الفلسفة شيء والدين شيء آخر
في هذا البحر المائج بالمعاني المُضطربة الغامضة، لم يكن لِيبدوَ لنا غريبًا أن يختلط على الناس شيء بشيءٍ آخر، لا سيما إذا كان بين الشيئَين شبه قريب أو بعيد، فإذا كنتُ قد رأيت، حتى بين صفوة المُثقفين، من يحسب الدين فلسفة، ومن يحسب الفلسفة دينًا، لَما أخذني عجب؛ لأنني أعلَم أن حياتنا الراهنة المليئة بأزماتها، قد أرغمتْنا على أن نتعجَّل أمورنا. ولا بأس في أن نفهم المعاني مغلوطة ومخلوطًا بعضها ببعض، فلن يموت أحد بالسكتة القلبية إذا هو فهم الحُرية على أنها عدالة، أو فهم العدالة على أنها ديمقراطية، أو فهم الديمقراطية على أنها تواضُع، فكلها خيرات — وكلها طيبات — فهمومنا في حياتنا اليومية، أكثر جدًّا من أن تترُك لنا شيئًا من فراغ البال لنبحَثَ في الفوارق التي تفصل هذه المعاني بعضها عن بعض. ولسْنا كأسلافنا الأقدَمين في وقوفهم عند أمثال هذه التوافه، بل عند ما هو أتفه منها، فأنظر إليهم — مثلًا — وقد أزعجهم أن يختلط الحابل بالنابل، حتى لقد ضربوا به مثلًا، فالحابل هو من صاد صيدَه بالحبال، والنابل هو من صاده بالنبال، وقد حدث يومًا أن تزاحَم الحابلون لصيدهم والنابلون، فاختلط بعضهم ببعض، ولم يتبيَّن منهم أحد صيد مَن هذا وصيد من ذاك، وربما أخذ كل منهم صيْد أخيه وانصرف، فماذا يؤرق هؤلاء الأسلاف من موقفٍ يختلط فيه الأمر على هذا النحو، ما دام كل صيَّاد قد عاد إلى داره ومعه نصيب من الصيد، سواء أمسكتْه الحبال، أم أسقطته النبال. ولكن لا عجب، فقد كانت حياتهم تنعم بالفراغ وبالطمأنينة، وأما نحن اليوم، فنقضي الساعات بحثًا عن مواد طعامنا وطعام عيالنا، فأين هو فراغ الوقت الذي نبحث فيه عن الفرْق بين الحرية والديمقراطية، أو الفرق بين العِلم والفلسفة والدين؟ ثم لماذا وجع الدماغ في ما ليس طعامًا يؤكَل ولا دواء يَشفي؟
أقول إنني ما كنتُ لأعجبَ من خلط بين المعاني في حياتنا الفكرية؛ لأنني أعلم عُسر الحياة اليومية، وأُعانيه ممَّا يُبرِّر ألا يشغل الناس أنفسهم بما يزيد حياتهم عُسرًا على عُسر، لولا أنني كنتُ من ضحايا ذلك الخلط المُتعجِّل الذي لا يعنيه أن يُفرق بين المُختلفات، خصوصًا إذا كانت تلك المُختلفات كلها مأخوذة من دنيا الفكر، وهي الدنيا التي لم يعُد يُقبل عليها أحد، فهات منها ما شئت، ولا تخشَ في ذلك بأسًا، فكل الأفكار قد أصبحت عند الناس سواء.
نعم، لولا أن أصابني الشرر، لما همَّني ذلك البحر اللُّجي المائج بالمعاني الغامضة المتداخِلة التي يحياها الناس، وهم في شبه غيبوبة عقلية. والفرق بعيد بين موقفٍ تتبنَّاه من الوجهة النظرية، فترى فيه أي رأيٍ تشاء، وموقف آخر يمسُّ حياتك الفعلية مسًّا يجاوز سطح الجلد ليغور في الأعماق. ولست أنسى في هذا الصدد رجلًا كان عضوًا في المحكمة التي حكمت على جان دارك بالموت حرقًا، وتنفيذًا لذلك الحُكم أُشعلت النار عالية اللهب، وعُلِّقت جان دارك بحيث يحتويها ذلك اللهب، وبينما هي تحترق، شاءت مُصادفة أن يمُرَّ ذلك الرجل من هناك، فيشهد المرأة القديسة في مِحنتها، فكاد يُصاب بالإغماء فزعًا مما يرى، ولما أسرعوا به بعيدًا عن مشهد الرُّعب، سأله رفيقه: ألم تكن عضوًا في المحكمة التي قضت بهذا القضاء؟ ففيمَ هذا الجزع إذن؟ فأجابه الرجل: الفرق بعيد يا صاحبي بين أن أحكُم حُكمًا وأنا آمِن في غرفتي، وبين أن أرى بعينيَّ نتيجة هذا الحُكم بعد أن أصبَحَت واقعًا.
ومع الفارق بين الحالتين فلا أنا بما كتبتُ وما قلتُ شبيهًا بجان دارك، ولا الذين خلطوا في فهم ما كتبته وما قلتُه يُشبهون القضاة الذين قضوا بإحراقها، فإنني أشعر بأنني ربما لم أكن لأهتمَّ كل هذا الاهتمام بحياة الغموض الفكري الذي نحياه اليوم، لولا أن مسَّني منه شرر. وكيف كان ذلك؟
لقد أراد لي توفيق الله، منذ بدأتُ حياتي العقلية المُنتجة، أن أقع على طريقٍ من طرُق التفكير الفلسفي، رأيته وكأنما خُلِقتُ له وخُلق لي، ثم رأيته وكأنه أنسب ما أُقدِّمه في عالَم الفكر لأُمتي؛ لأنه إذا كان الغموض والخلط بين المعاني، أحد الأمراض العقلية التي أصابت أُمتي، فتلك الطريقة من طرُق التفكير هي من أنجع وسائل العلاج، وأما تلك الطريقة التي أُشير إليها، فهي — بكل بساطة ووضوح — أننا إذا كنا في مجال «العلم» (وأودُّ أن أُكرر هذه اللفظة ألف مرة، العلم العلم العلم، وعلى القارئ هنا أن يُكمل لنفسه المرات الألف) أقول إننا إذا كنا في مجال «العلم» فلا بدَّ أن يجيء القول الذي نقوله ممَّا يطابق الواقع عند التطبيق، وبالتالي فهو لا بدَّ أن يكون مما يصلح عليه اختبار الصدق، مما هو معروف في مناهج البحث العلمي، أما مجالات القول الأخرى، التي ليست من العلوم، فلكلِّ مجالٍ منها معياره الخاص.
إلى هنا والكلام مقبول ولا اعتراض عليه، لكن تبدأ الدهشة، ويبدأ الاعتراض، عندما نُطبق هذا المعيار العلمي في بعض مجالات القول في عالَم الفلسفة، ولماذا أُشير إلى عالَم الفلسفة هنا دون سواه؟ أفعل ذلك؛ لأنه هو العالَم الذي كان عليَّ أن أعيش فيه، بحُكم كوني أستاذًا للفلسفة في الجامعة. فهنالك في عالم الفلسفة فرع اسمه «الميتافيزيقيا» أو «ما بعد الطبيعة». ويُهمُّني جدًّا في هذا الموضع أن أُوضِّح للقارئ لماذا أطلقوا عليه هذا الاسم، فالأمر في هذه التسمية جاء مُصادفة، وذلك أنَّ أتباع الفيلسوف اليوناني أرسطو، حين أرادوا — بعد عهده — أن يُرتِّبوا مؤلفاته ويُصنفوها، وكان من بينها كتاب «الطبيعية» وجدوا عدَّة فصول في مادةٍ لم يَتبيَّنوا موضوعها بوضوح، فأسموها بموضعها من ترتيب المؤلفات، وكان موضعها — مُصادفة — بعد كتاب الطبيعة، فقيل عنها ما بعد الطبيعة بناءً على ذلك، وذلك هو معنى كلمة «ميتافيزيقا» التي يستعملها دارِسو الفلسفة.
وقد بات هذا الاسم يُطلق على أي بحثٍ عقليٍ يريد به صاحبه أن يتعقَّب موضوعًا ما إلى أن يصِل إلى ينابيعه الخافية على العين، فمثلًا إذا تعقبنا «الأخلاق» إلى الجذور الأولى التي نبع منها ما يُسمَّى بالأخلاق، كان ذلك بحثًا في ميتافيزيقا الأخلاق، وإذا تعقَّبنا العلوم إلى ما قد يكون وراءها من أصول لولا وجودها لما تفرَّعَت لنا العلوم التي نراها بين أيدينا، كان ذلك البحث بحثًا في ميتافيزيقا العلوم، وهكذا.
لكن إلى جانب هذه البحوث الميتافيزيقية الفرعية، قد يحاول الفيلسوف — من كبار الفلاسفة على وجه الخصوص — أن يتناول الكون كله بالتفسير، ويُقصَد بالتفسير هنا أن يفرض الفيلسوف لنفسه «فكرة» أو «مبدأ» يرى أنه من المُمكن أن يفسِّر لنا على ضوئه كل جوانب الوجود، من الحب والصداقة والشجاعة، ونظُم الحُكم، فصاعدًا إلى حركة الأجرام السماوية والحياة والموت والخلود، ومثل هذه المحاولة هي «ميتافيزيقا».
إنني أحاول أن أوضِّح للقارئ ما وَسِعني التوضيح، ليُسايرني ويُشاركني فيما أردتُ عرضه عليه. أما وقد أنبأته بأن فيلسوفًا ما قد يضع لنفسه «مبدأ» يرى أنه مُستطيع بمبدئه ذاك أن يفسر كل شيء، فسأضيف له الآن جانبًا هامًّا، وهو أن مِن حق فيلسوفٍ آخر أن يضع مبدأ آخر، يرى أنه أفضل من مبدأ زميله في تفسير الكون والكائنات، وهذه النقطة أرجو أن ترسخ في ذهن القارئ؛ لأنني سألجأ إليها بعد قليل.
فقد حدث أن نشرتُ كتابًا سنة ١٩٥٣م، أسميته إذ ذاك «خُرافة الميتافيزيقا» (وأعدتُ طبعه منذ قريب جاعلًا عنوانه «موقف من الميتافيزيقا») وطبقتُ في ذلك الكتاب منهجي الفلسفي في النظر إلى ما ينتمي إلى مجال «العلم»، وبيَّنتُ كيف أن البناء الفكري الذي يُولده الفيلسوف من مبدأ مُعيَّن، هو بمثابة التوأم للبناء الرياضي الذي يقيمه عالم الرياضة — مثل إقليدس في علم الهندسة — ففي كلتا الحالتين: البناء الميتافيزيقي، والبناء الرياضي، نقول عنه إنه صحيح، إذا وجدنا النتائج مُستدلَّة استدلالًا صحيحًا من «المبدأ» — في حالة الميتافيزيقا — ومن المُسلمات — في حالة الرياضة — أي أن البناء المُعيَّن من النوعَين لا تتوقف صحته على كونه مُطابقًا للواقع الطبيعي، فإذا زعم لنا فيلسوف أن بناءه الميتافيزيقي يصف الكون كما هو واقع، عارضناه في ذلك، كما يُعارَض عالِم الرياضة إذا زعم أن صحة نظرياته الرياضية مُستمدَّة من أنها مطابقة للواقع الطبيعي.
فلما نُشِر الكتاب المذكور، غضب كثيرون، على ظنٍّ منهم أنه ما دام الكتاب ينفي أن يكون فيلسوف الميتافيزيقا مُحقًّا في جعل بنائه الفكري مطابقًا بالضرورة لدنيا الواقع، فكأن الكتاب المذكور ينفي أيضًا أن تكون العقيدة الدينية في إلهٍ موجود مُحقَّة فيما ذهبت إليه!
وأعود هنا بالقارئ إلى الحقيقة التي رجَوتُه أن يحفظها في ذهنه جيدًا، وهي أن الفيلسوف إذ يَبني بناءه الميتافيزيقي، فإنما يُقيمه على مبدأ من عنده، وأن أي فيلسوفٍ آخر من حقِّه كذلك أن يُقيم بناء آخر على مبدأ من عنده، وبذلك تتعدَّد البناءات الفلسفية بتعدُّد أصحابها. وأما في حالة الدين فالأمر مُختلف أشدَّ ما يكون الاختلاف؛ لأن البناء الديني قائم على وحيٍ منزل، وليس من حق أحدٍ آخر أن يبني دينًا على شيءٍ آخر من عنده هو، اللهم إلا إذا كان خارجًا على هذا الدين، وعندئذٍ لا يُحسَب له حساب، فبينما تتعدَّد البناءات الفلسفية بتعدُّد الفلاسفة يظلُّ البناء الديني واحدًا لوحدانية المُوحي به والموحى إليه. وإذا جعلنا حديثنا هنا مقصورًا على الإسلام، قُلنا إن شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، تتضمَّن فيما تتضمَّنه وحدانية من أوحى بالدين، ومن نزل عليه الوحي، وذلك يستتبع أن يظلَّ البناء الديني عند المؤمنين به واحدًا عند الجميع.
تلك ناحية، وناحية أخرى، أن حديثي كله الذي تحدثتُ به عن منهجي الفلسفي وتطبيقه، إنما يقتصر فقط على مجال «العلم» (ومرة أخرى أودُّ لو أني أخذت أُكرِّر كلمة «العلم» ألف مرة: العلم، العلم، العلم … إلى أن أبلغ الألف) أي أنه منهج فكري لا يُراد به، ويستحيل أن يُراد به، الانطباق على مجال الدين، أو على أي مجالٍ آخر غير مجال «العلم» والعلم وحده.
فقل لي بالله، كيف يمكن بعد هذا كله أن يخلط الخالطون بين قولٍ قيل في عالَم الفلسفة، وبين ما لم نذكُره من عالَم الدين، ماذا كنتُ أصنع تحديدًا وتوضيحًا لأمنع حدوث الخلط الذهني الذي علق في أذهان من أخذوا على أنفسهم عهدًا أن يعيشوا حياتهم في الغموض الفكري شهيقًا وزفيرًا؟ فأولًا لم يكن لي في الكتاب المذكور أي شأنٍ بأي قولٍ ورَدَ في أي دينٍ من الأديان. وثانيًا لم يكن المرفوض هو الأنساق الميتافيزيقية في ذاتها، فتلك الأنساق بناءات فكرية مُحكمة النسج إحكامًا لا يُقارن إلا بالبناءات الرياضية، فلو أن الفيلسوف الميتافيزيقي قدَّم نسَقه الفكري على أنه تصوُّر عقلي لا يُشترط لقبوله أن يكون تصويرًا لحقيقة الكون كما هي قائمة في الواقع الفعلي، لما كان لنا على عمله اعتراض، وهذا نفسه هو الموقف بالنسبة لأي نسقٍ في العلوم الرياضية، فهو يكون صحيحًا بالنسبة للعلاقات الاستدلالية الكائنة بين أجزائه، لكنه ليس حتمًا هو الصورة التي تطابق الواقع الخارجي.
الفروق بين الدين والفلسفة واسعة وعميقة، بحيث يستحيل أن يُخطئها بصر، والاختلاف بينهما مُتعدِّد الجوانب، فهو اختلاف في المصدر؛ إذ الدين مصدره وحي يُوحى إلى نبيٍّ أو رسول، وأما الفلسفة فهي قائمة على رؤى يحدسها إنسان من البشر، وإما جاءت تلك الرؤى صادقة ونافعة، وإما جاءت باطلة لا تنفع أحدًا، وهو كذلك اختلاف بينهما في الطريقة التي يتلقَّى بها المُتلقي ما يُقدَّم إليه، ففي الدين إما أن يُصدِّق المُتلقي ما يُقال له وإما أن يرتاب، أعني أنه إما أن يؤمن بالرسالة وإما ألا يؤمن بها. وأما في الفلسفة فالقَبول أو الرفض أو التعديل مَرهون بمراجعة الاستدلالات المنطقية التي ينتقل بها الفيلسوف من جزءٍ إلى جزءٍ آخر، ثم هو مرهون كذلك بقُدرة ما يُقدِّمه الفيلسوف على تفسير ما نراه في الكون وكائناته. وهو فوق هذا وذاك اختلاف بينهما في الوظيفة التي يؤديها كل منهما، فالدين منظومة من العقائد والشرائع والعبادات والمبادئ، يتكوَّن منها خطة حياة هنا في هذه الدنيا، وتُمهِّد للحياة الآخرة يوم يكون الحساب. وتلك المنظومة الدينية إذا ما أُرسِيَت قواعدها في حياة الناس، فهي إنما تُصبح ركيزة إيجابية — بل أهم الركائز الإيجابية جميعًا — فتُضاف إلى ما عند الناس من علومٍ وفنونٍ وآدابٍ وأعراف وتقاليد وغير ذلك من مقومات المجتمع. وأما الفلسفة فهي مختلفة عن ذلك كل الاختلاف؛ لأنها تبدأ فعلها بعد أن يكون المجتمع قد أقام مُقوماته تلك ليحيا في إطارها؛ إذ يأخذ صاحِب الفكر الفلسفي في تعقُّب أي مقومٍ من تلك المقومات إلى أصوله المُضمَرة المستورة أو قد يكون الفيلسوف واسع الأفق، فيتناول جميع ما حوله في قضمةٍ واحدة، ليردَّها جميعًا إلى أصلٍ واحدٍ مشترك. وبعبارةٍ أخرى نقول إن الفلسفة التي تَصُبُّ فاعليتها على ظاهرة مُعينة لتكشِف عن طبيعتها أولًا، وعن علاقاتها ببقية الظواهر ثانيًا، لا بدَّ — بالضرورة — أن تجيء بعد قيام الظاهرة بذاتها، ففلسفة العِلم — مثلًا — لا بدَّ أن يسبقها وجود العِلم، وفلسفة اللغة لا بدَّ أن تسبقها اللغة، وفلسفة الإسلام لا بدَّ أن تجيء بعد ظهور الإسلام، وفلسفة التاريخ لا بدَّ أن تجد تاريخًا لتَصُبَّ رؤيتها عليه، وفلسفة الوجود بصفةٍ عامة لا بدَّ أن يسبقها ذلك الوجود.
قارن بين مُتكلم يُقرر في جملة يقولها أنه يُحب ليلى، وبين مُفكر يتناول حالة هذا المحب ليتعقبها إلى نشأتها كيف تكون، تجد أن الفرق بين الرجُلين هو كالفرق بين عابدٍ مؤمن يحيا حياته الدينية، وفيلسوف يتأمَّل مقومات تلك الحياة ليُخرج مضامينها المُضمرة في ثناياها، فإذا وجدتَ الآن أن الفرق بات واضحًا بين ما ينخرِط فيه المُتديِّن من أسلوبٍ للعيش وطرائق للعبادة وغير ذلك، وبين رجل يتناول الظاهرة الدينية كلها بالنظر النافذ الذي يُبين مكنونها من مبادئ وأهداف، أقول إنك إذا وجدت الآن أن الأمر بينهما أصبح واضحًا، فقل لي نشدتُك الله: كيف يمكن لصاحب فكرٍ فلسفي، إذا ما استعرض أقوالًا لفلاسفة بالتحليل ليكشف فيها عن جوانب الصواب وجوانب الخطأ من وجهة نظره، أقول: كيف يمكن لرجلٍ كان هذا هو عمله، يتعرَّض لمن يتَّهِم وجهة نظره بأنها مُنافية للدين بأي وجهٍ من الوجوه؟
إنه الخلط الفكري الذي رُزئنا به في حياتنا الثقافية، حتى أصبحنا وكأننا في تلك الحياة نخوض في عماء فوقه سحاب أدكن، ويكتنفه ضباب قاتم كثيف.