حوار مع ورَّاق
كان يومًا صائفًا من سنة ١٩٦٣م، عندما قصدتُ إلى ورَّاق، لأشتري رزمة من الورق الأبيض المُسطر، الذي اعتدتُ الكتابة عليه، كلما كتبتُ كتابًا أو مقالًا، وكنتُ أعلم أن الورق يومئذٍ قد قلَّ عرضه في السوق وغلا ثمنه، ولكنني لم أتوقَّع أن أجد الثمن قد بلغ ذلك الحد من الارتفاع، وذلك أني حين طلبتُ من الوراق رزمة الورق التي أريدها، جاءني بواحدةٍ لا تزيد أوراقها على مائة ورقة وكنتُ أعهدها قبل ذلك تشتمل على خمسمائة، فأخذت أُقلِّبها بين يديَّ، على نحوٍ قصدتُ به أن أنقل إلى الورَّاق دهشتي من ضآلة حجمها، وما هو إلا أن دار بيننا حديث:
قلت: بكم هذه؟
قال: بثمانين قرشًا (ولم تكن الثمانون يومئذٍ كالثمانين في يومنا، بل كانت بمثابة عشرة أضعاف في قوة شرائها).
قلت: هذا أمرٌ عجيب؛ لأن الكتاب تبلُغ ورقاته مائة ورقة، لا يبلغ ثمنه ثمانين قرشًا.
قال: وهل تريد أن تسوِّي بين ورقٍ أبيض، وورق طبع في كتاب؟
قلت: كلَّا، لستُ أريد ذلك؛ لأن ورق الكتاب هو ورق أُضيفت إليه زيادة، هي المعرفة التي تحملها كلماته، وأما الورق الأبيض فهو فارغ لم يحمِل بعدُ شيئًا.
قال: يؤسِفني ألا أرى ما تراه، إذ أرى الورق بعد طبعه في كتاب، هو ورق بالنقصان، لا بالزيادة، فالمادة المكتوبة — في معظم الحالات — هي مداد لطَّخ بياض الورق ونقاءه، كالثوب يُسيء إليه لابسه بالقذَر فتهبط قيمته.
قلت: إنك تمزح ولا رَيب.
قال: كلَّا، كلَّا، بل إني جادٌّ ولا مزاح، ولتعلم أني ورَّاق وقارئ، فأنا أبيع الورق فارغًا، ثم أُطالِعه مليئًا بما يكتبه الكاتبون، فلا أشعر بالكسب مقدار ما أشعر بالخسارة.
قلت: أراك قد بدأت بتشبيهٍ خاطئ، فأضلَّك عن الصواب، وذلك حين شبَّهت الفرق بين الورق خاليًا والورق مكتوبًا عليه، بالثوب جديدًا والثوب ارتداه من أصابه بالقذَر، والأصح هو أن تقول إن الفرق بين الحالتين، كالفرق بين أكواب تبيعها فارغة، فيملؤها الشاري بشراب سائغ، ثم هي لا تفرغ من شرابها أبدًا، مهما تعاقَبَ عليه الشاربون، جيلًا بعده جيل، بعده ثالث ورابع وعاشر.
قال: الخلاف بيني وبينك يا سيدي هو في كلمة «سائغ»، نعم إن أكواب الورق التي أبيعها فارغة، يلمؤها الكاتبون شرابًا، ولكن كم مرة يجيء ذلك الشراب سائغًا حقًّا، وكم مرة يجيء — على أحسن الفروض — مائعًا تموع به أمعاء الشاربين؟
قلت: أحبُّ أن أسمع منك أنت الجواب، فمتي تنفِر ومتى تُسيغ؟
قلتُ ذلك، وقد تغيَّرت نبرة صوتي نحو الاهتمام بما يقوله الرجل، ولعله أدرك التحوُّل، فدعاني إلى الجلوس ليكون الحوار بيننا مُطمئنًّا هادئًا، فالساعة بعد الظهر بقليل، والجو حار، وأنا زبونه الوحيد.
قال: سألتَني متى أنفِر مما أقرأ ومتى أُسيغه؟ وأقول: إن أشدَّ ما يُصيبني بالغثيان، هو كاتب يشهد ما نغوص فيه من مشكلات الدنيا والآخرة فيتركها ليركب جواده ركوب الفرسان في العصور الوسطى، شاهرًا قلمَه في يده، وكأنما يصيح قائلًا: هل من مُبارز؟ كثيرون — يا سيدي — هم الكتاب الذين يأخذهم بأنفسهم العُجب (بضم العين)، فتراهم يلتمسون مواقع الضوء، ليكونوا على مرأًى من كل ذي عينٍ تُبصر، ويختارون من فنون القول ما يشدُّ السمع، لا ما يتصدَّون به لمشكلات الناس على اختلافها وكثرتها، نعم إنك تراهم يبحثون عن مواقع الضوء، ومقاعد الرئاسة، بدل أن يتَّجهوا نحو مناطق الظلام ليُشعلوا فيها المصابيح، تاركين مقاعدهم إلى حيث ساحات العمل والجهاد، إن عشقهم الشديد للأضواء ينصبُّ على رءوسهم، هو الذي يدفعهم دفعًا إلى الملَق فيما يكتبون، إنهم يتملَّقون جمهور الناس بقولهم عنه إنه قد بلغ الكمال، ويتملَّقون الشباب من ذلك الجمهور، بقولهم عنه إنه شباب بلغ الرُّشد والرشاد، ويتملَّقون الحُكام بقولهم إنهم قد أقاموا للعدالة ميزانها، ولم يعُد في الإمكان أحسنَ مما كان. هكذا هم يتملَّقون فيما يكتبونه، ابتغاء لمعة ضوء من منصبٍ أو مالٍ أو زُلفى، مع أنهم مُوقنون فيما بينهم وبين أنفسهم أن الجمهور الذي زعموا له الكمال تنقُصه المعرفة، والشباب الذي زعموا له الرشاد تعوزه الإرادة، والحُكام الذين قالوا عنهم إنهم أقاموا للعدالة ميزانها، كثيرًا ما انحرف في أيديهم ذلك الميزان. إنهم يتملَّقون وكأنهم بيننا أضياف غرباء يبتغون الرضا من صاحب الدار ليأذن لهم بطول الإقامة، فهل تفوتهم الحقيقة البسيطة الواضحة، وهي أننا جميعًا إخوة في الوطن، نتبادل النصح كما يتبادله أفراد الأسرة الواحدة؟
قلت: ألا ترى أنك قد عمَّمتَ الحُكم فأسرفتَ في التعميم؟ وأقلُّ ما أقوله لك الآن: من أين لك أنت هذه القدرة على نقد الحياة ونقد الكتَّاب، إن لم تكن قد اكتسبتَها مما قرأته لهؤلاء الكتاب أنفسهم؟ ومع ذلك فاضرب لي مثلًا بموقفٍ مُعينٍ مُحدَّد، رأيت فيه كل ذلك الملَق من أصحاب الأقلام، لكي أَتبيَّن على وجه الدقة ما تُريد.
قال: أما أن أكون قد بالغتُ في تعميم الحُكم، فذلك جائز، ولعلك توافقني على أن المُعوَّل بالنسبة لي ولأمثالي من عامة القارئين، هو على الانطباع العام الذي يخرج به القارئ من مجموع ما قرأ، وما قُلته هو الانطباع الذي خرجتُ به، وأما عملية التحليل والتمحيص التي تُميز الصحيح من السقيم، والتي قد تُشير في الكتاب الواحد أو في المقالة الواحدة، إلى فقرةٍ فيها صواب، وفقرةٍ أخرى فيها خطأ، فهي من خصائص الباحثين الدارسين، وليس من هؤلاء يتكوَّن الرأي العام. وأما أن أضرب لك مثلًا يُوضح شيئًا مما أريد، فأقرب الأمثلة إلى ذهني، هو تقسيم شعبنا إلى طوائف خمس، قيل عنها إنها لو تُركت على سجاياها لتصارعَتْ، ولهذا وضعت الخطط وسُنَّت القوانين التي تُجنِّبنا ذلك الصراع. وعقيدتي الخاصة — وأنا مواطن من المواطنين — هو أن مثل هذا التقسيم لشعبنا خطأ من جهة، ومن شأنه مع الأيام من جهةٍ أخرى أن يُولِّد بين الناس كراهية بعضهم لبعض، لم تكن في الأصل قائمة بينهم. أما وجه الخطأ — كما أراه — فهو أن التقسيم إلى فلَّاحين وعمال وجنود ومُثقفين ورأس مالية وطنية، إنما هو تقسيم أُفقي، يُحدِّد اختلافاتٍ في ضروب العمل، وليس هو بالتقسيم الرأسي، الذي لو وقع لكان بين الناس طبقيَّة تستحثُّ المقاومة كأن ينقسِم الناس إلى أحرار وعبيد، أو إلى نُبلاء وعامة، أو ما يُشبه ذلك من تقسيماتٍ عرفتها بالفعل بعض الشعوب. ولعل أوضح دليل أُقدِّمه لبيان الصواب في وجهة نظري، هو أن الفرد الواحد في شعبنا، قد تجتمع فيه كل ضروب العمل التي وزَّعناها — نظريًّا — على الطوائف الخمس، فقد يكون الفرد الواحد صاحب أرضٍ يُشرف على زراعتها، وضابطًا ومُثقفًا وقائمًا بمشروعٍ يندرِج في الأعمال المالية الوطنية، كأن يملك مزرعة للدواجن. وما دامت هذه الجوانب كلها قد اجتمعت في شخصٍ واحد، فهي — إذن — ليست مما يُقسِّم الناس إلى طبقاتٍ مُتصارعة. وإذا كان من النادر أن تجتمِع هذه الأعمال في فردٍ واحد، فليس من النادر أن تجتمِع في أفراد أُسرة واحدة، ومع ذلك فنحن لا نقول عن أفراد الأسرة الواحدة إنهم ينتمون إلى طبقاتٍ مختلفة.
ومضى الورَّاق في حديثه قائلًا: إنني أتوقع لهذا التقسيم أن يخلُق بين الناس شيئًا ليس هو الآن قائمًا (لنتذكَّر أن هذا الحديث جرى سنة ١٩٦٢م)، وهو أن يتضخم الشعور عند الفلاح أو العامل — مثلًا — بأنه صاحب مصلحة ليست هي بالضبط مصلحة المُثقف، وينتج عن ذلك شيء من المنافسة الخفية، يؤدي إلى الرغبة في استغلال بعضنا لبعض، فإذا أصلح العامل للمُثقف تليفزيونه أو أسلاك الكهرباء أو أحواض الماء طالبه بالمُعجز الذي يجاوز كل معقول، وكذلك إذا لجأ عامل مريض إلى طبيب، أو لجأ مُزارع إلى مهندس، جاء ردُّ الفعل مُساويًا للفعل الأول وهكذا. وسكت المتحدث لحظة، ثم قال: أنا لا أزعم أنني مُحق حتمًا فيما قدَّمته، لكن الذي أقوله هو أنه إذا كان هنالك من الكُتاب من يرى مثل رأيي هذا، فلماذا لم نقرأ في ذلك كلمةً واحدة؟ وكان كل ما قرأناه في هذا الصدَد تأييدًا لا يُداخله، ولو قليل من التردُّد، فهل تراني قد أخطأتُ حين قلتُ إنهم يؤثرون الملق كسبًا للرضا؟
ولمَّا بلغ الورَّاق بحديثه هذا المدى، جاءه زبون، فنهض لقضاء واجبه، ونهضت معه مُستأذنًا في الانصراف، وقائلًا له: إن ما سمعته منك جدير بالنظر، ولعلِّي مُلاقيك في فرصة أخرى لنستكمِل الحوار.
لكن الفرصة المرجوَّة لم تسنح قط، ومضى بعد حديثنا ذاك عشرون عامًا، وحفظتْه الذاكرة، لتُعيده إلى وعيي هذه الأيام، فكلما تعنَّت معي عامل في تقدير أجرِه، وفي عدم الوفاء بوعوده تذكَّرتُ ما تنبَّأ به الوراق، ممَّا رأى أنه قد يترتَّب على تقسيم شعبنا إلى طوائف، وقد عرفه تاريخه الطويل شعبًا واحدًا؛ إذ لا يعقل أن يكون العنت الذي يُبديه المواطنون اليوم بعضهم لبعض إلا مرارة ملأت قلوبهم حقدًا وكراهية، حتى أصبحت «الطيبة» التي يُوصَف بها بحاجةٍ إلى تحليل وتوضيح.
لقد حدثت أحداث في إنجلترا إبان القرن السابع عشر، استدعت من فلاسفتهم أن يطرحوا على أنفسهم سؤالًا يتطلَّب منهم جوابًا يُقيمونه على تأمُّلٍ عميق، هو: كيف نشأ المجتمع بادئ ذي بدء، بعد أن لم يكن هناك إلا أفراد يتصارَعون ويتنازَعون، بحيث لم يستطع العيش منهم إلا قوي يفترس الضعيف افتراسًا، وكان أهم من قدَّم جوابًا عن السؤال، هما «جون لوك» و«توماس هوبز»، وعلى الرغم من أن الجواب عند أحدهما جاء نقيضًا للجواب عند الآخر، إلا أن الجوابين معًا يتركان الدارس، وقد تحرَّكت في ذهنه الدوافع ليتأمَّل المشكلة لنفسه. وأُعيد السؤال على قارئي مرة أخرى: كيف يُمكن أن تخرج من مجموعة أفراد مُتناحِرة مُتنازعة، كل منهم يودُّ لو حول الآخرين إلى طعامٍ يأكله أقول كيف تتحوَّل مجموعة أفراد كهذه إلى مُجتمع متعاون؟ فسؤال كهذا هو الذي كان يكمُن في المشكلة التي أخضعها هؤلاء الفلاسفة للفكر العميق، وتَبِعهم جان جاك روسو في فرنسا بعد ذلك ليتَّجِه بفكره إلى المشكلة ذاتها، وكانت فكرة «التعاقُد الاجتماعي» باعتبارها أساسًا لنشأة المجتمع هي في رأي لوك وروسُّو أصلح الأسُس التي يُقام عليها المجتمع. أما هوبز فكان له رأي آخر.
وأقول ذلك لما أصبحنا نراه في مُجتمعنا ممَّا يُشبه الحياة الفردية التي سبقت نشأة المجتمع، حين لم يكن للفرد حياة إلا على حساب فردٍ آخر، فكل منهم يتربَّص بأخيه بدل أن يسعى للتعاون معه، وإلا فكيف نُفسِّر ما يطلُبه المِهني — أيًّا كانت مهنته — وما يطلُبه الحِرَفي — أيًّا كانت حرفته — من أجور لا تتناسَب قطُّ مع المستوى العام الذي يعيش عليه أغلب المُواطنين؟ لقد علمتُ من ذي علمٍ وخبرة أن العامل الحِرَفي الذي يطلُب منا المُستحيلات أجرًا على عمل يؤديه في بضع دقائق يكتفي من الأسبوع كله بيومٍ واحد أو يومَين — ليقضي بقية الأسبوع في المقهى والنرجيلة تُكركِر أمامه، كما تُكركر أمعاء الذين اغتالهم بأجوره يوم أمس فلا يحقُّ لنا، بل ينبغي علينا أن نطرحه على أنفسنا سؤالًا جادًّا، لا مُجاملة فيه، ولا تهوين من خطورته، وهو: كيف نُخرج مجتمعًا متعاونًا متعاطفًا من مجموعة أفراده الذين تنافرت أهدافهم وتناحرت وسائلهم؟
كان أرنولد توينبي — فيلسوف التاريخ المعروف — قد كتب مقالًا قصيرًا في صحيفة الأبزيرفر البريطانية — قبل وفاته بقليل — وكانت وفاته منذ بضعة أعوام، وأُتيح لي أن أقرأ ذلك المقال عند نشره، وأخذني العجب والإعجاب معًا، كيف استطاع ذلك الكاتب القدير أن يضع في نصف صفحةٍ ما يصحُّ أن يكون تشخيصًا وعلاجًا لمُشكلة هي من أخطر المشكلات التي تُعكر صفو الحياة العصرية جميعًا ألا وهي مشكلة العنت الذي يتعنَّت به المِهني أو الحِرَفي في تقدير أجوره مُعتمدًا على أن الضحية لن يسعها إلا الرضوخ، ولتأكلها بعد ذلك الرضوخ ألسنة الجحيم، فماذا يضيره هو ما دام قد ظفر بأجرٍ يُمكِّنه — والكلام الآن يصدُق على العامل المصري بصفةٍ خاصة، أقوله أنا ولم يقُله توينبي — من الاكتفاء بيومٍ أو يومَين من كل أسبوع، ليقضيَ بقية الأسبوع في حياةٍ لاهية؟
كان توينبي قد علل ذلك العنت في العامل البريطاني، بأنه ردُّ فعل للمرارة التي غصَّت بها حلوق الكادحين، عندما استبدَّ بهم أصحاب رءوس المال، ولكن توينبي وجَّه حديثه إلى العامل البريطاني ليقول له إن ذلك الرد العنيف، وإن يكن له ما يُبرره فيما مضى، فهل يُبرِّر له اليوم أن ينتحِر وينحَرَ الشعب كله معه؟ وكان مما قاله وهو يُنذِر العمَّال ويُحذرهم من أن يدمِّروا الوطن بأسرِه في سبيل أطماع تنبعِث في نفوسهم من مرارة الماضي، إنه يشهد ما يحدُث من مُغالاة العامل في أنانيته، فيرى كأنما هو واقف عند شاطئ النهر، على بُعد أمتارٍ قليلةٍ من شلَّالات نياجرا، وقد مرَّت أمامه سفينة مُتجهة نحو تلك الشلالات الجبارة، لكن ربَّانها لا عِلم له بها، فهلاكه وشيك إذا مضى بسفينته حيث يمضي، وإذن فواجب توينبي أن يصيح به: قِف هنا على الشاطئ؛ لأنك من التهلكة على مقربة.
وإني لأسأل: أأُجاوز حدِّي لو صحتُ صيحة توينبي بمن قسَتْ قلوبهم، وغلظت أكبادهم، فيذبحون مواطنيهم ذبحًا عندما يتقاضَون أجورًا تُهلِكهم وتُهلك دافعيها معًا، ويتحوَّل بها مجتمعنا إلى مجموعة أفراد كل منهم يُضمر الغدر بأخيه؟