منذ فجرِ التاريخ والحج فريضة دينية١
«الدائرة هي أكمل الأشكال»: هذا ما أعلنه «فيثاغورس» في القرن الرابع قبل الميلاد،
وقبله بحوالي نصف قرن كان الفيلسوف «طاليس» يؤكد أن الأرض مستديرةٌ كالقرص تمامًا.
وتوصَّل «أنسكمندريس» إلى أنها معلقة في الفضاء.
ووسع «بارمنيدس» النظريةَ، فقال إن الكون كلَّه، ليس إلا كرةً تامة الاستدارة. ولم
يأتِ
عام ٣٥٠ قبل الميلاد، حتى كان «ديمقرطيس» قد عمَّم النظريةَ على الكون كلِّه، حين انتهى
إلى
أن الكون كلَّه يتركَّب من جسيمات مادية كروية الشكل متناهية في الدقة والصغر، هي الذرة.
٢
والعلم الحديث يؤكِّد أن الكون كلَّه من أكبر أجرامه إلى أدناها، يعتمد الكروية في
تشكيله، والإهليجية في حركته «الإهليجية هي الطواف دائريًّا على منحنى بيضاوي»؛ فالأرض
مثلها مثل بقية كواكب المجموعة الشمسية، كرةٌ تطوف على منحنى بيضاوي حول مركز هو الشمس،
والشمس كأيِّ نجم كرةٌ نارية تطوف مصطحبة معها كواكبها بنفس الطريقة، حول مركز مجرَّتِها
«التبانة»، والمجرات بالملايين والنجوم بالبلايين، وكلُّها كروية في تشكيلها، ذات طواف
إهليجي في حركتها، وينطبق هذا حتى على أدق الأجسام الكونية، فالذرة مجموعة شمسية مصغرة؛
إذ هي عبارة عن إلكترونات كروية تطوف إهليجيًّا حول مركز كروي هو نواة الذرة.
والغريب أن الإنسان — منذ فجر التاريخ — عندما كان يريد إثباتَ خضوعه لناموس الكون،
كان
يضع نقطةً اعتبارية يُقدِّسُها ويطوف حولها، كطواف الكواكب حول الشمس أو الإلكترونات
حول
الذرة، كما لو كانت الكروية أو الاستدارة ناموسًا قدسيًّا إلى جانب كونها ناموسًا
علميًّا.
ولما كانت المكتشفات الفلكية القديمة «في الرافدين»، قد توقَّفتْ عند سبعة كواكب تدور
حول الشمس، فيبدو أن ذلك سوَّغ للإنسان القديم أن يضعَ لطوافه حول بيوت الآلهة المقدسة
وحدةً قياسية مقدَّسة تتكوَّن من سبعة أشواط، مع الأخذ في الحسبان أن هذه الكواكب السبعة
كانت آلهةً في نظره.
الحج في العقائد القديمة
ومنذ بدايةِ التاريخ الفرعوني، اتُّخِذت مدينةُ «أبيدوس» مكانةً قدسية لا تُبارَى،
فقد
اعتقد القومُ هناك أن رأس الشهيد «أوزيريس» مدفونٌ فيها. ومع بداية العصر المتوسط
الأول، أصبحت زيارةُ البيت المقدس في «أبيدوس» والطواف حوله سبعة أشواط؛ حجًّا وفريضة
إجبارية على كل مؤمن بأوزيريس، في حين أمست السُّنةُ المستحبة هي الدفن بجوار حبيبهم
الشهيد، باعتبار جواره وحِماه، أقدس وأطهر مكان على الأرض، بل هو في اعتقادهم مركزُ
الكون، حتى أطلق الكهانُ على مدفن أوزيريس «أباتون»، أي الحرم؛ لأن الغناء أو الطبل
أو الصيد، أو حتى مجرد الجهر بالصوت كانت محرمةً في «أبيدوس».
وحتى اليوم، لم يزل العامةُ حول المنطقة ولمسافات بعيدة، يقصدون آبارَ المياه
المقدسة في أبيدوس للإخصاب والاستشفاء دون علمٍ بأصل هذه القدسية الحقيقي؛
فالمسيحيون يقصدونها معتقدين أنها قبرُ قديس من آباء الكنسية الأوائل، ويقصدها
المسلمون واضعين في حسبانهم أن هذا القبر مقامُ وليٍّ من الصالحين.
٣
وفي بلاد الرافدين تبنَّت الدول السامية حضارةَ سومر، وخلال الحضارات التي توالت
هناك من «أكد» إلى «بابل» إلى «آشور» إلى «كلديا»، كان المصطلح السومري «إيلو» أو
«أيل» هو اسم العلم المطلق الدال على الإله المعبود،
٤ فكانت «أيل» تُطلَق على أي ربٍّ من الأرباب
٥ الذين يربو عددُهم على ثلاثة آلاف.
لكن اللسان السامي، أبدل الكلمةَ السومرية
BIT
بمعنى المعبد، بمقابلها السامي بيت
٦ وأضافها إلى «أيل» لتصبح «بيت أيل»، أي بيت الله، «ولاحظ التقارب في
النطق بين أيل والله»، للتدليل على معبد الإله، الذي كان يأخذ عادةً شكلَ الزاقورة
وهي شيء أشبه بالمئذنة، يدور حولها سُلَّمٌ صاعد في شكل دائري، وعلى قمتها كانوا يضعون
شكلًا هلاليًّا، رمزًا للإله «سين» إله القمر، وهو نفس الإله الذي عبده عربُ الجنوب
تحت اسم «ياسين»، كما كان الهلال أيضًا رمزًا للآلهة «عشتروت» كوكب الزهرة، وكانت
بيوت الآلهة الرافدية تنتشر بطول البلاد وعرضها، لكن مراكز العبادة الكبرى كانت في
المدن، واعتبرت محجَّات للمؤمنين، خاصة بالإلهين: «سين» و«عشتروت».
وفي كنعان انتشرت بيوت الآلهة، مثل «بيت شماس» و«بيت إناث» و«بيت لحم» و«بيت
يراه». ويقول رينيه ديسو:
٧ «إن هذه البيوت قد اتخذت شكلَ البناء المكعب، فسمَّى اللسانُ الكنعاني بيتَ
المعبود «كعبو». وأوجب كلُّ معبود على أتباعه الحجَّ إلى بيته والطواف حوله سبعًا،
ولعل أهم هذه البيوت، ذلك البيت الذي أقامته القبيلةُ الإبراهيمية بعد هجرتها من
مدينة «أور» الرافدية إلى أرض فلسطين، والذي حمل اسم «بيت إيل».» كما يزعم الكتاب
المقدس؛ حيث ظلَّ «إيل» هو المعبود للشعب العبري منذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام
حتى ظهور النبي موسى عليه الصلاة والسلام.
ويؤكد «د. جواد علي» أن الطواف حول مركز قدسي كان معروفًا لدى قدماء الفرس
والهنود والبوذيين والرومان، كذلك نجد في المزامير بالكتاب اليهودي المقدس: «أغسلُ
يدي في النقاوة فأطوف بمذبحك يا رب» (الإصحاح ٢٦). وهو دليل واضح على وجود الطواف
عند اليهود، وفي ثنايا حديثه عن الحج، يقول «د. جواد»: «أقصد بالحج الذهابَ إلى
الأماكن المقدسة في أزمنة موقوتة للتقرب إلى الآلهة وإلى صاحب ذلك الموضع المقدس،
وتقابل هذه الكلمة العربية كلمة Pilgrimage في الإنجليزية. والحج بهذا المعنى معروف
في جميع الأديان تقريبًا، وهو من الشعائر الدينية القديمة عند الساميين، وكلمة حج
من الكلمات السامية الأصل الأصيلة العتيقة، من أصل ح ك H G ح ج وهي حك.»
وفي العبرانية، وقد وردت في كتابات مختلفِ الشعوب المنسوبة إلى بني سام، وفي روع
الشعوب السامية القديمة أن الأرباب لها بيوتٌ تستقرُّ فيها؛ ولذلك يرى المتعبِّدون
والمتقون شدَّ الرحال إليها للتبرك بها والتقرب إليها، وذلك في أوقات تُحدَّد وتُثبَت،
وفي
أيام تُعيَّن تكون أيامًا حرامًا؛ لكونها أيامًا دينية ينصرف فيها الإنسانُ إلى التفكير
في آلهته، وتكون هذه المواضع التي تستقرُّ فيها الآلهةُ بيوتًا لها؛ ولذلك قيل في
الأزمنة القديمة «بيوت الآلهة»، وقد بقي هذا الاصطلاحُ حيًّا حتى الآن يُطلَق على
المعابد، فالمعبدُ هو بيت الله في أغلب لغات العالم المعروفة في الزمن الحاضر.
٨
محجات الجاهليين
أشارت النصوص السريانية واليونانية واللاتينية القديمة إلى وجود الحجِّ عند العرب
قبل الإسلام، غير أنها لم تُشِرْ إلى وجود بيت واحد كان يحج إليه العربُ جميعًا،
٩ ويقول «الهمداني»: إن العرب كانت لهم محجات متعددة، منها بيت اللات وكعبة
نجران وكعبة شداد الأيادي وكعبة غطفان،
١٠ ويذكر ابنُ الكلبي بيوتًا أخرى كبيت ثقيف.
١١ ويشير «الزبيدي» إلى بيت ذي الخلصة الذي كان يُدعَى الكعبةَ اليمانية،
١٢ ويضيف «د. جواد» بيوتًا أخرى، مثل «كعبة ذي الشرى»، وكان حجُّها يوم ٢٥
كانون أول من كل عام، و«كعبة ذي غابة»، الذي لقَّبه عبادُه ﺑ «قدست»، أي «القدس»، كذلك
كان لآلهة الصفويين «اللات وديان وصالح ورضا ورحيم» محجاتها، كما كانوا يحجون إلى
الكعبة المكية و«بيت اللات» في الطائف و«بيت العزى» قربَ عرفات، و«بيت مناة»، وغيرها
كثيرًا. وكان الحجُّ معتادًا في شهر ذي الحجة، وكان الطوافُ الجاهلي حول البيت الذي
يُعظِّمُه سبعةَ أشواط.
١٣
ويبدو أن تقديسَ بيوت الآلهة تلك، يرجع إلى اعتقاد الجاهلي في أنَّ إلهه يسكن فوق
سطح السماء، وبالتالي فقد يُقدِّس أيَّ جسم فضائي؛ كالنجوم وبقايا النيازك والشُّهب
المتهاوية إلى الأرض؛ لتصوره أنه إنما سقط من البيت الإلهي الذي في السماء، وكذلك
كان يعتبر هذا الحجر رمزًا لإلهه، فيجعله مركزًا قدسيًّا يبني حوله بيتًا يطوف به
تبركًا، معتقدًا أن هذا البيت يقع تمامًا تحت البيت الإلهي، باعتبار أن حجره المقدَّس
يقع تمامًا تحت المكان الذي سقط منه. وأضاف الجاهليون إلى الأحجار النيزكية الأحجارَ
البركانية لتكون محلَّ تقديس؛ لأنهم خالوها ساقطةً من السماء
١٤ ربما لسوادها نتيجة انصهارها، مما يجعلها شبيهةً بالأحجار النيزكية التي
صهرتْها حرارةُ الاحتكاك بالغلاف الغازي قبل سقوطها على الأرض.
ومثال لهذه الأحجار السوداء، معبود النبطيين، وهو حجر أسود يرمز للشمس،
١٥ والآلهة مناة عبدها الهذليون ممثلةً في حجر أسود،
١٦ كذلك كان «ذو الشرى» حجرًا أسودَ.
١٧ وقد تصوَّر الجاهليون أن حجرَ الكعبة المكية الأسود ومقامَ إبراهيم مثلُ
بقية أحجارهم المقدسة، حتى ظنوا — كما يقول المسعودي — أن البيت المكي من البيوت
التي خطَّطت لعبادة الكواكب السيارة السبعة
١٨ ولكن للبيت المكي وحجره الأسود قصةٌ أخرى، كما سنرى حين نتطرق إلى الحج
في الإسلام، ولكن قبل ذلك ينبغي الوقوفُ مع البيت المكي في العصر القرشي، نستقرئ
التاريخَ اعتقاداتِ الجاهليين حوله.
الكعبة المكية
يتفق الباحثون على أن الجغرافي «بطليموس» يُعَدُّ أقدمَ مَن أشار إلى مكة وأوردها
الاسمَ
«مكربا»، ومن سرده يمكن استنتاجُ أنها كانت بلدةً عامرة في القرن الثاني للميلاد.
ويذهب بعضُ الباحثين إلى أنها يجب أن تكون موجودةً قبل هذا التاريخ بكثير.
١٩
ويعتقد
Dr. Snouck Hmrgruje أن نبع «زمزم» في وادٍ غير ذي زرع، هو السبب في نشوء
هذا المركز المقدس،
٢٠ وقد قدَّم مفتي الديار المصري «حسنين مخلوف» كتابًا للسيد «محمد حسني عبد
الحميد»، عنوانه «أبو الأنبياء»، نقل فيه مؤلفُه عن «جرجي زيدان» أن الأصل في اسم
«مكة» هو لفظ «بكة» أو «بك» السامية الأصل، مع الأخذ في الاعتبار تسمية القرآن لمكة
بالاسم «بكة»:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي
بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. ومعلوم أن اللغة العربية فيها إبدالُ الباء ميمًا والعكس. ويُمثِّل المؤلفُ لذلك بمعبد
«بعلبك» في لبنان، مشيرًا إلى أن الاسم «بعلبك» مركَّبٌ من مقطعين، «بعل»، وهو اسم صنم
يُمثِّل معبودًا كنعانيًّا قديمًا ولا يزال قائمًا في المعبد إلى اليوم، و«بك»، أي بيت.
وقد أطلق على المدينة التي فيها بيت البعل «بعل بك – بعلبك» كما هو الواقع بمكة.
٢١ ويشير «د. خليل أحمد» إلى أن الاسم «بك» ربما كان بابليًّا أو آشوريًّا.
٢٢ (لاحِظ أن كبير أرباب الكعبة قبل الإسلام كان هُبَل، وهو من أصل كنعاني؛ إذ
تحكي كتبُ التاريخ الإسلامي أن عمرو بن لحي الخزاعي قد أحضر تمثالَه من البلقاء في
الشام، والاسم هبل هو في الأصل هبعل، والهاء أداةُ تعريف، بينما أُهملت العينُ بالتخفيف
مع
مرور الزمن).
ويذهب بعضُ الباحثين مذهبًا آخر، واستنادًا لرواية «ابن طيفور المصري»
و«القيرواني» القائلة إن أهل حمير كانوا يقلبون القافَ كافًا، بزعم هؤلاء أن أصل
كلمة «مكة» هو «مقة»، وكان «مقة» اسمًا للإله السبئي المعروف في التاريخ العقائدي
بأل «مقة»، ومن هؤلاء الباحثة اليمنية «ثريا منقوش» التي اهتمت بدراسة الإله اليمني
«مقة» منذ بدءِ ظهوره حتى تحوُّلِه إلى إله قومي، وانتشار عبادته بعد انهيار مركز اليمن
التجاري بانهيار سدِّ مأرب وتشتت القبائل اليمنية في أرض الحجاز، واستقرار أكبرها
«خزاعة» في المنطقة التي أصبحت تُعرف باسم «مكة».
٢٣ وتزعم الباحثةُ أن كثيرًا من عادات الحج إلى البيت المكي في الجاهلية،
كانت على غرار التقاليد اليمنية القديمة في تأدية فروض العبادة والحج للإله اﻟ
«مقة».
٢٤
وتدعم الباحثةُ وجهةَ نظرِها بقولها: «وقد أدرك الرسولُ
ﷺ علاقةَ مكة
بأهل اليمن بما توافر لديه من معلومات تاريخية عن العلاقة بين مكة وأهلها، واليمن
وقبائلها وعقائدها، فورَد على لسانه وهو بالمدينة: ما هنا يَمنٌ وما هنا شام، فمكة من
اليمن. وقوله
ﷺ: «أتاكم أهلُ اليمن هم أرقُّ قلوبًا. الفقهُ يمانٍ
والحكمة يمانية، وأنا رجل يمانٍ.» وفي حديث آخر يقول الرسول: «أنا يمانٍ، والحجر
الأسود يمانٍ، والدين يمانٍ.» ويأتي موقعُ مكة في السهل التهامي ليؤكِّدَ ارتباطَها باليمن،
فجاءت تفسيراتُ المفسرين ومنهم سفيان بن عيينة لحديث الرسول: أتاكم أهلُ اليمن، أي
أهل تهامة؛ لأن مكةَ يمنٌ، وهذا هو أصلُ قولِه: «الإيمانُ يمانٍ والحكمةُ يمانية».»
٢٥
ونُضيف إلى هؤلاء الباحثين احتمالاتٍ أشدَّ بساطة، مثل أن تكون «مكربا» تعني ربَّ
البيت
لو أخذنا بأن «بك» تعني البيتَ، و«رابا» واضحٌ أنها من «رب» في اللسان العربي، أو مثل
أن تكون «مكربا» من «قربان» وجمعها قرابين، وهي من أصل «قرب»، وقد استُعملت وخُصِّصت
بهذا المعنى؛ لأنها تُقرِّب إلى المعبود، وهو معروفة بهذه التسمية Corban في الآرامية
والعبرانية، وتعتبر من الاصطلاحات ذات الأصل السامي الواحد في القديم، فتكون «مكربا»
بهذا المعنى مكانَ التقرب إلى الله أو «المقربة» إلى الله.
الحجُّ في الجاهلية
وغنيٌّ عن الذكر أن «مكة» بعد أن تحوَّلت إلى أكبر مركز تجاري في شِبه الجزيرة وذلك
بعد تحوُّل طرقِ التجارة من اليمن إليها، استقطب بيتُها المقدس تعظيمَ غالبية العرب،
ورغم أن العرب — بَدْوًا وحضَرًا — كانوا يُعظِّمون التماثيلَ التي وضعوها بفناء الكعبة
لتُمثِّل الأرباب، فإنهم كانوا يعتبرون للكعبة إلهًا أكبر وأعظم من هذه التماثيل.
ولعظمتِه وسُموِّه فقد تصوروا عدمَ إمكانية الاتصال المباشر بينه وبين العبد الخاطئ،
فوضعوا بينهم وبينه وسائطَ وشفعاء، هي تماثيل لقوم صالحين صنعوها لهم بعد موتهم، ثم
صارت تُنعَت بالأرباب، أي السادة.
ويُؤكِّد القرآنُ الكريم حقيقةَ إقرار الجاهلين بإله أعظم للكعبة أسموه «الله» فقط،
في
حين كان لأربابهم مسمياتُ أعلامٍ أخرى مختلفة، مثل «هبل»، و«اللات»، و«العزى»، و«مناة»،
فيقول:
-
لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ … (الزخرف: ٨٧).
-
لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (الزخرف: ٩).
-
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
*
سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (المؤمنون: ٨٦، ٨٧).
وتُحدِّثُنا كتبُ التاريخ الإسلامي أن الجاهلين اعتقدوا في قصةٍ تُعيد نشأةَ الكعبة
إلى
زمن موغلٍ في القِدَم، وتقول هذه القصة إن هبوط آدم إلى الأرض كان في «سرنديب» من أرض
الهند، وظلَّ يهيم في الأرض حتى وافى «حواء» وعرَفها في جبل «عرفات»، ثم أخذها إلى أرض
مكة، وهناك توسَّل إلى ربِّه ليأذنَ له في بناء بيتٍ يطوف حولَه، كما كان يفعل مع الملائكة
حول بيتِ الله الذي في السماء، فأنزل له الله على أجنحة الملائكة بيتًا من النور مثل
البيت الإلهي الذي في السماء تمامًا، فوضعوه على الأرض تحت موقع بيت السماء مباشرة.
وبموت آدم رُفع بيت النور، فقام ولده «شيث» بتخطيط مكان النور، ثم أقام عليه بيتًا
من حجر الأرض وطينها، لكن البيت خَرِب بطوفان نوح، وامتدَّ الزمان حتى انتهت النبوةُ
إلى
إبراهيم، حيث حمل هاجر وإسماعيل إلى هذا الموضع المبارك، ثم عاد إليهما بعد بضع
سنين، وهناك أخَذ ولدَه إسماعيل فرفعَا القواعدَ من البيت.
٢٦
ويقول «الشهرستاني»: إن الجاهليين «كانوا يحجُّون البيت ويعتمرون ويُحرمون،
ويطوفون بالبيت سبعًا، ويمسحون بالحَجر ويسعون بين الصفا والمروة، وكانوا يُلبُّون:
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك. إلا أن بعضهم كان يُشرك في تلبيته في قوله: إلا
شريكًا لك، تَملكُه وما ملَك. ويقفون المواقف كلها. وكانوا يهدون الهدايا ويرمون الجمار
ويحرمون الأشهر الحرم، فلا يغزون ولا يقاتلون فيها، إلا طي وخثعم وبعض بني الحارث
بن كعب كانوا لا يحجون ولا يعتمرون ولا يحرمون الأشهر الحرم ولا البلد الحرام.»
٢٧
ويقول د. جواد علي: «وقد كان الجاهليون يطوفون بالصفا والمروة — وعليهما صنمان
يمسحونهما — سبعةَ أشواط، كما كانوا يُقيمون الأضاحي ويقصُّون شعورَهم هناك، ولم يُحرِّمِ
الإسلامُ الطوافَ بالموضعين. وأن الرجم كان معروفًا عند الجاهلين، وهو معروف عند
العبريين، وقد أُشير إلى ذلك في التوراة. وهو معروف عند بني إرَم، وكلمة «ر ج م» من
الكلمات السامية القديمة. ويلحق بالرجم تقديمُ العتائر — الضحية في الإسلام — وكانت
تُذبَح عند الأصنام، والعمرة هي بمثابة الحج الأصغر في الإسلام، وكان أهل الجاهلية
يقومون بأدائها في شهر رجب، ومن الأشهر الحُرُم في الجاهلية.» وينقل «د. جواد» عن
«فلهوزن» ومجموعة مستشرقين: «أن الحجر الأسود كان فوق أصنام الكعبة منزلةً. وأن قدسية
البيت عند الجاهليين لم تكن بسبب الأصنام، بل كانت بسبب هذا الحجر الذي قُدِّس لذاته
وجلَب القدسيةَ للبيت. وأنه ربما كان شهابَ نيزك أو جزءًا من معبود مقدس قديم. وأن
البيت كان إطارًا للحجر الأسود أهمِّ معبودات قريش، لكنه لم يكن معبودَها الوحيد.»
٢٨
مكانة الكعبة في الجاهلية
ويفيض الشعرُ بتعظيم البيت وشعائر الحج إليه وبالله صاحب البيت، وثقتهم به، وتَبرُزُ
هذه الثقةُ واضحةً إبَّان غزو «أبرهة» وجيش الحبش للكعبة في عام الفيل، في شعر عبد المطلب
بن هاشم القائل:
لاهُمَّ إنَّ العبدَ يمْـ
ـنَعُ رحْلَه فامنَعْ حِلالَكْ
لا يَغلِبَنَّ صليبُهم
ومِحالُهُم غدْوًا مِحالَكْ
إن كنتَ تاركَهم وقِبـ
ـلتنا فأمْرٌ ما بدا لكْ
٢٩
وفي ردِّه على أبرهة الحبشي عندما تعجَّب من طلبه: «رُدَّ عليَّ إبلي.» قال: «إن للكعبة
ربًّا
يحميها.»
ويقول ابن هشام عن عام الفيل «… إن أول ما رُئِيت الحصبةُ والجدري بأرض العرب ذلك
العام.» ويبدو أن تفشِّيَ الحصبة والجدري بين جنود الحبش لم يكن في اعتقاد الجاهلي
سببًا كافيًا لتراجعهم؛ لذلك أرجع السببَ الحقيقي إلى رب الكعبة، وهذا إنما يُبرِز
ثقتَهم في إلههم ثقةً كاملة، تلك الثقة التي تجلَّت في الاعتقاد بأن جيشَ أبرهة قد تعرَّض
لهجوم جويٍّ فريد من نوعه، فقد أرسل الله على جيش الحبش طيورًا ترميه بالأحجار ليرسل
«رؤبة بن الحجاج» رجزه قائلًا:
ومسَّهم ما مسَّ أصحابَ الفيل
ترميهمُ حجارةٌ من سجِّيل
ولَعِبتْ بهم طيرٌ أبابيل
فصيروا مثلَ عصفٍ مأكول
ويشهد «نفيل بن حبيب» على صدْق ما حدث بقوله:
حمدتُ اللهَ إذ أبصرتُ طيرًا
وخفتُ حجارةً تُلقى علينا
ويفخر «عبد الله بن الزبعرى» بمكة قائلًا:
تنكَّلوا عن بطن مكةَ، إنها
كانت قديمًا لا يُرام حريمُها
لم تخلق الشِّعرى لياليَ حُرِّمتْ
إذ لا عزيزَ من الأنام يرومُها
سائلْ أميرَ الجيش عنها ما رأى
ولسوف يُنبي الجاهلين عليمُها
ستون ألفًا لم يثوبوا أرضَهم
ولم يَعِشْ بعد الإياب سقيمُها
كانت بها عادٌ وجُرهم قبلَهم
واللهُ من فوق العباد يُقيمها
وتتجلَّى العقيدةُ الجاهلية في ربِّ البيت بصورة واضحة في شعر «أبي الصلت بن أبي ربيعة
الثقفي» القائل:
إنَّ آياتِ ربِّنا ثاقبات
لا يُماري فيهن إلا الكفورُ
خلَق الليلَ والنهار فكل
مستبين حسابُه مقدورُ
حبَس الفيلَ بالمغمس حتى
ظلَّ يحبو كأنه معقورُ
خلَّفوه ثم ابذعرُّوا جميعًا
كلُّهم عظْم ساقِه مكسورُ
ويرتفع البيتُ بقدسيته ويتعالى، في خطاب «عبد الله بن صفوان» لقومه، عندما كانوا
يُعيدون بناءَ البيت قبل البعثة بسنوات خمس: «لا تُدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيِّبًا،
لا تُدخلوا فيها مهرَ بغيٍّ ولا بيعَ ربا ولا مظلمةَ أحدٍ من الناس.»
ويُقسم زهير بن أبي سُلمى:
فأقسمتُ بالبيت الذي طاف حولَه
رجالٌ بنَوه من قريش وجُرهمِ
وبتقديس البيت كانت نصائحُ الأم لابنها، كما في وصية «سبيعة بنت الأجب»
القائلة:
أبُنيَّ لا تَظلِمْ بمكَّـ
ـةَ لا الصغيرَ ولا الكبيرْ
واحفظْ محارمَها بُنَـ
ـيَّ ولا يغرَّنْكَ الغَرورْ
أبُنِيَّ مَن يَظلمْ بمكَّـ
ـة يلْقَ أطرافَ الشرورْ
أبُنيَّ قد جرَّبتُها
فوجدتُ ظالمَها يبورْ
اللهُ أمَّنَ طيرَها
والعُصْمُ تأمَنُ في ثبيرْ
والفيلُ أهلَك جيشَه
يرمون فيها بالصخورْ
فاسمعْ إذا حدَّثْتُ وافْـ
ـهَم كيف عاقبةُ الأمورْ
الحج في الإسلام
يقول «ابن حبيب» في محبره: باب السنن التي كانت الجاهليةُ سنَّتْها فأبقى الإسلامُ
بعضَها وأسقط بعضَها: «وكانوا يحجُّون البيت ويعتمرون ويطوفون بالبيت أسبوعًا، ويمسحون
بالحجر الأسود ويسعون بين الصفا والمروة. وكان على الصفا إساف وعلى المروة نائلة،
وهما صنمان، وكانوا يُلبُّون إلا أن بعضهم كان يُشرك في تلبيته، وكانت العرب تقفُ
بعرفات ويدفعون منها والشمسُ حية، فيأتون إلى مزدلفة، وكانت قريشٌ لا تخرج من مزدلفة
ولا تقف بعرفات، ويقولون لا نُعظِّم من الحِلِّ ما نُعظِّم من الحرَم، فبنَى قصيٌّ المشعرَ
فكان
يُسرِجُ عليه يهتدي به أهلُ عرفات إذا أتوا مزدلفة، فأبقاه الله مشعرًا، وأمر بالوقوف
عنده.» وقال العامري في وقوفهم في الجاهلية:
فأُقسِمُ بالذي حجَّتْ قريشٌ
وموقف ذي الحجيج إلى إلَالِ
٣٠
الإلُّ: جبل بعرفات، وكانوا يهدون الهدايا ويرمون الجمار ويُعظِّمون الأشهر الحرم.
٣١
نعم أبقى الإسلامُ كلَّ هذه السُّنَن والشعائر، لكنَّه طهَّرها ونقَّاها من أدران
الجاهلية
وجهالتها، فلم يَعُدِ السرُّ في تقديس الصفا والمروة والسعيِ بينهما هو صنما «إساف
ونائلة»، وإنما في هرولة هاجر أمِّ إسماعيل بينهما بحثًا عن الماء في صحراء مُجدبة. ولم
يَعُدِ الحجرُ الأسود ومقامُ إبراهيم أحجارًا مقدسة لذاتها، بل لأنهما في الأصل ياقوتتان
من يواقيت الجنة طمَس اللهُ نورَهما. ولو لم يطمسِ اللهُ نورَهما لأضاءَا ما بين المشرق
والمغرب.
٣٢ وعن ابن عباس قال: «ليس في الأرض شيءٌ من الجنة إلا الركن الأسود والمقام.»
٣٣
أما القصة الإسلامية حول البيت، فهي قصة محوطة بالقدسية والتبجيل، يُلخِّصُها لنا
كتابُ «أبو الأنبياء» فيما يلي:
… إن الله سبحانه خلَق موضع البيت قبل أن يخلقَ الأرض بألفَي عام، فكانت زبدةً بيضاء
على وجه الماء فدُحيت الأرضُ من تحتها، فلما أهبط الله آدمَ إلى الأرض استوحش، فشَكا
إلى الله تعالى فأنزل البيت المعمور، وهو ياقوتة من يواقيت الجنة، له بابان من زمرد
أخضر، بابٌ شرقي وباب غربي، فوضعه على موضع البيت، وقال: يا آدم، إني أُهبط لك بيتًا
تطوف به كما يُطاف حول عرشي، وتُصلِّي عنده كما يُصلَّى عند عرشي، وأنزل الله عليه الحجر
الأسود، وكان أبيضَ فاسودَّ من مسِّ الحيض في الجاهلية، فتوجَّه آدمُ من الهند ماشيًا
إلى
مكة، وأرسل الله إليه ملكًا ليدلَّه على البيت، فحجَّ آدمُ البيت وأقام المناسك. فلما
فرغ تلقتْه الملائكةُ وقالوا له: يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفَي عام. قال ابن
عباس حجَّ آدمُ أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجلَيه، فكان ذلك إلى أيام الطوفان،
فرفعه الله إلى السماء الرابعة. والبيتُ المعمور يدخله كلَّ يوم ألفُ ملَك ثم لا يعودون.
وقد بعث الله جبريلَ حتى خبَّأ الحجرَ الأسود في جبل أبي قبيس صيانةً له من الغرق «زمن
الطوفان»، فكان موضعُ البيت خاليًا إلى زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ثم إن الله
تعالى أمر إبراهيم بعد ما وُلد له إسماعيل وإسحاق، ببناء بيت يُذكَر فيه ويُعبَد، فسأل
اللهَ أن يُبيِّنَ له موضعَه، فبعث الله السكينةَ لتدلَّه على موضع البيت، وهي رياح خجوج
لها رأسان تُشبه الحيةَ، والخجوج من الرياح هي الشديدة السريعة الهبوب، وقيل هي
الملتوية في هبوبها. وأمر إبراهيم أن يبنيَ حيث تستقرُّ السكينة، فتبعها إبراهيمُ حتى
أتتْ موضعَ البيت فتطوقت عليه. قال ابن عباس: بعث الله سبحانه وتعالى سحابةً على قدر
الكعبة، فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلِّها إلى أن وقفت على موضع البيت، ونودي منها:
يا إبراهيم، ابْنِ على قدْر ظلِّها، لا تزد ولا تنقص. قال ابن عباس: بنَى إبراهيمُ البيتَ
من خمسة أجبل: من طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان وهو جبل بالشام، والجودي وهو جبل
بالجزيرة، ومن حراء وهو جبل في مكة. فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال
لإسماعيل: ائتني بحجر حسن يكون للناس عَلمًا. فأتاه بحجر، فقال: ائتني بأحسن منه.
فمضى إسماعيل ليطلبَ حجرًا أحسن منه، فصاح الجبل أبو قبيس: يا إبراهيم، إن لك عندي
وديعة فخُذها. فقذف بالحجر الأسود، فأخذه إبراهيم فوضعه مكانه.
٣٤
ونستكمل القصة من «الأزرقي» حيث يقول: «فقام معه جبريل فأراه المناسك كلَّها؛ الصفا
والمروة ومِنى ومزدلفة وعرفة. وبعد حصْبِ إبليسَ وعِرفانِ إبراهيمَ مناسكَه كلَّها، أمره
أن
يُؤذِّن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا رب ما يبلغ صوتي. فقال الله تعالى: أذِّنْ
وعليَّ
البلاغُ. فعلَا على المقام فأشرف به حتى صار أرفعَ الجبال أطولها، فجُمعت له الأرضُ
سهلُها وجبلها وبرُّها وبحرها وإنسُها وجنُّها حتى أسمعَهم جميعًا.»
٣٥
وهكذا ظلَّت الكعبة بيتًا مقدَّسًا، تطوف حوله خيرُ أمة أُخرجت للناس، سبعًا خُشَّعًا،
والطوافُ سنة قدسية، أكَّد العلمُ باكتشافه أنها سنة علمية.