العرب قبل الإسلام: العقائد، والتعدد، والأسلاف١
معلوم أن عجزَ الإنسان وضعفه أمام ظواهر الطبيعة المتقلبة وقُواها، مع قصور تجربته ومعرفته، كان هو الدافعَ لتصور قُوى مفارقة «ميتافيزيقية»، هي التي تقف وراء متغيرات الطبيعة وثوراتِها وغضبها وسكونها، ولأن تلك الظواهر لم تكن مفهومة، فقد جاءت تلك القوى أيضًا غيبية؛ ولذلك ارتبطت عقائدُ الناس في أربابها بوسطها البيئي، حيث عبرت عن ذلك الوسط وأظهر مظاهره وأكثرها تكرارًا وديمومة، ومن هنا قدَّس العربيُّ أجرامَ السماء التي تظهر بكل وضوح في ليله الصحراوي المنبسط، دون حواجز حتى الأفق بدائرته الكاملة، كما قدَّس الأحجار بخاصة ذات السمات المتفردة منها، فبيئتُه رمال وصخور وأحجار، وقد غلب انتشارُ الصخور البركانية في جزيرة العرب لانتشار البراكين فيها، وأطلقوا عليها اسمَ الحرات من الحرارة والانصهار.
لكنَّ اتساعَ رقعةِ الجزيرة على خطوط عرض واسعة، أدَّى إلى تباين ظروف البيئة والمناخ، مما أدَّى إلى تعدُّدٍ مماثل في الظواهر، وبالتالي تعددية في العبادات، هذا ناهيك عن وعورة المسالك في الجزيرة، والتي أدَّت إلى ما يُشبه العُزلةَ لمواطن دون مواطن، خاصة تلك التي في الباطن، مما أدى إلى احتفاظها بألوان من العقائد الموغلة في قِدَمها وبدائيتها، نتيجة عدم الاحتكاك بالثقافات الأخرى التي تُساعد على تطور الراسب المعرفي ومن ثَم العقائدي.
التعدد في العبادة
وهكذا يمكنك أن تجدَ، إضافة لعبادة أجرام السماء وعبادة الأحجار والصخور، بقايا من ديانات بدائية كالفيتشية والطوطمية، وعبادة الأوثان وعبادة الأسلاف.
والفيتشية أكثرُ ديانات الجزيرة انتشارًا بين أهلها، وهي تُقدِّس الأشياءَ المادية كالأحجار، للاعتقاد بوجود قوى سحرية خفية بداخلها، أو لأنها قادمةٌ من عالم الآلهة في السماء أو من باطن الأرض حيث عالم الموتى، وقد ظلَّت تلك العقائدُ قائمةً حتى ظهور الإسلام.
أما الطوطمية، التي تعتقد بوجود صلة لأفراد القبيلة بحيوان ما مقدَّس، فتظهر في مسميات قبائل العرب، مثل «أسد، فهد، يربوع، ضبة، كلب، ظبيان … إلخ»؛ لذلك كانوا يُحرِّمون لمْسَ الطوطم أو حتى التلفُّظَ باسمه؛ لذلك كانوا يكنون عنه، فالملدوغ يقولون عنه السليم، والنعامة يُكنَى عنها المجلم، والأسد أبو حارث، والثعلب ابن آوى، والضبع أم عامر، وهكذا. هذا إضافةً إلى تقديس الأشجار، مثل ذات أنواط التي كانوا يعظمونها، ويأتونها كلَّ سنة فيذبحون عندها ويُعلِّقون عليها أسلحتَهم وأرديتهم.
كذلك عبَد العربُ كائناتٍ أسمَوها «الجن» خوفًا ورهبة، ودفعًا لأذاها، وظنوها تقطن الأماكن الموحشة والمواضع المقفرة والمقابر، وكان العربي إذا دخل إلى موطنٍ قفْرٍ حيَّا سكَّانَه من الجن بقوله، عِمُوا ظلامًا، ويقف قائدُ الجماعة ينادي: إنا عائذون بسيد هذا الوادي، وتصوروا الجن كحال العرب، فهم قبائل وعشائر تربط بينهم صلاتُ الرحم، يتقاتلون ويغزو بعضُهم بعضًا، ولهم سادةٌ وشيوخ وعصبيات، ولهم من صفات العربان كثير، فهم يرعون حُرمةَ الجوار ويحفظون الذِّمَم ويعقدون الأحلاف، وقد يتقاتلون فيُثيرون العواصف، ويُصيبون البشرَ بالأوبئة والجنون. وقد نسبوا إلى الجن الهتف قبل الدعوة مباشرة، حيث كثرت الهواتف أي الأصوات التي تُنادي بأمور وتُنبئ بأخرى بصوت مسموع وجسم غير مرئي. وقد اعتمد الكُهَّانُ على تلك الاعتقادات فزعموا أنهم يتلقون وحْيَهم عن الجن، وأن الجن بإمكانها الصعودُ إلى السماء والتنصت على مصائر البشر في حكايات الملأ الأعلى مع بعضهم عمن في الأرض، وأن الكاهن بإمكانه معرفةُ مصائر البشر عبر رفيقه من الجان.
عبادة الأسلاف
أما أشد العبادات انتشارًا وأقربها إلى الظرف المكاني والمجتمعي، فهي عبادة الأسلاف الراحلين، ويبدو لنا أن تلك العبادة كانت غايةَ التطور في العبادة في العصر قبل الجاهلي الأخير، حيث كان ظرفُ القبيلة لا يسمح بأي تفكُّكٍ نظرًا لانتقالها الدائم وحركتها الواسعة وراء الكلأ، وهو التنقُّل الذي كان يلزمه لزُوجةٌ جامعة لأفرادها، تمَّ تمثُّلُه في سلَف القبيلة وسيدِها الراحل الغابر، فأصبح هو الربَّ المعبود وهو الكافل لها الحماية والتماسك، بوصفها وحدةً عسكرية مقاتلة متحركة دومًا، فاستبدلت بمفهوم الوطن مفهومَ الحمى، والذي يشرف عليه سيدُهم وأبوهم القديم وربُّهم المعبود، حيث تماهى جميعُ أفراد القبيلة فيه، ومن هنا كان الربُّ هو سيدَ القبيلة الراحل القديم، الذي تمثلوه بطلًا مقاتلًا أو حكيمًا لا يُضارَع، ومن ثَم تعدَّدت الأربابُ بتعدد القبائل، ونزعت القبائل مع ذلك نحو التوحيد، وهي المعادلة التي تبدو غيرَ مفهومة للوهلة الأولى، لكن بساطة الأمر تكمن في أن البدويَّ في قبيلته كان لا يَعبدُ في العادة ولا يُبجِّلُ سوى ربِّه الذي هو رمز عزَّتِه ورابط قبيلته، ولا يعترف بأرباب القبائل الأخرى، وهو الأمر الذي نشهد له نموذجًا واضحًا في المدون الإسرائيلي المقدَّس، حيث عاش بنو إسرائيل ظروفَ قبلية شبيهة، فيقول سِفر الخروج: «من مثلك بين الآلهة يا رب؟» أي أن القبلي كان يعرف أربابًا أخرى لقبائل أخرى، لكنَّ ربَه هو الأعظم من بينها؛ لذلك كان البدويُّ في قبيلته يأنف أن يحكمَه أحدٌ من خارج نسبِه؛ لأن نسبَه هو ربُّه، هو سلفه، هو ذاته، هو كرامته وعزته؛ لذلك كانت عبادةُ الأسلاف أحدَ أهم العوامل في تفرُّقِ العرب القبلي، وعدم توحدهم في وحدة مركزية تجمعهم.
ولم يأتِ الاعترافُ بآلهة أخرى لقبائلَ أخرى إلا فيما بعد، بعد دخول المصالح التجارية للمنطقة، واستعمال النقد، وظهور مصالح لأفراد في قبيلة ترتبط بمصالح لأفراد في قبيلة أخرى، مما أدَّى لاعتراف متبادل بالأرباب، وهو الأمر الذي بدأ يظهر خاصة في المدن الكبرى بالجزيرة على خطِّ التجارة، في العصر الجاهلي الأخير، كما حدث في مكة والطائف ويثرب وغيرها.
المستوى المعرفي
دأب بعضُ مفكرينا في شئون الدين — عافاهم الله — على الحطِّ من شأن عرب الجزيرة قبل الإسلام، وتصويرهم في صورة منكرة، وسار على دربهم أصحابُ الفنون الحديثة في القصة والسيناريو والأعمال الفنية السينمائية، بحيث قدَّموا ذلك العربيَّ عاريًا من أية ثقافة أو حتى فهْم أو حتى إنسانية، حتى باتت صورتُه في ذهْن شبيبتنا، إن لم تكن في أذهان بعض المثقفين بل والكُتَّاب أيضًا، أقربَ إلى الحيوانية منها إلى البشرية. وقد بدا لهؤلاء أن القَدْحَ في شأن عرب قبل الإسلام، وإبرازَهم بتلك الصورة، هو فرشُ أرضيةِ الصورة بالسواد، لإبراز نورِ الدعوة الإسلامية بعد ذلك، وكلما زادوا في تبشيع عرب الجاهلية، كلما كان الإسلامُ أكثر استضاءة وثقافة وعلمًا وخلقًا وتطورًا على كل المستويات. وأن الأمر بهذا الشكل يبعث أولًا على الشعور بالفجاجة والسخف، ثم هو يجافي أبسطَ القواعد المنطقية للإيمان، فالإيمان يَستمدُّ قيمتَه من دعوته، ومن نصِّه القدسي، وسيرة نبيه، فقيمته في ذاته قيمة داخلية، وليست من مقارنته بآخر، أما الأنكى في الأمر، فهو أن تتمَّ مقارنةُ الإلهي بالإنساني، لإبراز قيمة الإلهي إزاءَ نقص الإنساني، في تلك الحال ستكون ظالمةً لكليهما: الإلهي والإنساني، فالإلهي لا يُقارَن بغيره، كما أن مقارنة الإنساني به فداحةٌ في التجنِّي على الإنساني بما لا يُقارن مع الإلهي.
وقد فطن «الدكتور طه حسين» إلى ذلك الأمر وعمد إلى إيضاحه في كتابه «الأدب الجاهلي» مبينًا مدى تهافت الفكرة الشائعة حول جاهلية العرب قبل الإسلام، وكيف أن تلك الفكرة أرادت تصوير العرب كالحيوانات المتوحشة؛ لإبراز دور الإسلام في نقله الإعجازي لهؤلاء القوم المتوحشين، فجأة ودون مقدمات موضوعية، إلى مشارف الحضارة، فجمعهم في أمة واحدة، فتحوا الدنيا وكوَّنوا إمبراطورية كبرى. هذا بينما القراءة النزيهة لتاريخ عرب الجزيرة في المرحلة قبل الإسلامية تشير بوضوح، إلى أن العرب لم يكونوا كذلك، وفي تطورها الإنساني، أما الركونُ إلى عقائدهم لتسفيههم، فهو الأمر الأشد فجاجةً في الرؤية، فيكفينا أن نُلقيَ نظرةً حولنا على الإنسان وهو في مشارف قرنه الحادي والعشرين، لنجدَه لم يزل بعدُ يعتقد في أمور هي من أشد الأمور سُخفًا ومدعاةً للضحك.
معارف العصر
والمطالع لأخبار ذلك العصر المنعوت بالجاهلي في كتب الأخبار الإسلامية ذاتها، سيجد في الأخلاق مستوى رفيعًا هو النبالة ذاتها، وسيجد المستوى المعرفي يتساوق تمامًا مع المستوى المعرفي للأمم من حولهم، وأن معارفَهم كانت تجمع إلى معارف تلك الأمم معارفَهم الخاصة، فقط كان تشتُّتُهم القبلي وعدمُ توحُّدِهم في دولة مركزية، عائقًا حقيقيًّا دون الوصول إلى المستوى الحضاري لما جاورهم من حضارات مركزية مستقرة. وهو الأمر الذي أخذ في التطور المتسارع في العصر الجاهلي الأخير نحو التوحُّدِ في أحلاف كبرى، تهيئة للأمر العظيم الآتي في توحُّدٍ مركزي ودولة كبرى.
فعلى مستوى المعارف الكونية، كان لدى العرب تصوراتٌ واضحة، تُضاهي التصوراتِ في الحضارات حولهم؛ فالأرض كرة مدحاة، والسماء سقف محفوظ تُزيِّنُه مصابيحُ هي تلك النجوم، وفيه كواكبُ سيارة، أطلقوا عليها «الخُنَّس والجواري الكُنَّس»، فهذا «زيد بن عمرو بن نُفيل» يُحدِّثُنا عن التصور الكوني المعروف في بلاد الحضارات، في قوله:
بينما نجد «أمية بن عبد الله الثقفي»، يُصوِّر لنا ما درَج عليه العالمُ القديم من تصوُّر السماءِ سقفًا بلا عمد، وأنها طبقاتٌ سبع، وأن الشُّهُبَ فيها حماية ورصدًا ومنعًا للجن من استراق السمع على الملأ الأعلى، وذلك في قوله:
المعارف الدينية
أما على مستوى المعارف الدينية، وكانت سمةَ عصرها، وهي المنحولة من عقائد الرافدين القديمة ومصر القديمة وبلاد الشام وفلسطين، وجاء تفصيلُها مجملًا في مدونات التوراة، فهو الأمر الذي كانت تعرفه جزيرةُ العرب، فهذا «الأفوه الأودي» يأبى إلا أن يسجلَ أسماء أبناء نوح في قوله:
أما طول العمر النوحي فكان مضربَ المثل، وهو يُؤخَذ من مديح الأعشى لإياس:
وهو ما جاء أيضًا في ضرب الراجز، رافضًا عُمْرًا كعُمْر نوح:
وكان انتشارُ قصص التوراة في معارف الأمم يجد صوابَه في معارف ذلك العصر، فها هو «أمية بن أبي الصلت» يُقدِّم حوارًا شعريًّا بين موسى وهارون وبين فرعون، يقول فيه:
بل وعرف العربُ قصة مريم وولدَها، وسارت فيهم كقصة معلومة، وهو ما صاغه «أمية» شعرًا بدوره، إضافة لما جاءت به المسيحية عن يوم بعث ونشور، مضافًا إليه ما سبق إليه المصريون من القول بحسابٍ للموتى أمام موازين العدل في قاعة الحساب السماوية، فهذا شعر بقي عن «قسِّ بن ساعدة» يقول:
وهو الأمر الذي يوضحه شعرُ «زيد بن نفيل» وهو يصور أحوال الحساب ونتائجه في قوله:
وهو ذات الأمر الذي فصَّل أمرَه «أميةُ الثقفي» في قوله:
أما «علاف بن شهاب التميمي» فيُؤكِّد:
كذلك جاء تقرير «زهير بن أبي سلمى» واضحًا في قوله:
المعالم الأدبية
ليس جديدًا التأكيدُ على شعرية العربي، حتى قيل إن كلَّ عربي شاعر، وحتى أصبح الشعرُ ديوان العرب روايةَ حالِهم وظروفهم وعقائدهم، وسِجِلًّا لمعارفهم ومستواهم الثقافي الأخلاقي، وسِجِلًّا لحياتهم العملية وطرق عيشهم بل ورؤاهم الفنية والفلسفية.
وإلى جانب الشعر كان مَعْلَمَ الخطابة بما حواه من ذات المحتويات الشعرية، بنثره المنظوم المسجوع، إضافةً إلى سجع الكُهَّان، المرسل منه والمزدوج.
وكان للعرب أسواقُهم، التي عادةً ما كانت تُفتَتح افتتاحًا ثقافيًّا، بإلقاء الخطب النثرية، والقصائد الشعرية، وإجراء المسابقات حول أفضل القصائد، وهو ما برز في «المعلقات السبع»، مما يشير إلى ديدن أمة اهتمَّت بتنمية الثقافة وتشجيعها، رغم تشتُّتِها شِيَعًا في قبائل لا تجمعها وحدةٌ مركزية.
النثر المسجوع
وكان العربي حريصًا على تقديم معارفه وثقافته شعرًا وإن نثرها حرصًا على الجرس الموسيقى فيها، مما يشير إلى رهافة في الحس وارتقاء في الذوق، ونماذج من ذلك النثر ما جاء قَسمًا بالمظاهر الكونية عند «الزبراء» وهي تقول: «واللوحِ الخافِق، والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمُزن الوادق، إن شجر الوادي ليأْوَدُ خَتْلًا، ويرقُّ أنيابًا عُصلًا، وإن صخرَ الطود ليُنذِرُ ثُقلًا، لا تجدون عنه معلًا.»
ومن ألوان هذا السجع سجعٌ ديني، جاء في وصف «ربيعة بن ربيعة» ليوم البعث والنشور، بقوله: «يوم يُجمع فيه الأولون والآخرون، يَسعد فيه المحسنون، ويَشقَى فيه المسيئون.» وهو ذات الرجل الذي يُقسم بصدْق قولِه: «والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إنَّ ما أنبأتُكَ به لحقٌّ.» أما «شق بن صعب» فيصف ذات اليوم بقوله: «يوم تُجزى فيه الولايات، يُدعى فيه من السماء بدعوات، يُسمع منها الأحياء والأموات، ويُجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات.»
ويُقسِم «ابن صعب» لسائله بأنه يقول الحق: «وربِّ السماء والأرض، وما بينهما من رفْعٍ وخفْض، إنَّ ما أنبأتُكَ به لحقٌّ، ما فيه أَمْض.» أما الكاهن الخزاعي الذي احتكم إليه هاشم وأمية في نزاعهما، أصدر قرارَه سجعًا يقول: «والقمرِ الباهر، والكوكب الزاهر، والغَمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، قد سبق هاشمٌ أميةَ إلى المفاخر.»
أما «قسُّ بن ساعدة الإيادي» فيُرسل سجعَه مصوِّرًا معارفَ العصر الكونية في نثره قائلًا: «ليلٌ داج، ونهار ساج، وسماء ذاتُ أبراج، ونجوم تَزهَر، وبحار تَزخَر، وأرض مدحاة، وأنها مجراة، إن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعِبَرًا.»
المعلم الشعري
والشعر الجاهلي وثيقة هامة في يد الباحث العلمي، تأخذ سمتَ العلم التاريخي، رغم ما أُثير حول الشعر الجاهلي من تشكيك في صحة انتسابه لعصره فعلًا، وكان أبرزُ ما قيل بشأنه قضيةَ النحل التي أثارها «الدكتور طه حسين» في كتابه الشعر الجاهلي، والمحاكمة المشهورة التي جرت آنذاك بشأن ذلك الكتاب وصاحبه.
لكن ما يدعو إلى الاطمئنان في الغالبية مما وصلَنا من ذلك الشعر مدوَّنًا بأقلام المسلمين، هو أن القافية والوزن كانا يضمنان منْعَ حدوث تغيير كبير على ذلك الشعر، كما أن المحتوى البسيط لذلك الشعر، وما جاء به من أخبار التخاصم على الإبل والمراعي يضمن عدمَ التصنع، وعلى رأي «د. حسين مروة» أننا لو حكمنا على شعر الأخطل وجرير بشكله، لتعذَّرَ علينا نسبتُه إلى ما بعد الإسلام.
وكان «ابن سلام» أولَ من بحث قضية الانتحال، وعزا أسبابَها إلى العصبية القبلية، والرُّواة الوضَّاعين، مثل حماد الراوية، وخلف الأحمر، وسبَق الجميعَ إلى مسألة الانتحال «المفضَّل الضبِّي» الذي نقَد خلفًا الأحمر، أما «طه حسين» فقد ردَّد ما سبقَه إليه المستشرق «مرجليوث» بشكل مختلف بعضَ الشيء، وإن كان أهمُّ حيثيات محاكمته هي إنكارَه هبوطَ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام جزيرةَ العرب.
وقد قامت جمهرةُ السلفيين تؤكِّد قبولَها صحةَ نسَبِ الشعر الجاهلي دون تحفُّظٍ أو تشكُّكٍ، وقد ظهَر ذلك واضحًا في المؤلفات التي وُضعت للرد على «طه حسين»، ونموذجًا لذلك ما جاء في كتاب «نقض كتاب في الشعر الجاهلي» لمحمد أحمد الغمراوي، و«مصادر الشعر الجاهلي» لناصر الدين الأسد، وغيرهم. ونسبةُ الشعر الجاهلي لعصره، قد اتفق أمرُها بين المسلمين السلفيين، وبين كثير من المستشرقين، وهو ما يمثله نموذجًا قول المستشرق «ليال»: «والواقع أن هذا الشعر الجاهلي، قد أفاد المؤرخ الباحث في تأريخ الجاهلية، فائدةً لا تُقدَّر بثمن، وربما زادت فائدةُ هذا الشعر من الوجهة التأريخية، على فائدته من الوجهة الأدبية، لأنه حوى أمورًا مهمة عن أحداث العرب الجاهليين، لم يكن في وسعنا الحصولُ عليها لولا هذا الشعر.»
الخطابة
والخطابة كانت من أبرز الأنشطة الفكرية والثقافية للعرب، وكانوا يلجئون فيها إلى كل الوسائل الإبداعية والجمالية والبلاغية لإقناع المستمع بوجاهة محتوى الخطبة، وعند التعامل مع ملوك الدول كان العرب يختارون أكثرَهم تفوُّهًا، وقد ذكر «ابن عبد ربه» في عِقده الفريد: أن كسرى تنقص من أمر العرب في حضور «النعمان بن المنذر» لديه، مما استفزَّ «النعمانَ» لعروبته، فأرسل في طلب خطباء العرب وأوفدهم إلى كسرى ليعرف مآثرَ العرب وقدرَهم الثقافي.
وكان الخطباء يخطبون في وِفادتهم على الأمراء، فيقف رئيسُ الوفد بين يدي صاحب السلطان ليتحدَّث بلسان قومه، ومن هذه الخطب ما قيل بين يدي رسول الله عليه السلام عام الوفود وأوردتْه كتبُ السير والأخبار. ومن أشهر الخطباء، أولئك الذين وردت أسماؤُهم في الرد على كسرى، وهم «أكثم بن صيفي»، و«حاجب بن زرارة التميمي»، و«الحارث بن عباد»، و«قيس بن مسعود»، و«عمرو بن الشريد السلمي»، و«عمرو بن معديكرب الزبيدي»، ومن خطباء مكة «عتبة بن ربيعة» و«سهيل بن عمرو»، ومن الخطباء أيضًا «هرم بن قطبة»، و«عامر بن الظرب العدواني»، وهي نماذج تشير إلى خطباء كُثُر لقبائل العرب، أوردتْها كتبُ الأخبار والسير تفصيلًا وحصرًا.
المستضعفون
لعب جدلُ الأحداث العالمية دورًا أساسيًّا نشطًا فيما جرى من تحولات داخل جزيرة العرب، وكان تحوُّلُ طرقِ التجارة العالمية إلى الشريان البري المارِّ بمكة قادمًا من اليمن متجهًا نحو الإمبراطوريتين، عاملًا مؤسسًا لتغير أنماط الإنتاج الاقتصادي في الجزيرة، التي أخذت تنحو نحو التجارة كعماد أساسي للاقتصاد، وما تَبِع ذلك من تغيرات في البِنَى الاجتماعية، التي أخذت بدورها في التحول النوعي عن الشكل القبلي القائم على المساواة المطلقة بين أفراد القبيلة، إلى تفكُّكِ ذلك الشكل بتراكم الثروة في يد نفرٍ من أفراد القبيلة دون نفر آخر، الشكل الطبقي الذي فجَّر الإطار القبلي لصالح تحالفات مصلحية بين أثرياء القبائل المختلفة، وكان الناتجُ الطبيعي لتفاوت توزيع الثروة، ظهورَ شكل مجتمعي جديد على جزيرة العرب، لترصدَ لنا كتبُ الأخبار الإسلامية أهمَّ الشرائح المجتمعية الجديدة على خريطة النظام الطبقي الطالع، مقابل الطبقة المترفة من أثرياء تجار العرب.
فقراء العرب
وإعمالًا لجدل الأحداثِ أخَذ الفارقُ الطبقي بالاتساع السريع والهائل، ليُصبحَ سوادُ العرب من الفقراء المستضعفين، يعملون في رعي الأنعام والفلاحة وتجارات البيع البسيط، يسكنون الخيامَ والعشش والأكواخ الحقيرة، ويسمعون عن الخبز ولا يأكلونه، حيث كان الخبز من علامات الوجاهة والثراء، ولا يعرفون عن اللحم سوى الصليب، وهو وَدَكُ العظام تُجمع وتُهشَّم وتُغلَى على النار طويلًا، ليحصلوا منها على الصليب، وغالبًا ما عاشوا على مطاردة ظِباءِ الصحراء وأورالها ويرابيعها. ونقصد بهؤلاء الفقراءِ عربًا صرحاء من أبناء قبائل متميزة، دفعتْهم إلى الأسفل آلةُ التغير الاقتصادي والمجتمعي.
ويلي تلك الطبقةَ في التدنِّي، طبقةُ المَوالي، وهم من أبناء قبائل أخرى تركوها ولجئوا لقبائل مخالفة، أو كانوا أسرَى فكَّ أسيادُهم أسْرَهم، أو أعاجمَ أرِقَّاء أعتقهم سادتُهم بمقابل. وقد شكَّل هؤلاء طبقةً بين أبناء القبيلة الخُلَّص الصرحاء، وبين العبيد.
ثم طبقة أخرى ظهرت بدورها نتيجةَ التفاوت الطبقي الحاد، وتكوَّنت من أفراد تلبَّستْهم روحُ التمرد على أوضاع المجتمع الجديد، فتصرَّفوا بتلك الروح فأضروا بمصالح السادة، فخلعتْهم قبائلُهم وتبرَّأتْ من فِعالهم بإعلان مكتوب أو في الأسواق العامة، وهي الطبقة التي عُرفت باسم «الخلعاء».
الصعاليك
أما أبرز تلك الطوائف أو الطبقات التي أفرزها المتغيرُ الاقتصادي المجتمعي، فهي «الصعاليك»، وهم فئة لا تملك شيئًا من وسائل الإنتاج، وتمرَّدتْ على الأوضاع الطبقية، بل وشنَّت عليها الحرب، بخروجهم أفرادًا عن قبائلهم باختيارهم، وتجمُّعِهم على اختلاف أصولهم في عصابات مسلحة. وأبرزُ الأسماء التي وصلتنا منهم: عروة بن الورد، وتأبَّط شرًّا، والسُّلَيك ابن السلكة، والشنفرى، وقد أطلق عليهم العرب «الذؤبان» و«العدائين» لسرعتهم.
وقد روي عن هؤلاء أنهم كانوا ذوي سمات متميزة، من الشهامة والمروءة والنبالة، وأخلاق الفروسية، فكانوا لا يهاجمون إلا البخلاء من الأغنياء، ويوزِّعون ما ينهبون على الفقراء والمعدمين، بعد أن شكَّلوا لأنفسهم مجتمعًا فوضويًّا، شريعتُه القوة، وأدواتُه الغزو والإغارة، وهدفُه الأول السلبُ والنهب وهدفُه الأخير تعديلُ الموازين المجتمعية.
وتروى لنا كتبُ السير والأخبار وطبقات الشعراء، أشعارًا للصعاليك، ينعكس فيها الإحساسُ المرير بوقْع الفقر عليهم وفي نفوسهم، ويضجُّ بشكوى صارخة من الظلم الاجتماعي، وهوان منزلتهم، فهذا «قيس بن الحدادية» يُخبرنا أنه لم يكن يساوي عند قومه عنزةً جرباء جذماء، أما الأخبار عن الشنفرى فتَروي كيف أسلمه قومُه هو وأمه وأخوه رهنًا لقتيل عن قبيلة أخرى، ولم يفدوهم، وكيف تصعلك الشنفرى ورفع سيفَ ثورته بعد أن لطمتْه فتاةٌ سلامية، لأنه ناداها: يا أختي، مستنكرةً أن يرتفعَ إلى مقامها.
ومن مثل تلك الأخبار، نستطيع تكوينَ فكرة واضحة عن المدى الذي فعله المالُ داخل القبيلة، مما أدَّى بالصعاليك إلى فصْم علاقتهم بقبائلهم، وتكوين جماعتهم المسلحة ضد الأغنياء لينزعوا منهم مقوماتِ الحياة الإنسانية التي أهدرها الواقعُ، وهو المبدأ الذي يتجلَّى واضحًا في شعر «عروة بن الورد» وهو يقول:
العبيد
وفي ضَوء الحاجة لليد العاملة في خدمة آلةِ الاقتصاد الجديد، بدأتْ بلادُ العرب تعرفُ النظامَ العبودي، وكان مصدرُه السَّبْيَ والنِّخاسة وعبودية الدين، حتى جاء وقتٌ أصبحت تجارةُ العبيد بمكة تجارةً منتظمة، تأتي بهم من سواحل أفريقيا الشرقية، وهم الطائفة السوداء، ومنهم من كان يشترى من بلاد فارس والروم وهم الطائفة البيضاء، لاستخدامهم في حراسة القوافل، وأعمال الري الصناعي والزراعة والحرب، وليس أدلَّ على كثرة هؤلاء العبيد، من أن «هند بنت عتبة» أَعتقت في يوم واحد أربعين عبدًا من عبيدها، كما أعتق أبو أحيحة سعيدُ بن العاص مائةَ عبد، اشتراهم وأعتقهم.
ومع النظام العبودي انتشرت عادةُ التسرِّي بالإماء، فكان للرجل أن يهبَ أو يبيعَ أو ينكح أمَتَه أو يجعلَها مادةً للكسب بتشغيلها في البِغاء، ثم يأخذ ناتجَها المولود ليُباعَ بدوره، وعندما جاء الإسلامُ حرَّم البِغاء، ولكنه أبقَى على نظام ملْك اليمين ضمن ما أبقى عليه من أنظمة الجاهلية وقواعدها المجتمعية، لكنه رغَّب في العتق وحضَّ عليه.
الأساطير
ومع التطور الرتيب البطيء للقُوى المنتجة، نتيجة للتعددية والتشظِّي القبلي، تواضَع العقلُ العربي على إلقاء تفاسير ميتافيزية، لما يجابهه من ظواهر طبيعية، يحاول بها تبريرَ ما يحدث حوله، وهو ما اصطلح بعد ذلك على تسميته بالأساطير بين العرب أنفسهم، خاصة بين الطبقة المثقفة من أثرياء تُجَّارهم، وهو ما يُعلن عدمَ قناعة مستبطنًا بتلك التفاسير، التي أُدرجت ضمن أخبار السالفين وأنبياء الأمم وقوادهم تحت عنوان واحد يجمعها هو «الأساطير».
أساطير الماء
ولما كان المطرُ أهمَّ الظواهر وأخطرها لحياة البدوي، فقد وُضعت بشأن انقطاعه أو تواتره سيولُ تفاسيرَ أسطورية بدائية بسيطة بساطة حياة البداوة، فإذا أمطرت السماء نسبوا المطر إلى فعل النجم أو المجموعة النجمية التي توافقت من الظهور مع سقوط المطر، فيقولون: أُمطرنا بنوء كذا. وكان لفيض المطر أحيانًا ودوره المدمر تفاسير من لون آخر، فيبدو أن الذاكرة العربية احتفظت بأحوال عرب قدماء، دُمرت بلادهم بسبب الأمطار العاصفة، فحكوا عنها روايات تفسيرية، تكمن الأسبابُ فيها بيد الآلهة الغاضبة البطوش على من خالفوا أوامرها أو نواهيها، وهو ما روته العربُ مثيلةً عن هلاك عاد وثمود، ويمكن الرجوعُ بشأنه تفصيلًا للفصول الأولى من كتب الأخبار الإسلامية، وعلى سبيل المثال «تاريخ الأمم والملوك» للطبري.
كذلك كان لندرة المطر أساطيرُها الخاصة، والتي دفعتْهم إلى ابتداع ألوان من الطقوس، قصدوا بها تحريضَ الطبيعة على العمل، ويبدو أن ملاحظةَ سكان السواحل للضباب الصاعد من الماء ليكون سحابًا ممطرًا، أثَّر في تصور اصطناع حالة شبيهة، فكانوا يوقدون نارًا تُخرج مادتُها دخانًا شبيهًا بالضباب الصاعد للفضاء، بقصد الاستمطار. ولأن البقر كان رمزًا للخصب عند الشعوب القديمة، فقد عقدوا بين النار والبقر في طقس يجمعون فيه الأبقار، ويصعدون بها المرتفعات، ويربطون في ذيولها موادَّ قابلةً للاشتعال يوقدون فيها النار، فتهرع الأبقارُ مذعورةً تُثير الغبار وهي تهبط من الجبل، لتصطنعَ حالةً شبيهة بالعواصف الممطرة، وأثناء ذلك يضجُّون بالدعاء والتضرع، ويرون ذلك سببًا للسُّقيا بعد ذلك، وذلك إعمالًا لمبدأ السحر التشاكلي حيث الشبيهُ يُنتج الشبيهَ.
أساطير السماء
وفي العصر الجاهلي الأخير، ومع النزوع نحو توحُّدٍ قومي ديني تحت ظلِّ إلهٍ واحد، ارتفع العربُ بذلك الإلهِ عن المحسوسات، ونظروا إلى إلههم ساكنًا السماءَ في قصر عظيم تحفُّه حاشيةٌ من الملائكة؛ لذلك قدَّسوا السماء وأجرامَها، والقسَم بها، وبظواهرها، وحفُّوا بالقدسية كلَّ ما تساقط من السماء بحسبانه قادمًا من ذلك المكان المقدَّس حيث العرشُ، فكان تقديسُ الأحجار النيزكية أحدَ نتائج ذلك الاعتقاد.
وقد نسبوا إلى الأفلاك أثرًا عظيمًا في حياة البشر والأمراض والأوبئة، وكان تساقطُ الشُّهُبِ يعني وقوعَ أحداثٍ جلَل؛ كالحروب، أو الكوارث الاقتصادية، أو الطبيعية، أو ولادة رجل عظيم، أو موت لآخر.
ويبدو أن تلك القدسيةَ امتدَّتْ عند بعض القبائل إلى تأليه نجومِ السماء، بينما اتجه البعضُ الآخر إلى اعتبارها هي ذات الملائكة، وقالوا إنهن بناتُ الله، أو لهن علاقة بالله على الجملة في أكثر من شأن، وتُعبر عن ذلك الروايةِ المشهورة بشأن كوكب الزهرة والملَكَين هاروت وماروت، وكيف أغوت الزهرةُ الغانية الملكَين الورِعَين فارتكبا الخطيئةَ وعصيَا اللهَ خالقَ السموات والأرض، وكيف تحوَّلت تلك المرأةُ التي أغوت ملائكةَ السماء بدورها إلى كائن سماوي يتمثَّلُ في ذلك الكوكب الجميل المعروف بكوكب الزهرة.
أساطير البشر
كذلك لم يجد العربُ في تميُّز بعض الأشخاص إلا سماتٍ خارقة، نسبوها إليهم أحيانًا انبهارًا، وأحيانًا تمجيدًا؛ فهذا خالد بن سنان يُطفئ النارَ التي خرجت بجزيرة العرب وكانت لها رءوسٌ تَسيحُ فتُهلِك البُلدانَ، ويبدو أنها كانت ذكرى بركانٍ مدمِّر، لكنهم جعلوا للنار البركان رءوسًا آكلة حاربَها ابنُ سِنان حتى أطفأها وردَّها إلى مقرِّ الأرض.
وهذا الصعلوك القوي النبيل، يشتدُّ الإعجابُ به وبقوته حتى يقولوا إنه قتَل الغولَ وأتى يحمل رأسَه تحت إبطه، فأسموه «تأبَّط شرًّا». وهذا عنترة بن شداد يشدُّ على الأعادي فيكسر رِماحَ الحديد وينزع النخيل من مواضعه ويحارب الغُزاة، حتى يتحولَ مع النزوع القومي في الجاهلية الأخيرة إلى بطل عربي قومي يُحارب أعداءَ العرب بقواه الجبارة.
وذلك «سيف بن ذي يَزَن» يدخل الحلمَ القومي العروبي بعد تحرير بلاده من الأحباش، فيتمُّ التعتيمُ على استعانته بالفُرس الذين يحتلُّون بلادَه عوضًا عن الأحباش، ليتمَّ تصويرُه بطلًا شعبيًّا عظيمًا يُقاتل الجيوشَ ويهزمُها بقوته ومهارته.
وهو ما يشير إلى نزوع جديد نحو أساطير البطولة للجاهلية في عصرها الأخير، لتصنعَ رمزها القومي العربي، وهي تنحو نحو التوحُّد الآتي.
أنماط الزواج
في جزيرة العرب، تعدَّدت أنماطُ الزواج، كناتج ضروري لشكل العلاقات المجتمعية، والتوزع القبلي، وتباعُدِ المضارب عبرَ مساحة تكاد تكون قارَّةً متباينة، تُشكِّل فيها كلُّ قبيلة وحدةً قائمة بذاتها، ومن هنا فرَضت تلك الأوضاعُ أنماطًا عِدَّة للنكاح، عدَّدتْها لنا كتبُ السِّير والأخبار الإسلامية.
النكاح لأجَل
والنكاحُ لأجَل كان يقع على طريقتَين تُمثِّلان نوعَين من الزواج، وهو لونٌ من النكاح الصريح الذي لا يَعني زواجًا بالمعنى المفهوم، والنوعُ الأول منه هو ما عُرف بنكاح «الذواق» الذي يتمُّ دونَ أيِّ شروطٍ تعاقدية، ويُحَلُّ برغبة أيٍّ من الطرفَين متى ما شعر بعدم الرغبة في الاستمرار، وقد اشتهر بهذا النكاح «أم خارجة» التي تناكحت وأربعين رجلًا من عشرين قبيلة، فكان يأتيها الرجلُ متودِّدًا يقول: خطب، نكح، فيأتيها، حتى ضُرب بها المثل، فقيل: أسرع من نكاح أم خارجة، وهو الخبر الذي أورده الزبيدي في تاج العروس والميداني في مجمع الأمثال.
أما النوع الثاني فهو «نكاح المتعة»، وقد عُرف بعد ذلك في عهْد النبي ﷺ كمشروع للمسلمين دون حرَج، وكان قبل ذلك واسعَ الانتشار بين عرب الجاهلية، وكانت دوافعُه لديهم التنقلَ والأسفار والحروب، حيث كان الرجل يتزوج على صداق محدَّد لأجَلٍ محدَّد، وبقضاء المدة ينفسخ التعاقدُ، وقد كان لأثرياء مكة الدورُ الأساسي في إرساء هذا اللونِ من النكاح، حيث كانوا أصحابَ قوافل وسفر، وممكنات مادية تَسمح لهم باقتناء الحريم على تلك الطريقة، على محطَّات سفرِهم بالقوافل، ويبدو أنه لونٌ من التقنين الأحدث للطريقة الأولى «الزواج بالذواق».
أنكحةٌ في عِداد الزنى
وعرَفت الجاهليةُ ألوانًا أخرى من النكاح وكرهتْه رغم عملِ البعض به، فكان في عِداد الزنى، وتُمثِّلُه عدةُ ألوان، أولُها نكاح «الشِّغار»، وهو أن يُزوَّجَ الرجلُ ابنةَ الرجلِ على أن يُزوِّجَه الآخرُ ابنتَه دونَ إمهار، فكانت كالتبادل البضائعي، لا حقَّ للمرأة فيه ولا مهرَ لها، وقد نهى الإسلامُ عن هذا اللون من النكاح «لا شِغارَ في الإسلام»، ورغم ذلك لم يَزلْ معمولًا به خاصةً بين فقراء المسلمين، كحلٍّ غير مكلِّف؛ لعدم وجود المهر فيه.
وهناك لونٌ آخر عُرف باسم «المضامدة»، تَتَّخذُ فيه المرأةُ خليلًا أو أكثرَ على زوجها، وكانت تفعله نساءُ القبائل الفقيرة زمنَ القحط، فتذهب إلى السوق وتعرض نفسَها على ثريٍّ يَكفُلها ويمنحها المال، ثم تعود بعد ذلك لزوجها بعد أن تُوسَرَ بالمال الكافي لإعاشة أسرتها، وبدوره كان نكاحًا بدفْع العامل الاقتصادي أساسًا.
ثم ألوانٌ أخرى من النكاح البدل المعروف بتبادُلِ الزوجات، وزواج «المقت»، وكان مكروهًا من العرب وأسموه المقتَ كراهةً له، وكان يتزوجُ بموجبه الرجلُ زوجةَ أبيه كجزء من ميراثه عند موت ذلك الأبِ، وقد أبطل الإسلامُ هذا اللونَ من الزواج، هذا ناهيك عن نكاح الاستبضاعِ الذي يطلب فيه الرجلُ بِذرةَ سيِّدٍ عظيم في رَحِمِ زوجتِه عساه يُرزَقُ بولدٍ عظيم.
ومن أنكحة الزنى الصريح، نكاحُ صاحبات «الرايات الحُمر»: وهنَّ بغايا مكةَ اللائي كُنَّ يَنشطْنَ في مواسم التجارة وموسمِ الحج ترغيبًا للتجار وأهل السوق، وقد شجَّع أثرياءُ مكة صاحباتِ الرايات الحمر، لمزيد من الإنعاش الاقتصادي، لكنهم مع ذلك كانوا على مروءة إن حملت المرأة، حيث يلحق ولدُها بما يرى أهلُ الفراسة والقيافة أو بضرْب القِداح، فيصبح ابنَ مَن تقع عليه الحظوظُ.
أنكحةٌ بالعُرف
وقد تواضع العرفُ القبلي في ظلِّ ظروفِ التشتتِ القبلي، والإغارةِ والاقتتال بين القبائل وبعضها، على لونٍ بشعٍ من ألوان النكاح، هو لونٌ صريح من الاغتصاب المهين، يَنزلُ بالقبيلة المهزومة ونسائِها، حيث كان من حقِّ المنتصر سبْيُ النساء والاستمتاعُ بهنَّ حيث تُصبح مِلْكَه بالسبي، ويُصبح من حقِّه بيعُها إن لم يجدْ مَن يفتديها منه. ومثلُه نكاحُ الإماء بالشراء والامتلاك، وهذا اللون من النكاح كان لا يَعرف عددًا للنساء الحريم على سرير الرجل، وهو شبيهٌ بالزواج غيرِ المحدَّد بعدد الزوجات الذي كان معرفًا بدوره بين الطبقات الثرية، لكنه كان نادرًا معدودًا، حتى تجدَه في خبر أو اثنين، كما جاء عن غيلان الثقفي الذي أسلم وتحته عشرُ نسوة.
مكانةُ المرأة
حول مكانةِ المرأة في جاهلية العرب الأخيرة، اختلف الباحثون إزاءَ ما بأيديهم من معطيات تتضاربُ أشدَّ التضارُبِ، وتتناقضُ إلى حدِّ عدم الالتقاء أبدًا. فذهب الباحثون إلى طريقَين على ذات الدرجة من التضارُبِ والتناقض؛ منهم من رأى للمرأة في الجاهلية مكانةً تتميَّزُ بها عن وضْعِ بني جنسِها عند بقيةِ الشعوب، وأنها سَمَتْ إلى وضْع السمتِ في المجتمع، بينما ذهب فريقٌ آخر إلى النقيض وهبَط بها إلى أسفل سافلين.
الشكلُ الأرقَى
ومَن ذهبوا بمكانة المرأةِ في ذلك العصر إلى مكان السمتِ المتميِّز، اعتمدوا على ما جاء بديوان العرب من أشعار، تُبيِّنُ كيف كانت المرأةُ هي الوَتَرَ الحسَّاس في قلب كلِّ عربي، ومبعثَ كلِّ إلهام، حيث التزمتِ القصائدُ جميعُها تقريبًا نهْجًا يَهيمُ بالمرأة ويُمجِّدُها، وما يُلاحَظُ على المعلقات التي لا تخلو من الإشادة بالمرأة والتغزُّلِ فيها بل والفخرِ بها.
ويعودُ الاتِّجاهُ نفسُه إلى المأثور العربيِّ وما ورَد من أخبارِ عربِ الجاهلية في المصادر الإسلامية، ليجدَ العربيَّ حريصًا على كرامة المرأة ويعتبرها موضوعَ شرَفِه، حتى شُنَّتْ من أجلها حروبٌ، وأبرزُها موقعةُ «ذي قار» التي انتصرت فيها ثلاثُ قبائلَ عربية متحالفة، على الفُرس، بسبب رفضِ النعمان بن المنذر تزويجَ ابنتِه للملك الفارسي، كذلك حربُ الفُجَّار الثانية التي قامت بين قريشٍ وهوازن تلبيةً لاستنجاد امرأة بآل عامر للذَّوْد عن شرفها، ولا ننسَى حربَ البسوسِ التي دامتْ أربعين عامًا بسبب انتهاكِ جوارِ امرأة، وما قصةُ عمرو بن هند وعمرو بن كلثوم إلا أبرز مثلٍ لأنفَةِ العربي وحرصِه على كرامة المرأة وعزَّتِها.
وتروي كتبُ الأخبار وطبقاتُ الشعراء كيف كانت المرأةُ تُستشار في عظائم الأمور، كما في حادثة سعدى أمِّ أوس الطائي، ناهيك عن مشاركتها للرجال في ساحة القتال، تَحثُّهم على المثابرة وشدِّ أزْرِهم، وتُداوي الجرحَى وتدعو للأخذ بالثأر، فيستبسلُ الرجالُ مخافةَ سبْيِ نسائِهم، وقد كان لواءُ «الحارثية» في شعر حسان بن ثابت وراءَ نصْرِ قريشٍ في غزوة أُحُد على المسلمين، فعندما سقَط لواءُ المكيِّين هرعتْ إليه «الحارثية» وسطَ الرماحِ والسيوف وحملتْه، فتجمَّعت حوله فلولُ المنهزمين، وظلَّت تهتفُ بهم حتى عادوا وحملوا على المسلمين حملةً شديدة. ودور «هند بنت عتبة» في ذات المعركة من أهمِّ الأدوار في تاريخ تلك الحروبِ، حيث أتتْ بنساء مكةَ وقِيَانها يشحذْنَ الرجالَ، وينشدْنَ الأناشيدَ الحماسية لتأجيج الحميَّةِ القتالية. وكانت «هند» من شاعرات العرب اللائي يَصفْنَ المعارك ويُحسِنَّ تصويرَ الأبطال، واشتهرتْ أيضًا «كفيلة بنت النضري»، و«أروى بنت الحباب»، و«بنت بدر بن هفان» والهيفاء القضاعية. ولا مراءَ أن الخنساء ذهبتْ من بينهن بعمود الشعر رثاءً وفخرًا وحماسةً وحربًا.
ولا يغيب على فطنٍ انتسابُ قبائل العرب إلى أمهاتها، مثل بجيلة وخندف وطهية ومعاوية ونويرة، ويبدو أن الحرصَ على مكانة الأم كان وراءَ حرصِ العربي على كرَم النسب وطهارة الرحم، وقد ذكر كتابُ الأغاني في حديثه عن حرب الفجَّار أن «مسعود الثقفي» ضرَب على زوجته «سبيعة بنت عبد شمس» خباءً، وقال لها: من دخله من قريش فهو آمن، فجعلت تُوصِل في خبائها ليتَّسعَ.
وفي الأشعار تقديرٌ عربي شديد للمرأة، فيخاطبُها إذا كانت زوجةً بأفضل الألقاب، فهو يقول لها:
واللقبُ، وتعبيرُ «غير صاغرة» يشير إلى أيِّ درجة من السموِّ كانت.
الشكل الآني
أما أصحاب الاتجاه الآخر، فيستندون إلى ذات المعطيات وذات المادة التاريخية، ليعطونا صورةً من أشد الصور بخسًا بحقِّ المرأة، فكانت تُورَثُ مع المتاع إذا تُوفي زوجُها، ويرث الولدُ زوجةَ أبيه ويتصرف فيها حسبَ مشيئتِه، فبإمكانه أن يتزوجَها، أو يُزوِّجَها لغيره ويأخذ مهرَها، أو يعضلَها حتى تموت؛ أي يمنعها من الزواج حتى تدفعَ فديةً عن نفسها، فهي في منزلة بين الإنسان والأنعام، أو هي مثلُ متاعِ البيت متعة لصاحبه، وسُميت متاعًا بالفعل، مهمتُها الاستيلادُ والخدمة، وشاع الكثيرُ عن بُغْض العرب للبنات، حتى سُئل أعرابي: ما ولدُكَ؟ قال: قليل خبيث، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لا عددَ أقل من الواحد، ولا أخبث من بنت.
وهذا «أبو حمزة العيني» يهجر زوجتَه إلى بيت مجاور بعد أن ولدت بنتًا، حتى أمست تقول شعرًا:
وغنيٌّ عن التنبيه إلى أن تلك الرؤية المتقدمة للرجل كسبب في جنس الوليد، وأن المرأة مجردُ أرض تَقبل الجنسَ المزروع وتَنبتُه.
هذا ناهيك عن ظاهرة الوأْد كأبشع الظواهر طُرًّا، وقد ذهب بعضُهم إلى قصْر الميراث على الوِلْدان الذكور وقالوا: لا يرث إلا مَن يحمل السيف.
التحليلُ التاريخي
ومثلُ هذا التناقض في المعطيات، ثم التناقض بالتبعية في تقارير الباحثين حول وضْع المرأة في الجاهلية، لا يحلُّه إلا رؤيةٌ تاريخية موضوعية، فقد عاش العربُ في قبائلَ متعددة موجودة جنبًا إلى جنب في زمن واحد، ولكن في مناطقَ مختلفة، وهي تتداخل معًا، ففي مكة جمَع شكلُ المجتمع القبيلةَ إلى جوار الواقع الحضري، وطريقة العيش ووسائل الكسب، من رعْيٍ وغزْوٍ إلى استقرار زراعي، إلى تجارة، أثرها الذي يجب أخذُه في الاعتبار عند مناقشة وضْع المرأة في الجاهلية، وهو موضوعنا التالي.
العاملُ الموضوعي ووضْعُ المرأة
سبَق وأشرنا إلى اختلاف آراء الباحثين في وضْعِ المرأة زمنَ الجاهلية، كما ألمحْنا إلى أن ذلك الاختلاف ناتجٌ من تعدُّدِ القبائل والأشكال المجتمعية على التجاور في زمن واحد، في مناطقَ مختلفة، كذلك تنوُّع الأقاليم وطُرُق الكسب التي تتباين، وما تَبِع ذلك بالضرورة من اختلافٍ في وضْع المرأة، ولا ريبَ أن دخولَ الشكل الطبقي أدَّى إلى ثراءِ قبائلَ ضاربةٍ على طُرُق التجارة، مقارنةً بقبائلَ ظلَّتْ على فقرها في باطن الجزيرة، إضافةً إلى التفاوت الطبقي داخلَ القبيلة الواحدة، وما ارتبط به ذلك التطورُ الاقتصادي في تفجير الأُطُرِ القبلية في المناطق التي أصابها ذلك التطورُ، فتغيرتْ بِناها المجتمعية وسعَتْ نحو نزوعٍ وحدويٍّ على مستوى الأرض والسماء، مما أدَّى إلى نشوء وعْيٍ قوميٍّ وحدويٍّ، استشعرت فيه قبائلُ العرب بوحدة جنسها، وكان لكل تلك التطورات دورُها في اختلاف وضْعِ المرأة، مما أدَّى لاختلاف رؤية الباحثين بدورها.
ظاهرة الوأد
يقول القرآن الكريم معقِّبًا على ما آل إليه حالُ المرأة في العصر الجاهلي، آمرًا، ناهيًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، ويُنبِّه «الدكتور علي عبد الواحد وافي» هنا إلى أن الوأْدَ الناتج عن الفقر لم يكن فيه تمييزٌ بين الذكر والأنثى، فكانوا يَئدون على الجملة، وهو رأْيٌ فيه نظر، حيث لم يثبتْ وأْدُ الذكور على الإطلاق، حيث كانت البداوةُ ونمطُها بحاجة دائمة إلى ذكور شغيلة محاربين، لكنه يطرح من جانب آخر وجهةَ نظرٍ بشأن وأْدِ الإناث، فيقول إنهم اعتقدوا أن البنت من خلْق الشيطان، أو خلْق إلهٍ غير إلههم، فوجب التخلصُ منها.
وفي التفسير الديني نجد تفسيرًا أقرب للمقبول عند الدكتور «علي زيعور» حيث يقول: إنه كان لونًا من طقوس التقرب لإله القمر «ود» رمز الأنوثة في رأيه، وإنه كان من بقايا القرابين البشرية، التي درجت عليها الشعوبُ القديمة، قبل استبدالها بذبْح الحيوان فداءً للإنسان.
لكن ما يعني الأمر هنا هو أن المطالع لكتبنا الإخبارية لن يجد ظاهرةَ الوأد أمرًا متفشِّيًا، كما هو شائع، بل كان على العكس نادرَ الوقوع، ذكرت حالات بعدد قليل لا يرقى بالحالة إلى ظاهرة منتشرة، وقد عَابَهُ العربُ وأنكروه. وأشهرُ حالتَين يتمُّ ذكرهما حالةُ «قيس بن عاصم» وحالة «عمر بن الخطاب».
ولعل صدْقَ الوحي والتنزيل هو الفيصل بشأن سبب الوأد في بعض مواضع وبعض قبائل الجزيرة، حيث أشار للوضع الاقتصادي وأثرِه في تلك العادة، فالفقيرُ بحاجة للولد المنتِج، وليس بحاجة لأنثى فمٍ يلتهم في مجتمع ندرة على العموم، ثم كان حال القبائل المتحاربة يعرضُ الإناثَ للسبْيِ والعار، وكان محتَّمًا أن تُهزمَ القبيلةُ الفقيرة وتُسبَى بناتُها، لقلة عتادها وحيلها.
والدليل على عدم تفشِّي الوأد، وأنه بالفعل كان ناتجَ الإملاق كما قال الوحي الصادق، أن عِلْيةَ القوم ومَن تيسَّر معاشُهم فتهذَّبت نفوسُهم، استهجنوا ذلك بشدة، فكانوا يفتدون البناتِ من الوأد، واشتهر من بين أجواد العرب «صعصعة بن ناجية» جدُّ «الفرزدق»، الذي أخذ على نفسه ألا يسمعَ بمئودة إلا فداها، فسُمِّيَ محيي الموءودات، وقال الفرزدق فيه:
وتُعبِّر حادثةُ «أم كحلة الأنصارية» عن كون السبب الاقتصادي وراءَ تعاسةِ المرأة كفَمٍ آكلٍ غيرِ منتِج في وسط فقر وندرة، حيث ذهبت إلى رسول الله ﷺ تقول: يا رسول الله تُوفِّيَ زوجي وتركني وابنتَه فلم نورِث، فقال عمُّ ابنتِها قولةً فيها صدقُ الحال، قال: يا رسول الله، هي لا تركب فرسًا ولا تحمل كلًّا ولا تنكَى عدوًّا، يكسب عليها ولا تكسب.
وهناك سبب آخر أدَّى إلى حالة واحدة أخرى من حالات الوأد النادرة، ويتعلَّق بالظاهرة في قبيلة تميم، حيث كانت تميمٌ قد امتنعتْ عن أداء الإتاوة للنعمان ملك الحِيرة، فجرَّد عليهم حملةً سبَتْ نساءَهم، فكلَّموا النعمان في نسائهم، فحَكم بترك حرية النساء في الاختيار لقرار النساء أنفسهن، فاختلفْن في الاختيار ما بين البقاء في حوزة من سباهم وبين العودة لذويهم، وكانت فيهم بنت «قيس بن عاصم»، وهي الحالة النادرة المشار إليها، فاختارت سابيها على زوجها، فنذَر «قيس» أن يدسَّ كلَّ بنت تُولد له في التراب، واقتدى به بعضُ تميم نكايةً في النساء.
الوضع الطبقي
كان نشوء الطبقة عاملًا أساسيًّا في تحديد وضْع المرأة، فكان هناك الإماءُ والحرائر، وكانت الحرائرُ تتمتع بمنزلة سامية، يخترْنَ أزواجَهن، ويتركهن إذا أساءوا معاملتهن، ويحمين من يستجير بهن، وكُنَّ موضعَ فخرِ الأزواج والأبناء، بعكس الإماء الذين كان الأبناءُ يستحيون من ذكْر أمهاتهم.
علا شأنُ المرأة في الوسط الثري، خاصةً إذا تمتعت هي بالثراء، فكانت تختار زوجَها كما حدث من السيدة خديجةَ أمِّ المؤمنين وكانت إحدى ثريَّاتِ مكة المعدودات، عندما خطبت لنفسها الرسولَ عليه الصلاة والسلام، وكان آخرون يفخرون بنسَب أنفسهم إلى أمهاتهم.
وكما سبق وأشرنا فقد ارتبط ذلك التطورُ الاجتماعيُّ ونشوء الطبقة بنزوع قومي واضح، كانت المرأة طرفًا في جدله التاريخي، حيث كانت امرأةٌ سببًا في حرب العرب والفُرس في ذي قار، والفرح الاحتفالي الهائل في الجزيرة بالنصر العربي، أما النزوع القومي وشعور قبائل العرب بأنهم جنسٌ له نوعيته وخصوصيته فقد دفعهم إلى عدم تزويج بناتهم من أعاجمَ مهما بلغ الأعجميُّ من مراتب الشرف والسؤدُد والمال.
الحبُّ والزواج
يبدو أنه رغم ما نسمعُ عن قيود وأعراف عربية، وضَعها المجتمعُ على علاقة الشاب بالفتاة، فإننا نسمع أيضًا مع نشوء الطبقةِ الثرية عن مجالسِ سَمَرٍ تُعقَد في أفنية الدور، ويجتمع فيها الشباب والشابات حيث تُضرَب الدفوفُ ويَرقص الحَدَّاءون ويُلقَى الشِّعرُ، خاصة في آخر سنوات الجاهلية الأخيرة.
وكان الشابُّ منذ بلوغه يبدأ التشبيبَ بالنساء ويُلاحقْهنَّ، وكان ذلك إحدى علامات الرجولة والفخر، ولأن الشعرَ كان أغنيةَ العربيِّ وفصاحتَه، فقد كان كلُّ شاعر يبدأ شعرَه بالغزَل، إلا أن الشعر النسوي كان يخلو تقريبًا من ذلك الغزل، حيث كان بَوْحُ المرأة بمشاعرها لونًا من خُلُق الحياء التقليدي بين العرب.
اختيارُ الزوج
وإذا تأخرتْ خِطبةُ الفتاة، التي عادةً ما كانت تتزوج في سِنٍّ مبكرة (حوالي الثانية عشرة)، فإنها كانت تلجأ إلى طلَب الرجل، فتنشرُ شعرَها، تُكحِّل واحدةً من عينَيها، وتسير تَحجُلُ في الشارع ليلًا تنادي: يا لكاح، أبغي النكاح، قبل الصباح.
وهو أمر يشير إلى أن العرب وإن درجوا على عادة اختيار الفتى لفتاته، فإنَّ العكس كان حادثًا، وتُشير الأحداث إلى أن المرأة كانت حرَّةً في اختيار زوجها، بخاصة إذا كانت من عِلْية القوم، فهذه «هند بنت عتبة» تقول لأبيها: إني امرأةٌ ملكتُ أمري، فلا تزوجْني رجلًا حتى تَعرِضَه عليَّ، فقال لها وذلك لكِ.
وتقول المصادر إن حقَّ ابن العم في ابنة عمِّه كان عُرفًا مقدَّمًا ومسنونًا، إلا أن العرب بعد ذلك صارت تَدرُجُ على التزاوج من خارج القبيلة، ويقول الباحثون إن كان ناتج ملاحظة أن زواج الأقارب يأتي بالضاوين (الضعفاء والمشوهين)، فصارت لهم في ذلك أمثالٌ مضروبة، من قبيلها: لا تتزوجوا من القريبة فيأتي الولد ضاويًا، والزواج من البعداء أنجب للولد وأبهى للخِلقة وأحفظ لقوة النسل، ولا تتزوجوا في حيِّكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض، والنزائع لا القرائب.
زواج الغريب
ويبدو لنا أن الزواج من قبائلَ أخرى، كان مرحلةً متطورة تساوقت مع التطور اللاحق، الذي دفع بأفراد القبائل للخروج عن الحالة القبلية الأولى، ونظام التحالفات الذي كان إرهاصًا بالقومية والتوحد، سعيًا وراء توفير ممكنات إقامةِ أحلاف قبلية كبرى قوية. وأبرزُ الأمثلة على ذلك عندما بلغ الصراع ذروتَه بين كتلتي هاشم وأمية في مكة، وبدأ كلٌّ من البطنَين يعقد تحالفاتِه الكبرى ضد الآخر، وكيف وهي السياسة التي اختطَّها هاشم بنفسه، وتَبِعه فيها بنوه من بعده.
لكن ذلك لم يمنع استمرار الزواج من داخل القبيلة بالطبع، وكان للطبقة والفقر والغِنى دورُه في ذلك، فكانت الفتاة في الطبقات الأدنى تُفضِّل زواج الأقارب؛ لأنهم أكثر معرفة بشئونها من الغرباء، وأحرص على ستْر عيوبها وسلامتها. وفي حكاية «عشمة البجلية» ما يشير إلى هذا المعنى، فقد نصحتْ شقيقتَها «خود» عندما جاءها خُطَّابٌ أغراب حِسان بقولها: تزوَّجي في قومكِ ولا تغرَّكِ الأجسام، فشرُّ الغريبة يُعلن، وخيرُها يُدفن، ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل؟!
الطلاق
معلوم أن الطلاق كان بيد الرجل، وكانوا يُطلِّقون ثلاثًا على التفرقة فإذا تمَّت امتنعت العودة، لكن أيضًا كان من حقِّ المرأة الثرية — ويشار إليها بالشريفة لمالها — حقُّ الطلاق، وقد أشار أبو الفرج الأصفهاني في أغانيه إلى ذلك في حديثه عن نساء الجاهلية يُطلِّقْنَ الرجال، وبلغ الأمر حدًّا لا يُجبَر فيه المرأة على المصارحة بالطلاق، بل كان يكفيها أن تُحوِّلَ بابَ خيمتها من الشرق إلى الغرب فيَفهم الرجلُ أنه قد طُلِّق من امرأته.
(إلى هنا انقطع الموضوع المنشور في مجلة نزوى وقد أوردناه كما نشرتْه المجلة لفقدنا الأصل.)