تربية الضمير الديني
قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ أحدية الذات الإلهية هي من رسالة الإسلام في صميم الصميم، وإن الإنسان المُسلم لَيَبلُغ من إسلامه بمِقدار ما تمثل وحدانية الله إيمانًا، وفكرًا وشعورًا، فأُولى الدرجات أن يردِّد لفظها بلسانه وشفتَيه، ويتلو ذلك صعدًا أن يغوص بفِكره في معناها، وإلى هنا يظلُّ في مرحلة التعلم، فالمُعلم يُلقنه: قل هو الله أحد، فيُردِّدها المُتعلم مرةً أو مرَّتَين أو ألف مرة، ثم يشرح له المُعلم معناها، فيعي المُتعلم ما شرح المُعلم، فهذا المُتعلم — إلى هنا — قد حفظ، ووعى معنى ما قد حفظ، لكنه لا يدري ماذا «يصنع» بما قد حفظ ووعى، وعندئذٍ تأتي الخطوة التربوية على أيدي والديه ومُعلميه أو عن طريق تأمُّله هو في ذاته إذا أراد الله له خيرًا وهُدًى، وذلك بأن يتحوَّل المعنى المحفوظ والمعلوم إلى «ضمير»، فكيف يكون ذلك؟
ما نُطلق عليه اسم «الضمير»، هو ما استخلصناه لأنفسنا ممَّا وعيناه وعِشناه. ولقد استخلصناه إما من خبراتنا نحن المباشرة أو مما علَّمنا إيَّاه آباؤنا ومُعلمونا «فأضمرناه» في نفوسنا لنحمِله معنا أينما توجَّهنا، فنكون بمثابة من حمَلَ معه دليلًا هاديًا يُرشده إلى سواء السبيل إذا ما أشكل عليه الأمر في موقفٍ من مواقف حياته. وإذا قُلنا عن أحدٍ إنه بلا ضمير، فإنما نعني أنه لا يملك في حافظته ما يُبين له حدود الصواب والخطأ، فقد يُصيب وهو لا يدري أنه الصواب وقد يُخطئ وهو لا يدري أنه الخطأ.
فما هو المبدأ الذي يستخلصه المُسلم من أحدية الله سبحانه وتعالى، بحيث يُضمره في صدره؛ ليكون مَرجِعه في مسالك حياته؟ كيف نُحوِّل عقيدة التوحيد — بالتربية — إلى «ضمير» يكون به المُسلم مُسلمًا فيما يدَعُ وما يختار إذا ما كان في موقفٍ جديدٍ لا عهد له به، ولم يحفظ له فيما حفظ حُكمًا معيَّنًا واجب التنفيذ؟ إنه لو كان الإنسان مخلوقًا وليس في قُدرته إلا أن يسير ويسلك على صورةٍ مُعينةٍ مغروزةٍ في فطرته لَما كان لسؤالنا هذا موضع، فنحن لا نسأل عن السمكة أو الطائر أو القط على أي مبدأ كامنٍ في نفسه يختار ما يختاره، ويترك ما يتركه؛ وذلك لأنه أساسًا لا يختار، فلا يسَعُه بحُكم طبيعته إلا أن يفعل ما يفعله، وينصرف عما ينصرِف عنه. لقد رُفع عنه بحُكم فطرته عبء الاختيار وتبِعاته، فإذا كان قد استراح من ناحية، فهو من ناحيةٍ أخرى لا يعرف نعمة أن يكون حُرًّا في الاختيار بين البدائل المطروحة. أما الإنسان فله هذه الحرية ونعيمها، ولكنه كذلك يدفع عنها ثمنًا باهظًا، وهو أن تقع عليه التَّبِعة إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. وقد تكون هذه التفرقة الجوهرية بين الإنسان وسائر الكائنات، وهي التفرقة التي جعلت الإنسان حُرَّ الإرادة في اختياره، ولكنه مسئول، وجعلت سائر الكائنات مسلوبة الإرادة الحرة، ولكنها لا تحمِل وزرًا، أقول إن هذه التفرقة قد تكون هي ما أشارت إليه الآية الكريمة: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا والأمانة قد تكون هي الإرادة الحرة، وما تَستَتْبعه، ولقد حملها الإنسان ظالمًا لنفسه جاهلًا بفداحة العبء.
المبدأ الذي يدسُّه المسلم في ضميره مُستخلصًا إياه من عقيدته في أحدية الله جل وعلا التي هي رسالة الإسلام ليركن إليه فيهديه عند الاختيار هو أن يختار الفعل الذي يتسق مع غيره في بناء شخصيةٍ موحدة، فاتساق العناصر المكونة للإنسان، بحيث تتعاون تلك العناصر بعضها مع بعض بدل أن تقع في تعارُضٍ وصراع هو بلوغ الكمال. فإذا كان في الإنسان نفس أمارة السوء، ففيه كذلك نفس لوَّامة تعمل على استقامة ما اعوجَّ وانحرف، حتى إذا ما اعتدل الميزان وسكن الصراع الداخلي كان للإنسان بهذه السكينة نفس مُطمئنة ترجع إلى ربها راضية مرضية. تأمَّل شهادة «لا إله إلا الله» التي هي الشرط الأول في إسلام من يُسلم. تأمَّلْها جيدًا تجِدْها منُطوية على أكثر من مفتاحٍ يؤدي بقائلها عن إيمان بصير، إلى ذلك الاتساق الذي يُوحِّد شخصه في رؤية تخلو من صراع دوافعه الباطنية بعضها مع بعض؛ فمن ناحية تتضمَّن الشهادة إثباتًا من الفرد لوجود ذاته حقيقةً قائمة برأسها، وذلك بقوله: «اشهد»، وتتضمَّن إلى جانب ذلك إقرارًا من تلك الذات بوجود ذوات أخرى سواها، فليست هي واحدة وحيدة، بل فرد من جماعة، وإنها هي تلك الجماعة التي يشهد لها إمامها، ثم تتضمَّن إيمان الذات الناطقة بالشهادة، إيمانها بألا إله إلا الله، تلك ناحية، وناحيةٍ أخرى ممَّا يريد منَّا أن نتأمَّل الشهادة في عُمق هو أنها بدأت بالنفي لتُعقِّب عليه بالإثبات، فأولًا لا بدَّ لمن آمن بالله أن يمحو من نفسه كل من عداه، فالشاهد يبدأ شهادته بألا آلهة أخرى هناك، حتى إذا ما أيقن بذلك أعلن إيمانه بالله، ولهذا الترتيب الذي ينفي الباطل أولًا، ثم يؤكد الحق قوة منطقية تُعين الإنسان على التخلُّص ممَّا قد يُعرقل سَيره الثابت المطمئن. ومن هنا رأينا مناهج البحث العلمي تجعل الخطوة الأولى في طريق البحث إزالة الآراء أو النظريات الخاطئة، وذلك بتفنيدها وبيان أوجه الخطأ فيها، ثم تُعقِّب على ذلك بإقامة ما هو صحيح. وذلك يُشبه تحطيم الأصنام أولًا، ثم الدعوة إلى الحق الأحد ثانيًا. إنه إذا ما تكوَّن في نفس المُسلم ضمير دِيني يَستمد كيانه وقوته من الإيمان بوحدانية الله، فهو الحق الذي ليس بجواره باطل، كان ذلك الضمير كفيلًا بصاحِبه بأن يُنقِّي طريقه من الشوك ليبقى له الزهر خالصًا، وكان كفيلًا له بأن يزيل عوامل القلق والتوتر؛ لأن هذه العوامل إنما تنتج عن مُغريات مُتعارضة قد يجد الإنسان نفسه في موقف ينجذِب لهذا وينجذب لذاك في وقتٍ واحد مع استحالة أن يتحقَّقا معًا، فيُحسُّ وكأنه مُمزَّق بين قُطبين، وفي حالةٍ كهذه لا بدَّ أن يكون على بصيرة أي الجاذبين أكثر اتِّساقًا مع بنائه وكيانه فينحاز إليه إنقاذًا لوحدته.
التوحيد الإسلامي هو في أعماقه من ناحية حياة البشر تناسُق في حياة الإنسان الأخلاقية بمعنى أن تنتظِم مجموعة القيم في ترتيب يُبين أيها أولى من أيها إذا ما تعارَضَت في موقفٍ مُعين. ولو أن تنسيقًا كهذا ساد عالَمَنا المُعاصر لتخلَّص من مصادر بؤسه وشقائه، فهو كثيرًا ما يُوصَف بأنه عصر القلق والتمزُّق والضياع بالنسبة للشباب بصفةٍ خاصة. وهذا كله صحيح، وتعليله أن العصر كله يجتاز مرحلةً انتقالية أبهمت فيها المعالِم بين المعروف والمُنكر فلا يدري أحد — على سبيل اليقين — أي النظم هو المؤدي بالإنسان إلى ما هو أفضل. وفي ظني أنه لو جُعلت وحدانية النفس مدار التربية لكان في ذلك شيء من طريق النجاة.
كان قد استوقف نظري عند بعض الفقهاء المُسلمين الأقدمين في تناولهم لأسماء الله الحسنى اختيارهم لطائفةٍ من تلك الأسماء (هي عند بعضهم سبعة والظاهر أنهم ليسوا في ذلك على رأيٍ واحد) على أنها هي الصفات الإيجابية (ليست هذه العبارة من عندي، بل أخذتُها عنهم) وهي القدرة والإرادة والعِلم والحياة والسمع والبصر والكلام. وإذا نحن تأمَّلنا هذه الصفات السبع وجدناها أركانًا أساسية في بنية الذات الإنسانية لو اتَّسق بعضها مع بعض نتجت لنا شخصية سوية. وفي هذه المناسبة أذكر رأي الفقهاء الأقدَمين الذين أشرتُ إليهم، وهو أن الصفات التي تُشير إليها أسماء الله الحُسنى هي صفات لله سبحانه وتعالى مُطلقة لا تحدُّها حدود، وهي أيضًا صفات للإنسان، ولكنها في الإنسان محدودة، وبعد هذه الملاحظة أعود إلى الصفات السبع التي أشرتُ إليها لأقول إن بيت الداء في عصرنا هو اختلال النسبة الصحيحة بين هذه الصفات؛ مثال ذلك أن تُبنى «الإرادة» على غير أساس من «العلم» و«القدرة» أو أن تُقام الحياة على غير وعي إدراكي سليم قائم على السمع والبصر وهكذا.
قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ أحديَّة صمديَّة هما صفتان لله سبحانه، وهما كذلك في حدود مُقيدة صفتان للكون من حيث هو كل واحد مُترابط الأجزاء، فهو كون واحد مهما تعدَّدت ظواهره وكائناته، وهو كون صامد لا ينهار ولا يتفتَّت، وهما كذلك صفتان للحياة من حيث هو تيار مُتصل، ثم هما صفتان ينبغي أن يتميَّز بهما الإنسان الكامل؛ فلكل فرد «هوية» يجب ألا تنقسِم على نفسها وصُمود لا يأذن لتلك الهوية أن تتشقَّق جدرانها أمام الأحداث.
عقيدة المُسلم إذا ما رسخت في صدره ضميرًا يهديه إلى جادة الطريق ضمِنَت له ألا تتعدَّد معاييره الخلقية؛ فمعيار أمام ولي الأمر، ومعيار آخر أمام الناس، ومعيار ثالث يقيمه حين يخلو لنفسه. إذا استطعنا تربية هذا الضمير الديني عند أبنائنا وبناتنا كان ذلك درعًا تحميهم من أن يذلَّ صغيرهم لكبيرهم أو أن يذل فقيرُهم لغنيهم أو أن يذل مَحكوم لحاكم، فكما قال الشريف الرضي في بيتٍ له من شعره الرائع معناه أن من حقَّق أهدافه عن طريق الذُّلِّ فهو المغبون، فما بالك إذا ذلَّ ولم يُحقِّق لنفسه شيئًا؟ والبيت هو لِمن شاء أن يحفظه:
حارس المسلم هو «ضميره» من داخل ما ينفك يُذكره — كلما وجد من أمره عسرًا — أن الله أحد، وأن الله صمد، وأن الله أكبر، والكلام في هذا شرحه يطول ويتشعب ولست أظن أنه مما يُكتفى فيه بمقال.
وهنا أقول إن عندي للقارئ همسة أهمس بها في أذنه، ليعلَم منها ماذا كان الحافز الذي حفَّزني إلى كتابة هذه الأسطر في موضوع يَستحقُّ كتابًا، والحافز هو أنِّي قرأتُ في إحدى الصحف هذه الإجابة الآتية من أحد عُلماء الدين يُجيب بها عن السؤال: هل يجوز في الوضوء المسح على الخُفَّين والجورب؟ فأجاب سيادته بقوله: إن المسح على الخُفَّين جائز من كل حدثٍ مُوجب للوضوء إذا لبس الخُفين على طهارةٍ كاملة، ثم أحدَثَ. ومُدَّته إن كان مقيمًا مسَحَ يومًا وليلة، وإن كان مسافرًا مَسَحَ ثلاثة أيام ولياليها عقب الحدث. والمسح على الخفين يكون على ظاهِرِهما خطوطًا بالأصابع يبدأ من رءوس أصابع الرجل إلى مبدأ الساق. هو جائز في الحدث الموجب للوضوء لا الغسل. وفرض المسح على الخُفِّ يكون بمقدار ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد طولًا وعرضًا، ولا يجوز المسح على خفٍّ فيه خرْق كبير يظهر منه مقدار ثلاثة أصابع من الرجل.
هذه همسة همستُ بها في أذنك أيها القارئ الذكي الحصيف راجيًا ألا تبوح بها عند الجيران، حتى لا يُظَنَّ بنا الظنون في طريقة فَهمنا للدين، ولكنني أُطالبك أنت ومن أحاط بك من الزملاء بأن تحسب على جهاز الحاسب الإلكتروني إذا كانت بين يديك الوسائل كم فرسخًا بين مثل هذا الفهم وفهم آخر يُريد للمُسلم أن يُربي له ضميرًا دينيًّا يهديه إلى لباب اللباب من عقيدته. وعندئذٍ فلا السائل يسأل مثل هذا السؤال ولا المُجيب العالم يُجيب بمثل هذه الإجابة، حتى إن وجدها محفوظة في الخزائن. وهل يحق لنا بعد ذلك بعد أن أصبح محور اهتماماتنا الدينية تفصيلات شكلية عجيبة لا تمس روح الدين وجوهره، ولا تحرك الضمير الديني عند الإنسان من قريبٍ ولا من بعيد، أقول هل يحق لنا بعد ذلك أن نسأل ماذا أصاب شباب المسلمين ليُصبحوا على ما أصبحوا عليه من هزال وضعف وانحراف؟