بل من هنالك نبدأ
كان الكاتب الإسلامي التَّقي النقي، الصادق مع نفسه ومع الناس، المُرهف الحس، اليقظان الضمير، الأستاذ خالد محمد خالد، قد أصدر كتابه المعروف «من هنا نبدأ» (١٩٥٠م) فجاء علامةً أخيرة على الطريقة المؤدية إلى ثورة يوليو ١٩٥٢م. ونستطيع أن نُضيف إليه استكمالًا لموقف واحد، كتابه الثاني قبل الثورة «مواطنون لا رعايا» فكانت نقطة البدء كما رآها الكاتب، هي — قبل أي شيءٍ آخر — أن يرتفع في حياتنا العامة لواء الحرية والعدالة، ليشعُر كل مواطنٍ بأنه ابن لهذا الوطن، وليس «رعية» لذي سلطان.
ومضت بعد ذلك عشر سنوات أو أكثر قليلًا، وانعقدت «اللجنة التحضيرية» التي كان من شأنها أن تُمهد للمؤتمر القومي الذي أصدر «ميثاق العمل الوطني». وكان من أهم الجوانب في ذلك التمهيد، أن تنظُر «اللجنة التحضيرية» في تحديد الجماعات التي منها تتألَّف قوى الشعب العاملة، وذلك يقتضي تحديد الفئات التي يجب عزلُها وحرمانها من الحقوق السياسية. ومعظم هؤلاء — بالطبع — من قادة العمل السياسي قبل الثورة، وممَّن ملكوا الضياع الواسعة والأموال الطائلة. وكان خالد محمد خالد عضوًا في اللجنة التحضيرية، وكنت.
ولم تكد اللجنة تبدأ جلستها الأولى، وتطرح مسألة «العزل السياسي»، حتى نهض خالد محمد خالد ليرفع صوتَه جهيرًا بأنه لا عقابَ ولا عتاب على من كانت حياته قد جرتْ وفق القوانين القائمة إذ ذاك؛ إذ كيف يُحاسَب صاحب أرض أو مال، جمع ثراءه في إطار قانون قائم؟
فلمَّا عقدت اللجنة التحضيرية جلستها الثانية في اليوم التالي، حضر اجتماعها الزعيم جمال عبد الناصر، وفتح باب الحوار مع خالد محمد خالد فيما كان خالد قد أثاره في الجلسة الأولى عن فكرة العزل السياسي ومدى مشروعيتها. ولم يكن خافيًا على أحد من الحاضرين، ما انطوى عليه الحوار من تقدير عبد الناصر لخالد، تقديرًا لم يكن ليتعارَض مع رفضه لفكرته بالنسبة لمن كان يطلُب حرمانهم من حقوق سائر المواطنين.
ثم جاءت الجلسة الثالثة في اليوم الثالث، فرأى كل ذي بصَر أن خالد محمد خالد يجلس وحدَه على صفٍّ طويلٍ من المقاعد، فقد حرص جيران الأمس على البُعد قليلًا أو كثيرًا، اتَّقاءً للشبهات خشية أن يُقال عنهم إنهم يشاركونه الرأي. ولم يُطمئنهم كل ما أبداه عبد الناصر نحو خالد من تقديرٍ وتكريم، فأبى على خالد حسُّه المُرهف إلا أن يزيد المسافة بعدًا بينه وبين هؤلاء عسى أن تطمئنَّ قلوبهم بين ضلوعها. كل ذلك أذكره في وضوح، وكأنني أروي عما شهدتُه وسمعته صباح هذا النهار، وحتى إذا خانتني الذاكرة في تفصيلةٍ هنا أو تفصيلةٍ هناك — والذاكرة تخون — فالذي لا أشكُّ فيه هو أنني عندئذٍ قد همستُ لنفسي قائلًا: كلَّا، يا أستاذ خالد، فليس «من هنا نبدأ»، بل كان ينبغي أن تجعلها «من هنالك نبدأ». والذي قصدت إليه من هذه التفرِقة، هو أننا قبل البدء بقِيَم الحرية والعدالة وما إليهما مما نُطالب به من حقوق للإنسان، لا بدَّ أولًا أن نُعِد نفوس الناس إعدادًا يُهيئهم للإصرار على أن يكونوا أحرارًا ومُنصفين، إذ ماذا يُجدي أن تقدِّم للناس حقوقهم الإنسانية جاهزة «مُعطَّرة مُبخَّرة» (كما يقولون) إذا كانوا في أعماقهم لا يريدونها؟
وكأني أسمع بين القراء قراءً تأخُذهم الدهشة الغاضبة، فيصيحون: ما هذا الذي يقوله كاتب المقال؟ هل رأيتم — يا خلق الله — بين الناس إنسانًا لا يُريد لنفسه حُريةً وعدالة؟ لكن هؤلاء القرَّاء الذين أخذتهم الدهشة الغاضبة المغيظة، لا يُفرِّقون بين معانٍ يُردِّدها الإنسان بلسانه مع من يُردِّدونها، ومعانٍ أخرى يؤمن بها ذلك الإنسان؛ لأنها انبثقت من صميم فؤاده. ففي الحالة الأولى قد يهتف بحياة الحرية والعدالة هتافًا تنشق له الحنجرة، حتى إذا ما لاحت في الأفق نذُر الخطر لاذ بالفرار، وأما في الحالة الثانية فهو هو الذي يحيا فتحيا بحياته الحرية والعدالة؛ لأنهما يَجريان في عروقه مع الدماء، وإذا ما تجهَّمت له سحائب الخطر، تصدَّى لها ليقشعها من سمائه، أو أن يلفظ الروح دون مَسعاه.
ليس حقوق الإنسان مجرد قائمة بأسماء، وعلينا حفظها كما يحفظ التلميذ «محفوظاته» عن ظهر قلب، حتى وإن لم يفهم لها معنًى، وإنما هي أسلوب حياة وطريقة عيش. فإما أن نراها مُجسدة في التعامُل الحي مع الناس، وإما هي لا تعدو أن تكون أشباحًا صوتية لا يَنفُخ فيها الروحَ أن تنشقَّ لها الحناجر بالهتاف. ولقد جاء في حديثٍ شريفٍ أن الدين المعاملة (أو كما قال)، ومعناه أن القِيَم العُليا قد خلقت لتكون أُسسًا تُقام عليها الحياة الفعلية التي يحياها الناس في البيت والدكان والمصنع وديوان الحكومة، ولم تخلق لتكون زخارف نُعلِّقها على الجدران، أو نقوشًا نُزركش بها صفحات الكتب والمعاجم، فإذا قُلنا «حرية» فقد وضعْنا خريطة للطريقة العملية التي يسلك بها الناس بعضهم تجاه بعض، فيكون لكلٍّ منهم الحق — أستغفر الله — بل يكون على كلٍّ منهم الواجب المحتوم في أن يُعبِّر عن نفسه، فيُفصح عن فكره في وجه الدنيا بأسرِها، شجاعًا كريمًا واثقًا بنفسه في غير غرور، دون أن يغضب منَّا أحد لما يقوله ذلك الإنسان الحُر تعبيرًا عن ذات نفسه بالقول أو بالسلوك. وإذا قُلنا «عدالة» فكأنَّنا — هنا أيضًا — قد وضعْنا خطةً سلوكية لأبناء المجتمع كيف يتفاعلون دون أن يطغى منهم أحد على أحد، وتفصيلات تلك الخطة تضعها القوانين والتقاليد والعُرف بين الناس.
لا، لا تُصدِّق إنسانًا يدَّعي لك أنه مؤمن بحق «الحرية» لنفسه وللناس، ثُم تنظُر إليه في سلوكه الفعلي، فإذا هو يبتلِع في جوفه كلَّ من عداه لكي لا يبقى حيًّا على ظهر الأرض أحد سواه، فهو في سعيه كالتنِّين الجبار الذي تحكي عنه الأساطير بأنه لا يحيا «مع» الآخرين، بل يحيا «بالآخرين» طعامًا. وبالله لا تقُل: لكن ذلك أقوال في الأساطير لا تعرفها حياتنا التي نحياها معًا في تعاون ووئام، فانظُر حولك مُتأنِّيًا، وستجد المتحدِّث الذي لا يُريد لأحدٍ أن يتحدَّث سواه، وستجد التاجر الذي لا يريد لأحدٍ أن يطعم وينعم سواه، وستجد صنوفًا أخرى من البشر، يُخيَّل للواحد منهم أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق بشرًا آخر ما عداه. لا، لا تُصدِّق إنسانًا يملأ شدقَيه بلفظ «العدالة» يُطالب بها لنفسه وللناس، ثم تنظُر إلى سلوكه، فترى العدالة التي يعنيها عجبًا من عجب؛ إذ هي عنده خطف الغنائم لنفسه ولأبنائه دون سائر الناس، ولا يضيره في سبيل مآرِبه أن يدوس على رقاب الآخرين إذا رآهم عقباتٍ على الطريق. وهل هو من القليل النادر في حياتنا أن نقول في العلَن كلامًا ليسمعه الناس، حتى إذا ما أَوينا إلى ديارنا بُحنا لخُلصائنا بكلامٍ آخر؟ هل هو من القليل النادر في حياتنا أن نحرم زيدًا من حقِّه لنُعطيه لعمرو، ذلك إذا كان زيد خافت الصوت، وكان عمرو من السلاطين وأبناء السلاطين، وقد يذهب عن هؤلاء سلطانهم غدًا، فعندئذٍ فقط تسمع من زيد المغلوب على أمره شكواه.
ما جدوى أن نبدأ من «هنا» كما أراد خالد محمد خالد بكتابه المعروف، أي أن نبدأ بالدعوة إلى الحرية والعدالة، إذا لم تكن نفوسنا قد تهيأت حقًّا لأن نجعل من الحرية والعدالة دستورًا لحياتنا العملية كما نحياها؟ أليس الأجدى أن نبدأ من «هنالك»؟ أي أن نبدأ من نقطة تقع فيما قبل الحرية والعدالة؟ وأعني بها «إرادة» الحرية و«إرادة» العدالة، وإرادة غيرهما من القيم الرفيعة التي نستهدف إقامتها في حياتنا. وإذا لم نستطع تحقيق ذلك في جيلنا الراهن، فلنمُدَّ الأمل إلى جيل أبنائنا.
روى لي صديق حميم، يُؤنسني بطلاوة حديثه كلما امتدَّ بيننا حبل الحديث. ولقد عهدتُ فيه الصدق والإخلاص، روى لي عن حادثتَين وقعتا له في حياته الفكرية منذ عهدٍ ليس ببعيد، والحادثتان شبيهتان في طريقة البدء وطريقة النهاية، وإن كانتا مُختلفتَين في الموضوع، ففي كل منهما كان رئيس الدولة قد طرح على رجال الفكر والثقافة رأيًا ما في موضوعٍ ما، لكنه برغم إعلانه لرأيه الذي يراه، طالَب أصحاب الرأي بأن يعرضوا ما عندهم، وفي كلتا الحالتين تقدَّم صديقي برأيه، في الحالة الأولى تقدَّم به إلى إحدى الصحف مكتوبًا في مقال مشروح، وفي الحالة الثانية تقدَّم به إلى إحدى اللجان الرسمية منطوقًا في معرض الحوار حول الموضوع الذي طُلب فيه إبداء الآراء. وواعجباه كيف تشابهت النهاية في الحالتين! إذ كانت إجابة رئيس التحرير في الحالة الأولى، وإجابة رئيس اللجنة الرسمية في الحالة الثانية إجابة واحدة كأنها «منقوشة» على ختمٍ من المطاط، وهي بألفاظها وحروفها كما يلي: عندما يعرض رئيس الدولة رأيًا في موضوعٍ مُعين، ويطلُب من رجال الفكر آراءهم، فإنما يكون المطلوب هو أن يُدلي رجال الفكر بوجهات نظرهم في طريقة التنفيذ، فماذا كان يصنع رئيس الدولة حرصًا على الشورى، أكثر من أن يطلُب الرأي من أصحاب الرأي في حريةٍ ونزاهة؟ لكن ماذا يصنع قوم لا تصلح «الحرية» عندهم أن تكون نقطة ابتداء؛ إذ سبقتها في صدورهم قيود تغلُّ الإرادة التي تريد الحرية، فيا ليتنا نواجه حقيقة الأمر الواقع بشجاعة، لكي نُغيره من جذوره، لا من فروعه الظاهرة تاركين الجذور الدفينة تفعل تحت الأرض فعلها، وإذن فليس «من هنا نبدأ»، بل نبدأ من هنالك، من بعيد، من الأعماق، من دخائل النفوس؛ لأن الله لا يُغير ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم.
إن حرص الإنسان على حياته — مجرد حياة — أمر واجب ومشروع، لكنه كذلك أمر يتقاسمه الحيوان مع الإنسان، حتى الحشرة الضئيلة خُلقت ومعها الجهاز الفطري الذي تصُون به تلك الحياة من الخطر. ولعلَّها كانت قصيدة من أروع ما قرأتُ في حياتي من قصائد الشعر، تلك القصيدة التي كتبها الشاعر الأمريكي «فروست» يصِف فيها مناورته مع حشرةٍ خضراء لا يزيد حجمها عن هباءة مما يكاد يَخفى عن البصر، وذلك أن الشاعر وقد جلس إلى مكتبه، وأضاء مصباحه، ووضع أمامه ورقةً ليسطُر عليها ما أراد أن يَسطره، رأى تلك «الهاموشة» قد نزلت على الطرف الأعلى من الورقة، وكان كلما حرَّك القلَم في أسفل الورقة أحسَّت الهاموشة في أعلاها بالحركة وفزعت، وإذا سكن القلَم في يد الشاعر سكنت واطمأنَّت، وسبحان من خلق الحياة مزوَّدة بما يصُونها ويحميها.
لا، ليس حرص الإنسان على حياته عيبًا يؤاخَذ عليه، لكن يعلم أنه في «إرادة الحياة» — مجرد الحياة — ليس وحيدًا ولا فريدًا، بل يُشاركه الحيوان كله والنبات كله. وأما الذي يتميز به الإنسان فهو أن يمتدَّ بحرصه ذاك ليشمل الحياة في درجاتها العُليا، التي هي حياة مقرونة بمجموعة من القِيَم التي جعلت من الإنسان إنسانًا، وفي مُقدمتها «الحرية» و«العدل». وانظر إلى الآية الكريمة التي تقول: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ … انظر إلى كلمة «حياة» هنا وقد تجرَّدت من أداة التعريف، لتعني مُجرد حياة نكرة خلت مما يُكرَّم به الإنسان، وها هنا يأتي الواجب الصعب الذي ينقض الظهر بحمله الثقيل، وهو أن يتصدَّى الإنسان للدفاع عن حياته «إنسانًا» بكل تكاليفها، ولا يكتفي بمجرد «حياة» يُحافظ فيها على قُوتِه وقوت عياله مهما بهظ الثمن الذي يُدفَع من حريته وكرامته.
إنه إذا كانت مصر قد امتُحنت لبضع سنوات بمن يستخفُّ بالحرية والعدالة والعزة والكرامة «من أجل قبضة من فضة، أو شريط يُلصَق بسترته» (كما قال شاعر إنجليزي في القرن الماضي مُعاتبًا شاعرًا تعلق بأذيال العرش)، فليست هذه هي مصر؛ إذ المصري الأصيل، إذا تعرضت كرامته لما قد يُهددها بالضياع، ثم ضاقت به سُبل المقاومة، انطوى على نفسه، مُكتفيًا بأُسرته وداره، مُعزيًا نفسه بمبدأ وضعه لنفسه، وأجراه في مثالٍ من أمثلته السائرة، التي يستعدُّ بها لمواجهة المواقف الطارئة، والمبدأ في هذه الحالة مُتمثل في قوله: «من ترك داره قل مقداره.» فاعتزاله بين جدران بيته حمايةً له من هوانٍ يتعرَّض له ولا يرضاه، وأنه في انطوائه ذاك ليدعو الله أن يكون العبث بحقوق الناس لا يعدو أن يكون عرَضًا من مرض وشيك الزوال.
وإنه لمرَض كانت عِلته الأولى في بضعة الأعوام الأخيرة من حياتنا، هي — في ظني — أن نسبةً ملحوظة من مواقع القيادة في مختلف الميادين، قد تُركت لأصحاب القدرات المتوسطة أو المتواضعة، ممَّن لا يلمع لهم بريق إلا على ضوء مصابيح المناصب، فلا يكون أمامهم من بديلٍ سوى التشبُّث بمواقعهم، مهما بلغ الثمن المدفوع من طغيانٍ على حقوق الناس، وهي عِلة لا تلبث أن تزول إذا ما عُولِجت، وعلاجها يسير، يكمن في أن نعطي الخبز لخبازه، والجواد لفارسه، ولو فعلنا لعاد إلى المصري إيمانه بالحرية والعدالة، وعندئذٍ فقط يَصحُّ القول مع خالد محمد خالد «من هنا نبدأ».