مدينة الفكر كثيرة الأبواب
في مُستهلِّ الخمسينات — على ما أذكر — صدر كتاب عربي عنوانه «علَّمتني الحياة»، يضمُّ مجموعة من مقالاتٍ كتبها كاتبون، ليروي كل كاتبٍ منهم في مقالته أبرز ما تعلَّمه من حياته، وكان هناك كتاب إنجليزي قريب الظهور، يدور في مثل ذلك الفلك، إذ احتوى على ما قرَّره في هذا الصدد عدد من أعلام الفكر في الغرب، وكان الكتاب الإنجليزي بعنوان: «تلك هي عقيدتي»، وأذكر أن الناشر العربي قد أراد لكتابه أن يضمَّ نفرًا من أصحاب الفكر من العرب، إلى نفرٍ من الأعلام الغربيين الذين وردت أقوالهم في الكتاب الإنجليزي، بعد ترجمتها إلى العربية، وكنتُ ممن اختارهم الناشر من العرب.
فكان أبرز ما علَّمتني إيَّاه الحياة، كما رأيتُه في ذلك التاريخ، هو أنه كلما امتدَّت الأعوام بالإنسان، قلَّت حدة انفعاله، وزادت رجاحة عقله؛ بمعنى أن الموقف الواحد، يعرض للإنسان الواحد مرتَين تفصلهما فترة من الزمن كالفترة بين سِنِّ العشرين وسِنِّ الأربعين — مثلًا — أو بين الأربعين والستين، فيكون لذلك الموقف الواحد وقع مُشتعل بانفعالاته، وذلك في المرة الأولى، ووقع يتَّسِم ببرودة الفكر في موازناته لشتَّى الجوانب، وذلك في المرة الثانية. ولمَّا كان الإنسان يزداد مع العمر نضجًا، أمكن القول بأن هدوء العقل في تقليب الأمور قبل الأخذ في ردِّ الفعل على الموقف المطروح، هو مؤشر دالٌّ على ارتقاء صاحبه بقدْر ما يكون المُنفعل الهائج السريع مؤشرًا دالًّا على فجاجة صاحبه.
وضربتُ لذلك أمثلة من حياتي، كان منها ما شهدته في جدتي لأبي، في حالتَين من موت أبنائها، كان بينهما نحو عشرين عامًا. أما في الحالة الأولى فقد جيء فيها بولدها الذي كان مُدرسًا في أسوان، وغرق هناك أثناء رحلةٍ نيلية بالقُرب من الشلالات، وجاءها جثمانه في قريتنا فقُل ما شئتَ في هلعٍ يبلُغ بها حدَّ الجنون، وأما في الحالة الثانية فقد كنتُ أنا الذي حمل إليها جثمان عمِّي — وكان موته بالقاهرة — فقرعْنا عليها باب الدار بعد منتصف الليل، ولم تكن تعلَم من الأمر شيئًا، فلمَّا فوجئت بجثمان ولدها الأكبر، لبثتْ صامتةً نحو دقيقتين، ثم صرخت «يا ولدي» وصمتت بعدَها عن الكلام طوال الأيام التي مكثناها في القرية لنتولَّى شعائر المأتم. فالموقفان — كما ترى — مُتشابهان، لكن جاء ردُّ الفعل فيهما مُختلفًا اختلاف حكمة العقل من جنون الانفعال.
قلتُ ذلك كله لأتبعه بسؤالٍ وجَّهتُه اليوم لنفسي، وهو: إذا جاء ناشر يطلُب منك أن تكتب عما علَّمتك إيَّاه الحياة، فماذا أنت قائل؟ أهو نفسه الجواب الذي أجبتُ به في مُستهل الخمسينيَّات؟ فرددتُ لنفسي على سؤالها، قائلًا: نعم، إنه هو هو الجواب، بعد أن أُضيف إليه إضافة هامة جدًّا، وهي إضافة خاصة بالحياة العقلية لمن أراد أن يحياها على صورةٍ صحيحة، وخُلاصتها ألا يُضيِّق الإنسان على نفسه الأفق، بأن يقف من الموضوع المعروض للنظر، موقفًا يقول به إما … وإما … ولا ثالث لهما، في حين أن معظم ما يعرض للإنسان في حياته الفكرية، هو ممَّا يحتمِل الجمع بين الجانبَين — أو عدة جوانب — التي يظن أول الأمر أنهما لا يجتمعان.
فلقد مرَّت أعوام، كنتُ خلالها أنا وزملائي من أساتذة الفلسفة، نعترك اعتراكًا علميًّا حول ماذا تكون النظرة الفلسفية الصحيحة، فكان منهم من يقول إنها النظرة المثالية، ومعناها عند المُشتغلين بالفكر الفلسفي أولوية الفكر الخالص على تجربة الحواس، وكان منهم كذلك من يقول إنها النظرة الوجودية، ومعناها أن تكون حرية الإنسان في اتخاذ قراره مكفولة له، ليكون بعد ذلك مسئولًا مسئوليةً خلقية، فالإنسان لا تصنعه العوامل من خارج نفسه، بقدْر ما يصنع هو نفسه بما يتَّخِذه من قرارات — بإرادته الحرة — في مواقف حياته المختلفة، وكنتُ أنا أذهب إلى أن النظرة الفلسفية الصحيحة هي ما يجعل المعرفة العلمية موضوعه الرئيسي، وما يجعل لشهادة الحواس المنزلة الأولى في الحُكم على تلك المعرفة بالصواب أو بالخطأ، إلى آخر ما كان بيننا من اتجاهاتٍ مُتعارضة.
لكنني فيما بعدُ سألت نفسي في لحظة نُضج أهي اتجاهات مُتعارضة حقًّا، أم هي في حقيقة أمرها اتجاهات متكاملة، بمعنى أن النظرة الصائبة صوابًا كاملًا، هي تلك التي تجمع تلك الاتجاهات كلها في رقعةٍ واحدة؟ ولقد وضح لي هذا الرأي وضوحًا أصبحتُ معه في عجبٍ من نفسي (وفي عجب من سائر الزملاء في معاركهم الفكرية) كيف سبق إلى ظني أنه إما علم تجريبي وإما لا شيء؟ إن حياة الإنسان فيها عدة جوانب، ولا يتكامل الإنسان إنسانًا إلا بها جميعًا، فهو يحيا حياة علمية، وهو يحيا حياة فنية خُلقية دينية، وهو يحيا مواطنًا بين غيره من المواطنين في مجتمعٍ واحد، وهكذا. فإذا كنتُ قد اخترتُ فيما سبق اتجاهًا فلسفيًّا يهتم بجانب الحياة العلميَّة، فلم يكن ذلك ليعني ألا يهتمَّ غيري بجانبٍ آخر من سائر الجوانب، التي من مجموعها يتكوَّن الإنسان، فالأمر في هذا شبيه بجماعةٍ من الناس، وقفوا جميعًا ينظرون معًا إلى منظرٍ واحد، لكن كلًّا منهم أخذ ينظُر إليه من زاويته الخاصة، فأحدهم يفكر لنفسه: هل يصلح هذا المكان لإقامة ملعب للكرة؟ وآخر يفكر لنفسه ماذا لو أحضرتُ أدواتي غدًا وجلستُ أرسم هذا المنظر، فهو أخَّاذ بتكويناته وخطوطه وألوانه؟ وثالث يُفكر لنفسه مُتسائلًا: كيف لم يحدُث له أن يصطاد السمك من النهر الجاري هناك؟ ورابع، وخامس؛ فالمكان الذي ينظرون إليه يسع هذا كله، أفنقول في هذه الحالة إن اتجاهات أولئك «متعارضة»؟ أم الأصوب أن نقول عنها إن بعضها يُكمل بعضها؟
ومثل هذا التعارُض الوهمي، يقع بين مذاهب النقد الفني، إذ هي في حقيقة أمرها زوايا للنظر مختلفة، يمكن جمعها جميعًا لتتكوَّن منها نظرة واحدة شاملة، وفي هذه الحالة يزداد المُتلقي فهمًا للقطعة الأدبية أو الفنية التي هي موضوع النظر، وفي سبيل الشرح الذي يزيد المسألة وضوحًا، أوجز هنا ما قد سبق لي أن ذكرتُه مُفصلًا في مواضع كثيرة:
إنه إذا ما أنتج أديب أو فنان مُنتجًا من منتجاته، كأن يُصدِر رواية، أو أن يعرض لوحة، أو معزوفة موسيقية، أو ما شئتَ من صنوف الإبداع، ثم تعرَّض ذلك المنتج الأدبي أو الفني للنقَّاد، أمكن أن يكون لكل ناقدٍ منهم زاوية للنظر، من زوايا أربع: فهو إما أن يجد نفسه مشدودًا بحُكم شيءٍ في فطرته، إلى أن يستشفَّ من القطعة التي يتناولها بالدراسة النقدية شخصية الأديب أو الفنان الذي أنتجها، فممَّا لا شكَّ فيه أن المُبدع لا يملك إلا أن يصب خصائص نفسه فيما يبدعه، لكن الناقد الذي يلتفت من القطعة المنقودة هذه اللفتة، إنما هو امرؤٌ يميل بفطرته نحو الكشف عن الجوانب «النفسية»، فنحن لا نُخطئ إذا قُلنا عنه إن الأدب أو الفن في نظره، إنما هو «وسيلة» لما هو أهم والذي هو أهم، هو الكشف عن حقائق النفس، وبهذا المقياس يكون لعلم النفس عنده أولوية على الأدب والفن.
ولكن الناقد ربما اختار زاوية أخرى، فهو أيضًا يريد أن يدرُس القطعة المنقودة ليستشفَّ منها شيئًا عن الحياة الاجتماعية التي لا بدَّ أن تكون قد أحاطت بالأديب أو الفنان، وهو يُبدع ما أبدعه، وفي هذه الحالة نقول بحق — كما قُلنا في الحالة السابقة — إن الأدب والفن إن هما إلا «وسيلتان» لِما هو أهم، وهذا الأهم هو أن تعرف عن حقيقة الحياة الاجتماعية، فكأننا نقول بهذا إن عِلم الاجتماع هو الغاية والأدب والفن يخدمانه.
وقد يختار الناقد زاويةً ثالثة غير الزاويتَين السابقتَين، وهي أن يدرُس القطعة المنقودة ليستشفَّ وراءها شيئًا، ليس هو هذه المرة معرفته لنفس مُبدعها، ولا هو معرفته للحياة الاجتماعية التي أحاطت بمُبدعها وهو يعمل، بل هو أن يتفرَّس في حقيقة نفسه هو، ليعرفها عن طريق الانطباعات التي تركتها فيه القطعة المنقودة، وفي هذه الحالة يكون للناقد قدرة الأديب والفنان؛ لأن النقد الذي ينتجه هو في حدِّ ذاته أدب، وكل ما في الأمر أنه أدب استوحاه من أدبٍ آخر.
على أنَّ هنالك زاوية رابعة قد يختارها الناقد، وهي ألا يُحاول أن يستشفَّ وراء القطعة المنقودة شيئًا؛ لأنها غاية في ذاتها، لا مجرد وسيلة لما هو أهم منها، وعندئذٍ تكون القطعة المنقودة نفسها هي التي ينصبُّ عليها الجهد النقدي، ما أجزاؤها؟ وكيف ارتبطت تلك الأجزاء بعضها مع بعض؟ أو بعبارةٍ أخرى، غاية النقد في هذه الحالة هي دراسة «الشكل» (الفورم) الذي بفضله أصبحت القطعة المعروضة أدبًا أو فنًّا.
فهل هذه الوقفات الأربع «متعارضة»؟ أو أن الأقرب إلى الصواب في أمرها، هو أن نقول إن كلًّا منها يجيء إضافةً للاتجاهات الأخرى؟ فإذا فرضْنا أن قارئًا قرأ نقدًا لروايةٍ من إحدى تلك الزوايا فقط، فالقارئ الذي قرأ نقدًا من زاويتَين يكون أكثر فهمًا لأسرارها، ويزداد فهمًا لو قرأ نقدًا من ثلاث زوايا، ويكتمِل فهمه لو قرأ نقدًا للرواية من الزوايا الأربع جميعًا.
وقد كنتُ في الجهود القليلة جدًّا، التي بذلتُها في مجال النقد الأدبي والفني أميل إلى اختيار الزاوية الرابعة، أي دراسة «الشكل»، إيمانًا مني بأنها الزاوية التي تخدُم الأدب من حيث هو أدب، والفن من حيث هو فن، ولا تخدُمهما من حيث هما وسيلتان لعِلم نفس، أو لعلم اجتماع، أو لإبداعٍ أدبيٍ جديد.
جاء في كتابكم «قصة عقل» موقف من النقد الأدبي لكم، فهمتُ منه أنكم تذهبون إلى أن النقد الأدبي لا بدَّ أن ينحصِر في الأثر الأدبي، كائنًا ما كان هذا الأثر، فندرُس النص ذاته، بغضِّ النظر عن مؤلِّفه وظروفه، فأمام الناقد تشكيلات لفظية تنحصِر كل مهمتِه في تحليلها. وهنا نقول: إن الفنان نفسه — أديبًا كان أم نحَّاتًا أم موسيقارًا — هو من نتاج المجتمع والبيئة والعصر الذي يحياه، فالقطعة الأدبية أو الصورة المرسومة، قد تدخَّلت عوامل كثيرة جدًّا في إخراجها، ففَهم الحياة النفسية والاجتماعية للفنان، يساعد الناقد مساعدةً كبيرة، في تحليله للأثر الأدبي.
ترى لو أنك قرأتَ انشغال سقراط بتحديد معاني «الحرية» «المساواة» «الخير» «الشر» دون أن تعرف أن هذا التحديد قد كُتب قبل الميلاد، ألم تكن لتسخَر من هذا الذي يشغل نفسه بتحديد معانٍ معروفة عند الناس؟ أم أنك كنتَ تكتفي بالانشغال بتحليل هذا الأثر كناقدٍ أدبي؟ ألم يأتِ حُكمنا على عظمة هذه الآثار من معرفتنا بأن سقراط حاول أن يُصلح ما أفسد السوفسطائيون، ومن معرفتنا الكاملة بالعصر الذي عاشه؟ ولو لم تكن تعرف الزمن الذي كُتبت فيه هذه الآثار، وقيل لك إنها وليدة الساعة، فأين كنتَ تُصنفها؟ هل تعتبرها أثرًا أدبيًّا أو فلسفيًّا؟
انتهى كلام صاحب الخطاب، ونحن نقول:
واضح أن صاحب الخطاب لو كان ناقدًا أدبيًّا، لاختار لنفسه الزاوية التي يحاول فيها الناقد أن يستشفَّ من النص المنقود نفسية مُؤلِّفه من جهة، وظروف مجتمعه ساعة تأليفه من جهةٍ أخرى، ليزداد فهمًا للنص الذي ينقُده، وليس في ذلك بأس، فأظنه قد رأى من شرحِنا للزوايا الأربع المُحتمَلة للموقف النقدي أنَّ اختيار الناقد لزاويةٍ منها، لا يعني إلغاء الزوايا الأخرى، إنما هو يتركها لسواه إذا شاءوا. ولقد قلتُ عن نفسي إنني في النقد الأدبي أختار تحليل النص ذاته بغض النظر عما وراءه، وذلك يُشبه أن أُدقق في الخيوط التي نسجت بها قبل شرائها، ويجوز لغيري أن يهتمَّ بألوانها لا بخيوط نسجها.
ولا أُريد أن يفوتني تنبيه صاحب الخطاب إلى أنه خلط بين الأدب والفلسفة، وذلك حين يسُوق لي مثلًا من تحليلات سقراط لمعاني ألفاظٍ بعينها، ثم يسألني: هل كان يمكن أن نغُضَّ النظر عن الزمن الذي عاش فيه سقراط؟ وأنا أُجيبه بأن ناقد الأدب في موقفٍ مُختلف؛ لأنه بينما سقراط يعرض علينا «أفكارًا»، فإن الأدب يُقدِّم لنا «أشكالًا»، فإذا أعجبتك الهندسة التي رُصَّت بها فروع شجرة وأوراقها، فهل يشترط أن تعرف متى بُذِرت لهذه الشجرة بذرتُها؟
إن الفن هو التقاط موقف فرد ممَّا يعجُّ به العالَم من حولنا. ذلك لا اختلاف عليه، ولكن لماذا يكون من يقول حقيقة عامة، يعُدُّ قوله بعيدًا عن الفن الرفيع؟ أتراك بموجب هذا تحكُم على هذا البيت من الشعر بالبُعد عن الفن الرفيع، لكونه يُقرِّر حقيقة تقريرية:
انتهى كلام صاحب الخطاب في هذه التكملة، ونحن نقول: إنك لو عرفتَ ما لا بد أن تعرفه عن خصائص الأدب (والفن بصفةٍ عامة)، وهو أنه لكي يكون أدبًا على الإطلاق، فيتحتَّم أن تكون مادته قد صِيغت في «شكل» أي «فورم» يختاره الأديب، أقول إنك لو عرفتَ ذلك، فربما لم تكن لتسأل هذا السؤال؛ لأن بيت الشعر الذي ذكرته، ما كان ليكون شعرًا في الأساس، إذا لم تكن مُفرداته قد صِيغت في هذا النظام الخاص، ووقعتْ في هذا الوزن الخاص، فهذا وذاك يُكوِّنان «الشكل» الذي هو جواز المرور المبدئي لدخوله في دُنيا الفن، وبعد ذلك يجيء سؤالٌ آخر هو: هل هو من الفن الرفيع؟ ولماذا؟ فلو كنتُ أنا لأسلط عليه منهجي في النقد، لركزتُ انتباهي في المفردات، وطريقة تركيبها بعضها مع بعض، فلماذا — أولًا — اختار أبو تمام لقصيدته تلك البحرَ البسيط؟ ثم انظر — ثانيًا — في الثنائيات الواردة في البيت، السيف والكتب، حدُّه الحد، الجد واللعب، فهي ثنائيات غنية بإيحاءاتها، ثم ألحظ — ثالثًا — تآزُر الحروف المتجاورة في إحداث النغم، مثل تجاور السين والصاد، وتكرار حرف الحاء، وتجاور الباء والباء، وهكذا.
لكنني لا أتنكَّر للزوايا الأخرى التي ننظُر منها إلى هذا البيت؛ لأنها بكل تأكيد تزيدني له فهمًا، فمثلًا إذا عرفت أن «الكتب» المذكورة هنا لا يقصد بها الكتب على إطلاقها (كما يظن معظم المُردِّدين لهذا البيت)، وإنما هي كتب التنجيم؛ وذلك لأن المُعتصِم حين أراد الحرب مع الروم، ولم يكن الروم على استعداد في ذلك الوقت للحرب، دسُّوا له مُنجمًا يقول له إن حساب النجوم يدل على أنه لو حارب الروم في ذلك الوقت خسِر الحرب، وربما أحدث هذا القول شيئًا من التردُّد عند المُعتصم، وهنا أنشد له أبو تمام قصيدته التي هذا البيت مطلعها، ومعناه كما هو واضح، أن النبأ الصادق في نتائج الحرب مع الروم، هو حدُّ السيوف، لا في نبوءات المُنجِّمين، أقول إن معرفتي لهذه الخلفية التاريخية — أي الاجتماعية — تزيدني وضوحًا في تقدير البيت من حيث دلالته الفعلية، لكننا حتى لو لم نعلَم عنه هذه الخلفية التاريخية، يظل «بشكله» الفني شعرًا رفيعًا. وأظنُّ صاحب السؤال يستطيع أن يرى «تفرُّد» الشاعر في تركيب بنائه اللفظي.
والآن فلأجمع أطراف حديثي، لأترك القارئ بنتيجةٍ يسهل حفظها في الذاكرة، ليعود إليها كلما شاء، إمَّا ليأخُذ بما فيها، وإمَّا ليُعارضها، وتلك النتيجة هي أن حياتي قد علَّمتني أن مدينة الفكر كثيرة الأبواب، بمعنى أن الموضوع الواحد يمكن للفكر أن يتناوله من عدة جهات، دون أن تجيء الأحكام على الجوانب المختلفة مُناقضًا بعضها لبعض، بل هي قد تكون متكاملة يقوِّي بعضها البعض.