ابن رشد في تيار الفكر العربي
١
مجال النظر في هذا البحث محدود بالكتب الثلاثة الآتية لابن رشد: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» و«الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد المِلة» و«تهافت التهافت»، وهي الكتب التي عرض فيها ابن رشد آراءه الخاصة، في مشكلاتٍ كانت قد لبثت فترة طويلة من الزمن، مدارًا للنظر عند رجال الفكر المُسلمين. ولم يكن ابن رشد في هذه الكتب — كما كان في معظم كتبه الأخرى — شارحًا لفلسفة غيره، مع كل ما تميَّز به ذلك الشرح من أصالة، وما اشتمل عليه من إضافات.
- أولًا: كانت الغاية عند ابن رشد، هي أن يُبين أن ما جاء في الشريعة وحيًا،
فيما له صِلة بحقيقة الكون، هو نفسه ما يستخلصه العقل من دراسته للكون
دراسةً مباشرة، فكأنما نحن أمام كتابٍ واحدٍ كُتب بلغتَين: كتاب
الإسلام وكتاب الكون، فنقرأ في هذا ما نقرؤه في ذاك، شريطة أن نُحسن
فهم اللغة التي ينطق بها كلٌّ منهما.
فسلك ابن رشد إلى غايته تلك طريقَين، جعل لكل طريقٍ منهما مؤلفًا خاصًّا. أما أول الطريقين فهو أن يبدأ الرحلة من الشريعة لينتهي إلى النتائج التي كان العقل قد وصل إليها في دراسته للكون، وكان ذلك في كتاب «مناهج الأدلة»، وأما الطريق الثاني فهو أن يسير في الاتجاه المضاد، بأن يبدأ الرحلة هذه المرَّة من النتائج التي حققتها الدراسة العقلية — وهي ما أطلق عليه اسم الحكمة — لينتهي إلى ما أوردته الشريعة وحيًا، وكان ذلك في كتاب «فصل المقال». وإذن فالغاية من الكتابَين واحدة، وإن يكن قد وصل إليها بالسير في اتجاهين متضادَّين.
وفي هذا المعنى يقول ابن رشد: «… فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور، التي ترى أن الشريعة مخالفة للحِكمة، أنها ليست مخالفة لها، وذلك بأن يعرِف كل واحدٍ من الفريقَين أنه لم يقف على كنههما بالحقيقة؛ أعني لا على كُنه الشريعة، ولا على كنه الحكمة، ولهذا المعنى اضطُررنا نحن، في هذا الكتاب (أي «مناهج الأدلة») أن نُعرِّف أصول الشريعة، فإن أصولها إذا تُؤُمِّلتْ وجِدَت أشد مطابقةً للحكمة مما أُوِّل فيها، وكذلك الرأي الذي ظُنَّ في الحكمة أنه مخالف للشريعة … لم يُحِط علمًا بالحكمة ولا بالشريعة، ولذلك اضطُررنا نحن أيضًا إلى وضع قول، أعني: فصل المقال في موافقة الحكمة للشريعة.»١لكننا نلاحظ أن ابن رشد وهو يسير رحلته بادئًا من الشريعة في كتابه «مناهج الأدلة» قد عزَّز القول بذِكر موضوعاتٍ مما كان محورًا للنظر بين الأطراف المختلفة، على حين أنه في سَيره المُضاد، البادئ من الحكمة، في كتابه الآخر «فصل المقال»، كاد يقتصِر على حديثٍ في قواعد المنهج، دون أن يتعرض للمسائل العينية التي كانت مطروحة للبحث.
- ثانيًا: كان ابن رشد أقل إقناعًا من خصومه أمام الفكر الإسلامي، وبالتالي لم
يترك بعدَه أثرًا يؤثِّر في دُنيا المسلمين، يتكافأ مع الأثر الذي تركه
هؤلاء الخصوم — والغزالي منهم بصفةٍ خاصة — فلم يكن عجيبًا أن تقلَّ
شُهرته بينهم عما كان ينبغي لها أن تكون. يقول برتراند رسل: «فيلسوفان
إسلاميَّان يقتضيان منَّا وقفةً خاصة، أحدهما من فارس هو ابن سينا،
والآخر من إسبانيا هو ابن رشد. أما ابن سينا فقد كان أبعدهما صوتًا بين
المسلمين، وأما ابن رشد فكان أكثر شهرةً من زميله بين المسيحيين.»٢ومدار الضعف عند ابن رشد في موقعِه من تيار الفكر العربي الإسلامي — كما أراه — هو:
- (أ) أنه كان أكثر اهتمامًا بقواعد المنهج، منه بالتطبيق على فحوى المشكلات نفسها.
- (ب) وأنه في بعض المواضع — خصوصًا عند إقامته لدليلي العناية والاختراع (في مناهج الأدلة) — قد صادر على المطلوب؛ إذ أيد الشريعة بالشريعة.
- (جـ) وأنه في نقده للمُتكلمين، بأنهم استخدموا الأدلة الجدلية، وكان ينبغي لهم أن يستخدموا الأدلة البُرهانية، كان في نقده هذا نفسه — فيما أرى — أقرب إلى الجدل منه إلى البرهان.
- ثالثًا: كان من أهم النتائج التي انتهيتُ إليها من النظر في كتب ابن رشد الثلاثة التي ذكرتها، أن هنالك تشابهًا في بنية الحركة الفكرية في العالم العربي إبَّان القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وبِنيتها إبَّان القرن التاسع عشر والعشرين، من حيث أن كليهما مُتفِق على أن شريعة الإسلام هي بمثابة الأساس في بنيان الفكر العربي. ثم وفد إلى ذلك الفكر من خارج الحدود فكر آخر، مؤسَّس على العقل (هو فلسفة اليونان في الحالة الأولى، وهو علوم عصرنا الحاضر في الحالة الثانية)، وفي كلتا الحالتين، رأى فريق من رجال الفكر بأن في ذلك الوافد خطرًا يتهدَّد الفكر الأصيل، بينما وجد فريق آخر ألَّا خطر هناك، لِما بين الوافد والأصيل من اتفاقٍ في الغاية، وإن اختلفا في طرُق الوصول. وكان ابن رشد — في الحالة الأولى — أبرز من حمَل هذه الدعوى.
فإذا صحَّ هذا التشابُه بين العصرين في البنية الفكرية — مع الاختلاف البعيد بينهما في المادة الفكرية المعروضة — كان لنا في هذه المحاولة التي ننظُر من خلالها إلى ابن رشد وموقفه، ما قد نهتدي به في حياتنا الثقافية الراهنة.
٢
وإنما يبلُغ القياس أتمَّ درجاته، فيما يُسمَّى بالقياس البرهاني، فكيف تتم معرفة الإنسان لله تعالى معرفة برهانية عن طريق دراسة مخلوقاته، إلا إذا سبقتْها دراسة تفصيلية لمنطق القياس بأنواعه وأجزائه وقواعده؟
ومعنى هذا كله، هو أن ما زعمه ابن رشد عن نفسه (في مناهج الأدلة، ص١٨٥) من سَيره مرة من الشريعة إلى الفلسفة، ومرة من الفلسفة إلى الشريعة، على تطابُقٍ في الحالتين من حيث النتيجة، ليس صوابًا كل الصواب؛ إذ كان سَيره من الفلسفة إلى الشريعة أقلَّ رتبة من السير الآخر المُضاد؛ لأنه اشترط على نفسه فيه أن يكون مُستندًا إلى إيمانٍ مُسبق بالشريعة، فإذا قيل — كما يُقال أحيانًا — إن كتاب «فصل المقال» قد جاء دفاعًا عن الفلسفة ضدَّ أعدائها، استدرَكْنا على هذا القول بأنه كان دفاعًا منقوصًا في جانبٍ من أهم جوانبه.
٣
مرةً أخرى نرى ابن رشد يجعل إيمانه بالشريعة بمثابة المُسلَّمة الشارطة، وكان الأجدر للتفكير الفلسفي أن يستقلَّ بذاته، حتى إذا ما انتهى إلى ما يؤيد الشريعة، جاء هذا التأييد أقوى دلالة. وفي هذه الحالة لو سُئلنا: ما الذي يضمن لنا ألا تتعارَض الشريعة والحكمة؟ كان جوابنا هو: إنه لا ضمان، فهذه هي الشريعة قائمة كما هي قائمة، وها نحن أولاء باذلون الجهد النظري في استكْناهِ حقيقة الكون بالفكر الفلسفي البُرهاني، فإن وجدناها مُتفقة مع الشريعة كان خيرًا، وإلا فنحن مُضطرُّون عند التعارُض أن نختار بين التصديق القائم على الإيمان الصرف، والأخذ بما أنتجه البحث العقلي، أو نلجأ إلى تأويل الشريعة بما يتفق مع نتائج البرهان العقلي.
وظاهر الشريعة من حيث جواز التأويل أو عدم جوازه، ثلاثة أصناف: فهنالك ظاهر من الشرع لا يجوز تأويله قط، وظاهر مقطوع بتأويله، وصنف ثالث يقَع بين الطرفين، وهو موضع خلاف، فيُلحقه بعضهم بالقسم الأول، ويُلحقه آخرون بالقسم الثاني. لكن من ذا الذي يُقرر للناس هذا التقسيم؟ من ذا الذي يقطع بالتأويل هنا وبعدم جواز التأويل هناك؟ إنه الإجماع الذي يُقرِّر ذلك.
ولمَّا كان التأويل مجالًا يتعرَّض فيه المُؤوِّل للخطأ، رأى ابن رشد أن يكون للقائم بالتأويل شروط، هي أن يكون من العلماء أصحاب النظر البرهاني؛ إذ الناس على ثلاثة مراتب في قُدراتهم الإدراكية، فمرتبةٌ منها هي أولئك العلماء، ومرتبة ثانية هي صنف من الناس مدى قُدرته هو أن يستخدموا القياس الجدلي دون القياس البرهاني. والفرق الجوهري بينهما هو أنه بينما البرهاني يُبنى على مُقدمات يقينية، يكتفي القياس الجدلي بأن تكون المقدمات مشهورة بين الناس، سواء أكانت يقينيةً في ذاتها أم لم تكن. وكذلك في الناس صنف ثالث، لا يتجاوز في قدراته حدود القياس الخطابي، أعني أن يُساق لهم القول على نحوٍ يستريحون إليه ولا عليهم بعد ذلك أن يكون مُستدَلًّا من مُقدماته استدلالًا بُرهانيًّا أو جدليًّا، فمن هذه الجماعات الثلاث، لا يجوز التأويل إلا لجماعة القياس البرهاني.
٤
حين فرغ ابن رشد من كتابه «فصل المقال» كان بذلك قد فرغ من رحلته الأولى، التي بدأها بالنظر فيما خلَّفه القدماء من فلسفةٍ ومنطق، لينتهي إلى أن الشريعة تؤيده وتحث عليه؛ لأنه بمثابة النظر في الموجودات المصنوعة، نظرًا يدل على صانعها. فانتقل بعد ذلك إلى رحلته الثانية المضادة في اتجاهها لاتجاه الرحلة الأولى؛ إذ هي تبدأ هذه المرة من النظر في الشريعة نظرًا يدل آخِر الأمر على أنه هو ما كان النظر العقلي قد تأدَّى إليه، وكانت هذه الرحلة الثانية هي موضوع كتابه «مناهج الأدلة في عقائد الملة».
فليس وجه النقص — إذن — في طائفة الحشوية، أنها أوَّلت ظاهرًا بمجاز، بل وجه النقص فيها هو أنها انصرفت عن الأدلة العقلية في معرفة وجود الله، قائلةً إنَّ طريق هذه المعرفة هو «السمع» لا «العقل»، أي أنه يكفي للإيمان بوجود الله أن يكون صاحب الشرع قد ألقى هذه الحقيقة على مسامع الناس، والشأن في معرفة وجود الله هو نفسه الشأن في كل ما يُطلب منَّا الإيمان به، كالمَعاد وغيره، مما لا مدخل فيه للعقل. هذا هو وجه النقص في الحشوية؛ لأنها كانت بمَوقفها ذاك — بعبارة ابن رشد فيها — «مُقصِّرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نَصَبَها للجميع، مُفْضِيَة إلى معرفة وجود الله تعالى، ودعاهم من قِبَلِها إلى الإقرار به.» إذ دعا الناس إلى التصديق بوجود البارئ بأدلة عقلية منصوص عليها في كثيرٍ من الآيات، مثل قوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.
وأراني مُضطرًّا إلى السؤال في هذا الموضع — لأنه موضع نموذجي يُمثل ما سوف يتكرَّر في كتاب «مناهج الأدلة» من أوله إلى آخره — كيف يكون التمثيل لفكرةٍ ما، بآياتٍ من القرآن الكريم، دليلًا عقليًّا برهانيًّا، وهو نوع الأدلة الذي يجده ابن رشد مُميزًا للعلماء؟ إننا إذا اتخَذْنا من آيةٍ ما مُقدمةً نبني عليها قياسنا، كان القياس قائمًا على منقولٍ لا على معقول، مما يزيل عنه صفة البرهان، اللهم إلا إذا كان المعنى الذي أراده ابن رشد هو ما قد يرِد في الآية من موضوعاتٍ كونية تصلح للبحث العقلي؛ ففي الآية السابقة — مثلًا — ذِكرٌ لموضوع «خلْق» الله للناس في حاضرهم وفي ماضيهم، ليكون ذلك بمثابة الإشارة إلى ما يمكن التحوُّل إلى بحثه بحثًا عقليًّا، وهو في هذا المثل موضوع «الخلق»، وكيف يُفهَم بالبراهين العقلية، إما أن يكون ذِكر الآية في حدِّ ذاته هو البرهان، فذلك ما أعجز عن رؤيته، وأقول ذلك تعليقًا على ما فهمته من المُقدمة المُستفيضة التي قدَّم بها المرحوم الدكتور محمود قاسم لتحقيقه لكتاب «مناهج الأدلة»، والتي شعرت خلالها في مواضع كثيرة منها، بأنه يرى أن ذِكر الشواهد القرآنية هو في ذاته بُرهان عقلي على ما يُراد إقامة البرهان عليه من الشريعة.
وكأنما تخيَّل ابن رشد في تعليقه على قصور الرؤية الحشوية، أن أنصار هذه الطائفة قد ردُّوا على اعتراضه، بقولهم إنه إذا كانت الأدلة العقلية مطلوبة للوصول إلى معرفة الشريعة، لوجب أن يعرض النبي عليه السلام تلك الأدلة العقلية عندما عرض دعوته إلى الإسلام، وهو اعتراض أراه وجيهًا، لم يُجبْ عليه ابن رشد بما يتناسَب مع قوته، إذا قال ما معناه إن العرب جميعًا تعترف بوجود الله سبحانه، فلم يكن من الضروري لصاحب الدعوة أن يسُوق فيها من الأدلة على وجوده أكثر من أدلة شرعية، فإذا كان بين الناس من لا تُسعفه قواه العقلية في متابعة تلك الأدلة، فهؤلاء وحدَهم هم الذين يكون إيمانهم قائمًا على السماع.
- (١)
الجواهر لا تنفك عن الأعراض.
- (٢)
الأعراض حادثة.
- (٣)
ما لا ينفك عن الحوادث حادث.
وأما الصوفية فبرغم اختلاف طريقتهم عن طريقة المُتكلمين، إلا أنها ليست طريقة مُركبة من مُقدمات واقية، وإنما يعتمد الصوفية في معرفتهم لله على شيءٍ يُلقى في النفس إلقاء، فمهما قيل في هذه الطريقة، فهي على أية حالٍ مما لا يندرج تحت مقولة الفكر النظري. وأما وقد دعانا القرآن إلى «النظر» فليست طريقة الصوفية — إذن — هي المقصودة. وإذا فرضنا أن إماتة الشهوات التي يُمارسها الصوفي في حياته، شرط ضروري لصفاء الذهن استعدادًا للنظر، فليست هي التي تُفيد المعرفة بذاتها.
٥
ذلك هو أول الدليلَين اللذين ساقهما ابن رشد، ليُبين للطوائف الفكرية في عصره كيف يكون الدليل عقليًّا ومأخوذًا من الشرع في آنٍ واحد، ففي القرآن آيات كثيرة تُشير إلى هذه العناية بالإنسان، ولقد يكون مثل هذا الدليل صالحًا لعصر ابن رشد، لكنه — فيما نرى — يخلو من النظرة العقلية المنهجية كما تصوَّرَها الفلاسفة من قديم؛ فلو قال ابن رشد عن هذا الدليل إنه شرعي وكفى لَما كان اعتراض، لكنه قال: إنه شرعي ليقول بعد ذلك إنه فلسفي كذلك، مما يجعل الشريعة والفلسفة تتلاقيان، وهو ما لا نراه، فلا الموجودات كلها في هذا العالم موافقة لوجود الإنسان — بدليل أنه يمرض ويموت — ولا هي، حتى إن كانت موافقة لوجوده، أمر ضروري لم يكن من الممكن أن يكون سواه. نعم إن هذين الأصلين — موافقة الموجودات لحياة الإنسان، وكونها موافقة مقصودة بالضرورة — هي مما يقبله السامع قبولًا يطمئنُّ له ويستريح، لكن مثل هذا القبول ليس هو ما يتألَّف منه مقدمات النظر البرهاني الذي أراده ابن رشد في آخر الأمر. وإذن فبينما أقام هجومه على سائر الطوائف في عصره، على أساس أن القياس عندهم كان إما جدليًّا أو خطابيًّا، نراه قد لجأ بدَورِه إلى مثل هذا القياس نفسه.
وليس دليل الاختراع بأسْلَمَ من دليل العناية من هذه الناحية، فهو أيضًا ينبني عند ابن رشد على أصلَين «موجودين بالقوة في جميع فِطَر الناس»؛ أحدهما أنَّ هذه الموجودات (يعني الحيوان والنبات والسماوات) مُخترعة، والثاني هو أن كل مخترَع فله مُخترِع، ولذلك وجب على من أراد معرفة الله حق المعرفة أن يعرف جواهر الأشياء، ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات. ولكي يؤيد ابن رشد هذين الأصلين، ساق لكلٍّ منهما آياتٍ قرآنية؛ ففي كون الموجودات مُخترَعة، يسوق — مثلًا — قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وفي الأصل الثاني القائل بأن لكلِّ مُخترَع مُخترِع، يسوق قول الله تعالى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ، ولسْنا ندري كيف تكون هذه الطريقة برهانية؟ إنها طريقة يقبلها المُسلِم بإيمانه، وأما الإنسان من حيث هو إنسان غير مُفترَض فيه عقيدة دينية مُعينة، بل هو إنسان يقتصر في تصوره على أنه ناطق — عاقل — وكفى، فلا أظن أن مثل هذا العرْض يُرضيه.
إذا أردنا أن نُصوِّر الموقف بين ابن رشد وخصومه، قُلنا: افرض أن عناصر الشريعة هي أ ب ﺣ د، فجاءت الفلسفة اليونانية بعناصر فيها ما ينقض عناصر الشريعة من أحد جوانبها، كأن تكون عناصر الفلسفة الوافدة هي: أ ب «لا-ﺣ» د، فعندئذٍ نرى أن طوائف الأشعرية والمُتكلمين تحاول أن تُثبت بأن القول «لا-ﺣ» ينطوي على تناقُض داخلي، وبالتالي فهو باطل، وإذا ثبت بطلانه كان نقيضه (وهو ﺣ) صحيحًا، ونقيضه هذا هو ما قالته الشريعة. وأما ابن رشد فيتلخَّص دوره، في أنه يُحلِّل الأدلة التي أثبتت بها طوائف خصومه بطلان «لا-ﺣ»، لكنه لا يترك الأمر عند هذا الحد، وإلا كان بمثابة من يأخُذ بما ينقض الشريعة، بل نراه يلجأ إلى إحدى طرُق يستخدمها لفض الإشكال: فهو إما أن يبين — مثلًا — بأن الاختلاف بين «ﺣ» و«لا-ﺣ» لا يعدو أن يكون اختلافًا في الأسماء، وأما المعنى المقصود ذاته فواحِد في كلتا الحالتين، وإما أن يُؤوِّل الظاهر في «ﺣ» ليجعلها في حقيقتها الباطنة هي و«لا-ﺣ» على سواء، وإما أن يقول ما معناه: لنبدأ طريقنا العقلي من «ﺣ» وهي ستؤدي بنا حتمًا إلى ما يريده الشرع وتريده الفلسفة معًا.
إن موقفنا في هذا العصر، شديد الشبه بالموقف الذي جاء ابن رشد ليجد نفسه فيه؛ إذ العناصر الأساسية في كلا الموقفَين، هي: شريعة يتمسَّك بها الجميع، ونتاج عقلي وافد من خارج، هو إما مُتفِق مع ما ورد في الشريعة فلا إشكال، وإما مسكوت عنه في الشريعة فلا إشكال أيضًا، وإما يُناقِض في الظاهر ما ورد في الشريعة. فلو كان بيننا ابن رشد يؤدي المهمة نفسها التي أدَّاها في زمانه، لحاول أن يدْحَض منطق الرافضين حيث يراه باطلًا، وأن يُبين أن مواضع الاختلاف لا تعدو أن تكون اختلافًا في التسمية، مع اتفاقٍ في مضمون المعنى.
٦
كانت المواجهة التي تمت بين «تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت» لابن رشد، من أهم ما رصده تاريخ الفكر العربي الإسلامي، وكدتُ أقول من أهم ما رصدَه تاريخ الفكر الإنساني على إطلاقه. وليست المسألة — كما أراها — مقصورة على كتابٍ أصدره صاحبه لينقد به كتابًا آخر، وإلا فتاريخ الفلسفة هو سلسلة من هذه اللقاءات النقدية، لكن «التهافت» و«تهافت التهافت» كان مواجهةً بين وقفتَين حضاريتَين، فمحور الأمر فيها هو سؤال كهذا: هل تأخذ حضارة لاحِقة أصولًا ثقافية من حضارة سابقة، لا سيما إذا كانت الحضارتان من لونَين مُتعارِضَين، أو أن في هذا الأخذ خطرًا على إحداهما أن تنمحي في الأخرى؟ إن الحضارة الأوروبية الحديثة لم تكن لترى ما تخشاه في أنْ تستمدَّ أصولها من أسلافها اليونان والرومان؛ لأنها مع تلك الأصول عند الأسلاف أسرة واحدة تتعدَّد صورها مع تعاقب العصور، لكن أساسها واحد، وأما أن تأخُذ حضارة إسلامية روافد فكرها من أصول يونانية، فها هنا يكون للسؤال مغزاه، وهو سؤال ما يزال — كما أشرْنا فيما سبق — مُعلَّقًا فوق رءوسنا إلى يومنا هذا، فهل نفتح صدورنا اليوم للحضارة الغربية العلمية، أو نخشى أن يُصيبنا هذا بما يُشبه الغزو الذي يمحو معالِم ما يغزوه؟
فالغزالي حين تصدَّى للفلسفة الأرسطية كما وجدها منعكسةً على صفحات الفارابي وابن سينا، إنما قصد أساسًا إلى حماية الفكر الإسلامي مما ظنَّ أنه يُفسده ويهدم أركانًا أساسية فيه. وحين اضطلع ابن رشد بالرد على الغزالي، فلقد كان صميم موقفه هو الدفاع عن ضرورة اغتذاء الفكر الإسلامي بفلسفة اليونان القدماء، ولا خطر هناك على شريعة الإسلام من مثل ذلك الغذاء، على أن نلحظ هنا بأن المواجهة بين الغزالي وابن رشد في كتابيهما، إنما تُجاوِز أن تكون علاقة بين طرفين، لتكون في حقيقتها صورة للعقل الفلسفي في حياة المسلمين خلال فترةٍ تزيد على قرنين، تبدأ بالفارابي وابن سينا في القرن العاشر، ويتوسَّطها الغزالي في القرن الحادي عشر، ثم تنتهي بابن رشد في القرن الثاني عشر.
وأول ما أريد أن أُعلق به على صُلب العمل الذي نُطالعه في «التهافت» وفي «تهافت التهافت» معًا، هو أننا في حقيقة الأمر إزاء وقفةٍ سلبية تُبين التناقض في البناء الفكري الذي تتصدَّى له، أكثر منَّا أمام فكرٍ إيجابي يتناول مشكلاتٍ بعينها ليقترح لها الحلول، فالكتابان مثَل جيد ﻟ «برهان الخلف» الذي تميَّز به الفكر الفلسفي في كثيرٍ جدًّا من نشاطه. ومؤدَّى هذا المنهج الفكري، هو أن نعرض الفكرة التي نريد فحصها، فنستخرج منها ما يمكن استخراجه من نتائج تتولَّد عنها، وإذا بهذه النتائج التي استخرجناها مُتنافرة لا يتسق بعضها مع بعض، ثم لا تتسق مع القضية أو مجموعة القضايا الأولى، التي عرضْنا بها الفكرة المطروحة للبحث بادئ ذي بدء. وعندئذٍ لا نرى مندوحة من رفض تلك الفكرة المعروضة؛ لاحتوائها على عناصر ينقُض بعضها بعضًا.
كانت طريقة ابن رشد في «تهافت التهافت» هي أن يعرض ما أورده الغزالي في «التهافت» نقطةً نقطة، يضعها بلغة الغزالي نفسه، ثم يأخذ في بيان أوجه الضعف المنطقي الذي رأى أن الغزالي قد وقع فيه، فإذا أمعنَّا نحن النظر إما في قول الغزالي، وإما في ردِّ ابن رشد، لم نجد في أي القولين إلا تحليلًا منطقيًّا من النوع الذي أسميناه «برهان الخلف»، وحَسْبنا مثَل واحد نسوقه لبيان ما نُريد، ونراعي في اختيارنا للمثَل أنه مُوجز يسهل إيراده، وليكن ما نختاره هو القضية الخامسة في تسلسل القضايا المعروضة حول المسألة الأولى، وهي المسألة الخاصة بقول الفلاسفة عن العالَم إنه قديم.
بعبارةٍ موجزةٍ من عندنا، نُلخِّص بها اعتراض الغزالي على قول الفلاسفة باستحالة أن يخلق الله بإرادته الأزلية عالمًا مُحدثًا يجيء فيه مجرى الزمن، نقول: هذه الاستحالة المزعومة إما أن تكون نتيجة لقياس، وفي هذه الحالة نلحظ أن عناصر القياس غير متوافرة؛ إذ ليس هنا حد أوسط يربط بين الطرفَين، وإما أن تكون إدراكًا حدسيًّا، لكنها لو كانت كذلك لاتفق عليها جميع الناس. وواقع الأمر أن الناس يختلفون في شأنها، ولعلَّه واضح أن الغزالي هنا لم يزد على أن أظهر ما في قول الفلاسفة من مفارقة، مما يؤيد ما أسلفناه.
هكذا كان موقع ابن رشد من تيار الفكر العربي الإسلامي في عصره، فأراد له أن يظلَّ على صلته الإيجابية بفلسفة اليونان، وكانت دعوته إلى ذلك هي آخر صوتٍ يرتفع دفاعًا عن الفلسفة وضرورة دخولها مع الشريعة في نسيجٍ واحد. ولم يكن الوجدان العربي الإسلامي مُهيَّأً لقبول الدعوة، فانسدل عليها ستار، لم يأخذ في الارتفاع إلا بعد عصره بأكثر من سبعة قرون.