كشفُ الخُدَع فيما جاء به الخطابُ الديني من بِدَع١
هل يبدو العنوانُ مستفزًّا؟ لا شكَّ أنه كذلك لأول وهلةٍ؛ لأننا نخلطُ بشكلٍ غيرِ واعٍ بين الدين بقداسته التي تُمثِّلُها كتبُه الموحَى بها، وبين الخطابِ الديني الذي يستخدمه كلُّ مَن هبَّ ودبَّ للدفاع عن قضيته، حتى لو كانت أشدَّ القضايا بطلانًا، وهو الخلْطُ الذي انسحب من الدين على الخطاب الديني، وعلى أصحاب هذا الخطابِ أنفسهم، الذين عمَدوا إلى تأكيد ذلك المعنى، بالخلْط المقصود بين الدين في ذاته وبين خطابِهم المصلحي! حتى أصبحوا يَنعمون في نظَرِ العامة على الأقل بهَيبةٍ مستمدَّة من قداسة الدين، وبخوفٍ خُرافي من الزيِّ (اليونيفورم) الذي يرتديه رجلُ الدين المتكِّهن عادة، وهو ما ساعد أصحابَ الخطابِ الديني، دومًا على خِداع الجماهير ضدَّ مصالحِها، وتبريرِ أفظعِ المظالم، وتمريرِ أشدِّ الفظائعِ إثمًا، باعتبارها مشروعةً دينيًّا، وهو الأمر الذي تُدلِّلُ عليه إطلالةٌ سريعة على تاريخ الأنظمة «الثيوقراطية»، سواء في أوروبا أو في بلادنا، عندما كان الناسُ يَحكمون بمساندة رجالِ الدين، أو بهم مباشرة، خاصةً عندما يَدَّعون لأنفسهم قميصًا سَرْبَلهم اللهُ به، أو حقًّا إلهيًّا مزعومًا، وسواء كان ذلك الدَّعيُّ بابا أم سلطانًا أم خليفةً أم امبراطورًا.
ومن نكَدِ الدهر أن نعيَ هذا الخلطَ، ونَظَلَّ فيه سادرين، ومن ثَمَّ فإنَّ ما نسمعُ ونقرأ من كلامٍ مرسَل، لم يستطعْ أن يُفرِّقَ بوضوح بين الدين وبين المشتغلين بأمور الدين، وبين الدين وبين الخطابِ الديني، وبين الدينِ في ذاته كمقدَّس، سرُّ تقديسِه الوحيُ الإلهي، وبين الفكرِ الديني الذي يشرحُ أو يُفسِّر أو يُضيف أو يئول أو يستخدم ذلك الوحيَ لمأربه أو لوجه الله.
والمثالُ الأوضح هنا، أنَّنا نعلمُ جميعًا ولا شكَّ لحظة أنَّ الوحيَ القرآنيَّ هو كلمةُ الله الواحدة الثابتة، ومع ذلك فإنَّنا وجدْنا عبرَ متغيراتٍ سياسية واجتماعية، مَن كان يُبرِّر لنا النظامَ الاشتراكي بالقرآن والسنة والقواعد الفقهية، ثم جاءنا مَن يُبرِّرُ الاقتصادَ الحُرَّ ويُكفِّرُ الاشتراكيةَ والاشتراكيين، وبتغيير الأحوالِ عبرَ الأيام، وتداوُلِها بزوالِ نظامٍ اقتصاديٍّ اجتماعي وقيامِ آخر؛ كنا نجدُ لدى الخِطابِ الديني مشروعيةً كاملة لمحاربة دولةِ إسرائيل، بينما نجدُ في زمن كامب ديفيد كلَّ المبررين يتقدَّمون بدِلائِهم السلمية وآرائهم الشرعية، التي تُؤكِّدُ أنهم ما داموا قد جنَحوا للسَّلم، فعلينا أن نَجنحَ لها ونتوكلَ على الله (؟!). وفي حرب الخليج وجَد نظامُ صدَّام من رجال الدين في مختلف أنحاءِ بلادِ لا إله إلا الله العددَ الكافي لتبرير مواقفِه، وعلى الجانبِ الآخر وجَد المتحالفون ضدَّه (من المسلمين تحديدًا؛ لأن الأمريكان لم يفعلوها) مَن يُبرِّرُ لهم موقفَهم تبريرًا شرعيًّا.
وهكذا مع شديدِ الأسف، نهدرُ قيمةَ الوحي الصادق، ونتعاملُ معه «بفهلوة»، تُبرِّر ما نُريد، وترفضُ ما لا نُحِبُّ، وتُدافعُ عن ظلْم، وتُقرِّرُ لمواقفَ شديدةِ التنافرِ مصداقيتَها الدينية، وهو الأمرُ الذي يستهينُ بالوحي الإلهي، ويجعلُه مطيَّةً لكلِّ الأغراض، ويَمتهِنُ كلمةَ الله الصادقة، دون أن يَرِفَّ له جَفنٌ، وهذا هو بالتحديد ما نقصدُه بما جاء به الخطابُ الديني من بِدَع، ليستْ من صحيح الدين، ولا من سلامةِ الضميرِ ولا الإيمان.
ومِن ثَمَّ كان لا بدَّ من موقفٍ حاسم إزاءَ ما يحدُث، موقفٍ يَضعُ الشروطَ التي تَضمنُ احترامَ النصِّ، وتَمنعُ استثمارَه حسبَ الهوى والغرض، وربما لخدمةِ أشدِّ الأمورِ بُعدًا عن الحقِّ والإنصاف. ومن بين هؤلاء الذين أخذوا هذه المهمةَ على عاتقهم، المفكِّرُ المتميِّز «نصر حامد أبو زيد»، الذي حدَّد أساسًا لمشروعِه العلمي، يتمثَّلُ في أنَّ الدين يجب أن يكونَ عنصرًا أساسيًّا في أيِّ مشروع نهضوي، لكنه توطئةٌ لذلك أعطَى من عُمُرِه الكثيرَ لإيضاح أن الدينَ ليس هو الخطابَ الديني، والذي يُمارِس دورَه بشكلٍ أيديولوجي نفعي، إنَّما الدينُ هو النصُّ الديني الموحَى به بعد تحليلِه وفهْمِه فهْمًا علميًّا صحيحًا يمنعُ عنه أيَّ لَبْس، ويقفُ عقبةً إزاءَ محاولاتِ استثمارِه، وهو ما سينفي فقط ما فيه من قوةٍ دافعة نحو التقدُّمِ والعدلِ والحرية.
وقد انتهى الدكتورُ نصر أبو زيد في بحوثه إلى عدمِ وجودِ خلافاتٍ جوهريةٍ بين خطابِ المعتدلين وخطابِ المتطرفين، فكِلا الجانبَين النشيطَين يعتمدُ على ذات الآليات التي تُوحِّد فِكرَهم بالدين لاكتساب قَداستِه، وتفسيرِ كافةِ الظواهر بإرجاعها إلى مبدأ أول هو الحاكمية الإلهية، بوصْفِها نقيضًا لحاكمية البشر، إضافةً إلى سلطة السلف، وتحويل نصوصِ المجتهدين إلى نصوصٍ شبْهِ مقدَّسة أو مقدَّسة، بحسْمٍ قطعيٍّ يُهدِرُ البُعدَ التاريخي للدين تمامًا، كما يعتمدُ الخِطابانِ على ذات المنطلقاتِ الفكرية بمبدأِ تحكيمِ النصِّ، الذي عادةً ما يُصبِحُ تحكيمًا لتفسيرِ وفهْمِ فئةٍ بعينها للنصِّ على حساب العقل، وهو الأمرُ الذي ينتهي بالخِطاب الديني إلى موقفٍ نقيض من الإسلام؛ لأنه نقيضٌ للعقل رفيقُ الإسلام وأساسُه المتين، ثُمَّ يقوم ذلك الخطابُ بتحريم ما عدا ذلك عن طريق التغطيةِ الأيديولوجية لتوجُّهاته الرجعية الخادمةِ للنُّظُم السياسية الدكتاتورية، عن طريق مبدأِ «لا اجتهادَ مع النصِّ».
وهي خدعةٌ أيديولوجية؛ لأن معنى النصِّ هو «النصُّ الواضحُ القاطع الذي لا يحتملُ إلا معنًى واحدًا»، والنصُّ بذلك نادرٌ في الوحي، وتَظلُّ سائرُ الآيات قابلةً للاجتهاد والتأويل.
وبهذه التفرقةِ بين الخِطابِ الديني وبين الدين، ينزعُ عملُ الدكتورِ نصر عن الفكر الديني وخطابِه القداسةَ، ليُصبحَ اجتهاداتٍ بشريةً لفهْمِ نصوصِ الدين، بحيث يظلُّ الوحيُ الإلهي مُصانًا باحترامٍ حقيقي، وهو ما لا يسمحُ باللعب بالآيات وتفسيرِها حسبَ الهوى والمنافع، وإكساب ذلك التفسيرِ قُدسيةَ الدينِ ذاته.
ويبقى التساؤلُ: هل أصبحتْ قُبَّةُ الجامعة قُبَّةَ شيخٍ من ذوي الكرامات ثوَى في قبر مبروك؟! أم قبة كنيسة؟! أم قبة أحدِ المساجد؟! أم قبة معهد علمي عريق تعرَّض في غفلة أو تغافل مقصود لتسرُّبِ الإرهاب إلى حرَمِه ليعتديَ على أقدسِ حرماته، وهي حريةُ البحثِ العلمي، وأمانةُ القرار العلمي؟ الفضيحة عالمية يا سادة يا كرام، ولم تَعُدْ مسألةَ ترقيةِ «أبو زيد» أو حتى فصْلِه (أنا شخصيًّا أُحبِّذُ القرارَ الأخير؛ لأنه سيعطي الرجلَ تفرغًا ليأتيَ ويجلسَ بجانبي يُؤنِّسُ ترهُّبي، كما سيعني ضراوةً أكثر من معركة يجب أن تُحسمَ اليوم وليس غدًا حَسْمًا نهائيًّا، إما حياة الأمة وتقدُّمها، أو ننفض أيديَنا منها ونترحَّم على ذِكْراها)، فالقضية أكبر الآن من ترقية أستاذ، إنها منطقُ الإرهاب والتكفير واضطهاد الفكر الآخر، وإذا كان هذا قد حدَث مع نصر وهو مسلم، فكيف به لو كان مسيحيًّا؟ فيا أيها المسيحيون المصريون طوبَى لكم حقًّا وصدقًا، والحقُّ أقول لكم: إنَّ مصر تتأسَّس اليوم، وفي هذا الجيل، لقد افتتحتْ قضيةُ نصر الملحمةَ، والله المستعان.