مصر هي أنت يا صديقي
عدت من سفرٍ دامَ معي شهرين، ابتغيتُ فيه الراحة والعافية، فزارني فيمن زارني أقرباء وأصدقاء، ولم يكدْ يبدأ حديثنا في كل لقاء، حتى ينعرج به المتحدِّث نحو شكاةٍ منه صارخة بما آلتْ إليه مصر، انهارت مصر، انتهت مصر. هكذا كان القول على كل لسانٍ ممَّن تحدَّثوا، مهما يكن الموضوع الذي يبدأ به الحديث. فقد يبدأ الحديث بأطرافٍ من حياتنا الفكرية والأدبية، أو قد يبدأ بالأسعار وكيف طارت في السماء، أو بغزو لبنان وقمَّة فاس، أو بما شئتَ مما تدور به أحاديث الناس، وهي مُرسَلة بغير تكلُّف. وكانت تلك النغمة اليائسة هي نفسها التي سمعتُها على أوتار المصريين المُغتربين الذين شاءت لي الصدفة أن ألتقيَ بهم خلال رحلة الشهرين.
كنتُ أحيانًا أحسُّ الإخلاص والصدق في تلك الأحاديث، كما كنتُ — أحيانًا أخرى — أحسُّ الكذب والزور والبهتان؛ فلقد كنتُ لا أملك إلا أن أُصدِّق مريضًا وجد المهارة في الطبيب المصري مقرونة بإهمال التمريض وقذارة المُستشفى، ولا أملك إلا أن أُصدِّق باحثًا وجد الذكاء في الدارس المصري مقرونًا بألغامٍ مُتفجرةٍ من روح اللامبالاة والتخريب. نعم كنت لا أملك إلا أن أصدِّق أشياء كثيرة سمعتُها؛ لأنني عشتها وعرفتها، لكنني في الوقت نفسه كنتُ لا أملك إلا أن أتَّهم المُتحدِّث بالتجنِّي على الحق، حين أجد التناقُض في موقفه صارخًا، كأن يكون المُتحدِّث أستاذًا أو طبيبًا أو مهندسًا، ممن ارتحلوا للعمل في أقطارٍ شقيقة لمصر أو غير شقيقة، وطفحت جيوبهم بآلاف الدنانير هناك ومئات الآلاف من الدراهم هنالك، وبرغم أنه هو الذي يُمسك لتلك الأقطار بمصباح العلم الذي أخذه من مصر، أو هو الذي يطبُّ للمرضى هناك، أو يُخطط المدن ويقيم العمران، بطبٍّ أو هندسةٍ ذهبتْ معه في حقائبه، تراه يُفاخر بما وجده هناك، ويخجل مما يراه هنا.
وكانت إحدى هذه الحالات العجيبة فيمن تحدثوا إليَّ، هي التي أثارت غَيظي، فانفجرتُ في المتحدِّث قائلًا: يا صديقي إن مصر هي أنت وهي أنا، وهي كل فرد مصريٍ تراه، فإذا أردتَ الحديث عن مصر حديثًا صادقًا مُنزَّهًا عن الهوى، فخُذ مصر بمجموعها، خُذها هنا على أرضها، ثم تعقَّبها حيثما اتجهت، وأينما جُلْتَ في أقطار الأرض، تعقَّبْها في أشخاص المصريين الذين يعلمون ويطبُّون ويهندسون ويُعمرون الخراب، تعقَّبها في شخصك أنت، فالذي تصنعه حيث أنت، وتفاخِرنا بصنعه، إنما هو مصر تجسَّدت فيك بعلمها وأدبها ودماثة طباعها.
لقد انطلقتَ بحديثك — يا صديقي — ترسُم لنا أبشع الصور عن تدهور مصر في هذا، وانهيارها في ذاك، فهل سمعتَ الأسطورة التي تُروى عن ماردٍ جبارٍ كيف عاش دهرًا، ثم انطفأتْ جذوته وتحوَّلتْ رمادًا، فظن أصحاب الظنون أن زمان المارد الجبار قد ولَّى، وإذا به — من الرماد نفسه — تشتعِل جَذوته من جديد. وتلك — يا صديقي — هي بعينها قصة مصر في انهيارها وتدهورها؛ ففي ميدان التعليم — مثلًا — وهو من أكثر الأمثلة دورانًا على ألسنة الناقِدين، هل سمعتَ قبل اليوم في تاريخ التعليم المصري أنَّ عشرات الألوف من طلبة الثانوية العامة يظفرون بدرجاتٍ تزيد نسبتها على التسعين في المائة كل عام؟
قِفْ يا سيدي هنا مُتمهلًا متأمِّلًا، ومُتعقِّبًا بخيالك مصير هذه الألوف التي امتازت على هذا النحو النادر حدوثه في ميادين التعليم أينما كان. إنك مهما بلغتَ من التشاؤم فلن يسعك إلا أن تُقرَّ بأن عددًا ضخمًا من تلك الألوف المُتفوقة سيظلُّ لها تفوقها إلى ما بعد الجامعة، فمن أنقاض التدهور ذاتها، صحا الأفراد صحوةً لم يسبق لها نظير، ثم ماذا؟ ثم يخرج المارد في بعثه الجديد، فيجد الطريق على أرض بلاده مسدودًا إلى حين، فيسافر ليضطلع بما ذكرتُه لك من تعليمٍ وطبٍّ وهندسةٍ وغيرها، لتُعمَّر بجهوده الأرض اليباب. ومن هؤلاء البناة كنتَ أنت يا أخي، فهل نسيت؟ إنني أعلم أنك بعد أيامٍ قليلةٍ ستعود إلى مهجرك، فأرجوك أن تتلفَّت حولك فاحصًا، لترى مصر في أبنائها ماذا تصنع، وكيف تصنعه.
لقد التقيتُ في رحلتي الأخيرة بصديقٍ مصريٍ على درجةٍ ممتازةٍ من الثقافة، فكان بين ما سمعته منه أن الشباب المصري فقد ثقتَه بمصر وثقافتها، هكذا قال صديقي بنبرةٍ تدلُّ على أنه هو أيضًا قد فقد الثقة، فسألته: أحقًّا ما تقول؟ أجادٌّ أنت حين تزعم أن شبابنا قد فقد الثقة بثقافة مصر؟ إنه لو زعم لي ذلك لما صدَّقته؛ لأن سلوكه عندئذٍ يفضح ادعاءه؛ إذ ما هي «ثقافة مصر» تلك التي تتحدَّث عنها وتُوهِمني بأن شبابنا قد أدار لها كتفيه؟ إن ثقافة البلد المُعين إنما هي بأعينها قائمة على أرض ذلك البلد، وارتبطت بها قلوب المواطنين، فليست «ثقافة مصر» هذه سحابة صيفٍ تظهر في السماء حينًا وتختفي، إنما هي في ثوابت رواسخ ضوارب بجذورها في الأرض، تراها العين، وتسمعها الأذن، وتُمسكها الأيدي، فهل أصبح شبابنا اليوم يخجل أن يرى الهرم ومعبد الكرنك ووادي الملوك؟ هل يخجل شبابنا اليوم أن يرى أديرة الزاهدين في الصحراء «ومنها ما كان أول ما عرفته المسيحية في تاريخها من أديرةٍ منذ قرونها الأولى» أم يخجل أن يرى مساجد آل البيت وأولياء الله؟ هل يخجل شبابنا اليوم أن يرى الجامع الأزهر، وأن يعلَم الدور الذي أدَّاه؟ ولندَعْ هذا التاريخ القديم، لنُلقي نظرة عَجلى على تاريخنا الحديث، فبأي المشاعر — يا ترى — يشعُر شبابنا إذا ما ذكرنا أمامه طائفة من روَّاد الثقافة المصرية الحديثة محمد عبده، قاسم أمين، لطفي السيد، طه حسين، عباس العقاد، الدكتور هيكل، أحمد شوقي، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ. بأي المشاعر — يا ترى — يشعر شبابنا إذا شهد تماثيل مختار، ولوحات محمود سعيد، وإذا ما تسمَّع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب؟ وبأي المشاعر — يا ترى — يشعُر شبابنا إذا ما ذكرنا أمامه ثورات عرابي وسعد زغلول وجمال عبد الناصر؟
لا يا صديقي، إن أحدًا من المصريين لم يفقد الثقة في مصر، حتى وإن توهَّم ذلك. لقد سمعت السيدة تاتشر «رئيسة وزراء بريطانيا» تخطُب في قومها لترفع من روحهم المعنوية، فكان مما قالته، إن بريطانيا تفخر بأشياء كثيرة، وأخذت تضرب لهم الأمثلة، فكانت كلها مخترعاتٍ علمية، كالثلاجة وطائرة الكونكورد وما أشبه ذلك، فسألتُ نفسي وأنا أسمع: ماذا تقول عن مصر إذا ما كنتَ لتخاطب الناس ذاكرًا لهم مآثرها الحديثة، ودع عنك مآثر عدة آلاف من السنين. وأجبت لنفسي جوابًا رضيتُ عنه بعقلي وبقلبي معًا. إنني أقول إن مصر — أيها السادة — هي التي استطاعت بثورتها الأخيرة أن تبث روح الثقة بالنفس بين الفئات العاملة. كان الفلاح، وكان العامل يكاد لا يشعُر لنفسه بكرامةٍ أمام صاحب الأرض أو صاحب العمل، كانت العلاقة بين الطرفَين علاقة الأعلى بالأدنى، علاقة السيد بالمسود، فأصبحت — على الأقل — علاقة ندَّين مُتعاقدَين، إن لم يكن للعاملين فوق الآخرين درجة، فكان انقلابًا ما كان ليتحقق بغير ثورة، ولك أن تعده صفحة من صفحات الثقافة المصرية المُعاصرة.
ومرة أخرى أسأل: أصحيح أن شبابنا قد فقد الثقة بثقافة مصر؟ إنه لو كان قد فعل، لتنكَّر لأهم الخصائص التي جعلت المصري مصريًّا، وفي مقدمة تلك الخصائص «الشعور الديني»، فمصر هي أقدم بلدٍ في الدنيا بأسرِها امتلاءً بذلك الشعور الديني، ومن طول المدة التي أُشرِب فيها المصري بوجدانه الديني، أصبح ذلك الوجدان جزءًا من كيانه، يُلازِمه مُلازمة اللون الأسمر لجلده. وإنني في هذه المناسبة من سياق الحديث، لأكاد أزعم بأن الصفة التي تُميز الإنسان من حيث هو إنسان، هي صفة التديُّن، فلقد شاع بيننا أن العقل هو ما يُميزه، لكن هذا «العقل» إذا ما حللناه إلى آخر المدى، وجدْنا منه جانبًا كبيرًا مشتركًا بينه وبين سائر الحيوان، وأما الصفة التي لن تجد منها ذرَّةً عند حيوان فهي صفة التدين، وإنها لصفة أغزَرُ في المصري منها في أي إنسانٍ آخر، ولئن كنتُ قد ألححت جهدي — وما زلت ألح — على ضرورة اهتمامنا بالجانب الفعلي من حياتنا؛ فذلك لأنه تضاءل إلى حدٍّ مُخيفٍ، ثم أعود فأسأل: هل رأيتَ شبابنا يتنكَّر لهذه الخاصة من مصريته؟ اللهم لا. فما الذي حرك ألسنة البُهتان والزور بهذه الأكاذيب عن مصر، تتدفَّق في أحاديثهم بعضهم لبعض، وفيما يُذيعونه ويكتبونه؟ إنه شيءٌ واحدٌ لَعين، هو «الحالة الاقتصادية»، وليس هو بالشيء الذي يُستهان به، فالناس — قبل كل شيء — تُريد الطعام والثياب والمأوى.
ولكننا نخلِط الأمور خلطًا فاحشًا إذا ما خلطْنا بين «قيمة» الإنسان من حيث هو كائن ذو تاريخ حضارةٍ وعلم وأدب وفن ودين، من جهة، ومقدار المال الذي يحمِله في جيوبه من جهةٍ أخرى، فالغنى والفقر يتناوبان فيظهر أحدهما ويختفي الآخر في مرحلة، ثم يختفي الظاهر، ويظهر المُختفي في مرحلةٍ تالية. إن حدثًا واحدًا كاكتشاف البترول قد بدَّل الأمر بين عشيةٍ وضحاها في أصقاعٍ كثيرةٍ من الأرض، كانت أفقر الأصقاع بالأمس فباتت أكثرَها ثراء. والعكس صحيح أيضًا، فقد يتحوَّل البلد المُوغِل في ثرائه، بلدًا فقيرًا نتيجة الحرب أو لِغيرها من عوامل التحول، أما صفة التحضُّر فليست مما يُولَد في يومٍ وليلة.
ألا ما أسرع الإنسان إلى الوقوع في الخطأ عندما تختلِط عليه الصفات ويتشابه البقر، فعندئذٍ قد تبدو في عينيه دماثة المتحضِّر ووداعته وعذوبته، ذلةً وخنوعًا، ومن أراد أن يعلم عن المصري في وداعته الظاهرة أهي ذلة أم هي دماثة خلق، فعليه أن يُحلل ثقافة المصري تحليلًا أعمق وأدق، ليُميز فيها بين ما يعدُّه المصري هامًّا في حياته، وما يعدُّه أمرًا عابرًا قليل الخطر. ومن أهم المهم في ثقافته: عقيدته الدينية، وانتماؤه الأسري والقومي، فها هنا إذا ما أُصيب المصري بسُوء، رأيتَ أي أسدٍ هصورٍ قد انبثق من جلد ذلك الدمث الوديع.
أما بعد، فلقد كنتُ من أشد الناقدين نقدًا للقيم كما هي سائدة اليوم في مصر، ومن شاء فليقرأ كتُبي «جنة العبيط» و«شروق من الغرب» و«الكوميديا الأرضية» وغيرها، لكنه نقدُ صاحبِ البيت الذي يعرف للسجادة النفيسة نفاستها، فيثور بالغضب إذا ما رآها قد تعفَّرت لغفلة حرَّاسها.