متى ظهر العرب في التاريخ؟١
متى ظهر العرب في تاريخ المنطقة؟ السؤال الذي حاول الباحثون تقديمَ إجابةٍ واضحة بشأنه، استنادًا للوثائق التاريخية والأركيولوجية، وإلى الدراسات المهتمَّة بتاريخ الأجناس والجغرافيا البشرية.
رغم أن هناك يقينًا غير واضح، بأن للعرب وجودًا وأصولًا موغلة في القِدَم، فإن ما ورد عنهم من إشارات مكتوبة، قليلٌ ومبعثر، ولا يرقى لأبعد من الألف الأولى قبل الميلاد. كما أن تعبير «الساميين» الذي يلتبس تارةً بالعرب وطورًا ببني إسرائيل، لا يشير إلى حقيقة بشرية، قدر ما يشير إلى مجموعة لغات متشابهة، يفترض أنها تعود إلى لغةِ أُمٍّ أولى.
ولعل أقدم الإشارات المكتوبة إلى العرب — كما هو معلوم لدى الباحثين — هي تلك التي جاءت في نقوش آشورية، حوالي عام ٨٥٣ قبل الميلاد، وحدثتْنا عن جماعات من البدو دمرتْها القوات الآشورية، وأن تلك الجماعات كانت تستقرُّ في بادية الشام، ودومة الجندل، وتيماء، وقد أَطلقت النصوصُ الآشورية على هؤلاء لفظةً اختلف تنغيمُها نُطقًا في الترجمة ما بين: عريبي، وعربا، وعربي، وعربو. أما بلادهم فيبدو أنها تلك التي ذُكرت في ذات النصوص باسم «عربايا»، كما أشارت إلى ملوك وملكات في محيط «دومة الجندل» وإلى كيانات قبلية تمتهن التجارة، يُرجَّح أنهم كانوا بدورهم عربانًا، وربما كانت عبارة «ماتو-أربي» الواردة في الكتابات البابلية كانت تعني: أرض العرب، لكن من المؤكد أن لفظة «أربايا» الواردة في كتابة «دارا الأكبر الأخميني» تعني: العرب.
العرب في نصوص الرافدين
وهكذا اتفق الرأيُ على أن أول إشارة مدونة في التاريخ إلى العرب، تلك التي جاءت في نصوص العاهل الآشوري «شلمناصر الثالث»، والتي تحدَّثت عن معركة «قرقر» التي وقعت عام ٨٥٣ قبل الميلاد، وتمَّت فيها هزيمةُ حِلْف لمجموعة من القبائل، تزعَّمها شخصٌ باسم «جندبو» أو «جندب العربي»، وأن تلك القبائل كانت تُقاتل راكبةً الجمالَ، وأن عدد الجمال العربية في تلك المعركة قد تجاوز الألفَ جمل، وهو ما يشير إلى حِلْف كبير، كما يشير إلى لَون من التآلف بين قبائل العرب، ربما اقتصر على ذلك الطارئ المؤقت، ولم يَرْقَ إلى الإحساس القومي بالتوحد الجنسي.
وقد أشارت تلك النصوصُ الرافدية المدونة في القرن التاسع قبل الميلاد إلى ملكات عربيات؛ فقد وردت في نصٍّ من عهد «تجلات بلاصر» سنة ٧٧٨ قبل الميلاد، روايةٌ عن قدوم ملكة العرب «زبيبة» تحمل الجزية، ونظنها تلك التي وردت في أخبار المأثور العربي باسم «الزباء»، وخلطوا بينها وبين «زنوبيا» ملكة تدمر. كذلك ترك لنا الملك «سرجون الثاني» نصًّا يقول فيه إنه قد هزم جيوش «شمسى» التي وصفها بأنها «ملكة العرب» حوالي سنة ٧٣٢ قبل الميلاد، وأنه قد تسلَّم الجزية من ملك سبأ «يث-عمر» حوالي سنة ٧١٦ قبل الميلاد، إضافة إلى دحْره جماعاتٍ من «ثمود» و«العبابيد» و«المرسماني» و«عفه» الذين وصفهم بأنهم «العرب بعيدو الديار».
وفي نصٍّ للملك الآشوري «سنحاريب» نفهم أنه قد أسَر شقيقًا لملكة عربية اسمها «ياطيعا»، ثم هاجم معسكرًا لملكة عربية أخرى اسمها «ت. علخونة»، حوالي عام ٦٩١ قبل الميلاد، أما الملك الآشوري «أسرحدون» فقد ترك وثيقةً تُشير إلى فرضه الجزية على ملِك دومة الجندل المدعو «خزعل» سنة ٦٧٦ قبل الميلاد.
وفي كتابات العاهلِ الآشوري الشهير «آشورياني بعل» (يُكتب خطأ بانيبال) سنة ٦٤٩ قبل الميلاد، إشارةٌ واضحة إلى معركة وقعت مع عربٍ يُعرَفون باسم عرب «قيدار»، ثم نعلم أن هؤلاء العرب قد تغلغلوا داخل الأردن مما اضطر «نبوخذ نصر» العاهل الكلداني إلى مهاجمتهم عام ٥٩٩ قبل الميلاد، ويبدو أن شأن هؤلاء العرب كان قد تضخَّم إلى الحد الذي اضطر الملك الرافدي الأشهر «نابونيد» إلى نقل عاصمته جنوبًا ليُقيمها في واحة تيماء، ليواجه من هناك تلك الهجمات، وليبسط هيمنتَه على «ددان» (العُلا حاليًّا شمالِيَّ السعودية)، وعلى فدك وخيبر ويثرب، وهو ما يوضح مصدرَ تلك الهجمات العربية.
العربُ في التوراة
أما التوراة، كوثيقة تاريخية، فقد سجَّلت للعرب وجودًا تاريخيًّا واضحًا، وذلك حوالَي عام ١٠٠٠ قبل الميلاد، عندما أرفقت ذكْرَهم بذكْر مؤسِّس دولة إسرائيل «الملك سليمان»، وذلك في سِفر أخبار الملوك الثاني القائل: «وكل ملوك العرب، وولاة الأرض، كانوا يأتون بذهب وفضة إلى سليمان.» وهو ما يشير إلى أن للعرب في ذلك الزمان ممالكَ تَدفع الجزيةَ لسليمان ملك إسرائيل.
وبعدها يتواتر ذكْرُ العرب في نصوص التوراة بذات السِّفر، في حكايته عن الملك اليهودي «يهو شافاط» حيث يقول: «وبعض الفلسطينيين أتَوا «يهوه شافاط» بهدايا وحمل فضة، والعربان أتَوه أيضًا بغنم من الكِباش.» وفي زمن الملك «يهورام» يهاجم العرب مملكةَ يهوذا بذات السِّفر حيث يقول: «والعرب الذين بجانب الكوشيين، صعدوا على يهوذا وسلبوا كلَّ الأموال الموجودة في بيت الملك، مع بنيه ونسائه.»
ومن ثم تتصاعد نغمةُ العَداء التوراتية ضد العرب، فتحكي التوراةُ عن عودة اليهود من سبْي بابل لبناء الهيكل الخرب مرة أخرى، وكيف كان العرب يهزءون مما يفعلون، وذلك في سِفر نحميا، وهو يقول: «ولما سمع سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني، وجشم (نظن صحيحها جاسم) العربي، هزءوا بنا واحتقرونا.» ومن ثَم نجد في أمنيات النبي «إشعيا» فناءً كاملًا للعرب، في قوله: «وحْي من جهة بلاد العرب، في الوعر بلاد العرب تَبِيتين، يا قوافل الددانيين (يقصد قوافل تجارة ددان وهي العلا حاليًّا)، يا سكان أرض تيماء، إنهم أمام السيوف قد هربوا، يفنَى كلُّ مجد قيدار.» أما النبي «إرميا» فيقدم ذات الأماني في نبوءته: «هكذا قال الرب: قوموا واصعدوا إلى قيدار، أخرجوا كلَّ بني المشرق.» ومعلوم أن «قيدار» اسمٌ لقبيلة عربية كبرى آنذاك، أما اصطلاح بني المشرق فهو يعني العرب بالمعنى الواسع، وقد تأكَّد صدْق وجود قبيلة باسم «قيدار»، على الأقل في إشارة تاريخية لنص «آشور باني بعل» سالف الذكر، وأنه جرد حملات عليها لأنها ساعدت أخاه المتمرد، وأنه دمَّر «أبي عاطي» زعيم قبيلة قيدار، وغنم منهم جمالًا كثيرة.
العرب في النصوص اليونانية والرومانية
تُعَدُّ إشارةُ «إسخيليوس» (٥٢٥–٤٥٦ قبل الميلاد) أقدمَ إشارة يونانية لجزيرة العرب، بحسبانها موطنًا للخيول العربية الممتازة، لكن الكتابات الهوميرية بحسبانها أشهر الكتابات اليونانية، لا تأتي على ذكْر العرب إطلاقًا، رغم تعدادها لشعوبِ وقبائل الشرق القديم، ومعلومٌ أن كتابات «إسخيليوس» جاءت بعد «هوميرس» بما يزيد عن ثلاثة قرون، لكن ما أن يأتيَ عام ٤٨٤ قبل الميلاد، حتى نجدَ في حديث «هيرودت» المعروف بأبي التاريخ، الحديث الكثير عن العرب ومناطق العرب، مما يشير إلى أن العرب قد أصبحوا حقيقةً مستقرة في المنطقة، حوالَي القرن الخامس قبل الميلاد، وأنه كان لهم معالمُهم الجغرافية المميزة، مثل خليج العرب (خليج السويس حاليًّا) مما يعني أنهم قد استوطنوا سيناء، كذلك كانت العرب الجنوبية (اليمنية) معلومةَ الأمر تمامًا في ذلك القرن. وما أن يأتيَ القرن الثاني قبل الميلاد، حتى نجد الحديث عند «أراتوستين» عن أربع ممالك عربية مستقلة في جنوب الجزيرة، هي: معين وسبأ وقتبان وحضرموت، وهو التقسيم الذي أثبتتْه الحفائرُ والكشوف الأركيولوجية الحديثة في اليمن.
أما الرومان، فقد قسَّموا جزيرة العرب قسمين: العربية الصخرية «أرابيا بترا» وهي شمالِيَّ الجزيرة وشبه جزيرة سيناء، والعربية السعيدة «أرابيا فيلكس»، وهي بلاد اليمن أو جنوبي الجزيرة، وذلك بعد معرفتهم الجغرافية لشئونها، مع حملة «آليوس جالوس» على الجزيرة، والتي أثبتتْ فشلَها الذريع في احتلال تلك الفيافي.
البحر الحميري
العربُ في الهيروغليفية
وهذا حقًّا ما فاجأَتْني به ترجمةٌ جديدة تمامًا للمفكر الليبي «الدكتور على فهمي خشيم»، لكلمة الشرق في المصرية القديمة «إ أب ت»، حيث كان المصري يُحدِّد الجهاتِ الأصلية بالتوجُّه جنوبًا نحو منابع النيل، ليُصبح الشرقُ في يساره، لتعني الكلمة «إ أب ت» اليسارَ والشرق معًا، كما تُشير إلى الريح الشرقية وأيِّ مشتقات ترتبط بالشرق، وجذرها «إ أب» يعني الشرق، وفي قراءة الرجل للكلمة نجد الهمزة الأولى مبدلةً من العين «أ = ع»، وذلك كما في المصرية «ك أب» = كعب، و«إن ق» = عنق … إلخ، ومعروف أن العربية تُبدِل العين همزةً كما في «الأربان = العربان» (انظر لسان العرب)، أما الهمزة الثانية في «إ أب» فهي مبدلة من الراء، ونموذجًا لذلك خمسين مثالًا قدَّمهم المصرولوجي «أمبير» مثل «ب أ ك» المصرية = برك، و«ش أ ع» = شرع، و«ج أم» = جرم، وعليه فإن الهمزة الأولى في «إ أب» تصبح «ع»، والهمزة الثانية تصبح راءً، بينما الباء أصيلة، أي أن «إ أب» هي بالضبط «عرب»، و«إ أب ت» هي «عربت» مؤنث «عرب»، أو بلفظ العرب «عربة»، أي: بلاد العرب، أي: جزيرة العرب، أو على الأصوب والأرجح «وادي عربة» الممتد من خليج العقبة حتى البحر الميت شرقِيَّ سيناء، وهي الكلمة المصرية التي صارت تدل على الشرق عمومًا، مما يعني أن مصر القديمة قد عرفت بلاد العرب باسمها، وأنها كانت تعرف سكانها باسم العرب، وإذا كان الشرق في اللسان المصري القديم يعرف بأنه «عرب» وسكانه (العرب)، فهو الأمر الذي يعني وجودًا لقبائل حملت ذلك الاسم وعاشت شرقِيَّ مصر، وأن الاسمَ قديمٌ قِدَمَ مَن أطلقه عليهم.
وأنه من المحتمل الآن البحثُ عن أصول الفينيقيين الحُمْر في حضارة الجنوب اليمني الأحمر الحميري، لكن ما يجب التأكيدُ عليه هنا أنه رغم كلِّ الاحتمالات التي تُشير إلى قِدَم العرب في التاريخ، وأنهم أقاموا ممالكَ في بعض الأحيان، فإنهم لم يشعروا يومًا بوحدة جنسِهم، هو ما تُشير إليه تلك الكتاباتُ القديمة، التي كانت دومًا تتحدَّث عن القبيلة الفلانية ثم تَصفُها بأنها عربية، مما يعني أنها فقط بدوية أو صحراوية، باعتبارها كانت مملكة، ونحن نعلم يقينًا وفقَ الدراسة العلمية المدققة أن الحسَّ العربي بمعنى القومية أو الجنس الواحد، لم يظهر إلا قبل الإسلام بزمن وجيز، بفعل مجموعة من الظروف الموضوعية أدَّتْ إليه، ولم تحمل كلمةُ العربِ مدلولَها الجنسي والقومي المعروف، مع سيطرة لغة واحدة، إلا مع الإسلام، الذي نَمَّى الحسَّ القومي لدى سكان الجزيرة، ليشعروا لأول مرة في تاريخهم أن لهم كيانًا واحدًا هو الكيان العربي، وحينها ابتدعوا فكرة «يعرب» جدِّ العرب البعيد، الذي يجمعهم ويوحِّد أصولَهم في تاريخ لم يعرفْ هذا الاجتماعَ من قبل، وربما كان «يعرب» هذا هو الصياغة العربية «بالقلب» للاسم المذكور في التوراة بصيغة «عابر».