الشعائر وما وراءها
كنت قد نشرتُ مقالًا بعنوان «تربية الضمير الديني» (الأهرام ٢٦ ديسمبر ١٩٨٢)، وكانت خلاصته هي أن الغاية التي يجِب أن نَستهدِفها من التربية الدينية، هي إيجاد ذلك الضرب من الوجدان الديني، الذي من شأنه أن يَهديَ صاحبه — كلما جدَّ موقف في الطريق — إلى اختيار السلوك الذي يعينه على تكامل شخصيته، تكاملًا ينمُّ عن «وحدانية» تلك الشخصية؛ لأن ما يحقق إسلام المسلم هو — في المقام الأول — أن يُجسِّد في شخصه رسالة الإسلام. و«التوحيد» من تلك الرسالة هو في صميم الصميم. ثم أخذت أوضح في المقال ما كنتُ أعنيه.
فجاءتني رسالة من قارئة، لم أستطع إهمالها؛ لأنها تطلُب مزيدًا من التوضيح، لعلها تجد فيما قُلته مُرشدًا لها في تربية أبنائها. ولقد شعرت عندئذٍ بأنه قد بات واجبًا مُلزمًا، ما دمتُ قد عرضت فكرة تمسُّ حياة الناس، أن أتولى شرحها. والقارئة تستهل رسالتها بقولها: هذه رسالة من أمٍّ تدعو الله في صلاتها دائمًا، أن يُقوِّي الإيمانَ الصادق، والتقوى، في قلوب أبنائها. ومضت صاحبة الرسالة لِتشكو من أن هؤلاء الأبناء لا يستجيبون لها فيما تُريده لهم تجاه حياتهم الدينية استجابة تُرضيها، ثم كتبت تقول: إنني كنت أفكر في كيفية إيقاظ الضمير الديني عند أولادي، عندما لمحتُ لك في الأهرام مقالًا في هذا المجال، وطبعًا تلقَّفتُه بسرعة لقراءته، لعلِّي أجد فيه الحلَّ لِما يهمني، ثم أعدت قراءته، وأعدت قراءته لثالث مرة، وفهمت مضمونه العميق الشيِّق، الذي أعتقد أنه أسلوب عالٍ لا يفهمه إلا طبقة المُثقفين، ومع ذلك فلم أجد فيه حلًّا لمُشكلتي مع أولادي، ولو تكرمت بإتباعه بمقالٍ آخر عن الوسائل الفعالة لتربية الضمير الديني عند النشء. وبوضوحٍ أكثر، أريد أن أعرف كيف أغرس في أولادي بالذات حُبَّ الصدق في كل أفعالهم (وقد وضعَتْ صاحبة الرسالة خطًّا تحت كلمة «الصدق») وضربَتْ مثلًا بأنها إذا كانت ترقُب ابنيها وهما يتوضآن، وكانت هي التي تصبُّ لهما الماء للوضوء، غافَلَها أحدهما فلم يغسل قدَمَيه، وغافلها الآخر فلم يغسل يديه، أما أولهما فقد علَّل فعلته ببرودة الجو، وأما الثاني فقد زعم أن غسل اليدين في الوضوء سنة وليس فرضًا.
وأول ما أضعه بين يدي الأم الفاضلة صاحبة الرسالة، هو أن هذا الذي ذكرَتْهُ عن أبنائها، إنما هو مثل واقعي محسوس، لظاهرة اجتماعية في حياتنا، طويلة عريضة عميقة هي ظاهرة تعدُّد المقاييس الخلقية، فلكل موقف عند الكثرة الغالبة منَّا مِقياسه، فإذا كان الموقف مواجهة بين حاكمٍ ومحكوم، فله مقياس لِما نُفصح عنه وما نُخفيه، وإذا كان الموقف حديثًا بين زَميلَين، تغيَّر المقياس. وهكذا، وليس هنا مكان التحليل والتعليل لهذه الظاهرة كيف نشأت؟ ولماذا نشأت؟ وإذا كانت قد بدأت معنا نفاقًا أيام أن كان الحاكم مُستبدًّا أجنبيًّا، فكنَّا نخشى بأسَه ونتمَلَّقه بما لم نكن نؤمن به في بواطن نفوسنا، فلماذا امتدَّت معنا الظاهرة إلى يومنا هذا، بل ربما تكون قد استفحلت في عشرات السنين الأخيرة؟
إن ما لحظته الأم في أبنائها، قد جاء بالمصادفة ساعة الوضوء، فأظهروا لها جانبًا وحاولوا أن يُخفوا عنها جانبًا هم يعلمون أنها لا ترضى عنه، والأم في هذه الحالة هي «الرقيب» صاحب السلطان، والأبناء هم بمثابة «شعب» يخشى قسوة الرقيب، لكنها ازدواجية خُلقية، هكذا تبدأ في أطفالنا — كائنةً ما كانت المناسبة التي تظهر فيها — ثم تأخذ الزاوية بين الجانب المُعلَن للناس، والجانب الآخر الذي يُضمِرونه في أنفسهم، لا يكشفون عنه إلا للمُخلصين، أقول إن الزاوية بين الجانبين تأخُذ في الانفراج، كلما كبر الطفل، وجاءت له السن التي يُشارك عندها في معمعان الحياة العملية، فعندئذٍ تُعلِّمه الخبرة — في الكثرة الغالبة من الحالات — أن العامل الناجح في مجتمعنا، يكاد يكون شرطه أن يجيء على أساسٍ من تعدُّد المقاييس الخُلقية، فَهُم يُعَدُّون بيننا بألوف الألوف، أولئك الذين يُعلنون أمام الناس شيئًا، ثم يُقيمون حياتهم الحقيقية على شيءٍ آخر، كأن يُعلنوا — مثلًا — تفانيهم في الدعوة للاشتراكية والديمقراطية والمساواة المُطلقة بين المواطنين، يكتبون ذلك في الصحف، ويُذيعونه صوتًا وصورة، ويخطبون فيه من فوق المنابر، حتى إذا ما قفلوا إلى حياتهم الخاصة، داخل بيوتهم وبين أُسرِهم، كانت لهم أهداف أُخرى يُرتِّبون نشاطهم الحيوي على أُسسها، فالاشتراكية تنقلب عندهم سعيًا خبيثًا لاكتناز رءوس المال، التي أصبحت اليوم تُعَدُّ بلغة الملايين بعد أن لم نكن نسمع عن لفظة «الملايين» هذه إلا عندما تتحدَّث الحكومة عن موازناتها السنوية.
أصبحت الديمقراطية عندهم تعاليًا بأشخاصهم على عباد الله ما وجدوا سبيلًا إلى هذا التعالي، فما كل فرد من الناس بقادرٍ على صعود الدرج، وتأبى طبائع الأمور إلا أن تنجح في هذا التعالي قلةٌ قليلة، ليظلَّ الباقون «شعبًا» أو «قاعدة عريضة» أو «جماهير»، أو أي اسم آخر من هذه الأسماء التي يجيدون صياغتها لتكون بين أيديهم جزءًا من أدوات النجاح. وكذلك إذا ما قفلوا إلى ديارهم وبين ذويهم، تبخرت «المساواة» التي نادوا بها كما تتبخَّر قطرات الندى في حرارة الشمس أيام الصيف. وهل أنسى ما حييتُ موقفًا رأيت فيه من ذلك عجبًا، وكان ذلك يوم أن عاد إلى الجامعة نفر ممَّن كانوا وزراء في وزارةٍ بلغت أجلها، فاشترط بعضهم أن تؤثَّث لهم غرف خاصة، وكأنهم ما زالوا وزراء، وغضب أحدهم غضبةً لا بدَّ أن تكون أعنف من الغضبة «المضرية» التي أشار إليها الشاعر القديم، فأنا لا أعرف كيف كانت صورة الغضب في قبيلة «مضر»، لكنني رأيتُ غضبة صاحبنا وفضها، لماذا؟ لأن باحثًا علميًّا أراد أن يُحصيَ ما أنتجه الجامعيون من بحوثٍ في موضوعٍ ما، فأعد قائمة يَستبين بها تفصيلات الموضوع، وأرسل نسخاتٍ من تلك القائمة لمن كان يعلم أن لهم نتاجًا يدخُل في الحساب، فاحمرَّ وجه الوزير السابق واصفر واخضر، غضبًا من هذه الإهانة الكُبرى التي لَحِقته حين عاملوه كما يُعاملون خلق الله، وأرسلوا له القائمة في البريد، وكان الواجب أن يَمثُل الباحث العلمي بين يديه في خشوع طلبًا لما يريد. وهل من شكٍّ في أن ذلك الوزير حين كان يكتب ويخطب ويذيع، كان يشتعل حماسةً في الدعوة إلى «المساواة»؟
نعم، كان الذي رأته الأم الفاضلة في بنيها من ازدواجية المقاييس الخُلقية، إنما هو البذرة الأولى التي يغلِب أن تنمو معهم شجرتها وتتفرع، كلما كبروا وازدادوا خبرة، بما أصبحت حياتنا الاجتماعية تتطلَّبه من «لباقة»؛ إي والله فقد سمعت كثيرين يُسمُّون ذلك النفاق البشع الجبان «لباقة».
فأين عسانا واجدين طوق النجاة؟ إنه يُلتَمَس في مصادر كثيرة، وأولها التربية الدينية؛ إذ ماذا يكون «الدين» إن لم يكن قبل أي شيءٍ آخر، نظامًا خُلقيًّا يرسم للمُتديِّن طرائق السلوك الصحيح، الذي يجعل منه إنسانًا كما أراد الله جل وعلا للإنسان أن يكون؟ لكننا إذ نلجأ إلى الدين لنجعله محورًا أساسيًّا في تربية أبنائنا وبناتنا، نضغط ضغطًا شديدًا على تفصيلات «الشعائر» لنُبرِزها، وبالطبع لم يكن ذلك ليُعاب في شيء، فإلمام المؤمن بشعائر دينه، أمرٌ واجب، وإلا فكيف يُقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، إذا لم يكن على بيِّنةٍ بما يؤدي في كل مناسبةٍ من شعائر. لكن موضع المؤاخذة هو أن نستنفد جهدنا التعليمي في الشعائر، ثم نقف عند هذا الحد، فينتج لنا أطفال كأبناء الأم الفاضلة التي أرسلت تشكو أبناءها، فالمُخادعة بدأت عندهم في أدائهم لتلك الشعائر نفسها، ومن التي يخدعونها؟ هي الأم، فماذا هم صانعون إذا ما كبروا ودخلوا مع الناس في معاملاتٍ ليست «شعائر» الدين، إنما هي تجارة وصناعة وأعمال في دواوين الحكومة؟ كلَّا، ولا التي سيتعاملون معها يومئذٍ هي الأم، بل هم غرباء لن يربطهم بهم إلا روابط السوق.
وكان ذلك هو حافزي إلى كتابة مقالي «تربية الضمير الديني»، وتسألني الأم الفاضلة: كيف يكون ذلك؟ فأقول — والله المُستعان: لنجعل مثلنا الذي نوضح به هو فريضة الصلاة؛ لأن ما استبشعَتْه الأم في أبنائها، كان سلوكهم غير المُستقيم أثناء الوضوء استعدادًا للصلاة، فالوضوء هنا هو فاتحة الشعائر التي تؤدَّى لإقامة الصلاة، وجاءت خديعة الأطفال في وضوئهم دليلًا على أنهم لم يَروا في الموقف ما يردعهم ردعًا ينبعث من دخيلة نفوسهم، وإذن فلو كنتُ مُربيًا لهؤلاء الأطفال، لأرجأتُ الاهتمام الضاغط بوجوب مراعاة التفصيلات في شعيرة الوضوء، إلى ما «بعد» إثارة انتباههم أولًا إلى ما هم ملُاقونه داخل الصلاة نفسها، فالشعيرة ضرورية، لكنها كضرورة الوسيلة اللازمة للقيام برحلةٍ مطلوبة، كالسيارة أو القطار أو ما شئتَ من وسيلة، ولكن الوسيلة على ضرورتها ووجوبها، إنما تستمدُّ ذلك الوجوب وهذه الضرورة من أنها هي الدهليز الذي يوصل سالكها إلى الغاية المنشودة. والغاية هنا هي «الصلاة».
لو كنتُ مُربيًا لهؤلاء الأطفال، ومُستهدفًا إقامة «ضمير ديني» في نفوسهم لبدأتُ بإدخالهم في الحالة الوجدانية التي يكون عليها المُصلي، قائلًا لهم شيئًا كهذا: إن مُقيم الصلاة عندما يرفع يديه إلى أُذنيه قائلًا: الله أكبر، فهو بمثابة من فتح بابًا ليدخل منه إلى عالمٍ آخر غير العالَم الذي يُحيط به ويعيش فيه، إنه هناك مُلاقٍ ربه ومُخاطبه، ولذلك يُحاول المُصلي أثناء صلاته أن يصمَّ أذنيه — ما استطاع — فلا يسمع صوتًا، ويغضَّ من بصره — ما استطاع أيضًا — فلا يرى شيئًا، بل إن من المأثور عن كبار العابدين، أنهم أثناء الصلاة لم يكونوا يحسُّون شيئًا على جلود أبدانهم. ويُروى عن أحد هؤلاء أريد له أن تُبتَر له ساق مريضة، فأوصى بأن يتمَّ ذلك وهو يُصلي، مُوقنًا بأن إحساسه بما يحدُث لبدنه سيضعف إلى حدِّه الأدنى، فالمُصلي مُستغرق بكيانه كله ووجوده كله فيمن هو في حضرته إبَّان الصلاة.
إذن فقد كانت قولة المُصلي «الله أكبر» عندما همَّ بإقامة الصلاة، بمثابة خروجه من عالم الأشياء والحاجات والمنافع، ودخوله في عالمٍ آخر لا يعرف فيه إلا روحًا تخشع لخالقها، لكن هذه التكبيرة نفسها: «الله أكبر» التي نقلته من عالم الفناء إلى عالم الخلود، من عالمٍ يُقاس بدقائق الزمن وثوانيه، إلى عالمٍ لا يعرف الزمن، أقول إن هذه التكبيرة نفسها — بالإضافة إلى كونها مُؤذِنة بالنقلة الكبرى بين العالَمَين — إنما هي في ذاتها موضع للوقوف المتأمِّل، عند من يريد لصلاته أن تكون «حياة»، ولا يقتصر أمرها على حركات الجسم ركوعًا وسجودًا، وكأن القائم بالصلاة يستهدف رياضة بدنية، «الله أكبر» من كل كبير، فإذا كنتُ قد دخلتُ صلاتي شاعرًا بالصغر قياسًا إلى أصحاب الجبروت الطاغي، فسأخرج من صلاتي وقد لاقيتُ من هو أكبر، ولن أخشى بعد ذلك بأس الطغاة. إنني أنا — هكذا يقول المصلي بعد أدائه لصلاته — إنني أنا الصغير الكبير معًا، كنتُ صغيرًا أمام الله صِغرَ الهباءة في هذا الكون الفسيح، لكنني خرجتُ من صلاتي كبيرًا كأكبر من ألاقيه بين البشر. لقد كنتُ أنافق السلطان طلبًا لعونه وردًّا لعدوانه، فخرجتُ من صلاتي أجهر بالحقِّ كما أراه، لا أُنافق فيه أحدًا؛ لأنني تعلَّمتُ من وقوفي في الحضرة الإلهية أن المُعين واحد هو الله، وأن الذي يرُدُّ عني العدوان واحد هو الله، لقد خشعتُ لله ركوعًا وسجودًا لأنه ربي، وكنتُ مع كل ركعةٍ وسجدة أُكرِّر «الله أكبر» لترسخ معانيها في نفسي، وتُصبح في حياتي ما تكون «البوصلة» في توجيه السفينة توجيهًا صحيحًا، أو قُل إنني أُكرِّر «الله أكبر» كلما خشعتُ لله، ليكون مضمونها الغني هو بعد ذلك «ضميري» الذي يهديني سواء السبيل.
وإني لأسأل الأم الشاكية من مُخادَعة أبنائها لها في شعائر الوضوء، هل كانوا يُخادعون لو «عرفوا» إلى أي عالمٍ هم داخلون أثناء الصلاة؟ ولقد وضعتُ كلمة «عرفوا» بين الحواصر لتستوقِف النظر، فمفتاح الرَّشاد هو أن نعرف، أن يعرف مُقيم الصلاة ما صلاته، وأن يعرف صائم رمضان ما صومه، وبعدئذٍ يكاد يستحيل على من «يعرف» أن يقترف الإثم الذي هو «خطأ»؛ لأنَّ من يعرف لا يُخطئ. ولشدَّ ما كانت دهشتي التي بلغت معي حدَّ الذهول، حين سمعتُ من أستاذٍ فاضل يقول في وسائل الإعلام أكثر من مرة، إن العابد لا يَسأل عن عبادته، وإلا لم تعُد عبادة، فالعبادة كما قال — طاعة — لا يسأل صاحبها لماذا، ولو شاء الله للأستاذ صوابًا، لهداه أن يقول: إن العابد لا يسأل عن عبادته ليُغيِّر منها شيئًا، بل إنه يسأل «الفهم»، والفرق كبير بين الحالتَين، فمُقيم الصلاة إذا سأل ليفهم سِر التكبير في أول الصلاة، وعند كل ركوع وسجود وقيام لزاده هذا الفهم إمعانًا في مقومات الصلاة من قولٍ ومن حركة، فتصبح الصلاة إحدى الوسائل الفعَّالة في تربية الضمير الديني، وإلا فكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمُنكر والبغي، إذا لم يكن المُصلي قد خرج من صلاته حاملًا في صدره ضميرًا يردَعُه عن تلك الآثام؟ إن آليات الصلاة في ذاتها — حركات وكلمات — لا تؤدي إلى الترفُّع عن رجس الفحشاء والمنكر والبغي، وإنما الذي يؤدي إلى ذلك «فهم» المُصلي لأسرار ما يقوله وما يعمله.
وأعود إلى الأم السائلة: فأوجز ما أسلفتُه في عبارةٍ قصيرة، هي: اجعلي أبناءك «يعرفون» عن الصلاة سِرَّها، فينصرفوا من تلقاء أنفسهم عن المُخادَعة في الوضوء وغير الوضوء؛ لأنهم سيحمِلون ضميرًا هاديًا ورادعًا.