مُفلسون في ثياب الأغنياء
هو شاب أديب، له في النقد نظرات ثاقبة، أخذْنا معًا نتحدَّث في الثقافة والمُثقفين، ندور بالحديث من الشرق إلى الغرب، ومن الماضي إلى الحاضر، ثم نرتدُّ به من الغرب إلى الشرق، ونقيس الحاضر إلى الماضي. وكان مِحورنا الرئيسي — بالطبع — هو مصر في حياتها الثقافية الحاضرة. هذا الأديب وذلك، هذا الكتاب وذاك، موقف النقد من نتاج الأدب والفن وأمثال هذه الموضوعات التي لا يفرغ لنا حديث فيها، وقد كنَّا مُتقاربين في الأحكام برغم أننا ننتمي إلى جيلين مُتعاقبين لولا أنه يُكثِر في حديثه من ذكر الرواسم (الكليشيهات) التي أشك في مدى إلمامه بالأبعاد والمعاني التي تنطوي عليها تلك الرواسم، فالكلاسية، والرومانسية وردَتا في حديثه مائة مرة، والواقعية، والمُعادل الموضوعي، والرمزية، وغير ذلك من أسماء صمَّاء، أخذت تتناثَر في عباراته حيث يكون لذِكرها داعٍ من سياق الحديث، وحيث لا يكون، حتى لقد خُيل إليَّ أن أهم فارقٍ بينه وبيني، هو أنه يحفل بأمثال تلك الأسماء أكثر جدًّا مما يحفل بمضمون الأعمال ذاتها. وأما أنا فأكثر اهتمامًا بما قاله فلان في كتابه الفلاني، وكيف قاله، وما حسناته وما أوجه قصوره. أكثر جدًّا مما اهتمُّ بتنميطه كلاسيًّا أو رومانسيًّا أو غير ذلك. واختصارًا فقد كان الفارق بينه وبيني هو في منهج النظر، فبينما هو يهبط من تعميم نظري وعاه في ذاكرته، إلى ذكر الأحكام التفصيلية عن فلان وعلَّان، كنتُ أنا أميل إلى الصعود من تفصيلات الحياة الثقافية كما هي حادثة بالفعل على أرض الواقع، إلى ما يمكن أن يجمع تلك التفصيلات من تياراتٍ واتجاهات.
وأشرتُ لمُحدِّثي إلى هذا الفارق بيننا في النظر، وسألته: هل يكون أحد الفوارق بين الجيلَين، فالجيل الأحدث يبدأ بالمذاهب في صِيَغها الشكلية، والجيل الأقدم يبدأ بكيف الحياة كما هي واقعة؟ وصمَتَ مُحدِّثي قليلًا، ثم سألني بدوره: وما الفرق بين الحالتَين في نهاية المطاف؟ ألا ينتهي كلٌّ منَّا إلى مذهبٍ وما يندرِج فيه من مفردات، سواء اتَّجهنا من المذهب إلى المفردات، أو اتجهنا من المُفردات إلى المذهب؟
أجبتُه بالنفي قائلًا له: إن بدءك بالمذهب يحسبك فيه، ولا تستطيع بعد ذلك أن ترى من الواقع إلا ما ينخرِط في قالبه، فكأنك بدأت الرؤية بمنظارٍ أزرق، فلا ترى الأشياء بعد ذلك إلا زرقاء، قال: اضرب لي مثلًا من حياتنا الثقافية يُوضِّح لي ما تقول، فأجبته قائلًا: إنني ألمح في تلك الحياة ظاهرة غريبة، لا أظنُّ أن لها مثيلًا عند غيرِنا، بل لا أظنُّ أنه قد كان لها مَثيل عندنا نحن فيما مضى، ولعلَّها قد أفلتت من أعيُن المُعاصرين للسبب الذي ذكرته لك، إذ لو بدأ مسار التفكير ممَّا هو واقع بين الناس، لما أفلتت تلك الظاهرة من أعين المشاهدين، وأعني بها تلك الفئة القليلة التي ظفرت بنصيبٍ كبيرٍ في توجيه حياتنا الثقافية، لا بناءً على ما أسهموا به في تلك الحياة — لأن منهم من لم يُسهِم بشيءٍ أو كاد — بل لأنهم عرفوا كيف يُحيطون أنفسهم بهيل وهيلمان، فكأننا أمام موقف يُشبه الصورة التي صوَّرها برنارد شو حين قال: إنه لو فقست بيضة كبيرة عن شاب كامل النضج، يفتح عينيه لأول مرة على هذه الدنيا وأحوالها، ثم سُئل فور خروجه: ما أعجب شيءٍ تراه فيما حولك؟ فإنه بعد أن يُرسِل البصر فاحصًا هنا وهناك، يجيب: إن أعجب ما أراه هو أن الذين يملكون لا يُنتِجون، والذين يُنتجون لا يملكون، فكأنما المُفلسون هم الذين يرفلون في ثياب الأغنياء، وأما الأغنياء حقًّا بما يُنتجونه، فنصيبهم أسمال المُفلسين.
ولا شكَّ في أن ما أَخفى عن أبصار الناس هذه الظاهرة العجيبة وأمثالها، هو أن النقاد المُحدثين، وأنت أحدُهم قد ألفوا أن يبدءوا التفكير من صورٍ مجردة، لا من الواقع وتفصيلاته، فهم — مثلًا — قد يَجعلون بداية السَّير عبارة «حياتنا الثقافية»، وكأنهم يُعالجون مسألة من مسائل الرياضيات البحتة، التي تُدار في الأذهان دون أن تكون لدى من يديرونها حاجة إلى مراجعة العالَم الواقعي المحسوس، ليرَوا إن كانت — أو لم تكن — تلك التصوُّرات الذهنية ذات صِلة بدُنيا الأشياء، فعُلماء الرياضة البحتة، كما يقول عنهم برتراند رسل (وهو أحدهم، بل هو إمام من أئمتهم) إذ يتكلَّمون لغة الرياضة، فهم لا يعرفون، ولا يريدون أن يعرفوا، عن أي الأشياء في عالَم المحسوسات يتكلَّمون، وكذلك نُقادنا — فيما يبدو — إذا ما تحدَّثوا عن «حياتنا الثقافية» كانوا كمن يتحدَّث عن تصوُّراتٍ مجردة، لا يعنيهم أن يراجعوها على عالم الواقع مما يُنتجه المُنتجون في ميادين الأدب والفن، فلو أنهم بدءوا بدراسة الأفراد والمُفردات، دون أن يسبق ذلك في أذهانهم «خانات» مذهبية فارغة، لأسقطوا من حسابهم، بطبيعة الحال من لا إنتاج له؛ لأنه غير وارد، وبهذا تختفي من تلقاء نفسها تلك الظاهرة الغريبة التي أشرتُ إليها.
لقد تذكرتُ تلك الفئة القليلة التي دخلت حياتنا الثقافية بهيلمانها لا بإنتاجها، تذكرتُها منذ أشهر قلائل، عندما وقعتُ على نظرية جديدة في تحليل التركيبة الاجتماعية بصفةٍ عامة، تُقسِّم الإطار الاجتماعي ثلاث درجات، أو أقل، إنها في الحقيقة درجتان، إحداهما تنشطر شطرَين، شطر منهما أعلى وشطر أدنى، ويمكن أن نُطلق على تلك الدرجات أسماء تُوضِّح وظائفها، فهنالك عند الذروة «سلاطين» يأمُرون و«يشخطون وينطرون»، ولكن لا يُنتجون، ثم يأتي دونهم أتباع يؤمرون، لكن هؤلاء الأتباع قسمان: الأدنى منهما قوامه غمار الناس، الذين لا يشاركون في اللعبة، ولا يريدون أن يشاركوا، وأما القسم الأعلى فهم الذين يبعثون على الضحك ويُثيرون الأسى؛ لأنهم هم الموهوبون القادرون المُبدعون المُنتجون، لكنهم بغير حولٍ ولا طول، فهؤلاء هم الأدوات التي يستخدمها «السلاطين» يُصدرون لهم الأوامر، ويَعِدونهم بالجزاء الأوفى إذا هم فعلوا كما يؤمَرون، والذي يبعث على الضحك ويُثير الأسى، هو أن السلاطين يحرصون أشدَّ الحرص على أن هؤلاء العاملين المُنتجين إذا ما فرغوا من أداء ما أُمروا بأدائه، عليهم أن يقفلوا راجعين إلى مواقعهم من منازل الأتباع، حتى لا يُزاحموا السلاطين مزاحمةَ الأقران.
قلتُ لمُحدثي: إننا لو دُرِّبنا تدريبًا كافيًا على النظرة العلمية الصحيحة، لحرصنا على ألا نستخدِم تعميمات — كقولنا: «حياتنا الثقافية» — إلا وفي أذهاننا الرصيد الحي مِن الذي يُشير إليه كل تفصيلات الأمر، الواقع تعميم نُورِده في سياق الحديث. افرض — مثلًا — أنَّنا نتحدَّث عن «الربيع في مصر»، فالأغلب أن نمضي في الحديث، وكأننا أمام صورة معلومة لا إشكال فيها ولا جدال، وكأنه لا فرق بين ربيعٍ وربيع، فربيع مصر كربيع سواها من أقطار الأرض، أما إذا فاجأتُك بسؤال: أين هو الربيع الذي نتحدَّث عنه؟ فها هنا تأخُذ في تحليل الربيع في مصر إلى مجموعة العناصر التي تُميزه، وسترى عندئذٍ أن الأمر في حاجةٍ إلى ملاحظة واعية للظواهر التي حولك، فقد يكون معنى «الربيع في مصر» ألوانًا مُعينة من الخضر والفاكهة ونبات الحقول، واكتساء بعض الأشجار بأوراقها بعد أن تعرَّت عنها في فصل الشتاء، وزوابع الخماسين على فتراتٍ مُتباعدة وصحوة الصراصير بعد سباتها. وهكذا تتجمَّع لديك العناصر التي هي قوام «الربيع في مصر»، فإذا ما تحدَّثنا عنه وهذه التفصيلات في ذهنك، جاءت أفكارك أملأ بمضمونها.
إنك لو تناولتَ «الحياة الثقافية في مصر» بمِثل هذه الرؤية العلمية التحليلية، فلن تخطو الخطوة الأولى في محاولتك إصدار الأحكام النقدية عليها، إلا وقد هالتْكَ جسامة ما اضطلعتَ به، وتريثتَ وتردَّدتَ قبل أن تُصدر على تلك الحياة حكمًا واحدًا، لكن نقَّادنا — كما تعلم — لا يتريَّثون، وبالتالي فكثيرًا ما لا ينصفون.
لو كنت لأنظر إلى «حياتنا الثقافية» نظرة تحليلية تكفُل لي سداد الرأي لبدأتُ أولًا بالتفرقة بين «صانع» الثقافة و«مُتلقيها»، فكلاهما «مُثقف»، لكن ما يصدُق على أحدهما من الأحكام قد لا يصدُق على الآخر. فربما وقع إنتاج «صانع» ضعيف على «مُتلقٍّ» قويٍّ، وربما وقع صانع قوي على مُتلقٍّ ضعيف، على أنه قد يجتمع في الفرد الواحد الجانبان معًا، فهو صانع للثقافة في ميدان الرواية — مثلًا — ومُتلقٍّ لها في ميدان الموسيقى أو الشعر.
هذه التفرقة بين مُبدع الثقافة ومُتلقيها مهمة عند الناقد؛ لأن الحُكم على عملٍ ما لا بدَّ أن يؤسَّس أولًا على نوع المُتلقي، فمن يكتب قصة للأطفال يُقاس عمله بما يصلُح للأطفال، ومن يكتب للشريحة العُليا من المُثقفين لا ينبغي أن يُقال له: لماذا لا تكتُب ما تفهمه الجماهير.
والخطوة الثانية لمن يتناول حياتنا الثقافية بالتحليل قبل أن يُصدِر عليها حكمًا هي أن يتذكَّر أن مجال «الكلمة» ليس هو كل الحياة الثقافية، وهو خطأ كثيرًا ما يقع فيه الناقد، ففي تلك الحياة عالَم الأنغام وعالَم الألوان، فيها شتَّى أنواع الفنون وفيها الرياضة، فيها القديم المَوروث، وفيها الجديد المُضاف، ولهذه النقطة أيضًا أهميتها في العملية النقدية إذا أرادت لنفسها الإنصاف؛ لأن القوة والضعف لا يشملان بالضرورة كل جوانب الحياة الثقافية دفعةً واحدة، فمجال «الكلمة» قد يكون أمْيَلَ إلى الضعف، بينما مجال الفن أمْيل إلى القوة، وهذا هو بالفعل ما يراه كاتب هذه السطور؛ إذ عنده يتلخَّص في أن لدَينا في نتاج التصوير والنحت، وفي مجال الإخراج المسرحي (بما في ذلك الإذاعة مرئية ومسموعة) ما نجرؤ على التقدُّم به إلى العالَم الخارجي في ثقةٍ وقدرة على التنافُس، وأما في مجال الكلمة فالأدب الخالص فيه أكثر توفيقًا من الإنتاج الفكري، فنحن فقراء «فكر»، ولكننا لسنا على هذه الدرجة نفسها في الشعر والرواية.
استطرد معي الحديث، فبتُّ أُصوِّر لمُحدِّثي بعض المعالِم التي هو لا بدَّ واجِدها في حياتنا الثقافية إذا هو سار بقدَميه على أرضها، والتي هو لا بدَّ فاقِدها إذا ملأ وعاءه بأسماء المذاهب النقدية التي يغلب ألا نجد لها تطبيقًا مباشرًا. وهل يُتاح لك وأنت في الطائرة أن تشهد ما يُغطي الأرض من الرمل والزلط والتراب والحصى؟ أإذا وقفت عند أسماء التيارات الأدبية والمذاهب النقدية قرنًا من الزمان يُتاح لك أن ترى أولئك الذين أخذوا مكانتهم العلمية أو الأدبية «بالذراع» لا بالقلَم والورق والكتاب؟ وهل يُتاح لك أن ترى الذين استعانوا بالطبل والزمر تضجُّ أمامهم، وتضجُّ وراءهم، فتلمع بذلك أسماؤهم نجومًا مع النجوم؟ هل يُتاح لك أن تغرُز الأعلام الذين صنعتهم وسائل الإعلام وليس بأيديهم ما يتقدَّمون به أمام ربهم يوم الحساب؟ هل يُتاح لك أن ترى الذين يُصدرون أحكامهم الأدبية على عباد الله العاملين مُستنِدين في ذلك إلى إشاعاتٍ يسمعونها جاريةً على الشفاه، فكم من مرةٍ سمعتُ هجومًا على كِتابٍ مِمَّن لم يقرأ الكتاب؟ وكم من مرة قرأتُ نقدًا لكاتب يصعد بمؤلَّف أو ليهبط بمُؤلَّف، دون أن يكون الناقد على علم إلا بأشخاص الرجال، فذلك يستحق الضرب على رأسه، وهذا جدير بوردةٍ تُوضَع على صدره.
ابدأ يا صديقي من الواقع الحي، ابدأ بدراسة الأعمال ذاتها، ثم اصعَدْ منها إلى حيث شئتَ من تصنيفٍ وتبويب، فإذا خلصتَ من دراستك إلى نتيجةٍ كالتي خلصتُ أنا إليها من حيث الموازنة بين الأعمال من جهة وقِيَم أصحابها من جهةٍ أخرى وجدتَ الكثرة الغالبة والحمد لله ترتدي من الثياب ما يتناسَب مع «فلوسها»، لكن هنالك فئتَين أُخريَين إحداهما مُفلسة، وترتدي ثياب الأغنياء، والأُخرى غنية بأعمالها وكان نصيبها أسمال المُفلسين.