حرية الذين يعلمون
أردت لنفسي شيئًا، فساقتْني الخواطر إلى شيءٍ آخر، وذلك أني أردت أول الأمر، أن أتقصَّى ما كتبه الأقدَمون عن الصداقة والصديق، فإذا بالطريق ينعطف بي — بعد خطواتٍ قلائل — إلى فكرة «الحرية» وأبعادها، على أن تلك الانعطافة نفسها، إنما انبثقت تفريعًا من موضوع الصداقة والصديق. ولكن لماذا قصدتُ — ابتداءً — إلى الأقدَمين، ألتمِس عندهم بُغيتي؟ كان ذلك منِّي لسببٍ بسيط، وعجيب، هو في حدِّ ذاته جدير بالنظر، ألا وهو أن رجال الفكر المُحدثين والمُعاصرين — لأمرٍ ما — لم يُعنَوا بتحليل الصداقة عناية القدماء، ولعلَّهم قد استبدلوا به موضوعًا آخر، قريبًا منه، وهو «الحب»، فبينما الصداقة — عادة — تكون بين فردَين من جنسٍ واحد، يكون الحب — عادةً أيضًا — بين الجنسين.
ولماذا حدث هذا التحوُّل في الاتجاه؟ قد يكون ذلك نتيجة للتحوُّل الذي طرأ على جوهر الحياة الأُسرية وأساسها، فلم تكن العلاقة بين الرجل وزوجته قديمًا، كالعلاقة بينهما حديثًا؛ إذ كانت تلك العلاقة قديمًا أقرب إلى شهوة الغريزة، منها إلى المودَّة بين الصديقَين، وأما حديثًا فقد أصبح المَثَل الأعلى المنشود بين الزوجَين، هو أن يكونا كذلك صديقَين؛ ومن هنا بحث الزوج — قديمًا — عن الصداقة خارج الأسرة، وأما في عصرنا فكثيرًا ما يؤدي كلٌّ من الزوجَين دور «الصداقة» للآخر.
على أية حال، فالأمر الواقع هو أني أردتُ قراءة شيءٍ عن الصداقة والصديق عند الأقدَمين، ورسمتُ خُطتي على ثلاث مراحل: فأبدأ بشيءٍ مما وردَ عند أفلاطون في محاوراته، وفي محاورة «ليزيس» على وجه التحديد، ثم أنتقل منها إلى الفصلَين الثامن والتاسع من كتاب «الأخلاق» لأرسطو (وهو بين ما نقله إلى العربية أحمد لطفي السيد) فذانك الفصلان معقودان لموضوع الصداقة، وأختم سيري بالفيلسوف العربي ابن حزم في كتابه «طوق الحمامة». ورأيتُ أن هذا القدر يكفيني، لكنني لم أُكمِل مراحل سَيري كما رسمتُها؛ لأن طريقي قد انعطف بي — كما أسلفت — إلى موضوعٍ آخر، هو فكرة «الحرية». وجاءتني تلك الانعطافة وأنا بين صفحات محاورة «ليزيس» التي بدأتُ بها، وبسبب ما ورد في تلك المحاورة أثناء تبادُل الرأي بين المُتحاورين.
السؤال الرئيسي الذي تطرحه محاورة «ليزيس» ليدور حوله النقاش، هو هذا: ما طبيعة ذلك الدافع القوي الخفي، الذي يجذب الصديق إلى صديقه؟
وإذا أمعن قارئ المحاورة النظر فيما يقرأ، لحظ جانبَين، أرادهما أفلاطون معًا، أولهما نفسي «سيكولوجي» أراد به أن يُبين ما تؤدِّيه الصداقة في إشباع الحاجات النفسية عند من ينشُدها، وثانيهما أخلاقي يُوضح فيه الأساس الحقيقي الذي تُقام عليه العلاقة بين صديقَين، فإذا هو نفسه الأساس الذي تُقام به مبادئ الأخلاق.
وأما الجانب النفسي من الصداقة، فهو ما يشعُر به الصديق من أنَّ الخير الذي يُصيب أحد الصديقَين، هو للصديق الآخر. وإذن فهو بالصداقة يزداد اقترابًا من المثَل الأعلى للإنسان الكامل. ولعل أرسطو، فيما بعدُ، قد تأثر بهذا الجانب من محاورة «ليزيس»، وذلك حين كتب كتابه في الأخلاق، وجعل للصداقة الفصلَين السابقَين مباشرة على الفصل الأخير، الذي رصدَه للحديث عن الحياة المُثلى، وهي الحياة التي يُوجِّه فيها الإنسان تأمُّلاته إلى الله، فيرى عندئذٍ كيف هانت المنافع الشخصية المادية العابرة، أمام ذلك الموقف الذي يدمج الإنسان دمجًا في الصورة الإلهية في تأمُّلاته، حتى لتسقُط عنه كل عوارِض العالَم الفاني. ولقد كانت علاقة الصداقة في حياة ذلك الإنسان المتأمِّل، بمثابة التمهيد لذلك الموقف؛ إذ إن اندماج الصديق في صديقه اندماجًا روحيًّا، هو في طبيعته قريب من اندماج المُتأمِّل في الله «سبحانه وتعالى».
تلك — إذن — هي الناحية النفسية من «الصداقة» كما صوَّرَها الفيلسوف في محاورة «ليزيس»، وأما الناحية الأخلاقية منها، فلها شأن آخر، فها هو ذا «ليزيس» في صِباه، يعلم أن والديه يرعَيَانه أتمَّ رعاية، ويُريدان له أن يسعد بحياته أكمل ما تكون السعادة، ولكن كيف تتوافر له السعادة المنشودة، إلا أن يكون سيد نفسه، يفعل ما يشاء، ويدع كما يشاء، فيكون هو صاحب الإرادة في تصريف حياته على النحو الذي يريد؟ ومع ذلك فوالداه اللذان يسعيان إلى إسعاده، هما اللذان يتدخَّلان في شئونه، فيأذنان له بهذا، ويَمنعانه عن ذاك، فإذا أراد ركوب الجواد، ألزماه بأن يكون في رعاية سائس الجياد، وإذا جاءت ساعة الدرس، كان عليه أن يُسلِّم أمره للمُعلم، فالمُعلم يوجِّه وعلى الصبي أن يُطيع. وهكذا كان للوالدين في كل شأنٍ من شئونه حقُّ المنح وحق المنع، فأين هي السعادة التي يرجوانها له، وهو في كل موقفٍ تابعٍ لسواه؟ أي أنه ليس حرًّا في تصريفه لحياته.
ويُدرك «ليزيس» هذه المُفارقة، ويقول: لعل العلة كامنة في صِغر سنه، وأنه حين يكبُر ستُطلَق له حريته، لكن العلة في حقيقة الأمر لم تكن في عدد السنين التي عاشها؛ لأنها لو كانت كذلك، لشملت كل جوانب حياته، بيد أن هنالك من جوانب حياته ما تُرِكت له الحرية الكاملة فيها، فهو حين يلهو بلُعَبه، وحين يُطالع كتابه، وحين يكتب في كراسته ما يكتبه، لا يتدخَّل أحد ليحدَّ من حريته، لماذا؟ ما هو الفارق — يا ترى — الذي يفصل موقفًا تُطلَق له فيه حرية التصرُّف، عن موقفٍ آخر يتدخَّل فيه آخرون ليُلزِموه بأشياء وليَمنعوه عن أشياء؟
ولا يلبث الفكر عند هذا السؤال، أن يهتدي له إلى جواب، والجواب هو أن الفارق الفاصل بين الموقفَين، هو «المعرفة» بدقائق المجال الذي يتعرَّض للتصرُّف في حدوده، فإذا كان القائم بفعلٍ ما، ملمًا بمجال فعله، أُطلِقت له الحرية في أدائه، ولكن الناس يأخُذهم القلق إذا ما رأوا مجالًا قد ترك لغير العالِمين بحقائقه ودقائقه، أن يكونوا أحرارًا فيما يعملون، فمن ذا الذي يتدخَّل في عمل طبيبٍ قادر عليم بالطب، إذا ما تولَّى معالجة مريض؟ وقل ذلك في كل عملٍ يتولَّاه من «يعرف» طبيعة المجال الذي يُؤدَّى فيه ذلك العمل. فللذين «يعلمون» الحقيقة عن شيءٍ ما، كل «الحرية» فيما يصنعون، أما الذين يتصدَّون لمعالجة شيء يجهلونه، فليس من حقِّهم أن تُطلق لهم حرية التصرف، بل إن أصدق أصدقائهم ليأبَون أن يرَوهم، وقد أمسكوا بزمام أمورٍ يجهلونها، كأن يُعالج المرضى غير الأطباء، وأن تكون الفتوى لغير الفقهاء فيما يفتون فيه. وهكذا تنتهي محاورة «ليزيس» بقارئها إلى نتيجةٍ هامة، وهي أنه لكي يكون الناس سُعداء وأحرارًا في فعل ما يفعلونه، لا بدَّ أن يتولَّى أمورهم في شتَّى الميادين، أولئك الذين يعلمون كل شيءٍ عما يتصدَّون لأدائه.
فلمَّا بلغتُ هذا الحد من المحاورة، تركتها، وانصرفتُ عما كنتُ قد رسمتُ الخطة لقراءته عن موضوع الصداقة والصديق، لأتفرغ لهذه الفكرة التي انبثقت من سياق الحوار، وهي فكرة «الحرية» متى، وبأي معنًى من معانيها، تكون من حق الإنسان، ومتى لا تكون؟
لقد قِيل إننا إذا أردْنا الكشف عن الاهتمامات الحقيقية التي تشغل شعبًا مُعينًا من الشعوب، فما علينا إلا أن نراجِع ما كتبه الكاتِبون من أبناء ذلك الشعب، لنرى أي الأفكار يتردَّد أكثر من سواه، فيكون هو مَوضع الاهتمام الأول. وفي ظنِّي أننا إذا رجعنا صحائف حياتنا الأدبية والفكرية منذ أواخِر القرن الماضي حتى اليوم، لم نجد كلمة تنافِس كلمة «الحرية» في تردُّدها على أقلام الكتاب، وألسنة الخطباء والمُتحدِّثين. فالحرية — إذن — كانت هي قضيَّتنا الأولى، وقضيتنا الكبرى، لكن المُتعقِّب لمسار هذه القضية في حياتنا، لا يتعذَّر عليه أن يرى كيف أخذت فكرة «الحرية» تزداد مع الأيام في تصوُّرِنا لها اتساعًا وعُمقًا، فبدأت بأن يكون للمصريين حق الشورى في أمور بلدهم، ثم جاء المُحتل البريطاني، فأصبحت الحرية السياسية، معنى التحرُّر من المُستعمِر الأجنبي، هي الشغل الشاغل لأصحاب الرأي وحمَلَة القلَم، إلى أن عُبِّئتْ بها النفوس، فتفجَّرت بثورة ١٩١٩م، ثم لم نلبث أن أخذْنا نسمع دعوةً في أثر دعوة لضروبٍ أُخرى من الحرية، غير مجرد التحرُّر من المُستعمر، كحرية الاقتصاد الوطني، وحرية المرأة، وحرية الفنان والأديب. وهكذا أخذ تيار الحريات يتصاعد قوةً وتنوُّعًا، إلى أن جاءت ثورة ١٩٥٢م، ففتحت أبوابًا واسعة لحرياتٍ أخرى اجتماعية، تُحرِّر الفلاح من تسلُّط صاحب الأرض، وتُحرِّر العامل من تحكُّم صاحب العمل.
لكن نظرةً فاحصة مُدققة في تلك الحريات بكل فروعها، كفيلة أن تكشف عن حقيقة لها خطرها، وهي أن أهدافنا من تلك الحريات، كادت تنحصِر في الجانب السلبي وحدَه، بمعنى أن تكون المُطالَبة بالحرية مقصورة على «التحرُّر» من قيود تُكبلنا في هذا الميدان أو ذاك، كالتحرُّر من الاحتلال البريطاني، وتحرُّر المرأة من طغيان الرجل، وتحرُّر العامل الزراعي من استبداد مالك الأرض، وتحرُّر العامل الصناعي من تحكُّم صاحب رأس المال، وتحرُّر كذا من كيت. بعبارةٍ أُخرى أوشكت كل جهودنا المبذولة طلبًا للحرية، أن تنحصِر في الأغلال وتحطيم القيود، وهو أمر واجب ومطلوب.
لكن الأغلال كلها إذا فُكَّت، والقيود جميعها إذا حُطِّمت، يبقى بعد ذلك أهم جانبٍ من جوانب الحرية، وهو الجانب الإيجابي، الذي يتَّصِل بقُدرة الإنسان على أداء عملٍ مُعين؛ إذ ترتبط تلك القُدرة ارتباطًا وثيقًا بمِقدار ما عند العامل من «معرفة» بما يُريد أن يؤديه.
لقد رأينا في المحاورة الأفلاطونية التي قدَّمْنا خلاصةً لها، أن الفتى «ليزيس» لم تُطلَق له الحرية في ركوب جواده إلا في حدود ما يُشير به سائس الجياد. وتتمُّ المفارقة هنا، حين نعلم أن ذلك السائس كان «عبدًا» — يملكه والد الفتى بين من يملك وما يملك — فمَن هو «عبد» من الناحية الاجتماعية والشرعية، كان هو نفسه «حرًّا» فيما يخص الجياد وساستها، كما أن مَن كان «حُرًّا» من الناحية الاجتماعية والشرعية في ذلك الموقف نفسه — وأعني الفتى «ليزيس» — كان في منزلة العبد الذي لا حول له ولا قوة ولا رأي، فيما يختصُّ بالجياد وطرائق استخدامها. وبهذه المفارقة تبرُز أمام أعيُننا الفوارق التي تُميز حُرية العمل التي هي من حق العارف بأسرار المجال الذي يتمُّ فيه ذلك العمل، عن ضروبٍ أُخرى من الحريات يكون مدارها مجرد التحرُّر من أغلالٍ وقيود تُميزها.
ولستُ أظنُّ أن التحرُّر من الأغلال والقيود، في مُستطاعه وحده أن يذهب بالمُتحرر منها شوطًا بعيدًا؛ لأنه في حقيقته لا يزيد على أن يفتح باب السجن لينطلق السجين «حرًّا» بالمعنى السلبي للحرية، أي أنه لم يعُد مغلولَ الحركة مُقيَّد الخُطى. ولكن ماذا بعد ذلك، ماذا «يصنع» ليحيا؟ ها هنا تبدأ الحرية بمعناها الإيجابي، الذي لا بدَّ فيه من «قدرة» الإنسان على أداء عملٍ ما، ولا قُدرة في أي ميدان إلا لِمَن عرف حقيقة ذلك الميدان وما يتعلق به.
قارِن طفلًا أمامه ورقة وفي يده قلَم، ظفر بهما بعد بكاءٍ عنيد، قارِنه بفنانٍ أمامه لوحة وألوان وفي يده الفرشاة، فالطفل «حُر» في أن يخطَّ بالقلَم ما شاء أن يخطَّه على الورقة، والفنان «حر» في إقامة بنائه اللَّوني على اللوحة، لكن ما أبعدَ الفرقَ بين حُريةٍ وحرية! لقد أُزيلت الموانع التي كانت تحُول دون حصول الطفل على ورقةٍ وقلَم، فلمَّا بلغ مُراده وكان حرًّا، انطلقت تلك الحرية المجنونة «تُشخبط» الخطوط على الورقة بلا هدف، وأما الفنان العارف بأسرار فنه، فقد استطاع بحُريته «المُقيدة» بقواعد الفن وأصوله، أن يُبدع ما قد يُضاف إلى كنوز الجمال.
وتسأل الآية الكريمة: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ والجواب الذي تُمليه البديهة أنهما لا يستويان، على أنَّ من أراد أن يُفصِّل القول في الفوارق بين الجماعتَين، ينبغي له أن يذكُر بين تلك الفوارق، أن حقَّ الحرية بمعناها الإيجابي المُنتِج، مقصورٌ على أولئك الذين يعلمون، أو هكذا تقضي الحِكمة بأن يكون.