حول الحاجة لتحديد المفاهيم١
من لحظة زمنية بعينها، تلك التي تواصلتْ فيها السماءُ مع الأرض عند نزول الوحي القرآني، ومن مكان بذاته يتمركز في بلاد الحجاز من جزيرة العرب، تحدَّد «زمكان» التراث لدى أصحاب الاتجاهات الأصولية الإسلامية، بل إنه من جانبٍ آخر ذات التحديد لدى شريحة كبرى من الباحثين المهتمِّين بالدراسة حول الهوية والآخر وفْقَ تصوُّرٍ عروبي ضروري جامع يلتقي بالضرورة بالتأسيس الأصولي الإسلامي لمعنى التراث كمرجعية أولى أساس، وهي الرُّؤَى المؤسَّسَة سلفًا على مقدمات تُحاول إيجادَ جامعٍ مشترك، كناتج لعدم تأسيسٍ اصطلاحي ومفهومي واضح، لمفاهيم «الوطن، العروبة، الأمة القومية، التراث».
وذلك بدوره ليس إلا ناتجَ الالتباس الحادث بين «الإسلام» كعقيدة جامعة لمجموعة شعوب تَدين به، وبين «العروبة» كهويَّة قومية جامعة لمجموعة الشعوب الناطقة بالعربية، وتتشارك عبرَ التاريخ في تفاصيل تؤطرُ لفكرة توحُّدٍ أصيل باعتبار أن المفهوم العروبي يتأسس تاريخيًّا على فتوحات عربِ الجزيرة للأقطار المحيطة والتي تحوَّلت إلى العروبية «لغة» لتؤسِّسَ دولةً عقدُها الجامع هو الإسلام، وتحوِّلَ شعوبَ الأقطار المفتوحة إلى العقيدة الإسلامية المؤسسة للدولة الأولى «دينًا».
ومن ثَم تأرجحت حالةُ الالتباس حول الهوية، بين مفهومي «العروبة» و«الإسلام» ليُلقيَ كلٌّ منهما بظلاله على مفهوم «المواطنة» بخاصة إذا أخذنا بالحسبان أن شعوب البلدان المفتوحة وإن تحوَّلت جميعًا إلى اللغة العربية (لغة قريش)، فإنها لم تتحوَّلْ جميعًا إلى عقيدة الإسلام «دينًا»، وعليه فقد ظلَّ داخل تلك المجموعة البشرية عربًا لا يدينون بالإسلام، وبين تحديد الهوية الساري الآن بالإسلام، وردِّ فعل العربي غير المسلم بتحديد هويته بدينه، ضاع الوطنُ بين الطرفين، وإعمالًا لذلك يُصبح الالتباسُ والتداخل بحاجة ماسَّة إلى تحديدٍ مفهومي واضح، يرتكز على قراءة علمية تاريخية مجتمعية لرفْع الالتباس، والبدء من مرتكزات واضحة.
القطيعةُ التاريخية والمعرفية
والسؤالُ الأهمُّ هنا هو: هل شكَّل الإسلامُ قطيعةً تاريخية ومعرفية مع ما سبق، بحيثُ يمكن احتسابُه وحدَه مع بدايةِ تواتُرِ الوحْيِ هو كلَّ تراث الأمة؟
على مستوى الرُّؤَى الأصولية لا بد أن تكونَ هناك قطيعةٌ تاريخية، فيبدأُ الإسلامُ مِن لا شيء، فهو مفارقٌ سماوي، أزليُّ الكلمةِ المقدسة، غير مرتبطٍ بماضٍ أرضي، رغم الواضحِ في القرآن الكريم وما لَحِقه من أحاديثَ نبوية، وما ارتبطَ به من أحداثٍ تَجادَل معها الكلمُ المقدس أخْذًا وردًّا، فاعلًا ومنفعلًا مؤثِّرًا ومتأثِّرًا وما تأسَّسَ على كلِّ هذا فيما بعدُ من اصطراعاتٍ مذهبيَّة ورُؤَى فلسفية استندتْ إلى جدَلِ القدسِ مع حدثِ الواقع الموضوعي، وهو ما يُشير بوضوح إلى تناقضِ تلك الرؤية مع قواعدِ الإيمان ذاتِه وتاريخِ الدعوة ناهيك عن استحالةِ القطيعة التاريخية؛ لأنه لا شيءَ إطلاقًا يبدأ من فضاء دونَ قواعدِ مؤسساتٍ ماضوية يقوم عليها، ويتجادلُ معها، بل ويفرزُ منها حتى لو كان دينًا.
والدارس لآيات الوحي يجدُها تُنبئه بوضوح أنه لم يكن هناك قطيعةٌ معرفية — أيضًا — مع السابق الأرضي، وإن تشكَّلتْ تلك القطيعةُ بالفعل على المستوى الإيماني البحت كناتجٍ لتأسيس الإسلام لذاتِه ولمصداقيته على طرفَين، الأول الاتصال بذلك القديم وتقديم معرفةٍ به، ثُم على الطرفِ الثاني تَمَّ نفيُ هذا القديم باعتباره أفكارًا باطلة وعقائدَ أممٍ كافرة، وهو الأمر الذي ساعَد على لَونٍ خطير من فقدان الذاكرة التاريخي الجماعي، وأسهَم فيه بدور أساسي وتامٍّ انقطاعُ الشعوب المفتوحة عن لغاتها القديمة باعتبارها وعاءَ ذاكرتِها وتاريخها وحضارتها وحاصل خبراتها وتفاعلها مع واقعها عبرَ زمنٍ طويل، وما أفرزه ذلك التفاعلُ من ثقافة احتوتْها اللغةُ المفقودة.
وعليه (على سبيل المثال) فقد انقطع المصريُّ عن تاريخه، ولم يَعُدْ يذكرُ من ذلك التاريخِ سوى ما قدَّمه له الإسلامُ من معلوماتية بشأنه، وهي المعلوماتية التي تُحدِّد الموقفَ المعرفي ليس بكونه تاريخًا، وموضوعًا للمعرفة، إنما بوقوعه بين طرفَي معادلةِ الإيمان والكفر، وبالتالي تمَّ تلخيصُ ذاكرةِ مصرَ بكلِّ تاريخِها في فرعون طغَى، وتجبَّر فكان مصيرُه الهلاكَ غرقًا مع قومه المجرمين، وهو الأمر الذي يسحبُ ظِلالُه على الحاضر الآني، حيث لا يُصبحُ للمصريِّ تاريخٌ قبل الفتح، وتنقطع الذاكرةُ، وتتحوَّلُ الهويةُ المفقودة نحو الدين وطنًا وتاريخًا، ويُصبِحُ صدْقُ الإيمان مع الإسرائيليين، الذين خرجوا من مصر الكافرة ليحتلُّوا فلسطين احتلالًا استيطانيًّا مشروعًا من وجهة نظر الإيمان! ويُصبح المصريُّ مع موسى ويشوع، ليبارِكَ غرَقَ التاريخِ بالكامل مع العصا المعجزة، وهو الأمر ذاتُه الذي يُكابدُه الواقعُ الفلسطيني، حيث لا بدَّ للمسلم الفلسطيني أن يكونَ مع طالوتَ الإسرائيلي ضدَّ جالوتَ الفلسطيني، وهو الأمر الذي يَصدُقُ أيضًا على نمروذ العراق الكافر إزاءَ أرومة إسرائيل إبراهيم، وعلى كنعان إزاء سام إلخ، وهي الأمثلةُ التي تُوضِّح إلى أيِّ مدى هي إشكاليةُ الوطن والمواطنة والتباساتها إزاء الديني والقومي.
الإسلامُ إذن لم يُشكِّلْ قطيعةً معرفية مع ما سلف، إنما تجادل معه وحاورَه ثُم نفاه ليُصبحَ الوحيُ هو مصدرَ ذاكرةِ الأمة، وهو وحدَه كلُّ تاريخِها ومصدرها المعرفي، وعليه يتأسَّس الموقفُ إزاءَ أيِّ طارئٍ أو أيِّ معرفةٍ أخرى، وبموجبه تَصدرُ الأحكامُ والتقييماتُ بصدد ما يتعلَّق بما سبقَ ثُم باللاحق أيضًا.
وعلى مستوى العقائد، لم يُشَكِّلِ الإسلامُ قطيعةً معرفية مع الأديان السابقة عليه، بل اعتبر نفسَه امتدادًا لبعضها كما في موقفه من اليهودية والمسيحية، بل إنه أَسَّسَ ذاته سابقًا لها، وأنَّ اعترافَه بها لأنها كانت إسلامًا بالأساس، ثم نافيًا لبعضها الآخر، كما في نفيه لعقائدَ أخرى كعبادة الأوثان، باعتبارها عقائدَ باطلة، لكنه في تحاوره مع الديانات التي أُطلق عليها «الديانات الكتابية» أصدر أحكامَه بشأنها، وأبطل ما بقي مستمرًّا منها، إما لأنها انحرفتْ عن أصلها الإسلامي؟ أو لأنها حرَّفتِ الكَلِمَ المقدَّس عن مواضعِه، أو لأنَّ الدينَ في النهاية قد أصبح عند اللهِ الإسلامَ فتساوى الكلُّ، وأصبح الكفرُ ملَّةً واحدة، وعليه فقد أصبحتِ المعرفةُ المعلوماتية لدى المسلم عن تلك الديانات تُستمَدُّ أصلًا مما قدَّمه الوحيُ والتاريخ الإسلامي بشأنها، وهو ما أدَّى إلى انقطاعٍ داخل شرائح المجتمع العربي، تُساعد عليه كافةُ أجهزته الإعلامية والتربوية، التي تتحدَّثُ جميعًا طوالَ الوقت دون كللٍ أو مللٍ بتَكْرارٍ شديدِ الإملالِ عن الإسلام وقواعدِه وتفاصيلِه وشروحه، مما يُعطي للعربيِّ غيرِ المسلم معرفةً كافية بالإسلام، بينما يظلُّ المسلمُ العربي لا يعلم من شأن عقيدةِ المواطن العربي غيرِ المسلم، سوى ما قدَّمه له الإسلامُ، وهو ما أدَّى بالضرورة إلى اغتراب العربيِّ غيرِ المسلم عن معنى المواطنة، واحتمائِه بدينه ليُصبحَ دينُه وطنًا، وهو ما سبَقَه إليه العربيُّ المسلمُ عندما فقَد ذاكرتَه وتاريخه.
تاريخيةُ النصِّ
والمُطالِعُ للمأثور الإسلامي، وما لَحِقه من تاريخٍ وتفاسيرَ وسِيَرٍ وفلسفات وعلوم دين، يكتشفُ إلى أيِّ مدَى توقَّفَتِ الذاكرةُ العربية عند لحظةِ نزولِ الوحي، وإلى أيِّ مدَى انقطعتْ عن ماضيها، وهو الأمرُ الذي استمرَّ يتأكَّدُ بفعل الإصرارِ على فكرةِ الشخصية الثقافية الثابتة، وأنَّ تلك الثقافةَ ليست بالأصل أرضيةً، بل هي مفارقةٌ سماوية، وأنها الأصلُ في كلِّ ثقافة أخرى، وأنَّ ثباتَها هذا ينفي أيَّ محاولةٍ لبحْثِ تاريخيتِها، فقد جاءتْ جاهزةً هكذا من الأزل، ودُوِّنتْ في لَوح أزليٍّ محفوظ، دونَ ارتباطٍ بأيِّ سببٍ موضوعيِّ وقْتَ تواتُرِ الوَحي «رغم تناقض ذلك مع تقرير الوحي ذاتِه».
وعليه أصبح بالإمكان اجتزاءُ أيِّ نصٍّ من بين النصِّ القرآني الكلي، ونَزْعُه من سياقه مع باقي الآيات، وسحبُه من لحظتِه التاريخية التي سبَّبتْه لدعْمِ أيِّ موقفٍ آني نفعي حسب المصلحة المراد تحقيقُها. أما الأخطرُ — برأينا — في رفْضِ تاريخية النصِّ، هو أن هذا الموقفَ تحديدًا هو السببُ الجوهري والأساس في تلك الالتباسات المشارِ إليها، وعدم الوصول إلى تحقيق دقيق بشأنها، كنتيجة لعدم أخْذِ الأسبابِ الحقيقية والموضوعية بالاعتبار، والتي أدَّتْ بالنبي، وبالوحي إبَّانَ تواتُرِه، إلى اتِّخاذ مواقفَ بعينها من ذلك المأثورِ الحضاريِّ القديم، أو من الديانات السابقة وأصحابِها، وهو الأمرُ الذي بات يحتاجُ إلى تقديم دراساتٍ واضحة جريئة بشأنِه، والتعامل في درْسِها مع النصِّ بوصْفِه مُعبِّرًا عن واقعه في حقْلٍ موضوعي للأحداث إبَّانَ ثلاثةٍ وعشرين عامًا هي زمنُ تواتُرِ ذلك الوحي.
وهو ما يستدعي عملًا دَءوبًا يربِطُ حقْلَ الأحداث بتصنيف الآيات، والمكيُّ منها والمدنيُّ مرتبطٌ بظرف كلتا المدينتَين وواقع البشر فيهما مع دراسة وافية لعلاقة النبيِّ وأتباعِه بأصحاب الديانات الأخرى وما مرَّتْ به تلك العلاقةُ من متغيراتٍ فرَضَها ظرفُ الواقعِ وتطوُّرُ الدعوةِ، وأدَّى إليها وأفرزها، وعلاقةُ كلِّ هذا بالمستوى المعرفي لجزيرة العرب وكم وحدات تذكر العربي البدوي، وما ألقته البداوةُ من صِباغ على تراكُمِه المعرفي «وهو لا جدال مستوى الخطاب القرآني الموجَّه إليهم»، مع تأسيسِ كلِّ ذلك على قراءةٍ علمية صارمة لواقع الجزيرة ومحيطها، من حيث البنى المجتمعية والأنماطُ الاقتصادية والأشكال السياسية، وهو الأمر الذي نظنُّه قد أصبح ضرورةً ماسَّةً الآن، وربما ذهبْنا إلى أن الأمر بهذا الشكل مطلبٌ مصيري لا يتناقض إطلاقًا مع قداسة الدين، بل نزعم أنَّ هذه المطالبَ تُوقِفُ عملياتِ التزييف والتدليس والتخديم الانتهازي للنصِّ الديني، مما يحفظ له كيانَه وقداستَه، وفي ذات الوقتِ يرفع الالتباساتِ عن المفاهيم المطلوب تحديدُها، ويساعدُه على استقرارها وتوقُّفِها عن الرجرجة بين باحثٍ وآخر، ورؤيةٍ وأخرى، وهو ما يمكن أن يؤدِّيَ إلى حلِّ كثيرٍ من الإشكاليات البحثية الداخلة في همومنا الآنية.