«النص» بين الأزلية والتاريخية١
عنوانُ هذا الموضوع، يُلخِّصُ — في رأينا — سِرَّ الأزمةِ التي آثارها الشيخُ «عبد الصبور شاهين» إزاءَ أعمالِ المفكِّر «نصر أبو زيد». حيث انطلق الشيخُ «شاهين» من موقف مألوف، يُصِرُّ على فكرة الشخصيةِ الثقافية الثابتة المتماهية مع النصِّ الإلهي، بحيث يَظلُّ ثباتُ المفهوم القدسي، ضامنًا لثبات المواقع السيادية لرجال المنظومة الدينية، بمعنى ثباتِ النصِّ كوحدة كُتلية واحدة من الأزل. وأنَّ هذا الثباتَ الكتلي غيرَ المتغير قد جاء — كما هو معلوم — نتيجةَ انتهاءِ جدلٍ فلسفي قديم حولَ قِدَمِ النصِّ أو حداثتِه، بانتصار سياسي سيادي لأصحاب فكرة الأزلية والقِدَمِ والثبات، بتحالُفِ أُسُسٍ لأصحاب تلك الرؤية مواطئ قدَمٍ ثابتة دائمة في المنظومة السيادية، التي يجب أن تقومَ دومًا على الثباتِ الشروع قدسيًّا. وبعدها أصبحت أيُّ محاولة للمناقشة لونًا من الكفران المبين! مع الأمرِ غيرِ الخفي الذي يبين في تماهي وتماسك المنظومة السيادية التحالفي مع مؤسستها الدينية، وبالتالي مع صاحبِ النصِّ الذي يمثِّلونه على الأرض، كمعبِّرين دائمين عن ثبات كلمتِه، وثباتِ العروش القائمة في الآن ذاته.
ومن ثَم كانت أيَّةُ محاولةٍ لنبْشِ ذلك المفهومِ السائد الثابت، حول الثباتِ الكُتلي المتوحِّدِ للنصِّ مع ذاتِه ومع صاحبه ومع الأزل، والذي يُؤكِّدُ أنَّ النصَّ كان في الأزل كتلةً واحدة متماسكة سماوية مفارقة للأرضي وأحداث الواقع، تعني هزَّ الأسس السيادية التي تقوم عليها تلك المنظومة، وهو ما كان يُوجب بالطبع ردًّا عنيفًا حديًّا بين قراري الإيمان والكفر، وهو الردُّ الطبيعيُّ غير المدهش إطلاقًا، وهو الردُّ نفسُه الذي يضرب في عُمْق الماضي، الذي استخدمتْه الطبقاتُ السائدة دومًا عبرَ وُسطائِها المحترفين من رجال الدين، كما استخدمتْه منظومةُ رجال الدين ذاتها، لتأمينِ مصالحها الخاصة، بإبقاء النصِّ معلَّقًا في الفضاء غير مرتبط بأي واقعة تاريخية كانت سببًا له، لأمرٍ مفهوم تمامًا استمرَّ عبرَ أربعة عشر قرنًا مضتْ، رزَح فيها المسلمون تحت كافةِ أنواع القهر الطبقي والطغيان السلطوي. الذي عادة ما كانت تتغيَّر مظاهرُه وتتفاوت بتفاوت أحوالِ المكان والزمان، وعادة أيضًا ما كان يجدُ ذلك القهرَ المتفاوت سنده في النص الذي يفلسفه رجالُ الدين، بسحْبِ أيِّ آيةٍ قرآنية في سياقها النصي، وبتر صلتِها بسابقها ولاحقها، وهم بذلك يسمحون لأنفسهم وحدَهم بفضِّ ذلك التماسُكِ الكتلي الذي يدافعون عنه، وفي الوقت ذاتِه يقطعون علاقةَ الآية المطلوبة بواقع الحالِ الذي سبقتْ بشأنه في أوانها.
استخدامٌ نفعي
وهكذا يظلُّ النصُّ دومًا رهْنَ الاستخدامِ النفعي، لتبرير مواقفَ قد تَصِل إلى حدَّ التناقض التام مع بعضها، وبالتالي التناقض التام في الآيات المعبِّرة عن تلك المواقف المتناقضةِ والمبررة لها، ولا تحتاجُ إلى جهدٍ كبير لكشْفِ ما وراءها من مصالحَ ومواقفَ هي ضدُّ إنسانيةِ المواطنِ وكرامته.
وقد كان ذلك الاستخدامُ الانتهازيُّ الدائم للنصِّ الديني مصدرًا لعددٍ من الانتكاسات الفادحة، حتى وصل الأمرُ أحيانًا إلى استخدام النصِّ لتبرير أهواء ونزوات للحاكمين، هي ضدُّ الوطن وضد المواطن وضد الدين ذاته.
وعليه فإنَّ أيَّةَ محاولةٍ لإعادة النصِّ إلى سياقه وبنائِه الداخلي، ومحاولة تحليلِه وإدراك علاقاته ببعضه، وعلاقته بواقعه الحدثي وسياقه الخطابي — وهو الأمرُ الذي يُعيد له احترامَه ومفهومَ قُدسيته — كانتْ مثلَ تلك المحاولاتِ، في معناها الأخطرِ هي ارتجاجُ عروشٍ بدأت الأرضُ تميدُ من تحتها بالفعل، وآنَ مغربُها. وعليه كان ردُّ الفعلِ الذي أدهش كثيرين، رغم أنه لم يكنْ مدهشًا على الإطلاق.
ويبدو أنَّ الأمر سيظلُّ كذلك بعضَ الوقت، وهو ما لن يحسمَه إلا أن يضع المفكِّرون المخلصون بحسبانهم، أن القضيةَ قضيةٌ نضالية في المقام الأول، إضافةً لكونها قضيةً علمية، لا تحتملُ تمييعَ المواقف، أو المصالحةَ حول مناطقَ وسطية تَصالحيَّة، فالأمرُ الآن مصيرُ أمة بكاملها، لم يَعُدْ بالإمكان إخضاعُه لنزوات الرجال وأهوائهم.
وإزاءَ التسارُعِ في اتِّساع المسافةِ بين أحوالِنا وأحوالِ الأممِ المتقدمةِ، لم يَعُدْ هناك وقتٌ لإرجاء حسْمِ كثيرٍ من المواقف الفكرية، التي ترتبطُ بشدةٍ بمصير البلادِ والعباد، ويبدو أن هذا قدرُنا، وأن هذا زمنُها، فإنْ ذهَب بلا حسْمٍ لكثير من القضايا المسلَّط فوقها سيفُ التكفير، ومنها القضيةُ عنوان هذا الموضوع، فلن يكونَ هناك بعدُ مساحةٌ لمناقشة أمورِ هذه الأمة؛ لأنه لن يكونَ بعدُ هناك أمة.
سرُّ الأزمةِ
إن ظاهرةَ النسخِ تُثير في وجْهِ الفكرِ الديني السائدِ المستقرِّ إشكاليتَين «يتحاشى مناقشتهما»، الإشكالية الأولى: كيف يمكنُ التوفيقُ بين هذه الظاهرةِ بما يترتب عليها من تعديلٍ للنصِّ بالنسخ والإلغاء، وبين الإيمانِ الذي شاع واستقرَّ بوجودٍ أزليٍّ للنصِّ في اللوح المحفوظ، والإشكالية الثانية: إشكاليةُ جمْعِ القرآن، وما يُورده علماءُ القرآن من أمثلة تُوهِمُ أنَّ بعضَ أجزاءِ النصِّ قد نُسيَتْ من الذاكرة الإنسانية، ولم يُناقشِ العلماءُ ما تُؤدِّي إليه ظاهرةُ نسْخِ التلاوةِ أو حذْفِ النصوصِ سواء بَقيَ حكمُها أم نُسِخ أيضًا، من قضاء كامل على تصوُّرِهم الذي سبقَتِ الإشارةُ إليه، لأزليَّةِ الوجودِ الكتابي للنصِّ في اللوح المحفوظ. إنَّ فهْمَ قضيةِ النسخِ عند القدماء، لا يُؤدِّي فقط إلى معارضةِ تصوُّرِهم الأسطوري للوجود الأزليِّ للنص، بل ويؤدِّي أيضًا إلى القضاء على مفهوم النصِّ ذاته.
التناقض
وأن التناقضَ يَظهرُ واضحًا جليًّا، عندما نجدُ أنَّ أيَّ محاولةٍ لمناقشةِ أزليةِ النصِّ تُتَّهَم فورًا بالكفر والإلحاد، وفي الوقت ذاته، ودون أن يطرفَ لهم جَفنٌ يأخذون قضيةَ النسخ من المسلَّمات، ومَن لا يؤمن به كافرٌ بدوره، ولا نجدُ مبرِّرًا لكِلا الموقفَين المتناقضَين غيرَ الإبقاء على بدائلَ تظلُّ دومًا متاحةً للتخديم على المصالح وقتَ الحاجة، حتى لو كانت تلك المواقفُ شديدةَ التناقض.
وللحقِّ، فإنَّ الإصرارَ على وقوع النَّسْخِ هو موقفُ حقٍّ، لكنه يحتاج في الجانب الآخر التنازلَ عن المفهومِ السائد حول الأزلية والثبات، ومن النماذج التي تُشير إلى التمسُّكِ بوقوع النَّسْخِ على سبيل المثال، ما جاء عند شيخِ علوم القرآن «جلال الدين السيوطي» في قوله: «قال الأئمة: لا يجوز لأحدٍ أن يُفسِّرَ كتابَ الله تعالى إلا بعد أن يعرفَ منه الناسخَ والمنسوخ. وقد قال عليٌّ رضي الله عنه لقاضٍ: أتعرفُ الناسخَ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلَكْتَ وأهلكْتَ.»
كذلك ما ورَد عن «أبي جعفر النحاس» في قوله: «ومن المتأخرين مَن قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخٌ ولا منسوخ. وهذا قولٌ عظيم جدًّا يئولُ إلى الكفر.»
وهو ما صادق عليه «الدكتور شعبان إسماعيل» وكيلُ الأزهر بقوله: «وأهميةُ معرفةِ النَّسخ تتضح مما يأتي: أولًا: أن أعداءَ الإسلام من ملاحدة ومبشِّرين ومستشرقين جحَدوا وقوعَ النَّسخِ وهو واقع، وثانيًا: أنَّ الإلمامَ بالناسخ والمنسوخ يكشفُ النقابَ عن سِرِّ التشريعِ الإسلامي، ويُطلِعُ الإنسانَ على حكمةِ اللهِ في تربيته للخلق وسياستِه للبشرية، وثالثًا: أنَّ معرفةَ الناسخ والمنسوخ ركنٌ عظيم في فهْمِ الإسلام، والاهتداءِ إلى صحيح الأحكام، فالمنكِرون لوقوع النَّسخِ في القرآن الكريم يُخالفون صريحَ النصِّ القرآني والسُّنةَ النبوية الصحيحة وإجماعَ المسلمين.»
وتأسيسًا على ذلك، يُصبح إنكارُ النَّسخِ لونًا من الكفر الصريح، والنَّسخُ إنما يَعني تاريخيةَ النصِّ وتفاعلَه مع واقعه وارتباطه بظروف ذلك الواقع، وفي الوقت ذاته فإن إنكارَ عكسِ ذلك ورفْضَ الأزليةِ والثبات كفرٌ بدَوره وهو ما يتبنَّاه الشيخُ الغزالي هذه الأيام، وبين الكُفْرَين يضيعُ المسلم ولا يبقَى سوى أن يَركنَ لمَن يُفسِّرون له الحكمةَ في التناقض، بالتعتيم على الإشكالية، لاستخدام المتناقضَين حسبَ الحاجةِ والطلب والمتغيرات، دون احترامٍ مطلوب لذلك النصِّ الرفيع، الذي تأكَّدتْ تاريخيتُه درسًا تربويًّا للمؤمنين به، تلك التاريخية التي أكَّدتْها نصوصُ القرآن الكريم ذاتها بما لا يحتمل لَبْسًا أو تأويلًا.