نعم، إسلامنا يَكفينا ولكن كيف؟
أكان غرورًا منِّي، حين ظننتُ أن هذه المقالة التي أكتبها الآن، واجبة الأداء قبل أن أنصرِف إلى راحة الصيف؟ فما مقالة من ضعيفٍ مثلي، وما ألف ألف مقالة، إذ أردنا لنملةٍ واحدة من نمال الأرض أن تُغيِّر من حياتها شيئًا؟ كانت علة البصر قد اشتدَّت معي بعض ظواهرها في الأسابيع الأخيرة. فتعللت أمام نفسي بقدوم الصيف لأستريح؛ وذلك لأن علة البصر وحدَها لم تُفلِح في ردعي عن الكتابة، حتى سأل سائل سؤالًا ضِقتُ به أشدَّ الضيق؛ لأنه وإن يكن سؤالًا واحدًا من فردٍ واحد، إلا أنه كالعلامة الصغيرة التي تدل عند حاملها على مرضٍ خطير، فدفعني شعور بالواجب، لم أملك له ردًّا، وهو أن مقالة حول سؤال السائل قد باتت واجبة الأداء، ولا بأس في إرجاء الراحة أسبوعًا آخر. وأما السؤال فهو أقرب إلى الاستنكار منه إلى طلَب المعرفة؛ إذ يسألني بما معناه: أليس الإسلام يكفينا ويُغنينا عن الغرب بكل ما فيه؟ على أني إذ قرَّرتُ الإجابة، وليكن من علة البدَن ما يكون، لم أخلُ من تساؤلٍ ساخرٍ أُديره صامتًا بين جوانحي، هو: أكان غرورًا منِّي عندما توهَّمت أن مقالةٍ يكتبها عابر سبيل مثلي، أو ألف ألف مقالة بمُستطاعها أن تغير من عقول الناس شيئًا؟
ولستُ أدري كيف أُطمئن القارئ — قبل أن أخطَّ كلمة واحدة بعد ذلك — أنني مصري عربي مسلم. فأنا مصري يريد الخير لبلاده، وأنا عربي لم يعُد يرى لنفسه وجودًا إلا وهو في حُضن العروبة، وأنا مُسلم لا يبيع مثقال ذرة من عقيدته بملك الدنيا وما فيها، فإذا كنتُ قد دعوت فيما كتبته خلال أعوام تُعَدُّ بالعشرات لا بالآحاد، وإذا كنتُ سأظلُّ أدعو إلى آخر نفسٍ ألفظه، إلى المشاركة في علم العصر، وفي منهج العصر، وفي ثقافة العصر، وفي حضارة العصر، فما دعوتي تلك إلا لأنني مصري عربي مُسلم. فلما جاءني سؤال السائل لم أدهش له، برغم ما أحدثه في صدري من ضيقٍ به، وإنما كان امتناع الدهشة عندي، صادرًا عن علمي بالمناخ الفكري الذي يُخيِّم علينا منذ سنين، وأحسب أنه باقٍ معنا إلى عدةٍ أخرى من سنين. وما وسعني إلا أن أستعرض بلمحةٍ سريعة، مراحل طريقنا الفكري، منذ أول هذا القرن — أو أواخر القرن الماضي — إلى يومنا الراهن، لأرانا قد طوينا مرحلةً أولى امتدَّت بنا إلى منتصف القرن، وانتقلنا إلى مرحلةٍ ثانية هي التي نخوضها اليوم، وسرعان ما رأيت — أو ما رجوت — أن تأتي بعد هذه المرحلة الحاضرة، مرحلة ثالثة، هي التي تتكامل لنا فيها العناصر الثقافية والحضارية التي نريدها.
ولقد رأيت بتلك اللمحة السريعة إلى المرحلتين الأولى والثانية، أن كلتيهما كانت ضرورية لنا. فأما الأولى فهي التي فتحنا فيها أبوابنا على الأُفق العصري الفسيح، ولولا ذلك لظللنا نغطُّ نعاسنا، على ظنٍّ منا بأن دُنيانا بخير، وما عندنا يكفينا، وتذكرتُ ما حدث عندما جاءت سفن الحملة الفرنسية إلى شواطئ الإسكندرية سنة ١٧٩٨م، وكان نابليون يعلم أن الأسطول البريطاني قد سبقه، وأراد أن يَتبيَّن إن كان قد مرَّ بالشاطئ المصري، فأرسل بعض رجاله يسألون من يتوسَّمون فيهم المعرفة، فما وجد أولئك السائلون عند الناس جوابًا، إلا الدهشة للسؤال نفسه، قائلين: ما هي بريطانيا وأسطولها وفرنسا ونابليونها؟ إننا هنا بلاد السلطان.
إذن كانت المرحلة الأولى في طريق سَيرنا، ضرورة محتومة، لنعرف بها أن وراء بلاد السلطان بلادًا أخرى، ووراء العصر الذي كنا نعيش فيه، عصرًا آخر جديدًا أشرقت شمسه لثلاثة قرون خَلَوْنَ بضروبٍ من العلم لم نكن ندري عنها شيئًا. فحتى لو كانت تلك الشمس التي أشرقت، حارقةً بنارها كما هي هادية بنورها، فقد كان لا بد لنا أن نُحيط بوجودها علمًا، لنستضيء بالنور منها، وندفع عن أنفسنا لهب النار.
وإذا أراد شباب اليوم أن يعلموا إلى أي حدٍّ بعيدٍ، كنا خلال المرحلة الأولى على صلةٍ وثيقةٍ بما يُنتجه الغرب من علمٍ وأدبٍ وفن، أولًا بأول، وكأن حدود بلادنا الثقافية قد اتسعت بنا لنعيش مع أقوام الغرب عبر البحر، فليرجعوا إلى إنتاج أعلامنا خلال تلك الفترة، ليروا كيف كانت أقلامُهم تجري بما يحدُث هناك بعد حدوثه بفترةٍ لا تزيد على أيامٍ يتطلبها الإرسال بالبريد، وسيرى هؤلاء الشباب أن أعلام تلك المرحلة الأولى، إذ كانت أبصارهم تُتابع مَسيرة الفكر في الغرب خطوة خطوة، كانت تلك الأبصار في الوقت نفسه لا تنفكُّ مُسلطةً على تراثنا تَنشُره فتُحييه، لكننا ونحن ننظر إلى أعلام المرحلة الأولى — أي خلال النصف الأول من هذا القرن على وجه التقريب — فقد يأخذنا غير القليل من الجزع؛ إذ نلمح في هؤلاء الأعلام شيئًا من الإسراف في التَّباهي بثقافة الغرب وحضارته، ممَّا أدَّى بنا يومئذٍ إلى العيش في مناخ كاد المواطن فيه أن يُخفي مصريَّته وعروبته وإسلامه، حتى لا يُتَّهَم بالجلافة والتخلف. ولا أظن أن أحدًا منا قد نجا من تلك التبعية العمياء القاتلة، حتى أولئك القادة الذين عرفوا تراثنا ودرسوه وناقشوه ونشروه، كنتَ تراهم يفعلون ذلك كله، ووراءه نبرة لا يُخطئها السمع. يقولون بها ما معناه: لكننا فوق ذلك نقرأ الإنجليزية، ونتكلم الفرنسية، ونُدخن الغليون.
نعم، كان الصوت الأعلى هو لأصحاب الثقافة المنقولة عن الغرب، وكان الشعور بالنقص هو نصيب من درس الكنز الموروث مُكتفيًا به، وهو موقف فيه هزال المريض، وضعف الذليل، لا سيما إذا تذكَّرنا أن بلادنا في قبضة المُستعمر، الذي هو نفسه صاحب تلك الثقافة، التي ينقلها ناقلوها، ثم يُفاخرون الناس بما نقلوا.
فكيف لِمثل ذلك الموقف أن يدوم، وهو وإن يكن قد أقام بناءه على عَمَدٍ قوية في جانب، فقد أقامه كذلك على عَمَدٍ واهية مُتداعية في جانبٍ آخر. نعم كان من علامات القوة والصحة أن نضع أنفسنا مع العصر في موكب سيره؛ لأنه عصرنا، ولكنها كانت علامات ضعف ومرض، أن ننسى أننا إنما كنا ننقل إلى أنفسنا «غذاء» يزيد من شعورنا بهويتنا الأصيلة هو غذاء لا بدَّ منه لا نَستغني عن شيءٍ منه إلا إذا أردنا لأنفسنا انتحارًا حضاريًّا، ولكنه مع ذلك «غذاء» وليس صنمًا للعبادة. ولقد كنتُ لفترةٍ طويلةٍ واحدًا من أولئك الذين ضلُّوا سبيل الحق في هذا الصدد، فبالغتُ كما بالغوا، حتى أراد لي الله رؤيةً أهدى.
وكان من طبائع الأمور أن نتحوَّل في سَيرنا من مرحلةٍ إلى أخرى تليها، لم تجئ لتعتدل بنا في وقفتها ونظرتها، بل جاءت لتأخذ بثأرها وتنتقم، وهي مرحلة تريد لنا أن نَستردَّ ذاتنا المفقودة في متاهة الفكر الغربي، وشيئًا فشيئًا نظرنا، فإذا نحن قد تقوقعنا في شرنقة أنفسنا، وحسِبنا أننا بذلك قد رددنا الذات الضائعة. ويكفيك أن تنظر إلى الجادين من شباب هذا الجيل لتراهم — وتراهن — وهم الشباب الذين نتوقع منهم الفطرة البشرية نفسها أن يطيروا إلى المستقبل بأجنحة النسور قد داروا على أعقابهم، ولووا رقابهم ليتجهوا بأبصارهم إلى الوراء لا ليستمدوا منه «الغذاء» الذي يسري قوة وصحة في الدماء، ثم لينصرفوا بتلك الصحة القوية نحو إبداع عصرٍ جديد، بل زلُّوا كما زل رجال المرحلة السابقة، وظنوا أن الكنز المنقول عن الماضي، إنما هو مقصود لذاته، نتعشَّقه بالنظر من بعيد، ونلمسه بأصابعنا لنتبرَّك به.
فالمرحلة الثانية — وهي التي نحياها اليوم — هي مقلوب المرحلة الأولى، في كل منهما حسنة نتمسك بها، وفي كل منهما سيئة ندعو الله البرء منها. فالحسنة في المرحلة الأولى هي الإصرار على متابعة الغرب في كل جديدٍ يُبدعه، لعلَّنا ذات يوم أن نشارك بدورنا في ذلك الإبداع، والحسنة في المرحلة الراهنة هي إصرارنا على تحقيق ذواتنا بالانتماء الصحيح إلى مَنابعنا، لكن السيئة في كلٍّ من المرحلتين هي الزهو الأجوف، الذي يريد أن يكتفي بما عنده، وأن يجعل نفسه وكأنه في غِنًى عن الجانب الآخر. على أن التشابه بين المرحلتَين في هذه السيئة ليس تَشابُهًا كاملًا، فالمرحلة الأولى تتفوَّق على هذه المرحلة الراهنة تفوقًا ظاهرًا، في أن رجال المرحلة الأولى جمعوا جديد الغرب إلى تليد التراث. وكل ما في الأمر أنهم كانوا أميلَ إلى الزهو بما نقلوه عن الغرب، في حين أن أبناء هذه المرحلة الحاضرة لا يريدون أن يسمعوا إلا صوتًا واحدًا، وأن يصمُّوا آذانهم عن كل صوتٍ سواه. وفي هذا الجو الفكري سألني السائل سؤاله: ألا يكفينا إسلامنا ويغنينا عن الغرب بكل ما فيه؟
إن أكذوبة الأكاذيب يا أخانا، في هذه المرحلة الثقافية التي نعيشها، هي ذلك الباطل الذي شاع وذاع، حتى ملأ القلوب والأسماع، بأنه إما الإسلام، وإما هذا العصر بعلومه وفنونه، فلو أراد المسلم إسلامًا صحيحًا — هكذا يريدون أن يقولوا — فليترك العصر بما فيه، وإذا رأينا أحدًا منا يميل إلى العصر وخصائصه عدَدْناه مُتنكرًا لإسلامه. وإني لأزعُم زعمَين هنا، يلتقيان معًا عند نقطةٍ واحدة، أولهما أن المُسلم الحق يستحيل عليه ألا يصِل إلى أخص خصائص هذا العصر، عن طريق إسلامه نفسه. وأما الزعم الثاني فهو أنك لن تجد خاصة واحدة من الخواص التي على دعائهما قام هذا العصر بحضارته الجديدة، إلا وأنت واجد كذلك بأنها خاصة حَضَّنا عليها الإسلام. ولننتقل من تعميمٍ إلى تفصيلٍ وتخصيص.
ولا بد لي على سبيل التمهيد، أن أضع في رأس القارئ فكرة، وأظل أدقُّها دقًّا حتى ترسخ جذورها في تلافيف دماغه، وهي — على بساطتها ووضوحها — كثيرًا ما تُفلت، مع أنها في الحقيقة مفتاح هام من مفاتيح النظرة العلمية الصحيحة، وتلك هي أن اللفظة من ألفاظ اللغة، أو الجُملة، أو الصفحة، أو الكتاب، ليس هو «الشيء» الذي جاءت تلك الرموز اللغوية كلها لتُشير إليه. إن كلمة «خبز» ليست هي الخبز الذي نأكله، ولو اكتفيتَ من الخبز باللفظة الدالة عليه، لهلكْتَ بإذن الله جوعًا. إن كلمة «وردة» ليست هي الوردة التي نشمُّها، ولو اقتصرت من الوردة على اسمها، لَما نعِمتَ بشيءٍ من عبقها الجميل. وهكذا قل في كل رمزٍ من رموز اللغة كائنًا ما كان. وبناءً على هذه البديهية التي أضعها بين يديك، يصبح واجبًا على القارئ الجاد كلما قرأ، أن ينفذ ببصيرته خلال الألفاظ التي يقرؤها ليرى ماذا وراءها من «حقائق»؛ لأن المادة المقروءة نفسها — كما قُلنا — ليست تلك الأشياء التي جاءت تلك المادة المقروءة لتُشير إليها.
وبعد هذا التمهيد الموجز الهام، أتوجَّه إليك بالسؤال الآتي: ما هي في رأيك دعائم هذا العصر وحضارته؟ هل تشك في أن العلم بقوانين الطبيعة في مختلف ظواهرها هو في مقدمة تلك الدعائم؟ فأحسبك على إلمامٍ كافٍ بالسيرة العلمية في تاريخ الإنسان، وكيف أنها لم تلتفِت إلى علوم الطبيعة لتجعلها محورًا أساسيًّا إلا منذ القرن السادس عشر على وجه التقريب. وأما قبل ذلك فقد كان هنالك بالطبع تفكير علمي، لكنه لم يكن يتَّجِه إلى الطبيعة نفسها بالبحث، إلا باهتمامٍ أقل من القليل. وسؤالي إليك هنا هو هذا: أفي الإسلام ما يحضَّك، أم فيه ما يصدُّك عن العلم؟ إنني عند كتابة هذا السؤال رأيتُ أن أرجع إلى معجم القرآن الكريم لأرى كم ورد «العلم» في آياته وبأي المعاني قد ورد، فإذا الذي أمامي في المعجم عدة صفحات، جاء فيها ما يزيد على سبعين صورة من ألفاظٍ دالة على «العلم» ومُشتقاته، وتحت كل صورة منها عدد لم أُحصِه من الآيات القرآنية الكريمة ومواضعها. فإذا ضمَمْنا هذا القدْر الهائل إلى قدرٍ هائلٍ آخر عن مادة «فكر»، وما يُشتق منها علميًّا، فإننا أمام كتاب جعل للعلم وللفكر منزلةً هيهات أن تجد لهما منزلة أعلى منها في أي مصدرٍ آخر. إنه لم يُرِدْ للإنسان علمًا مجرد العلم، بل أراد له «رسوخًا» فيه، وهداه إلى وجوب التفرقة بين العلم والظن، فليس المُراد معرفة تُقام على ظنون، بل المراد معرفة تُقام على علم. وليس المراد للإنسان أن ينساق مع الهوى، بل المراد أن يهتدي بالعلم الذي لا يعرف الهوى.
وأعود بك إلى البديهية التي وضعتُها بين يديك لتكون مفتاحًا من مفاتيح النظرة العلمية، وأعني بها ضرورة الانتقال من الكلمة المقروءة إلى الحقائق الكامنة وراءها، والتي جاءت الكلمة لتُشير إليها لا لتكون بديلًا لها نكتفي به، فإذا قرأنا في كتاب الله أن يتفكر الإنسان في خلق السماوات والأرض، فإننا لا نفعل إلا القليل القليل. القليل إذا نحن اقتصرنا على حفظ الآية وتلاوتها وترتيلها مرَّات تُعَدُّ بملايين الملايين، وإنما يكمُل إيماننا بالآية الكريمة حين ننتقل من لفظتها إلى ما وراء ذلك اللفظ من حقائق السماوات والأرض. وماذا في أي علمٍ من علوم الطبيعة؛ من فلك إلى فيزياء وكيمياء ونبات وحيوان، لا يندرِج فيما هو من خلق السماوات والأرض؟ فإذا سألتني: ألا يكفينا إسلامنا ويغنينا عن الغرب؟ فأجيبك: نعم يكفينا شريطة أن ننفُذ خلال كلماته إلى ما تُرشد إليه تلك الكلمات، فلنحفظ تلك الكلمات الكريمة، ولنُعلِّم أطفالنا أن يحفظوها، ولنَتلُها تلاوةً لا تنقطع بالليل ولا بالنهار، لكن كل ذلك لا يجعلنا من «العلماء» الذين عرفوا شيئًا عن خلق السماوات والأرض، إلا إذا أضفنا إلى الكلمة ما وراءها.
اللغة كائن عجيب فهي تحمل دائمًا في طيها سرًّا مكنونًا. ومن أغرب أسرارها، أنها لا تؤدي لك وظيفتها إلا إذا جاوزتها إلى شيءٍ خارجٍ عنها، فإذا قلتَ لمسافر إن الطائرة تُقلع في الساعة التاسعة صباحًا، فإن قولك هذا يؤدي الغاية منه عند المسافر إذا هو بدأ منه ليتحوَّل عنه إلى فعلٍ يقوم به فيلحق بالطائرة، لكنه إذا ما أخذ يُردِّده وهو جالس مكانه، فلن يبلُغ قولك غايته. وهكذا قُل في حالةٍ من حالات اللغة حين تُستخدَم أداة للعلم (إذ هنالك الحالات التي تقصد اللغة لموسيقاها) فإذا قرأت قول الله تعالى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ كان ذلك بمثابة الأمر بأن تُفرِّق بين ما هو عِلم وما هو مجرد ظن أو مجرد رأي، لتأخُذ بالأول وتُهمل الثاني، لكن تنفيذ هذا الأمر الإلهي لا يتمُّ بتكراره ألف مرةٍ وأنت على مقعدك، بل يتم تنفيذ الأمر بأن تنهض من فورك، وتأخُذ في الدراسة التي تُبين لك الفوارق التي تميز العلم من مجرد الظن، حتى إذا ما تكاملت لك تلك الدراسة أو جوانب منها، أخذتَ بوعيٍ وفهم وشعور بالتبعة الأخلاقية تُغربل ما يُقال لك من عباراتٍ في مجالات الجد، غربلة تفصِل بها القمح عن الشعير، أعني أن تفصل العلم عن سمادير الظنون. لقد أشار القرآن الكريم إلى «أسماء» قال عنها: مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وفي تلك الإشارة ما يُنبهنا إلى وجوب التمييز بين ضربَين من اللغة، أو ضربَين من استخدامها، فاللغة قد تكون مُزوَّدة بقوةٍ من الله وقد لا تكون، وإذا نحن أدركنا الفارق بين الحالتَين عرفنا أنه هو الفارق بين الحق والباطل. وماذا يكون الحق في استخدام اللغة إلا أن تكون أداة تُوصِّلنا إلى ما وراءها من حقائق الوجود الخارجي، فانظر إلى النقلة الكبرى التي نتعلَّمها إذا نحن قرأنا كتاب الله قراءة نقفِز بها إلى آفاق العمل والتطبيق.
ولقد كنَّا نتحدَّث عن «العلم» باعتباره أبرز ملمحٍ من ملامح العصر، حين يَصُبُّ أكثر اهتمامه إلى دراسة ظواهر العالَم، من ضوءٍ وصوتٍ وكهرباءٍ إلى نباتٍ وحيوان وإنسان. ولي الآن أن أضيف إلى ما قُلته أن المُسلم لم يكن في عصرنا هو المُتفكر في خلق السماوات والأرض، بل ترك ذلك لغير المسلمين، وكان ذلك للسبب الذي أسلفناه، وهو أن المسلم قد اكتفى بتلاوة الآية الكريمة، ولم يُعقِّب على تلك التلاوة بالتنفيذ، وكان أن ظفر بالعلم المطلوب، أو بشيءٍ منه، قوم كانوا وكأنهم اتبعوا مضمون الآية دون تلاوتها.
ماذا في الإسلام يمنع أن يكون المُسلمون هم الذين أقاموا حضارة عصرنا هذا بكل مقوماته الأساسية؟ وأين هو الشيطان الذي وسوس لنا بأن الحياة الروحية تتحقَّق بالتلاوة مُجردة عن التنفيذ، وأما عمليات الكشف العلمي نفسها فمتروكة لأولئك الماديين الملاعين؟ الحياة الروحية في أسمى درجاتها وأكملها هي في تلاوة القرآن الكريم والانطلاق إلى آفاق الدنيا تنفيذًا لأوامره.
سلني مرةً أخرى: ألا يكفينا الإسلام ويُغنينا عن الغرب بكل ما فيه؟ أُجِبْك مرة أخرى: نعم إسلامنا يكفينا إذا نحن عِشنا به حياة المسلمين، وهي حياة لا ترفض شيئًا من دعائم الحضارة الراهنة، بل هي تُضيف كل تلك الدعائم إلى ما عندها موروثًا عن السابقين.