يا أبا العزائم نظرة!١
بعد عملنا الذي نشرناه بمصر الفتاة «الرد على الأضاليل في تنظيرة بني إسرائيل»، والذي تمَّ نشرُه على مدى عشرة أسابيع متصلة، كان مفترضًا ومتوقعًا أن تتمَّ مهاجمتُنا بشكل ما، وكان من الفطنة أن نترقبَ حملةً قريبة علينا، ربما تأخذ أبعادًا تتسم بالخطورة، وأن نتهيَّأَ لما سيحدث، وبالفعل بدأت البوادرُ ولكن بسرعة وسفور مدهشَين! متمثلة في هجمة شرسة شنَّتْها علينا مجلةٌ تُدعى الإسلام وطن (عدد ٥٢)، وعلى واحد من أعمالنا، هو كتاب الحزب الهاشمي، بحيث لبِس الهجومُ زيًّا مألوفًا ومعتادًا في تأليب الجماهير وخِداعها ضدَّ مصالحها، ولا جدال أن ربطنا لهذا الهجوم بأول الموجات ضدَّنا وضد أعمالنا مقابل المؤسسة الصهيونية العالمية يجد تبريرَه في ذلك التزامن الغريب وفي طبيعة الجهة المهاجمة ومناهجها وهو الأمر الذي كان لا بد يحمل ذلك المغزى الذي لا يخفى على لبيب.
ويزداد ذلك الترابطُ تبريرًا إذا ما نظرنا إلى ذكاء الاختيار، وترتيب الأدوار، وطبيعة الخطاب الموجَّه ضدنا، واستفزازه للمشاعر الدينية، بأسلوب معلوم، استُخدم ضد من سبقونا من باحثين مثلنا، كانوا يؤدون المقدمات لما نؤديه نحن الآن، وقد أدَّى ذلك الدورَ أحدُ كُتَّاب المجلة المذكورة أعلاه، وهو أيضًا أحد أصحابها وهو نائب رئيس مجلس إدارتها الذي هو شقيقه، فهو سماحة صاحب الفضيلة القطب الصوفي العزمي حفيد الإمام المجدد وابن الخليفة الأول، وشقيق الخليفة القائم لمشيخة الطريقة العزمية الشيخ السيد اللواء عصام الدين ماضي أبو العزائم، وهو فيما تزعم المجلة المذكورة سليل الحسن والحسين، أي إنه من آل البيت، أي إنه هاشمي في حساب الأنساب. ومن هنا حشَد الشيخُ اللواءُ ما ينوء به من ألقاب ضدَّنا ليتناول كتابَ «الحزب الهاشمي» وصاحبَه بالقذف والتشهير والسبِّ والتفكير، لكن كل ذلك في رأينا، رغم تجاوزِه لآداب الخطاب وقواعدِ اللياقة لم يُشكِّلْ سوى زوبعة كلامية لم تُغنِها تجاوزاتُها وأغراضها عن أن تكون كالعهن المنفوش، بحيث كشفتْ عن سوء فهمٍ متعمد، وإسقاط لسوء الغرض على نوايانا وما تُخفي صدورنا، وهو الأمر الذي يكشف عنه وضْعُ السيد اللواء الطبقي وانتماؤه الوظيفي، وظرفُه السيادي، ومنظومتُه التي يحتلُّ فيها مكانًا ومكانة، وعليه فإن كل ما قدمه السيد اللواء ليس فيه ردٌّ موضوعي واحد يستحق المناقشة، بقدر ما هو لون من التحريض الواضح؛ لذلك رأيناها من جانبنا استفزازًا وتهجُّمًا نعلم خلفياتِه، ومن هنا فقط وليس من قيمة الموضوع يأتي اهتمامُنا بالاستجابة له حتى يكونَ هناك تقييمٌ دقيق للقدرات، وممكنات الطرفين في تلك المعمعة التي توشك على البدء والله المستعان.
منهج الخطاب
وقد اتبع الشيخ اللواءُ منهجًا معتادًا، ليس له غرضٌ سوى هزيمة الخصم بأي أسلوب ممكن، حتى لو كان تزييفًا متعمدًا على القارئ لتحقيق الغرض الأساسي وهو التحريض! ومن هنا قام السيد اللواء يقتطع من كلامنا على هواه، وينتزع عباراتِ كتابنا من سياقها على نمط «لا تقربوا الصلاة» بحيث شوَّه ما كتبنا، وقال غيرَ ما قلناه، غيرَ مدركٍ إلى أي منزلق ذهب، لكنه لم ينسَ تخويفَنا، فوضَع في صدْر لعناته وسِبابه صورةً لسيادته بزيِّ الشرطة الرسمي، تعمَّد فيها أن يُلقيَ بكتفه الأيمن أمام عدسةِ المصوِّر، ليظهرَ ما يحمله كاهلُه من أثقال، ولبيانِ صورةِ النسر والسيفَين لكل ذي عينَين.
وهكذا يعلم القارئُ من الصورة البهية، والألقاب السنية، أننا أمام مهاجم ذي شأن، يجمع بين قدرات العارفين الواصلين، وسلطان أهل السلاطين، إضافة إلى ما أبانه من إحاطة بالقول المأثور، والدر المكنون، مثل أقوال «برنارد شو» و«كارلايل» والمؤرخ «ديورانت»، ومدائح السيد «ويلز» ومواجيد المستر «هارت»، فأبان عن علم واضح بالأقوال الابتدائية التي كنا نحفظها من كتاب المطالعة الرشيدة، ليكسبَ بها ثقة من لا يفقهون القولَ فيتبعون أسوأَه، وأول ما يسترعي العجب في هجوم السيد اللواء، أنه لم يضعْ لموضوعه عنوانًا، إنما صدَّره بلافتة عريضة، تحمل الآيةَ الكريمة: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، وهكذا بدأ الرجلُ موضوعَه بأحسن الكلام، لكن اختيارَه للآية وانتقاءه لها مع ربطها بما نسبه إلينا يكشف أنه بدأ بالغمز الصريح واللمز الواضح «ويل لكل همزة لمزة»، مستغلًّا كلام الحق تعالى في غير موضعه، موظِّفًا كلمات القرآن الكريم لغرض السبِّ والقذف! وبحيث تَحوَّل ضابطُ الأمن من الحفاظ على أمْن المواطن والذي يتقاضى عليه راتبَه ضرائبَ من جيوبنا إلى محرِّض لشذَّاذ الآفاق، من تتر هذا الزمان الرديء ليستأصلوا شأفتَنا وشأفةَ ولدِنا من أطفال أبرياء، بعد أن ألصقَ بنا تهمةَ الكفر والضلال.
فلا تطالعُ أولَ كلماته إلا وتجده يقول عن كتابنا: إن به آراءً وأفكارًا ضد الإسلام ونبي الإسلام وضربات خفية وظاهرة للإسلام وكعبة الإسلام! وأننا فعلنا ذلك بوضْع السمِّ في العسل؛ وهكذا ورَّط ذو السيفَين نفسَه بإصداره الأحكامَ، بزعمه القدرة على قراءة النوايا بغير بيان؛ لذلك بات من حقِّه علينا لوجه الأمانة أن نُعلمَه بحقيقة موقفه معنا، بقولنا يا ذا السيفَين لقد تجاوزتَ حدودَ وظيفتك، بل وعكستَ الأدوار ووظَّفتَ قلمَك بتسرعك غير المحمود، فأصبحتَ أهلًا لما يمكن أن نقول.
ونُتابع مع السيد اللواء القطب الصوفي مسيرتَه التكفيرية في تكفيرنا دون بيان، سوى قراءة النوايا ربما في المندل أو في الفنجان! فيقول باجتراء غريب إننا لا نؤمنُ بالرسالة التي أرسلها اللهُ دون أن يشقَّ بأحد سيفَيه عن قلبنا ويقرأ ما فيه، بل ويذهب إلى حدِّ الزعم أن كلامنا في الحزب الهاشمي لم ينطقْ به كافرٌ يُعادي الإسلام، بل ونقف الآن مع أخطر انتقاءات السيد اللواء المختلَّة؛ حيث يقول: «جاء في كتاب الحزب الهاشمي أن عبد المطلب بن هاشم كان من ذوي النظر الثاقب، والفكر المنهجي المخطط، استطاع أن يقرأ الظروفَ الموضوعية لمدينة مكة، وأن يخرجَ من قراءته برؤية واضحة، هي إمكان قيام وحدة سياسية بين عرب الجزيرة، تكون نواتُها ومركزها مكةَ تحديدًا، رغم واقع الجزيرة المتشرذم آنذاك.» ويؤيد ذلك بقول عبد المطلب إذا أراد اللهُ إنشاءَ دولة خلَق لها أمثالَ هؤلاء، وهو يشير إلى أبنائه وحفدته. ويقصد الكاتب أن عبد المطلب كان يسعى لإنشاء دولة هاشمية يكون هو ملكَها ومن بعده أولاده. وصل إلى حدِّ اتهامِنا بالطعن في الرسالة والقرآن، وأننا قمنا نضربُ آياتِ الكتاب الكريم بعضها ببعض.
ثم ينهال علينا سماحةُ الشيخ، الذي لا يتسمُ بسماحة القول، سِبابًا قائلًا: «فإن لم يكن هناك ردٌّ لمن يسبُّ الإسلام، فيكفينا ردُّ غيرِ المسلمين عليه وخاصةً كارلايل.» وقد أتى بهذا الردِّ في نماذجَ منها «البُلْهُ، المجانين، السفهاء، نِتاج جبل الكفر والجحود والإلحاد، دليل خُبْث القلوب وفساد الضمائر وموت الأرواح» إلى آخر قائمة ما في جعبة القطب العزمي من بديع الألفاظ منسوبة إلى «كارلايل».
اللواء يلوي الكلام
ولأن انتقاءاتِ الشيخ اللواء لكلامنا، حتى وهي مقطوعة من سياقها، لم يكن فيها ما يدين أو يشين، فقد كان يردف بعد كلِّ مقطع تعليقًا من عنده يقول فيه: «ويقصد الكاتبُ كذا وكذا، ويعني الكاتب كذا وكذا، وكأن الكاتب يريد كذا وكذا، إلخ.» فيدسُّ أنفَه في عملنا، ويملي على القارئ البريء الموقفَ المطلوب منا ويحمل نوايانا ما لا تحتمل من نواياه، ونموذج لذلك أمثلة منها: «ويقصد الكاتب أن عبد المطلب كان يسعى لإنشاء دولة هاشمية يكون هو ملكها ومن بعده أولاده (ص٢٠)، وكأنه يقول إن الكعبة المشرفة هي من صُنع العرب لأنها صَنعت كعبات أخرى كثيرة (ص٢١)، وكأنه يريد أن يضربَ الآيات بعضها ببعض «ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله» (ص٢٣)، ويعني الكاتب بقوله إن النبي ﷺ قد توعَّد القومَ بالذبح، ونفَّذ هذه الرغبة في غزوة بدر الكبرى (ص٢٣).»
ونقول للسيد اللواء: نعم، لقد قلنا بالفعل ما نصُّه: «عندما غمز أشرافُ قريش من قناة النبيِّ ﷺ وهو يطوف بالكعبة، التفتَ إليهم هاتفًا: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسُ محمدٍ بيده لقد جئتُكم بالذبح.» وكان طبيعيًّا عندما يُقسم نبيٌّ أن يبرَّ بقَسمِه؛ لذلك عقَّبْنا بالقول: «وقد برَّ النبيُّ ﷺ بقَسمِه في بدر الكبرى.» لكن القطب الصوفي يرفض ذلك الخبرَ برمته كما لو كنا قد افتريناه، أو ليجعلَ القارئَ يعتقد ذلك، بينما الخبر متواتر في كتب السير والأخبار الإسلامية، فإذا كان في الأمر ملامةٌ فهي على السيد اللواء؛ لأنه لا يقرأ، وإذا كان مُصرًّا فليتوجه بمعركته إلى التاريخ الإسلامي ولا نظنه بفارس لهذا الميدان.
ونعم قلنا إنه كان للعرب في زمن بعيد، عددٌ من بيوت الآلهة التي كانت تُبنَى على هيئة المكعب؛ لذلك سُميت كعباتٍ، وذكرنا منها بيتَ اللات وكعبةَ نجران، وكعبةَ شداد الأيادي، وكعبةَ غطفان، والكعبة اليمانية، وكعبة ذي الشرى، وكعبة ذي غابة، وأرفقنا مصادرَنا في الهوامش (الإكليل الهمداني، وتاج العروس للزبيدي، وأصنام ابن الكلبي، والمفصل لجواد علي) مع كل معلومات النشر وأرقام الصفحات، فلم نفترِ شيئًا من عندنا، ثم ماذا في الأمر من مزعجات يريد بها فتنةَ القارئ؟ إنه يُسرِّب للقارئ قولَه: «إن الكاتب يقصد أن كعبة مكة بدورها من صُنْع العرب.» نعم إنها من صُنْع العرب، فقد تهدَّمتْ وبُنيَتْ عدةَ مراتٍ، وكلُّ مرة كانت تُبنَى من طين الأرض وحصبائِها وخشبِها، وكان بُناتُها هم العربَ أيها القارئ الكريم، ولا شك أن ذلك أمرٌ معلوم، والغرض عند السيد اللواء — مما يقول — أيضًا مفهوم.
وفي أقوال الشيخ اللواء متفرقاتٌ أخرى، مثل قوله: إننا تجرَّأْنا في تفسير القرآن، كما في تفسير الزنيم بأنه ابن الزانية في الآية الكريمة هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ والمضحك المبكي في أمر اللواء وهو يلوي الكلامَ ليُحرِّضَ علينا، نفيُه لذلك المعنى، وإتيانه بالمعاني التي يراها صادقة؛ ومنها «الزنيم هو الذي لا أصل معروفٌ له. وقيل هو الدعيُّ الملحَق بقوم وليس منهم.» وهكذا يتوهَّم سيادتُه في القارئ عدمَ الفطنة، غيرَ مدرِك أن القارئ سيلمس بوضوح أن حضرة اللواء لم يأتِ بجديد؛ ومعلوم أن مكة قبل الإسلام كانت تغصُّ بصاحبات الرايات الحمر (الزانيات بالأجر)؛ لذلك كان طبيعيًّا أن يَكثرَ أبناءُ الزنى والأدعياء. وفي حادثةِ نسبٍ لعمرو بن العاص إشارةٌ واضحة لكيفية حلِّ مثل تلك الإشكاليات في الجاهلية، فهل كان السيد اللواء يعلم، أم كان يلوي الكلام، أم هو بحاجة لأن يعلم؟ على أية حال كلنا دائمًا بحاجة لأن نعلم ونتعلم، فقط يجب أن يتسمَ بنزاهة الغرض وعلمية المقصد.
ويأتي الشيخ اللواء بقولنا: «إن النبي ﷺ قام يؤلِّب العبيدَ على أسيادهم بندائه اتَّبعوني أجعلْكم أنسابًا.» ويحتجُّ على قصرنا ذلك النداءَ على العبيد، ويزعم أنه كان موجَّهًا للعرب كافة، وأننا بذلك لا نعلم من التاريخ الإسلامي شيئًا! لذلك، وفي حدود علمِنا الضعيف نفهم أن ذلك النداءَ لو كان شاملًا للعرب جميعًا، لكان معنى ذلك أن جميعَهم كانوا بلا نسب، حيث كان النسبُ له أهميته القصوى في البيئة القبلية، حيث لا شُرطة، ولا أولوية لحفظ الأمن، فقط كانت قوةُ النسب هي الضامن القبلي لحماية الفرد، وحيث لا حمايةَ لمن لا نسبَ له، وعليه لا يصحُّ التوجُّهُ بالنداء «اتَّبعوني أجعلْكم أنسابًا» إلا لفاقد النسب؛ لذلك منَح النبيُّ ﷺ نسبَه لعبده زيدِ بن حارثةَ بعد أن أعتقَه، وهو المثال الذي ضربناه ولم يُعجب السيدَ اللواء.
الظروفُ الاجتماعية
ثم يستمرُّ الشيخُ اللواء مقتبسًا من كتابنا قراءة تاريخية، يوهم القارئَ أنه على علْم مسبَق بها، فيقول: «وإذا رجعنا إلى تاريخ العرب، نجدها لا تقبل النظامَ الملكيَّ وسيطرةَ المَلك على القبائل العربية؛ لأن ذلك يجعل لعشيرة المَلك سيادةً على بقية العشائر، وهو ما تأباه أنفةُ الكبرياء القبلي وتنفرُ منه، وقد ذكر الكاتبُ هذا المعنى في ص١٠ من كتابه، فإذا كانت هذه صفاتِ العرب، فكيف يحلمُ عبدُ المطلب بتأسيس دولة هو ملكٌ لها؟»
ومرة أخرى نقول: نعم ولا نتراجع قيدَ أنملة عما قلنا، فالكملةُ أمانة، لكنَّ اللواءَ رفيعَ المقامات نزَع ما قلناه من سياقه، وأعاد ترتيبَ الفقرات بحيث تؤدِّي التأثيرَ المطلوب لتحقيق التحريض وما يليه، لكنَّ ذلك لا يَعني أننا لم نقُلْ، بل وأيمُ الحق قلنا غير هيابين، فلم نقدم فرية مفتراة، ولا أضعنا العمر ندرس المنهج العلمي، ونطبق أصولَه في بحوثنا، لننسحب مع مثل ذلك تلك الزمجرات الأولية، وهنا نجدنا مضطرين إلى إعطاء ذي السيفَين درسًا في معنى قراءة الواقع قراءة علمية، والتي طبقناها على جزيرة العرب قبل الإسلام، والتي كانت هدفَ كتابِنا وغرضَه، وهو ما رأيناه بحاجة إليه، فأردنا به كسْبَ الثواب.
ومن هنا نقول: إن كتابنا كتابٌ في التاريخ الاجتماعي وليس كتابًا في الدين ولا أيٍّ من علومه، وُضع بغرض قراءة وفرز أحداث المرحلة القبل إسلامية، وقد تعمَّد القطبُ العزمي عدم الإشارة لتلك القراءة الاجتماعية بالمرة، رغم أنها العمادُ الأساسي للكتاب، تلك القراءة التي تكشف أنه لم يكن عبد المطلب وحده هو الذي أدرك تهيؤ الواقع لقبول الوحدة السياسية، بل أدركه آخرون، وسعوا إلى تحقيقه، مثل أمية بن عبد الله الذي أراد لنفسه النبوة والملك، ومثل عبد الله بن أبي سلول، الذي كاد يلبس التاجَ الملوكي لولا مجيءُ الدعوة، ومثل زهير الجنابي وغيرهم كثير، لم تعننا أشخاصهم قدر ما عنانا الأدوار الهامة المؤثرة، أثناء تقديمنا لقراءة الواقع الذي أفرز توجهاتِهم.
وهكذا فقد كانت مهمَّةُ الكتاب هي الكشف عن أوضاع الجزيرة الاجتماعية والاقتصادية وبخاصة مكة، وبهذا الكشف علمنا أن تلك الأوضاع، قد دخلت مرحلةً متسارعة من التغيرات الكيفية الناتجة عن تغيرات عديدة متراكمة، ومرتبطة بظروف أدَّت إليها، مما هيَّأ مكةَ للتحول من كونها مجردَ استراحة ومنتدى وثني دنيوي على الطريق التجاري، للقيام بدور تاريخي حتَّمتْه مجموعةٌ من الظروف التطورية في الواقع العربي والعالمي، وكان ذلك الدور هو توحيد عرب الجزيرة، في وحدة سياسية مركزية كبرى.
ومعلوم أن ذلك التطور ترافق معه صراعُ أولاد وأحفاد قصي بن كلاب على ألوية التشريف والسيادة في مكة، مما انتهى إلى انقسامهم إلى حزبَين كبيرين متصارعين هما «الحزب الأموي» نسبةً لأمية بن عبد شمس، و«الحزب الهاشمي» نسبةً لهاشم بن عبد مناف، بينما كانت الساحةُ تتهيَّأ لفرْز فكرة الوحدة، عبر سريان العقيدة الحنفية وانتشارها، بحيث ساهمتْ في تحطيم العصبية القبلية لسلف كل قبيلة، وأعادت صهرَ الجميع بإعادتهم معًا لسلف واحد مشترك هو إسماعيل بن إبراهيم — عليه الصلاة والسلام — كما ساهمت في القضاء على التشرذم القبلي، الذي كان يتأسس على تعصب كلِّ قبيلة لنسبها وسلفها الذي هو ربها دون أرباب القبائل الأخرى. وذلك بالعودة إلى إله واحد هو سيد الجميع، ومن هنا تهيأت الجزيرةُ لقبول فكرة الوحدة السياسية، عندما تهيأت لقبول فكرة السلف المشترك والإله الواحد، ومن هنا يكون توحيد الأرباب في إله واحد قد جاء عند الرواد الحنفيين كناتج طبيعي لهدير الواقع بذات السبيل، لكنه يسبق الواقع؛ لأن الفكرة تسبق الحدوثَ والتحقيق. وعليه فقد كان قبولُ الأرباب القبلية الانضواءَ تحت سيادة إله واحد، مقدمةً نظرية، تترك الباب مفتوحًا للقبيلة التي يمكنها تحقيق الأمل، كما كان يعني التوطئة المنطقية لقبول ما حدث في عالم السماء «عالم الفكرة» ليحدث في عالم الأرض «عالم الواقع» وقد حتَّمت الظروفُ وتضافرت الأحداث بحيث صبَّت الأقدار في يد قريش، وفي البيت الهاشمي الذي أخذ على عاتقه تحقيقَ هذه الأمر العظيم، والذي ترافق وتزامن مع تواصل الأرض والسماء وتطابق الفكرة مع حاجة الواقع وضروراته، ومع هبوط الوحي الذي تهيَّأت له الأسباب فمهَّدت له أرض الواقع، بحكمة لا تخضع لمؤامرات في التاريخ، ولا لرغبة قبيلة، ولا لإرادة عبد المطلب أو غيره من أفراد، إنما تضافرت له الأسباب التي تراكمت عبر فترةٍ زمنية حتى نضجت لفرْز واستقبال الإسلامِ تحديدًا، فهل شرحنا وأوفينا؟ ويا أبا العزائم لا بأس إن شدَّدتَ من عزائمك بمزيد من المثابرة على الاطلاع والتحصيل، ففيهما فضلٌ آخر إضافة لفضْل الأذكار والمواجيد، ويا أبا العزائم نظرة، ولكن في الكتب!