لك أنت الولاء يا مصر
لا بدَّ لي من أن أضع بين يدي القارئ مقدمات، تُمهِّد له الطريق إلى الفكرة التي أنوي عرضها، فهي على بساطتها من الوجهة النظرية، تراها من الوجهة الواقعية مُعقدة الأطراف مُتشابكة الخيوط، وعندما خطر لي أن أكتب فيها — لِبالِغ أهميتها في حياتنا — حاولتُ أن التمِس إليها سبيلًا مُمهَّدة تُيسر وصولها إلى عقل القارئ وقلبه، فلم أجد سبيلًا، فأويت إلى فراشي، قائلً لنفسي: اترك أمرها حتى الصباح، فالصباح رباح كما يقولون، لكن أمرها لم ينتظِر حتى الصباح كما أردتُ له، بل عاجَلَني في نومي حلمًا مُنسقًا واضحًا، لا يحتاج منِّي عند اليقظة إلا إلى أن أُثبِّت صورته على الورق، وتلك هي أولى المُقدمات التي قلتُ إنه لا بدَّ لي من أن أضعها بين يدي القارئ.
فأحلامي ليست كلها أضغاثًا، ولا أُبالغ إذا قلتُ إن كثرتها الغالبة صور مُتماسكة ناصعة، حتى ليجوز لي القول بأن حياتي الفكرية والعاطفية مُقسَّمة بين يقظة النهار ورؤى الليل، ولَطالَما تمنيتُ أن أسجل في ساعات الصحو ما أراه في أحلام النوم، لكنني قلَّما فعلت، ولأن تلك هي حقيقتي، لم أجد عسرًا في فهم ما يقوله ماثيو آرنولد — الشاعر الإنجليزي — عن طبيعة الشعر، إذ يقول: إن طبيعته هي نفسها طبيعة الأحلام، فالأحلام تُجسِّد المعاني في رموزٍ كما ينبغي للشعر أن يفعل، والأحلام تُقيم بقوة الخيال تركيبة ليست هي التي نراها في الواقع الصاحي، لكن بينها وبين هذه الواقع موازاة يستطيع «التأويل» كشفَها، وهذا هو نفسه ما يحدُث للتركيبة الشعرية إذا ما تناولَها ناقد قدير. ولقد اعترف ماثيو آرنولد بأن شعره كله هو من هذا القبيل، فهو يرى الحلم الناصع المُتماسك، بحيث لا يبقى عليه إلا أن يُهذِّب أطرافه بعض التهذيب، عندما يَصبُّه في الإيقاع الشعري.
وعلى أية حال، فليس لي شأن بماثيو آرنولد وحقيقة شعره، فسواء أكانت كما وصفها أم لم تكن، فإن هذه هي حقيقتي مع أحلامي التي كثيرًا جدًّا ما تجيء بناءات صُلبة مُتسقة واضحة ناصعة الوضوح برموزها، حتى لكأني أعيش في حياتي حياتَين، ومن تلك الأحلام القوية الجلية الدالة، ما رأيته عندما أويتُ إلى فراشي يائسًا من أن أجد سبيلًا مُيسرة لعرض الفكرة الشائكة التي أشرتُ إليها في مُستهل هذا الحديث، فهناك في عالم الأحلام جاءني الحل.
وأما الفكرة التي أعنيها، فهي فكرة «الولاء» ما هو على وجه الدقة؟ ولِمَن يكون؟ وكان الذي أثار السؤال في نفسي صورة شهدتها في التليفزيون لجماعةٍ من الشباب، تهتف بالفداء بأرواحها ودمائها «ولاءً» لمن تفتديه بتلك الأرواح والدماء. والحق أني شعرتُ وقتئذٍ أن في الصورة شيئًا يُثير القلق، ويتطلَّب التصحيح. ولعلِّي لم أقع عليه مُحددًا واضحًا، وإنما هو مجرد شعور سَرى في نفسي لحظتها بأن شيئًا ما يريد التصحيح. وهنا تركتُ الأمر — كما قلت — للصباح الرباح، وأسلمتُ نفسي للنعاس، والحمد لله على ما أنعم به عليَّ وهو كثير، منه أن النعاس عندي مناله قريب، لا أكاد أضع رأسي على وسادتي، حتى أعبُر العتبة إلى العالَم المسحور، وأُوشك ألا أعرف الأرق إلا سماعًا مما يقوله عنه الآخرون.
ودخلتُ ليلتها ذلك العالَم المسحور — عالم الأحلام — فارتسمتْ لي اللوحة ناصعة، وكان بطلُها سقراط، وها هنا يأتي موضع المُقدمة الثانية التي أشعُر أنه لا بدَّ من تقديمها بين يدي القارئ، لأُمهِّد له سبيل مشاركتي فيما أنا بصدد عرضه عليه، فقد لا يكون القارئ على علمٍ كافٍ بذلك الفيلسوف اليوناني القديم، فأحب له الآن أن يعرف عنه بعض جوانبه، قبل أن أحكي له قصة الرؤيا التي رأيتُها في الحلم، والتي كان سقراط بطلها ومحورها.
والذي أريد للقارئ أن يعرفه الآن عن سقراط، أمران: أولهما أنه كان كلما دفعه حُب المعرفة إلى أن يعلم حقيقة ما، لجأ إلى المُختصين بها ليلتمِس عندهم معرفة ما أراد أن يعرفه، لكنه في كل مرةٍ كان يرجع خائب الرجاء، فافرض — مثلًا — أنه أراد أن يعرف شيئًا عن حقيقة الفن، فقد كان يتجه إلى من عُرف عنهم الاشتغال بالفن، فيسألهم، وإذا هم بعدَ قليل من مُحاورةٍ بينه وبينهم، يتبيَّن — له ولهم — أنهم لا يعلمون عن حقيقة الفن شيئًا. وهكذا أخذ الفيلسوف يقضي أيامه، باحثًا عند المُختصين عن حقائق المعاني التي ما تنفكُّ ألسنتهم تلُوكها، والتي يزعمون أنهم العارفون بها ظاهرًا وباطنًا، فإذا هو أمام من هُم أشد جهلًا منه بما ادَّعَوا الإلمام به والتخصُّص فيه.
ذلك أحد الأمرين اللذين أردتُ للقارئ أن يعرفهما الآن عن سقراط، وأما الأمر الثاني فهو أن ذلك الرجل إنما يحتلُّ في تاريخ الفكر الإنساني مكانًا استراتيجيًّا خطيرًا؛ لأنه جاء إلى الناس ومعه منهج جديد، يُراد به أن يتحوَّل الحديث عن الإنسان وحياته، من الغموض العائم إلى الدقة العلميَّة التي تُشبه دقة الرياضة، فلا يكفي مثلًا أن يقول القائل كلمة «تقوى» بل لا بدَّ له أن يُحدِّد لنا ما هي، على نحوِ ما يُحدد معنى المُثلث في الرياضة، بأنه سطح مستوٍ مَحُوط بثلاثة خطوطٍ مُستقيمة (ولقد ضربتُ مثل «التقوى»؛ لأنه كان بالفعل موضوعًا للمحاورة بين سقراط ورجل ادَّعى لنفسه معرفة معناها بالدقة العلميَّة التي كان ينشدها سقراط)، وإني لأُصارح القارئ — في هذه المناسبة — بأنني ما تمنيتُ شيئًا لحياتنا الفكرية الراهنة، بكل جوانبها السياسية والاجتماعية والثقافية، أعزَّ وأهمَّ من أن يجد الناس من يُلزمهم بالتحديد الواضح الدقيق لكل ما يعرضونه من أفكارٍ في ميادين الشئون العامة، إذ لو سئلت: ما هي العلة الأولى في حياتنا الفكرية تلك؟ لأسرعتُ بالجواب قائلًا: هي جهل الناس بحقائق المعاني التي يتداولونها زاعِمين لها الوضوح، وربما كان مثل هذا العوم في بحرٍ من الغموض، شبيهًا بما وجده سقراط في أهل أثينا، فأراد أن يُنبه إليه الأذهان. ولنا الآن بعد أن فرغنا من هذه المقدمات، أن ننتقل إلى ما وافتْني به الرؤيا، عما كان يشغل خاطري ليلتها، عندما سمعتُ هتاف جماعات الشباب باستعدادهم للتضحية بأرواحهم ودمائهم في سبيل «الولاء»، فكان أن سألتُ نفسي: الولاء ما هو؟ والولاء لمن؟
رأيتُني في الحلم جالسًا تحت عريشةٍ على شاطئ النيل، وكأنما المكان هو نفسه الموقع الذي عرفته في قريتنا وبه «زاوية» للصلاة، خلال طفولتي وصدْر شبابي، وكان معي تحت العريشة ثلاثة أشخاص، كان أحدُهم هو نفسه سقراط الذي أعرف صورته بعينيه الجاحظتَين وأنفه الأفطس، وأما الآخران فشابَّان يبدو أنهما طالبان، وكنا نحن الأربعة نجلس على حصيرةٍ فُرشت بها الأرض، وكان الوقت بعد الغروب بقليل، ولا أدري متى وكيف التحقتُ بتلك المجموعة؛ لأنني لم أذكر الحلم إلا والحوار بين الثلاثة قد انقضى أوله، وأخذ في مرحلته الوسطى، وفيما يلي ما وعَتْه ذاكرتي مما دار به الحديث، على أني جلستُ خلاله صامتًا، ولم يعترض منهم أحد على هذا الصمت المُنصت:
إن سرَّ الولاء هو أن الفرد الواحد يشعر من عُمق وجدانه أنه لا يستطيع العيش وحدَه فريدًا في هذا الكون الفسيح، ويريد أن يجد «آخر» يتَّحِد معه ليُوسِّع من وجوده، فإذا وجد هذا «الآخر» تمسَّك به وأخلص له، ومن هنا كان الولاء ضرورةً حيوية لكل ما من شأنه أن يجعل وجودنا أغزر معنًى، وأوسع نطاقًا، وأدوَمَ بقاءً، فالولاء يكون لله سبحانه وتعالى؛ لأنه مالك يوم الدين، والولاء يكون للوطن الذي بغيره ينعدِم أهم أركان الهوية في هذه الدنيا، والولاء يكون لأي مجموعةٍ تُمثل فكرة لها دوام، وأنتمي إليها، عضوًا فيها، وعاملًا مع غيري على تحقيق تلك الفكرة، ولكن قلَّما يكون للولاء معنًى إذا تعلق بفردٍ آخر، بحيث أفنى أنا ليبقى هو من ذاته، فحقيقة الولاء كما تريان، هي في أن يبقى الفرد بقاءً أقوى وأفضل وأنفع. وليست حقيقته في أن يفنى ذلك الفرد الذي يُعلن ولاءه. ويبدو لي أن لكل فردٍ في المجتمع ضربَين من الولاء: فولاء للهدف الذي من أجله تعيش مجموعته الصغيرة، كالأسرة، أو الشركاء في عملٍ مُعين، وولاء آخر يشترك فيه جميع المواطنين. في الحالة الأولى يكون المطلوب هو ألا يتعارَض إخلاص الفرد لأهدافه الخاصة، مع ما يسعى إليه الوطن كله من أهدافٍ مُشتركة، وفي الحالة الثانية يكون الولاء موجهًا في حقيقته إلى الوطن في دوامه، لا إلى أفرادٍ بأعينهم، إلا بقدْر ما يعمل هؤلاء الأفراد على دوام العزة للوطن.
وهنا انتقل بي الحلم فجأة إلى مكانٍ آخر وظروفٍ أخرى، إذ وجدتُني واقفًا في صحن دارنا الريفية، وكان الوقت ما يزال بعد الغروب بقليل، وغسق المساء أخذ في التسلل بخيوطه السوداء، ونظرتُ حولي وأنا في صحن الدار، فلم أرَ إلا مقاعد وأرائك تناثرت هنا وهناك في غير نظامٍ، وكنتُ عندئذٍ مُرتديًا من الثياب ما لم أتعوَّد ارتداءه في حياة اليقظة، إذ كنتُ ألبس جلبابًا أبيض وفوقه عباءة سوداء، وعلى رأسي طاقية من الصوف، وما لبثتُ حتى سمعتُ صوتًا لم أتبيَّن مصدره يقول لي: طلَّابك ينتظرون في الطابق الأعلى، فصعدتُ السُّلَّم القديم، وفي بهو الطابق الأعلى، وهو نفسه البهو الذي ألِفتُه طفلًا وشابًّا مع تعديلٍ طفيفٍ وجدتُ الطلاب يتحلَّقون في دائرة، وكانوا جلوسًا مُتربِّعين على الأرض المفروشة بالحصير وبالكليم، يرتدون جلابيب ناصعة البياض، عُراة الرءوس، وقد عهدتُهم في حياة الصحو في ثيابهم الإفرنجية المألوفة، فجلستُ في الثغرة التي تركوها لي خالية، وبعد ثوانٍ صامتة، بسملتُ وبدأت الدرس قائلًا: كنَّا نتحدَّث في المحاضرة السابقة عن الولاء للوطن، وقد حدَّدنا معنى الولاء بأنه دمج الذات الفردية في ذاتٍ أوسع منها وأشمل، ليُصبح الفرد بهذا الدمج جزءًا من أسرة، أو من جماعة، أو من أمة، أو من الإنسانية كلها، ولكن هذا الدمج إذا صدر عن إيمانٍ وإخلاص، وجب على الفرد أن يَحميه حتى وإن اقتضى الأمر تضحيةً بالروح، هذا ما كنَّا نتحدَّث به في المحاضرة السابقة. وموضوعنا اليوم هو النظر في الحالات التي تتعدَّد فيها الولاءات. فماذا نحن صانعون إذا تعارض ولاء وولاء، كأن يتعارَض في موقفٍ مُعينٍ ولاء الفرد لأُسرته وولاؤه لأمته؟ وجوابنا على ذلك: هو أن أساس التصرُّف في حالاتٍ كهذه، هو أن نختار الطريق الذي يُتيح للفرد تكامُلًا في شخصيته بدرجةٍ أعلى، فهل يكون إنسانًا أكمل إذا هو انتمى إلى أسرةٍ قويةٍ وأمةٍ ضعيفة، أو إذا انتمى إلى أسرةٍ ضعيفةٍ في أمةٍ قوية؟ وأظنُّ الإجابة هنا تكاد تُملي نفسها، وهو أن البديل الثاني أفضل وأكمل وأسمى من البديل الأول، وعلى هذا الضوء يا أبنائي أترك لكم الجواب عن هذا السؤال: أيكون الولاء، والتضحية بدمائنا وأرواحنا لمصري أم لمصر؟
فجاء جواب الشباب فيما يُشبه الصوت الواحد: إنما الولاء لمصر. وكان صوتهم عاليًا كأنه هتاف فصحوت، والمشكلة التي شغلتني ليلة أمس قد وجدتُ حلَّها.