حوار على الورق (١)
تراكمت عندي أسئلة القرَّاء، ولم يعُد لي بدٌّ من الإجابة على بعضها، فبعد أن كان ظنِّي في العلاقة بين الكاتب والقارئ، أنها كالطريق ذات الاتجاه الواحد في حركة المرور، مُقيمًا ذلك الظن على ظنٍّ آخر أعمَّ وأسبق، وهو أن الكاتب إنما يضع نفسه على الورق، سواء وجدت تلك النفس من يتلقَّاها لقاءً حسنًا أو لقاءً سيئًا، أم لم تجد، فظلَّت منشورة على ورقها كالسلعة الكاسدة في سوق البيع والشراء، ولكن لماذا سبق إلى وهمي ذلك الظن في طبيعة العلاقة بين الكاتب والقارئ؟ حدث ذلك — ربما — تأسيسًا على مبدأ عندي، أُفرق به بين العِلم والفن، كائنًا ما كان الفرع المُعين من فروع المعرفة العلمية، وكائنةً ما كانت الدرجة التي يكون بها الفن فنًّا، فالعِلم عام والفن خاص، ومن هنا كان من يتقدَّم إلى الآخرين بما يزعُم أنه حقيقة علمية، مسئولًا أمام هؤلاء الآخرين عن إقامة برهان الصدق إذا ما طُلب إليه ذلك، وأما من يستخدِم وسيلة من وسائل الفن — كتابة أو غير كتابة — ليُخرج إلى العلانية شيئًا من ذات نفسه بعد أن كان مَطويًّا في جوانحها، فلا ينبغي لأحدٍ أن يسأله: كيف ولماذا؟ فمن شاء فليستقبل تلك الذات التي أعلنت عن نفسها، ومن شاء فلينصرِف عنها. ذلك كله هو بعض الظنون التي كانت تُساورني — وما زالت تساور — عن طبيعة الكتابة بنوعيها: العام والخاص، وإذا كان القارئ لهذه السطور، ممن تعقَّبني فيما كتبتُ وأكتب، لأدرك في غير عسرٍ أنني ألجأ مرة للصنف الأول من الكتابة، وذلك حين أرى أن الفكرة المعروضة من حقِّها أن تَستقلَّ بذاتها؛ لأنها لا شأن لها بخصائص ذاتي، وذلك هو «العلم»، ثم ألجأ مرة أخرى إلى الكتابة من الصنف الثاني، وذلك حين أريد للرأي المعروض أن يكون أقرب إلى «الرؤية» الشخصية، التي لا تُلزم أحدًا بقبولها، وقد يُتمتم القارئ لنفسه هنا قائلًا: لكنك يا أخانا تكتب ما تكتُبه في الصحف وفي الكتب، وفي ذلك ما يتضمَّن الاعتراف بأنك إنما قصدت بالكتابة إلى آخرين، وليس من حقك أن تشغل هؤلاء الآخرين بما هو ذاتي خاص. وجوابي على ذلك هو أن الأمر هنا يُشبه القطعة الفنية معروضة في معارضها، لا أكثر ولا أقل، فقد تجد من يقف عندها مُتذوقًا مُتقبلًا، وقد تجد من يُعرض عنها، وفي كلتا الحالتين يظلُّ الفنان واثقًا بفنه المعروض.
وبعد هذا التمهيد، أعود فأقول إن أسئلة القراء قد تراكمت ولم يعُد لي بدٌّ من الإجابة على بعضها، وقد جعلت أساس اختياري هو ما أتصوَّره مُثيرًا لاهتمام كثيرين، سكتوا عن السؤال، لكنهم على رغبة في الإنصات إلى الجواب.
وأبدأ بسؤالين يسألان عن «القراءة» إما عن قراءتي أنا، ماذا قرأتُ وأقرأ؟ وإما عن قراءة السائل نفسه ماذا تكون وكيف تكون؟ عن الحالة الأولى يسأل السيد طه حسين سليمان قائلًا: «في حياة كل أديبٍ شخصية وكتاب، أثَّرا في مجرى حياته، فهل تتفضلون بذكرهما لجيل الشباب؟»
والجواب هو أن المؤثر كان أكثر من شخصية واحدة وأكثر من كتابٍ واحد، فلقد كانت العشرينيَّات من هذا القرن، هي الأعوام التي أحسستُ فيها بصحوة لما يُكتب وما يُقال في دُنيا الثقافة، وكانت دُنياي الثقافية عندئذٍ مليئة بالفرسان، لكن ثلاثة منهم تميَّزوا عندي من سواهم، هم: طه حسين، وعباس العقاد، ومحمد حسين هيكل، فكنتُ لا أترك حرفًا واحدًا مما يكتبونه إلا وطالعتُه في حينه أو أُرجئه إلى الإجازة الصيفية إذا شاءت لي ذلك ضرورات المذاكرة والامتحان، وبين هؤلاء الثلاثة كانت الأولوية لطه حسين، لا لأنني وجدتُه أغزر فكرًا من زميليه، وإلا فلستُ أشك في أن تلك الغزارة أولى بها العقاد أولًا وهيكل ثانيًا، لكن المسألة هنا هي مسألة كاتب وسِحر كتابته، وأعود بك إلى ما ذكرتُه لك عن الكتابة عندما تكون فنًّا، وعندما تكون أقربَ إلى العلم الذي يستنِد إلى إقامة الحجة والبرهان، على أنني إذ أقول إن هؤلاء الثلاثة هم الذين ارتسموا أمامي مثلًا أعلى أنشُد بلوغه أو بلوغ ما يقرُب منه، فلستُ أعني أنني ألزمتُ نفسي بشيءٍ مُعينٍ ممَّا قالوه، أو بأسلوبٍ مُعينٍ مما استخدموه، ولكنها هي «الوقفة» العامة هي التي تمنيتُها. وبعبارةٍ أخرى رأيت فيهم كاتبِين، فتمنيتُ أن أكون كاتبًا.
وأما الكتاب الواحد — بين عشرات الكتب التي قرأتها في تلك الفترة من حياتي — فقد أجده أمرًا عسيرًا أن أُحدِّد كتابًا بعينه، لكنني قد أُشير إلى كتابَين، على ما بينهما من تبايُنٍ شديد، وهما «جمهورية أفلاطون» و«في الأدب الجاهلي» لطه حسين، أما أولهما فقد وجدته — وما أزال حتى هذه الساعة أجده — كنزًا تغترف منه ما تغترف، ويظلُّ هو الكنز الذي كان، فلا الزمان يُبليه، ولا الرجوع إليه تنتهي أسبابه، وربما كان مما يُعلِّل منزلة تلك المحاورة في نفسي، هو ما طبعني ربِّي عليه من شغف التفكير الفلسفي ومنهجه، وأما ثاني الكتابَين، فليست مادته في ذاتها هي التي كانت لها الفتنة، بل هو النهج الفلسفي مرة أخرى، ثم هو — فوق ذلك — إزالته لشعور الرهبة الذي يتولَّانا كلما مَسَسْنا شيئًا من حياة القدماء، فإنني ممَّن لا يريدون الرهبة أمام شيءٍ في مجال الفكر، ويريدون أن يُخضعوا كل فكرة للتحليل والتمحيص. ولعل هذه الرغبة عندي هي نفسها التي جعلتني بعد ذلك من أتباع فلسفة التحليل، كما شرح منهاجها برتراند راسل، وكما طبقها أنصار التجريبية العلمية.
قلتُ إني تلقيتُ سؤالين عن «القراءة» كان أحدهما يسأل عن قراءتي أنا ماذا كانت حين كنتُ في أول الطريق، وقد أجبتُ عن ذلك بإيجاز، وأنتقل الآن إلى السائل الثاني، وهو السيد فتحي السعيد محمد، فهو يقول: «قرأتُ لكم مقالًا بعنوان: «قالت الشمس للسُّحب» وقد وردَتْ به ثلاثة أسئلة هي: لماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ وكيف أكتب؟ فسألتُ أنا نفسي أيضًا ثلاثة أسئلة: لماذا أقرأ؟ ولمن أقرأ؟ وكيف أقرأ؟ وهي أسئلة قد تبدو بسيطة، لكنها أكثر صعوبة إذا تعمَّقناها، فهل تتفضَّلون بالإجابة؟»
وفي إجابتي سأغضُّ النظر عن الفروق الفردية التي تنشأ عن اختلاف الناس في البواعث والأهداف، وسأنظر إلى موضوع القراءة من جانبه العام المُشترك بين القارئين جميعًا، فأقول عن الجزء الأول من سؤال السائل: لماذا أقرأ؟ والجواب هو: أنك تقرأ لتُضيف إلى عمرك المحدود عشرة أمثاله، أو مائة، أو ألفًا، بحسب القدْر الذي تقرؤه، والطريقة التي تقرأ بها، لماذا؟ لأنك خلال عمرك المحدود ستجمع خبراتٍ وأفكارًا عن العالَم وعن الناس وعن حقيقة نفسك، لكن تلك الخبرات والأفكار سيكون مداها مرهونًا بقُدراتك أنت وحدك على الرؤية وعلى الاستدلال، ومرهونًا كذلك بعدد السنين التي كُتب لك أن تحياها، فإذا قرأت لكاتبٍ واحدٍ أو لشاعرٍ واحدٍ، ولنختر — مثلًا — كاتبًا كالجاحظ، وشاعرًا كأبي العلاء المعري، فأنت بمثابة من أضاف إلى خبراته وأفكاره التي جمعها لنفسه بنفسه، خبراتٍ وأفكارًا جمعها الجاحظ وجمعها المعري، فإذا فرضنا — وليس في هذا الفرض مُبالغة — أن الرجل الواحد من أمثال هذين الرجلين، إنما يساوي ألف رجل من أمثالنا نحن الأفراد الذين يقَعون في أوساط الناس، أو حتى فوق الأوساط بنسبةٍ معلومة، كان معنى أن تقرأ الجاحظ أو أن تقرأ أبا العلاء، هو أنك قد أضفتَ إلى عمرك ألف عمر.
على أن الإضافة لا تقتصِر على الطول وحدَه، وإنما هي كذلك إضافة في العرض، وإضافة في العُمق أيضًا، فأما الإضافة في العرض، فمعناها أنك ستتمرَّس خلال خبرات من تقرأ له، بخبراتٍ من نوعٍ آخر، أو من أنواعٍ أخرى ليست هي مما ألفتَ أن تتمرَّس به في حياتك الخاصة. خُذ مسرحية واحدة من مسرحيات شكسبير، واقرأها قراءةَ من يغوص في أغوارها، تجِدْك قد عشتَ ملكًا كما يعيش الملوك، وعشتَ فارسًا كما يعيش الفرسان، وعشت عاشقًا كما يعيش العاشقون، وعشت مُهرجًا كما يعيش المهرجون، وعشتَ عاقلًا، وعشتَ مجنونًا، وعشتَ عشرات الأنواع من ضروب العيش التي لم تُصادفك في حياتك الخاصة؛ لأن حياتك الخاصة هي ضرب واحد من تلك الضروب. وإذن فالقراءة لم تجعل عمرك الواحد ألف عمر من حيث الطول، بل جعلته ألف عمر، أو يزيد من حيث العرض كذلك، أي من حيث التنوُّع.
ثم يُضاف إلى زيادة عمرك طولًا وعرضًا، زيادة أخرى، ربما كانت أهمها جميعًا، وهي الزيادة في البُعد الرأسي، أعني في عُمق الأغوار التي تصِل إليها بالنسبة لكل فكرة، وكل معنًى، وكل لونٍ من ألوان المشاعر، فلعلَّك تُدرك كم هي سطحية حياة أمثالنا من عابري السبيل، إذا قِيست إلى الحياة الإدراكية التي يحياها الفحول، فمثلًا قد أستخدِم أنا أو تستخدِم أنت في الحديث فكرة «الحرية»، لكن قارن فكرتك عن الحرية في أبعادها وأعماقها، بالفكرة نفسها كما وردت عند جون لوك، أو جان جاك روسو، أو جون ستيوارت مل. وقد تستخدم أنت وأستخدم أنا كلمة «فن»، لكن قارن هذه الفكرة في أبعادها وأعماقها عند أمثالها، بالفكرة نفسها عند رسكن، أو سانتيانا، أو كولنجوود. وقد تكون أنت أو أكون أنا قد عرفنا «الصداقة» أو «الحب»، لكن ارجع إلى الصداقة كما رآها أرسطو، وكما رآها ابن حزم، ثم انظر إلى الحُب كما كابده وعبر عنه روميو وقيس. وتسألني: لماذا أقرأ؟ فأُجيبك: إنك تقرأ لتحيا بدل عمرك الواحد ألف عمر، طولًا وعرضًا وعُمقًا.
وأما عن الجزء الثاني من سؤالك: لمن أقرأ؟ فالإجابة هنا موصولة بالإجابة عن الجزء الأول، فهي: اقرأ لمن يُضيف إلى خبراتك وأفكارك إضافة توسِّع من آفاق دنياك في تلك الأبعاد الثلاثة جميعًا، فما كل قراءة ككُل قراءة، وإنما القراءة التي نعنيها هي قراءة الأفذاذ في كل ميدان، فهل يُعقل — في ميدان الفلسفة مثلًا — أن أترك أفلاطون وأرسطو وابن سينا وابن رشد وديكارت وكانْت وهيجل، لأقرأ فلانًا وعلَّانًا؟ وفي ميدان الشعر، هل يعقل أن أترك البحتري وأبا تمام والمُتنبي وأبا العلاء لأقرأ فلانًا وعلَّانًا؟ نعم، قد نقرأ للأوساط، بل وللصغار أحيانًا لنتسلَّى، وأما الحياة بالطول والعرض والعُمق، فمصدرها أفذاذ الرجال. إنني أذكر سؤالًا وجهته لأستاذٍ كبيرٍ في دُنيا الفلسفة في إنجلترا، وكنتُ أزوره لأُودِّعه قبل عودتي من بعثتي إلى مصر، إذ سألته: كيف ترى جان بول سارتر؟ فنظر إليَّ نظرة الذاهل للسؤال، وقال: سارتر؟ ثم أشار لي بيده نحو رفوف مكتبته، وقال: وهل فرغتُ من هؤلاء السادة القادة، لأُنفِق ساعاتي في قراءة سارتر؟
ويبقى الجزء الثالث والأخير من سؤالك، وهو: كيف أقرأ؟ وخير جواب عن السؤال هو: اقرأ وكأن الذي معك ليس كتابًا من صفحاتٍ مرقومة بحروفٍ وكلمات، بل كأنك تتحدَّث مع مؤلف الكتاب، اقرأ وكأن الذي معك هو الرجل الحي يعرِض عليك فكرته أو خبرته بصوتٍ مسموع، ففي هذه الحالة ستجد نفسك مدفوعًا إلى مُراجعته ومساءلته ومناقشته جزءًا جزءًا، ومعنًى معنًى. وهكذا تكون القراءة الحية بفاعليتها الذهنية، فلا تجعل من نفسك أثناء القراءة شريطًا من أشرطة الكاسيت، يتلقَّى ولا حِيلة له فيما يتلقَّاه، بل تمهَّل هنا، وقف هناك، واسأل، وحاور، ووافق واعترض، فالذي معك هو إنسان حي بفِكره ووجدانه، وقد يكون إنسانًا أطول منك باعًا وأقدر منك على الغوص وراء الحقائق، لكنك لن تبلُغ منه كل ما تريد إلا إذا وقفتَ منه موقف الأحياء من الأحياء إذ يلتقون في دروب الحياة ومسالكها.
ونكتفي بهذا القدْر من الحديث عن موضوع «القراءة» لننتقِل إلى موضوعٍ آخر له طرافته، وله كذلك صِلته الوثيقة بالقراءة، وهو ما عرضه السيد ع. ع. أ. في رسالته، ويتلخَّص في وجوب السعي الحثيث الجاد نحو توفير «الأمن الثقافي» على نحو ما نسعى نحو تحقيق «الأمن الغذائي»، وقد تمنيتُ لو استطعتُ نشر رسالته كما هي، لولا ما تفضَّل به من سخاءٍ في وصف ما أكتبه.
وارتكازًا على تلك الرسالة وما ورد فيها، أقول: إننا نُحسن فهم ما أراده «أحد أبناء مصر المُخلصين» (كما وصف نفسه في ذيل الخطاب) إذا سألنا أنفسنا أولًا: ما المراد بالأمن الغذائي؟ لنقيس عليه ما نريده بتوأمه «الأمن الثقافي». إنه لو كان لدَينا وفرة من مصادر الطعام، تضمن لنا عافية أبداننا اليوم وغدًا وبعد غد، لما طافت برءوسنا فكرة الأمن الغذائي، لكننا حتى إذا تلفَّتنا حولنا اليوم، ووجدنا وفرة في الطعام المعروض في الأسواق، فإننا لتأخُذنا خشية الإملاق إذا نحن مددْنا أبصارنا إلى غدٍ وبعد غد، حين يسير منحني السكان في صعوده الرهيب الذي نراه، ومن هنا نأخُذ في التدبير والحساب، لنأمن المجاعة أو ما يُقرِّب منها، فنزرع من الأرض ما لا نزرعه اليوم، ونُنشئ من الصناعات ما لم يُنشأ حتى اليوم وهكذا.
وعلى هذا النحو ننظُر إلى مصادر حياتنا الثقافية اليوم، وقد نجد فيها القليل — وأقل من القليل — مما يضمَن الصحة لعقولنا وقلوبنا. وأما الزبد الذي فيذهب جفاء، فهو كثير وأكثر من الكثير. والذي يُثير الفزع بصفةٍ خاصة، هو أن القليل النافع الذي يمكُث في الأرض، هو — على الأغلب — من صُنع بقية باقية من أبناء الجيل الماضي، فماذا يكون من أمرنا غدًا، وإن غدًا لناظره قريب؟ أفلا يلزم في هذه الحالة شيء مِثل ما قُمنا به في مجال الأمن الغذائي، فنرعى عقولًا واعدة لعلَّها تنضُج وتَحمِل ثمارها إذا ما جاء ذلك الغد القريب؟
ولا بدَّ لي هنا من إضافةٍ أراها واجبة، دفعًا لسُوء الفهم والتفاهُم، وتلك الإضافة هي أنَّ أحدًا لا يُنكر «المواهب» في أبناء هذا الجيل من مُنتجي الثقافة في شتَّى ميادينها، بل إنَّ لفتة هذا الجيل نحو الإبداع إنما تفُوق — بغير شك — لفتة الجيل الماضي؛ لأنه إذا كان الجيل الماضي قد أظهر براعته الفائقة في هضم الثقافتَين: ثقافة التراث وثقافة العصر الحاضر، ثم في عرض المادة المهضومة على القرَّاء، فإن أبناء هذا الجيل كان يُنتظر لهم أن تكون براعتهم في إبداع شيء جديد، بوحي من الثقافتَين معًا، لكننا إلى جانب هذا الاعتراف بالفضل لذويه فلا بدَّ كذلك أن نذكُر وجه القصور، وهو أن معظم ما يُبدعونه من أدبٍ وفنٍّ وفكر، لا ينطوي على شيءٍ كثير من تلك الجذور العميقة الفنية التي تضمن الدوام النسبي على امتداد الزمن، ومن هنا تنشأ ضرورة الحيطة بما أسماه صاحب الرسالة المذكورة بالأمن الثقافي.
وقد نسأل عن عِلة هذه الضحالة، ما دُمنا قد اعترفنا بالمواهب، وأخذنا في الاعتبار كثرة الأجهزة الرسمية وغير الرسمية التي أُنشئت لترعى الحياة الثقافية. وفي ظنِّي أن العِلة كامنة في خلَل النسبة المُلائمة عند توزيع اهتمامنا بدرجات الحياة الثقافية، فبينما شغلتْنا فكرة «الجماهير» انصرفْنا عن الدرجات العُليا، وكأنَّ تلك الدرجات ليست هي نفسها التي ستُقدِّم الغذاء الثقافي المناسب «للجماهير»، وإذا أردتَ برهانًا على خلل التناسُب هذا، فانظر إلى مَحاور الاهتمام الأساسية فيما تُقدِّمه الصحف ووسائل الإعلام.
إلى هنا وحديثي اليوم قد دنا من ختامه، وبقيَتْ أسئلة أُخرى كثيرة تستحق العناية والدخول بها في هذا الحوار، فلا مناصَ من حديثٍ آخر.
لكنني لا أستطيع أن أترك هذا الحديث، دون أن أُوجِّه كلمة مُخلصة إلى «قارئة» لجأتْ بمأساتها إليَّ كما تلجأ الحفيدة إلى جدِّها، كما حلا لها أن تقول في رسالتها، فأريد لك يا ابنتي أن تعلمي أنه ما من مخلوقٍ بشري شهدته الدنيا، إلا وقد تنازعتْ فيه القوَّتان، أما إحداهما فتدفع نحو إشباع دواعي الفطرة المغروزة في جبلَّة الإنسان، والتي لا حيلة للإنسان في وجودها، وأما القوى الأُخرى فهي الشكائم التي نُلجم بها تلك الفطرة عند جموحها، لكي نسير بها في الطريق المشروع. ولئن كنتِ يا ابنتي — كما تقولين — تؤدِّين فروض الله، وتقرئين كتابه، ثم ترَين نفسك على شيءٍ من ضعف الإرادة قد ينتهي بك إلى زلل، فإنك في كل ذلك إنما تُفصحين عما يكتُمُه الآخرون، وحسبُك هذه اليقظة المؤرِّقة من ضميرك الحي اللوَّام، لتكوني على يقينٍ بأن السفينة لا بدَّ راسية آخِر الأمر في مرفأ الأمان.