولا يَنفيه أن تكون أحجار الأهرامات أكبر حجمًا من أحجار المسجد المذكور.
فكرة التعاون بين المصري والمصري، هي — إذن — فكرة أصيلة في ثقافته، التي نشأ عليها ودامت معه قرونًا، حتى لقد تبلُغ بنا أحيانًا حدَّ الإسراف، بحيث تنطمِس معالِم الفرد المُستقل بشخصيته المتميزة مما قد يُعاب علينا، بل وقد نعيبه نحن على أنفسنا حين نراه قد جاوز الحدود، فأخفى غير العامل في زحمة العاملين.
وربما كان المصري — بانصهاره في مُجتمعه — قد شذَّ عما كان سائدًا في شعوبٍ أخرى، حيث كانت الفردية المُستقلة بذاتها عن سائر الناس، هي الصورة المُثلى، قبل أن يجيء عصرنا هذا الذي نعيش فيه، فتجيء معه صورة أخرى، لا نرى في الفرد الواحد من أفراد الناس، إلا محورًا لعلاقاتٍ مُتشابكةٍ تربطه بغيره من الأحياء والأشياء، وأصبحت تلك الفردية المُستقلة وحدَها، والتي لعبت بخيال السابقين، ضربًا من ضروب المحال.
نعم، كان المصري لا يعرف الحياة إلا تعاونًا مع آخرين، من أبناء أُسرته، وقريته، وأُمته، حينما كان الإنسان في شعوبٍ أخرى، على وهمٍ بأنه يستطيع أن يستقلَّ بذاته معزولًا عن سائر الأفراد، وكأنه جزيرة قائمة وحدَها، يفصلها الماء عمَّا سواها من جميع أقطارها وهو وهْمٌ تراه منعكسًا في تصورات الفلاسفة والأدباء على تعاقُب العصور «قبل عصرنا» وفي مختلف الشعوب، بل وكان من هؤلاء من هو عربي في بلدٍ غير مصر.
ونسوق أمثلة على ذلك، بادئين بفيلسوف عربي، هو ابن طفيل، في قصته الفلسفية «حي بن يقظان» التي أراد أن يُبين بها، كيف أن الإنسان لو تُرِك وحيدًا في جزيرة لا يسكنها بشر سواه، وليس فيها معه إلا الطبيعة بنباتها وحيوانها، لاستطاع بقدراته العقلية الخالصة أن يُدرك وجود الله سبحانه وتعالى، وأن يَستدلَّ الحقائق الأساسية التي تتكوَّن منها العقيدة الدينية، مُريدًا بهذا أن يقول إن الديانة وإن تكن قد نزلَتْ وحيًا على النبي عليه الصلاة والسلام، فهي قائمة على أسُسٍ عقلية، وفي مُستطاع الفرد المُستقل بعقله إدراكها. وأما أحداث هذه القصة التي أراد بها ابن طفيل إظهار هذه الحقيقة، فخُلاصتها أنه أُلقِيَ بطفلٍ فور ولادته، في جزيرة لا يسكنها إنس، فتولَّت إرضاعه ظبية، وكبر الطفل حتى بلغ النضج الذي أتاح لقدراته العقلية أن تتفاعل مع الظواهر والحوادث التي تجري من حوله، فاستطاع بذلك النشاط الذهني وحدَه، أن يُدرك كل ما يُراد للمؤمن أن يُدركه.
ولما كان الشبه شديدًا بين عزلة «حي بن يقظان» في جزيرته، وعزلة «روبنسن كروزو» في جزيرته أيضًا (في القصة المشهورة للكاتب الإنجليزي دانيال ديفو) فقد ذهب كثيرون منَّا إلى أن قصة روبنسن كروزو مُستوحاة من قصة «حي بن يقظان» التي سبقت شبيهتها الإنجليزية بسبعة قرون، لكن واقعة تاريخية ثابتة، هي التي حرَّكَت خيال الكاتب الإنجليزي، خلاصتها أن رجلًا حقيقيًّا، اسمه «إسكندر سيلكيرك» اسكتلندي المولد والنشأة، كان يشتغل بحَّارًا على سفينة تحطَّمت بالقرب من جزيرة عند أقصى الطرف الجنوبي من أمريكا الجنوبية، وكُتبت له النجاة دون سائر زملائه، فحمله الموج إلى تلك الجزيرة النائية الخالية إلا من النبات والحيوان، فعاش بها وحيدًا عدة أعوام، انتقل بها من شبابٍ إلى كهولةٍ، حتى شاء له الله أن تمرَّ سفينة عابرة، فأخذته وعادت به إلى وطنه. ومن الطريف أنه لم يصبر على العيش هناك إلا بضع سنين، وعاد إلى البحر، ومات وهو على السفينة التي يعمل بها، وكان ذلك بالقُرب من الشاطئ الغربي لأفريقيا، وما إن شاعت أخباره عند عودته إلى بريطانيا، حتى باتت قصته موضوعًا للحديث في كل مكان، ثم كان أن أوحَتْ تلك الحادثة إلى «دانيال ديفو» برواية «روبنسن كروزو»، ومع ذلك كله فيظلُّ احتمالًا نظريًّا جائز الحدوث، وهو أن يكون «ديفو» قد سمع بقصة «حي بن يقظان».
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى موضوعنا، فنسوق نموذجًا ثالثًا مما كتبه الفلاسفة والأدباء فيما مضى، تصويرًا للفردية المُستقلة بكيانها عن كل ما عداها، وليكن مثَلُنا هذه المرة هو «ديكارت» الذي نعرفه جميعًا بقولته المشهورة «أنا أُفكر، إذن أنا موجود.» فتأمَّل جيدًا ما ينطوي عليه هذا المبدأ، فديكارت إذ أراد أن يُقيم علمه على أساسٍ يقيني لا يحتمل الشك افترض بادئ ذي بدء، أن كل ما عنده من معرفة مشكوك في صحته، لكن الذي لم يستطع أن يشكَّ فيه، هو تلك الفاعلية، الفكرية الباطنية، أليس هو في حالةٍ من الشك في معرفته المُحصَّلة سابقًا، لكن ذلك الشك نفسه حالة باطنية يستطيع رؤيتها في نفسه رؤية مباشرة، وتلك الحالة الباطنية الشاكة هي في ذاتها تفكير، وعلى هذا الأساس أيقن بحقيقة وجوده من حيث هو كائن يفكر. ومعنى ذلك أنه حتى ولو لم يكن في الكون كله كائن آخر، فيظل هو موجودًا وحيدًا. ولم يكن عسيرًا على فلاسفة عصرنا أن يكشفوا عن موضع الخطأ، إذ يكفي أن نسأل فيمَ كان يفكر ديكارت حين قال: «أنا أفكر»؟ ليتضح أنه لا بدَّ أن يكون هنالك شيء ما يتعلق به ذلك التفكير، أي إنه مُحالٌ عليه أن يكون وحيدًا ويفكر، لكن الذي أعان فلاسفة عصرنا على إدراكهم هو أنهم يعيشون في عصرٍ آخر، تحوَّلت فيه الفردية إلى شبكةٍ من علاقاتٍ وأصبحت «الأنا» غير مُمكنة بغير «الأنت».
ونسوق نموذجًا رابعًا وأخيرًا، للفردية المُطلَقة كما انعكست فيما كتبه فلاسفة الماضي وأدباؤه، والنموذج هذه المرة هو للفيلسوف «ليبنز» — من المدرسة الديكارتية — ولعله يُقدم ذلك التصوُّر للفردية المُطلَقة في أوضح مثالٍ لها، إذ جعل الفرد من الناس «وكل كائن حي» كيانًا مُغلقًا على نفسه، كأنه برج مُوصَد الجدران لا نافذة فيه لتصِل ما بداخله مع الخارج المُحيط به، فالفرد الواحد إنما يُولَد وفي فطرته التي وُلِد بها انطوت جميع الحالات والأحداث التي ستظل تتوالى على فترةٍ من الزمن، فتتكوَّن من توالي ظهورها سِيرة ذلك الفرد من مولده إلى موته. ويمكن تشبيه ذلك بشريط السينما، وقد التفَّ حول نفسه، طاويًا معه صورًا، إذا أتيح لها الظهور بدوران الشريط تكوَّنت منها قصة كاملة. بعبارةٍ أخرى فإن الإنسان إذ يعيش حياته بكل مراحلها وتفصيلاتها، فهو إنما ينشُر ما قد انطوى في طبيعته، وإذا رأيت أن أفراد الناس يَبدُون وكأنهم يتفاعلون بعضهم مع بعض، فليس هو بالتفاعُل الذي يتم بالتواصُل والتعامل كما قد يبدو، أعني أنه ليس تفاعلًا طارئًا لحظة حدوثه، بل إن الله سبحانه وقد خلق لكل فردٍ سِيرة حياته مُستقلة عن سائر السير، دبَّر منذ الأزل كذلك، أن تجيء تلك السِّيَر المتزامنة مُتسقة بعضها مع بعض، كأنها تُشبه — في تناسُقها — مجموعة من ساعاتٍ ضبطَها صانعها، ليتوافق سَيرها معًا في الدلالة على الزمن.
هكذا كان تصوُّر الإنسان لنفسه «من الوجهة النظرية» فيما مضى، كما يشهد بذلك ما صوَّره كثيرون من رجال الفكر والأدب فيما كتبوه، ثم جاء عصرُنا هذا بفكرٍ جديد عن حقيقة الإنسان، مؤدَّاه أن تُفهَم الفردية على صورةٍ أخرى، فبدل أن ننظُر إليها على أنها كيان مُستقل بذاته ننظُر إليها على أنها مجموعة علاقات، يرتبط بها «الفرد» مع سائر ما حوله، فأنت لا تعرف أحدًا من الناس، إذا لم تعرِف على أي نحوٍ يتَّصِل بآخرين.
ولم يكن المصري إبان تاريخه لينتظر حتى يجيء هذا العصر بجديده في أن حقيقة الإنسان كائنة في تعاونه مع غيره، لا في تفرُّده بالمعنى القديم للتفرُّد، إذ كان التعاون والتواصُل في صميم جوهره منذ أول التاريخ، فإذا رأيناه اليوم وكأنه قد تنكَّر لحقيقته، وتملكتْه أنانية لا تُبالي أن تطأ بأقدامها رءوس الآخرين وصولًا إلى منافعها، أيقنَّا أنه عارِض عابِر؛ إذ لا يُعقل أن يسير في اتجاهٍ مُضاد للعالَم كله، في الصواب وفي الخطأ، فبينما كانت الصورة المُثلى عند شعوبٍ أخرى كثيرة هي تفرد الأنا، كان المصري يعيش متعاونًا مع مواطنيه. ولمَّا صحح العالم من تصوُّره لحقيقة الإنسان، يرتد المصري إلى الخطأ الذي كان.
لكن ماذا أقول، وقد جاءتني رسالة من صديقٍ عزيزٍ على نفسي أخذ يعرِض لي فيها أمثلةً مما يُعانيه من الطريقة التي يريد بها الآخرون أن يفترِسوه افتراسًا، وأن يتجاهلوا حقوقه، كأنه قد بات في عينهم نهبًا مُباحًا، ثم ختم رسالته بسؤالٍ يُريد له جوابًا، هو: ماذا أصابنا في حياتنا فاستبدلنا بما كان بيننا من تعاطفٍ وتعاونٍ وتراحمٍ، عدوانًا وقسوةً وافتئاتًا على الحقوق؟
فكان أول خاطر ورد إلى ذهني هو صورة الأبراج المُصمتة التي تخلو جدرانها من النوافذ، تصويرًا للأفراد حين ينحصِرون في ذواتهم، فلا يفتحون أعينهم ليرَوا أن في الدنيا سواهم، لكنني سرعان ما استدركتُ قائلًا لنفسي: ألا إن تلك الصورة قد شاعت في أوهام الناس قبل هذا العصر، وفي أراضٍ غير أرض مصر، وقد عدل عنها العالَم؛ ليضع مكانها من الوجهة النظرية صورةً أُخرى كالتي أسلفنا ذكرها، اللهم لا، فإن كانت فئة منَّا قد انحرفت عن جادَّة الطريق، فمصيرها عودة إلى حقيقتها استمرارًا لتاريخها.