حوار على الورق (٢)
- أولًا: لماذا وبالذات في الدول النامية تكون هناك هوة عميقة بين القول والعمل؟ مع أنها دول تحتاج إلى تقدُّم وإلى جدية، ولماذا يصدُق القول مع العمل في الدول المُتقدِّمة؟
- ثانيًا: ما هو المقياس الذي تتَّبِعه الدول النامية في المشاكل التي تواجهها؟ ويؤدي بها دائمًا إلى طريق مسدود، وإلى حلول مؤقتة، وما هو المقياس في الدول المُتقدمة، الذي يؤدي بها إلى حل جميع مشاكلها في جديَّةٍ وحزمٍ، مما يؤدي بها إلى التقدُّم المحسوس الذي نشاهده في هذه الدول؟
وعن السؤال الأول، أودُّ قبل الإجابة، أن ألفت النظر إلى خطورة الخطأ الذي كثيرًا ما نقع فيه، كلما عمَّمنا القول تعميمًا لا يتحوَّط ولا يتحفظ، فلا القول والعمل «دائمًا» يتباعدان بهوةٍ عميقة في البلاد النامية، ولا هما «دائمًا» يتطابقان في البلاد المُتقدمة. فكثير جدًّا من أقوالنا نحن، هنا في مصر على سبيل المثال، ولعلَّ مصر هي التي يَعنيها صاحب السؤال، أقول إن كثيرًا جدًّا من أقوالنا قد اتَّسقت مع أعمالنا، في مشروعاتنا الكبرى، وفي مشروعاتنا الصغرى على حدٍّ سواء، فإقامة الصناعة — ثقيلها وخفيفها — أراها مُسايرة لما استهدفناه عند أول الطريق. وإذا كانت هنالك عثرات في السَّير، فلا أظنُّ أنها ترجع إلى ما يجوز تَسميته بالفجوة بين القول والعمل، والتوسُّع في التعليم من أولى درجاته إلى أعلى درجاته، أراه كذلك مُسايرًا لما رجَونا. فإذا وجدْنا هبوطًا في المستوى العام، فليس ذلك راجعًا إلى هوةٍ عندنا بين القول والعمل بقدْر ما هو راجع إلى ظروفٍ ماديَّةٍ أخرى، كزيادة الأعداد زيادة رهيبة بالنسبة إلى قُدراتنا المالية والبشرية، فلا نحن نرضى لأنفسنا أن نوصِد أبواب التعليم في أوجه الراغبين فيه، ولا نحن قادرون من الناحية المالية على الأقل، على أن نُواجِهَ ذلك الكم الهائل من التلاميذ والطلاب، مواجهة نحتفظ فيها بارتفاع المستوى، وهكذا قُلْ في كثيرٍ من جوانب حياتنا.
وكذلك إذا وجَّهنا أنظارنا إلى البلاد المُتقدمة، فلا أظننا واجِدين أعمالهم «دائمًا» متطابقة مع أقوالهم، وإلا لما رأينا الحُكم متداولًا بين الأحزاب، فيحكم أصحاب اليمين مرةً واعدين بأشياء لا يُحققونها، ثم يتولَّى بعدهم الحكم أصحاب اليسار، وبدورهم يعِدون بأعمال يعجزون عن إنجازها وهكذا دواليك.
لكنني بعد هذا التحفظ، لا بدَّ أن أوافق صاحب السؤال على أن البلاد النامية تكثُر فيها المفارقات بين القول والعمل، بدرجةٍ لا نراها في البلاد المُتقدِّمة، ولهذه الظاهرة عِلتان رئيسيتان، إحداهما يمكن أن تفتقر لحُسن النية التي يغلب أن تكون كامنةً في نفوس العاملين، وأما الأخرى فلا وجه فيها لمغفرة. ولشرح ذلك نقول: إن ما يُسمَّى بالبلاد النامية، هو نفسه البلاد التي ظفرت بحُريتها واستقلالها منذ عهود قريبة، فحدث في كل بلدٍ منها أن تولَّت الحُكم فيه حكومة من أبنائه، بعد أن كان الحُكم قبل ذلك في أيدي أجانب غاصبين. فماذا وجد الحُكام الوطنيون؟ وجدوا شعبًا محرومًا من حقوقه، محرومًا من إشباع حاجاته الضرورية من تعليم وصحة وعمل، ومحروم من العيش على مستوًى اقتصادي معقول. فكان لا بدَّ لهؤلاء الحُكام الجدد أن يُسرعوا بإشباع جانبٍ من تلك الحاجات بقدْر المستطاع، لكن أقلَّ قدرٍ من ذلك الإشباع كفيل بأن يبتلع الجزء الأكبر من الإنتاج، فيرى المسئولون أنفسهم بين اثنتين: فإما أن يواصلوا إشباع الحاجات لمن حُرموا منها أعوامًا طوالًا، فيتبخَّر الناتج كله في غمضة عين، ولا يبقى بين أيديهم فائض يُضيفونه إلى تنمية الإنتاج، وإما أن يُقيدوا الإنفاق على سدِّ حاجات الجماهير التي طال حرمانها، فيفتئتون بذلك على فكرة العدالة الاجتماعية. فضلًا عن تعرُّضهم لسخط هؤلاء الجماهير أنفسهم. بعبارةٍ أخرى، فإن الحكومات الوطنية سرعان ما تجد نفسها قادرة إما على كفاية الإنتاج، وإما على إشباع حاجات الناس. ولمَّا كان كِلا الجانبين مطلوبًا، بغضِّ النظر عن تعذُّر التحقيق، أو حتى عن استحالته، اضطرت تلك الحكومات الوطنية في البلاد النامية أن تَعِد بما لا تُحقِّقه، وذلك بأن تعِد الناس بالجانبين معًا وهو مُحال.
وفي مواجهة هذه المفارقة في حياة الدول النامية بعد استقلالها، رُفع شعار ينادي بما أسموه بالمعادلة الصعبة. وكان المقصود بها هو أن تحاول الحكومات الوطنية الجديدة، التماس خطٍّ يُحقق أكثر ما يمكن من آمال الشعوب المحرومة (لأن تحقيقها كلها مُحال إذا أردنا تنمية الإنتاج) ويحقق في الوقت نفسه أكثر ما يمكن من التنمية الإنتاجية (لأن التنمية بالدرجة الواجبة مُستحيلة إذا أردنا أن نُشبع شيئًا من حاجات المحرومين) لكن شعار «المعادلة الصعبة» عسير، مما يُجبر المسئولين إجبارًا أن يقولوا (أحيانًا) ما ليس يفعلون، لا عن كذبٍ أو قصور أو خيانة، بل عن ضرورة ألزمتهم بها طبيعة الموقف الذي يواجهونه، وذلك هو ما قلتُ عنه إنه خطأ مُغتفر لما ينطوي عليه من حُسن النوايا.
لكن هنالك هوة أخرى بين القول والعمل في البلاد النامية لا سبيل فيها إلى غفران، وتلك هي أن من تئول إليهم مقاليد الحُكم بعد إخراج المُستعمر الخارجي، أو إبعاد المُستبد الداخلي، قد تذهلهم السلطة التي جاءت إليهم فجأة، بكل ما يتبعها من مكاسب، فتأخُذهم خشيةَ أن يكون هذا «العز» المفاجئ مصيره إلى زوال مفاجئ أيضًا (وأنا أتكلَّم هنا عن حالة شائعة في البلاد النامية)، فيُحاولون جمع أكثر ما يمكن جمعه، وفي أقصر مدة مُمكنة، قبل أن يُباغتوا بأحكام القدَر. ومن هنا تراهم يقسِمون حياتهم قسمَين: أحدهما في العلَن، والآخر في الخفاء، فيبشرون بكل ما يطيب وقعه على الأسماع، لكنهم من وراء ظهر المجتمع يكنزون ويكدِّسون، وما دام المعيار الخُلقي قد ازدوج بين خفاءٍ وعلانية، تحتَّم أن يسُود الحياة نفاق يخلق الهوة العميقة التي تفصِل بين القول والعمل.
ذلك عن أحد السؤالين اللذين ألقى بهما السائل في رسالته، وأما عن السؤال الثاني الذي يسأل عن العِلة التي من أجلها تجيء حلول المشكلات في البلاد النامية مؤقتة، ذلك إذا لم تجد نفسها في طريقٍ مسدود لا يُقدِّم حلولًا، لا دائمة ولا مؤقتة، بينما نلاحظ في البلاد المُتقدمة ضربًا آخر من التناول، يؤدي بتلك البلاد إلى حل مشكلاتها على نحوٍ يكفل لها مزيدًا من التقدُّم.
والعلة — يا سيدي — التي لا علة سواها، هي في منهج التفكير الذي يتناول به الناس حل مشكلاتهم، فبينما ذلك المنهج في البلاد المُتقدِّمة هو أقرب شيءٍ إلى مناهج التفكير العلمي، بكل ما يقتضيه ذلك التفكير من دقةٍ في الإحصاءات ودقة في استدلال النتائج من المُعطيات، تجد الطريقة في البلاد النامية يغلب عليها المزج بين علمٍ وعاطفةٍ، وبين صدقٍ وكذب. فمثلًا لا يبعُد في البلاد النامية أن نضع مقياسًا على أساسٍ من قدرة الطالب على التحصيل، ثم ترانا نسرع إلى «الاستثناءات» العاطفية الخالصة، كأن نقول: إن لأولاد الشهداء الحق في تجاوز المقياس، وبهذا يلتحِق بكلية الطب مثلًا من ليست له القدرة على دراسة الطب، بل وقد يقع البلد النامي في أخطاءٍ أفدح — صدورًا عن عاطفة — كأن يتمنَّى لنفسه ما ليس في وسعه فيتمنَّى أن يتساوى مع البلاد الغنية والمُتقدمة في بعض مظاهر الحُكم، في إقامة مشروعات لا قِبَل له بها، أو غير ذلك مما كان التفكير العلمي ليأباه لو احتكمْنا إليه. واختصارًا فإن الفرق بين البلاد النامية والبلاد المُتقدمة في معالجة مشكلاتها، إنما يكمُن في التزام المنهج العلمي أو التفريط فيه.
وأشعُر هنا بضرورة إضافة عامل آخر، وهو أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في البلاد النامية ليست مُتشابهة كل التشابُه مع تلك العلاقة في البلاد المتقدمة، فبينما هناك يكاد يمتنع خوف المحكوم من حاكِمه، فها هنا نجد عكس ذلك، إذ يكاد ذلك الخوف أن يكون هو قاعدة التعامُل، فينتج عن ذلك أن من يُطلَب منه النظر في معالجة مشكلةٍ بعينها، فالأغلب أن يُقدِّم ما يتوقَّع أن يُصادف الرضا عند رئيسه، لا ما يرضى عنه التفكير العلمي المجرد النزيه. وما أكثر ما رأينا سياساتنا الاقتصادية وغير الاقتصادية تنقلِب رأسًا على عقب بين عشيةٍ وضحاها، لا لأن الباطل قد زهق في دقيقةٍ واحدة ليحلَّ محله الحق في دقيقةٍ واحدةٍ كذلك، بل لأن فكرة عند وليِّ الأمر قد حلَّت محلَّها فكرةٌ أخرى.
وما دُمنا نتحدَّث عن العِلم ومنهجه، فهذه فرصة مناسبة لأتناول فيها ما كان أرسله السيد ف. ف. مُسائلًا عن الحتمية والاحتمال في القوانين العلمية، قال سيادته: قلتَ في مقالتكم «مغامرات محسوبة» عند الكلام على المنهج الاستنباطي والمنهج العلمي التجريبي، هذه العبارة: إن صاحب المنهج الجديد يكتفي بما هو مُحتمَل الصواب القابل للتصحيح، فلا ثبات ولا ركون عند نتائج بعينها، يُقال عنها إنها الحق الذي لا يتغيَّر مع الأيام ولا يتبدَّل، فهل معنى هذه العبارات أن العالَم الذي نعيش فيه أصبح خاليًا من الظواهر الحتمية، وأصبح كل شيءٍ فيه احتماليًّا نسبيًّا؟
فإذا قلتَ مثلًا باتحاد الأوكسجين والأيدروجين بنسبةٍ مُعينة، يتكوَّن حتمًا الماء، وإذا تعرض بخار الماء لسطحٍ باردٍ، فإنه يتكاثف ويتحوَّل حتمًا إلى ماء، ودوران الأرض حول نفسها أمام الشمس يؤدي حتمًا إلى تعاقُب الليل والنهار … إلخ، فأين هي الاحتمالية في مثل هذه الظواهر العلمية الواقعية؟
وجوابي على السيد ف. ف. هو أن مفهوم الحتمية عندما كان يُنسَب إلى أحداث العالَم — وبالتالي فهو ينسب إلى القوانين العلمية التي تُصوِّر سلوك تلك الأحداث — إنما كان يتضمن أن الحادثة السابقة تحمِل في طبيعتها الحادثة اللاحقة، بحيث يستحيل استحالةً منطقية أن تحدُث الأولى ولا تحدث الثانية. ولذلك كان أنصار الحتميَّة خلال الفترة التي امتدَّت من عهد نيوتن حتى عهد أينشتين، يتصوَّرون أنه يكفينا أن نُلمَّ بحقيقةٍ حاضرة لنستدلَّ منها كل الماضي وكل المُستقبل بالدقة الرياضية، لماذا؟ لأن الحقيقة الحاضرة إنما هي وليدة حتمية، لما مضى، ووالدة حتمًا لِما هو آت. وحين نقول إن فكرة الحتمية هذه قد فسحت مكانها لفكرة الاحتمالية، فنحن نعني بذلك على وجه التحديد، أن الحادثة اللاحِقة في سلسلة الأحداث، قد جاءت «بعد» الحادثة التي سبقتها، لكن ذلك لا يعني أنها كانت مُنطوية فيها، تمامًا كما نلحظ اطِّراد التتابُع بين دقِّ الجرس في المدرسة ودخول التلاميذ غرف الدراسة، حتى وإن اختلفت الحالتان من حيث درجة الاطِّراد. فإذا قرَّ في أذهاننا جيدًا أن قوانين العلم ترصد «تتابع» الأحداث حيثما شاهدها اطرادًا في ذلك التتابع، نتج عن ذلك نتيجة هامة، وهي أن القانون العلمي قد بُني على ما «شوهد» وما «أجريت» عليه التجارب، فهو بمثابة حكاية تَحكي عما حدث بالفعل، وليس في حكاية الماضي ما يُحتِّم أنه سيطَّرِد حدوثه في المُستقبل كذلك.
فإذا افترضنا أن حادثتَين «أ»، «ب» قد شوهد اطِّراد التتابُع أو التلازُم بينهما، فصيغ قانون علمي على هذا الأساس، فإن أتباع الحتمية العلمية في هذه الحالة يقولون: إنه يستحيل أن تحدُث «أ» إلا وتحدث «ب» بعدها أو معها، بينما أنصار الاحتمالية العلمية يقولون: إن «ب» يستحيل عليها الحدوث إلا إذا سبقتها أو صحبتها «أ»، لكن العكس غير صحيح بمعنى أنه إذا وقعت «أ» فلا ضمان يؤكد حدوث «ب» معها أو بعدها. ونأخذ مثلًا من الأمثلة التي أوردها صاحب السؤال، وهو أنه باتحاد الأوكسجين والأيدروجين يتكوَّن الماء حتمًا، فنقول: نعم إنه إذا كان هناك ماء قُلنا إنه لا بدَّ أن يكون ذانك العنصران قد اتحدا، فاتحاد الأوكسجين والأيدروجين هو نفسه الماء، فكأننا بذلك لا نقول شيئًا أكثر من قولنا إن اتحاد الأوكسجين والأيدروجين هو اتحاد الأوكسجين والأيدروجين. لكننا إذا كنَّا قد عرفنا بادئ ذي بدء أن ثمة أوكسجين وأيدروجين، فوجودهما لا يُحتِّم أن يتَّحِدا ليتكوَّن الماء، إذ قد يظلَّان هكذا عنصرَين مُستقلين أحدهما عن الآخر، ومرة أخرى أقول إن الحتمية في العلاقة بين «أ، ب»، معناها أن وجود «أ» يُحتِّم أن تلحق بها «ب»، ووجود «ب» يحتم أن تسبقها «أ»، وأما الاحتمالية بمعناها أن وجود «ب» يُحتم أن تكون «أ» قد وجدت كذلك، وأما وجود «أ» فلا يُحتم أن تلحَق بها «ب»، إذ قد تلحق بها أو لا تلحق بها.
وإذا راجع السيد ف. ف. كل أمثلته التي أرسلها إليَّ في رسالته، والتي اكتفيتُ بذكر بعضها هنا، وجدها جميعًا تصوِّر تتابُعات في وقوع الأحداث، رصدناها في صورة قوانين، عندما لحظنا اطِّراد حدوثها. وأودُّ أن ألفت نظر سيادته إلى الفرق بين نوعَين نسوي عادةً بينهما، مع أنهما ليسا مُتساويين وهما: الاستحالة بناءً على ما خبرناه في مشاهداتنا وتجاربنا، والاستحالة التي هي استحالة «منطقية». ولنأخُذ واحدًا من أمثلتك، وهو الذي نقول فيه إن دوران الأرض حول نفسها يؤدي حتمًا إلى تعاقُب الليل والنهار، فكأنك تقول بهذا أنه يستحيل أن تدور الأرض (وحتى في حالة توقف الأرض فرضًا عن الدوران، كما قلتَ أنت في جملةٍ اعتراضية) دون أن يتعاقَب الليل والنهار، وهذه — كما ترى — استحالة مبنية على ما قد شاهدناه حتى الآن، لكن ماذا يحدُث لتعاقُب الليل والنهار إذا ما أراد الله سبحانه وتعالى يومًا أن يطمس عين الشمس؟ إن الاستحالة التي تصوَّرتَها يا سيدي، هي استحالة «تجريبية»، وليست هي بالاستحالة المنطقية، وإلا فقارِن ذلك بمثل قولنا: إنه يستحيل على العدد ٢ ألا يجيء سابقًا على العدد ٣ في سلسلة الأعداد الطبيعية، وأنه يستحيل على المُثلث على سطحٍ مستوٍ أن تجيء زواياه غير مُساوية لزاويتَين قائمتين. وهكذا تجد أن الاستحالة المنطقية لا تكون إلا فيما يُسمُّونه بالجُمل التحليلية، أي الجُمل التي تُعيد شطرها الأول في شطرها الثاني برموزٍ مختلفة عن رموزها في الشطر الأول.
ولقد ذكرتُ لك فيما أسلفته جانبًا واحدًا من الجوانب الكثيرة التي دعتْنا إلى القول بأن الاحتمالية في العلوم قد حلَّت اليوم محل الحتمية. ويكفيني هنا أن أُشير إلى مثَلَين آخرَين من مَجالين مختلفَين، لأُبيِّن بهما جوانب أخرى من فكرة الاحتمالية في العلوم، أولهما القوانين الخاصة بالذرَّة من الداخل، أي القوانين التي تضبط لنا حركة الإلكترونات في أفلاكها، فها هنا نجد أنفسنا أمام حركة تحدُث على أسُس ليست هي الأسُس في قانون الجاذبية كما تركه نيوتن (والسيد ف. ف. قد ضرب بقانون الجاذبية هذا مثلًا)، وخُذ مثلًا آخر من مجالٍ آخر، هو اختلاط الغازات أو السوائل حارِّها ببارِدِها، فأظنك تعلم أن الذي يستخلصه العلم في حالاتٍ كهذه، إنما هو مُتوسطات إحصائية لسرعات الذرات المُختلفة، وإذا قُلنا «متوسطات إحصائية» فكأنما قُلنا نتيجة احتمالية، وهذا نفسه تقوله عن أي قانون علمي نبنيه على مقاييس السرعة أو الطول أو الوزن أو أي شيءٍ مما يُقاس، فهنا أيضًا لا مندوحة للعلم عن أخذ متوسطات إحصائية للأرقام المختلفة التي نراها على المراقم، فكلما كرَّرنا العملية القياسية للسرعة أو لغيرها، وجدْنا رقمًا مختلفًا اختلافًا يسيرًا، فيلجأ الباحث العلمي إلى استخراج متوسطات الأرقام المختلفة عن الظاهرة الواحدة المَعينة، وذلك يجعل النتيجة احتماليةً كما ترى؛ لأن كل تقدُّم نُحقِّقه في أجهزة القياس، من شأنه أن يُعطينا أرقامًا أخرى «أدق» من الأرقام التي حصلنا عليها بالأجهزة القديمة. ولقد ذكرتَ أنت في رسالتك شيئًا كهذا.
وإلى السيد ف. ف. أوجه الخطاب، فأقول: إنني تردَّدتُ في أن أجيب على رسالتك؛ لأني كنتُ أعلم أنها ستُدخلنا في تفصيلاتٍ لا يسهل عرضها على القرَّاء، وما دمتُ قد آثرتُ آخر الأمر أن أُجيب هذه الإجابة المُوجزة، فلا بدَّ لي من عتابٍ أتوجَّه به إلى صاحب الرسالة، لسرعة قفزه من مناقشة تدور حول نقطةٍ علميةٍ خالصة، وتمسُّ أُسَس المنهج العلمي، إلى الدخول في موضوعات تخصُّ الدين في بعضها، وتخصُّ السياسة في بعضها الآخر، فاستمع إلى عبارتك التي قلتَ فيها: «العقل يريد يقينًا ثابتًا ثبوت وجود الله الحق، الذي لا يتطرَّق إليه أي ذرةٍ من الاحتمال أو الشك، أفي الله شك؟ كما تقول الآية الكريمة، لا أستبعِد أن يكون علماء مذهب الاحتمال في العلم من الشيوعيين الذين يريدون أن يقولوا للعالَم أجمع في النهاية، وتحت ستار العلم، إن الله يُحتمَل وجوده ويُحتمَل عدم وجوده.»
فيا سيد ف. ف. لقد كنتُ أتوقع من رجل كتب خطابًا في مثل مستوى خطابك من الناحية العلمية ألا يخلِط كما يخلط من هُم دونه بدرجات تخلط بين معانٍ مُختلفات مثل هذا الخلط العجيب، ألا فلتعلم يا أخي أنه إذا كانت حادثات الكون تجري على حتمية علمية، فهي تجري هكذا بمشيئة خالقها سبحانه وتعالى، وإذا كانت تلك الحادثات تجري على احتمالية علمية فهي كذلك أيضًا بمشيئة خالقها سبحانه وتعالى، وأقول «حتمية علمية» و«احتمالية علمية»؛ لأن الحتم والاحتمال هنا مقصوران على ما يستطيعه «علم البشر»، وأمَّا «علم الله» بما خلق فشيءٌ آخر ولا دخل في هذا الموضوع لشيوعية وغير شيوعية، اللهم إلا إذا كان مكتوبًا علينا أن نستهوي عامة الجمهور حتى ولو كان الموضوع من أخصِّ خواص العلوم ومناهجها.
وإني لأراه حرامًا علينا أن نتعمَّد الهبوط بأنفسنا لغير داعٍ يوجِب علينا ذلك الهبوط.