رب الزمان١
منذ ما يزيد على خمسة آلاف عام، عندما كان الفكرُ الإنساني لم يزل في بداياته، كان العراق في قمة الإبداع الحضاري، حيث نشأت أول حضارة إنسانية على ضفاف دجلة والفرات.
وفي جنوب وادي الرافدين، كان هناك الشعبُ السومري الذي لا تقلُّ حضارتُه عن أية حضارة أخرى عاصرتْه، ففي هذا السهل الغريني الخصب، أبدَع الحكماءُ السومريون أدبًا وفكرًا يتناسبان مع درجة ارتقاء الإنسان في تلك الأزمان.
تطلَّع الفكرُ هناك حوله مستكشفًا ظواهرَ طبيعةِ الكون مفسرًا وقارئًا ومبدِعًا، في كيان الوجود المحيط به، فترك عددًا غفيرًا من الآلهة، تعدَّدتْ بتعدُّد الظواهر النافعة والضارة في الطبيعة، ومن تلك الآلهة الإلهُ «آن» إله السماء.
«آن» ربُّ السماء
تَعني كلمةُ «آن» السماءَ المنظورة ذاتها في بدء الأمر، وكانت السماء في رؤيتهم سقفًا محفوظًا يعلوهم، ثم تحوَّلت بالتدريج إلى علَم ورمز على الألوهية عمومًا، فعادلت الكلمة «آن» — بمعنًى من المعاني — لفظًا جلاليًّا أو اسمًا للجلالة، تدل على ألوهية أيِّ مسمًّى إلهي، كما حملت الكلمةُ «آن» معنى السيادة والرفعة، باعتبار هذا الإله هو سيد الآلهة جميعًا.
ويقول آثاري السومريات المعروف «صموئيل كريمر»: إن الأسباب التي أدَّت إلى سيادة «آن» على مجموعة الآلهة السومرية، لم تزل وفصولها أسبابًا غيرَ معروفة، لكننا يمكن أن نتصورَ وببساطة، أن رؤية السومري للسماء بفسحتها واتساعها، وتعدُّدِ الألوان والأجرام والظواهر فيها، مع ضخامة هذه الظواهر، وجسامتها هذه، روحًا تُحيط الأرض، وتغطيها لها من جميع الجوانب، كلُّ ذلك كان كفيلًا بإجلالها، بما يُلائم عظمتها، مقابل ضيق المساحات المرئية أمامه بشكل مباشر على الأرض، التي مهما بلغت مظاهرُها هولًا وغرابةً، فإنها لا ترقى أبدًا إلى درجة الظواهر السماوية، مع الأخذ بالحسبان، عدم التماسِّ المباشر بينه وبين السماء، مما جعلها مجهولًا دائمًا، يقع في نفسه موقع الجليل بما له من رهبة ورغبة وتقديس، فكان أن تصوَّر السماءَ أعظمَ الآلهة طرًّا، وأبًا أولًا دائم الاقتدار، بتواصل وديمومة يخصب الأم الكبرى الأرض، وهو يحتضنها باستمرار، ليلقيَ ماءَ الحياة فيها.
واستطاع العرب أو الساميون أن يشيدوا بلاد الرافدين بعد أن أصبحوا سادة البلاد، وأسَّسوا هناك دولًا كبرى نتذكرها عندما نتذكر «الأكاديين، والبابليين، والآشوريين، والكلدانيين». إن الإله «آن» لم يقم بإبداع الوجود دفعة واحدة فيكون قد فعل فعلًا واحدًا شاملًا وانتهى الأمر، إنما كان إبداعُه زواجًا مستمرًّا من الأم الأرض، عن طريق مطرِه الدائم ورعايته من عليائه باستمرار لأولاده من الكائنات الأرضية «إنسان ونبات وحيوان وكيانات أخرى»؛ وبذلك كان فعله مستمرًّا، وعليه فهو لم يفعل مرة واحدة إنما يفعل باستمرار، وربما هذا الفعل هو فعل «آن» الدائم، فهو «فعل + آن» أو «فعلان»، تلك التفعيلة التي دخلت كلَّ اللغات السامية لتدلَّ على الفعل المستمر والحضور في جميع الأزمنة، فهو فعل بدأ في الماضي، لكنه مستمرُّ الحضور والعمل، وباعتبار «آن» أقدم الآلهة طُرًّا، فقد اكتسب صفةَ الأزلية، ولأن السماء منفصلة عن الوقائع الأرضية، التي تتعرض للدمار والفساد باستمرار، فقد بات واضحًا لعينَي السومري أن الإله «آن» دائم الحضور دون فساد أو فناء، ومن هنا اكتسب صفة الأبدية، ومن ثَم تحول إلى مفهوم، فأصبح هو الديمومة أو الزمان.
ولو توقفنا مع العربية، كفرع من اللغات السامية، وحلَّلنا كلمة «الزمان»، سنكتشف عددًا لا بأس به من الكشوف، وأول ما سنلاحظه في كلمة الزمان أنها على وزن التفعيلة «فعلان»، كما أنها تُشير إلى جزئيات الزمن المتراصَّة المتلاحقة المتلاصقة في كلمة «زمان»، وأعني أن الزمان هو مجموعة من اللحظات أو من الآنات «آن وآن هكذا …»، أي مجموعة من اللحظات الحالية أو الراهنة أو الآنية «الآن»، مضتْ منها «آنات»، ونحضر منها الآن «آنات»، ومنها آنات لم تأتِ بعد، فالزمان هو مجموع آنات الوجود، وبضمِّ هذه الآنات إلى بعضها البعض، أو لمِّها، أو جمعِها، أو زمِّها تُصبح هي «زم الآنات» أو «زم آن» أو «زمان» أو «الزمان»، الذي كان قديمًا هو الإله «آن» رب السموات.
«آن» ربُّ المكان
ولما كان الإنسان القديم، يُشكِّل في التاريخ مرحلة الطفولة البشرية، فإنه كثيرًا ما كان لسانه يلكن لكنةَ أطفال اليوم، وكثيرًا ما خلط بين الباء والميم، وهكذا لم يكن هناك بأسٌ من أن يُصبح بيتَ الإله «مَكْ» بدلًا من «بَكْ»، فجاز نطقُ المعبد المذكور: بعلبك، ومعلبك، ومعلمك! ومن هنا استساغ «جورجي زيدان» في مبحث لغوي، أن يستنتج أن كلمة مكة من «مك»، وتعني بيتَ الله في اللسان القديم، وقد نؤيده إلى حدٍّ ما، باعتبار ما نعلمه عن أقرب اللغات السامية إلى الفرع الشمالي العدناني، هو اللسان الكنعاني، صاحب الكلمة «بك»، مع أخذنا بالحسبان ما جاء في القرآن الكريم عن مكة أنها أيضًا بكة، في قوله تعالي: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا.
ولما كانت الكلمة: إي، أو بيت، أو بك، أو مك، تعني بالتحديد والدقة مقرًّا، أو محتوًى، أو مسكنًا، أو مِلْكًا (من الامتلاك)، فهِمنا من ذلك أن أيَّ مكان أرضي هو مِلْكٌ للإله المحلَّى له، لكن على المستوى الأعظم الذي يليق بجلال أعظم الآلهة وسيد الكون «آن»، فإن كل البيوت أو الأمكنة هي بيت ومِلك ومحلٌّ لسُكنَى الإله الذي تُحيط بسمواته كلُّ الأمكنة، «آن» سيد الآلهة، وعليه فالكلمة «مك» إنما هي التي أصبحت بعد ذلك تفصيلًا «ملكًا»، بإضافة اللام في العربية الشمالية، وأصبحت جميعُ الأماكن هي ملكًا للإله «آن»، فالأرض له ومَن عليها، وجميع اﻟ «مك» للإله «آن» أو مِلك «آن»، فالمكان إذن أيضًا كله ﻟ «آن» وملكه الدائم.
وهكذا نكتشف أن المكان بدوره كالزمان، ينسب للإله الأعظم، رب السموات ورب الزمان ورب المكان، «آن».
من «آن» إلى «فعلان»
في اللغة العربية، كفرع من اللغات السامية، ترك «آن» أثرَه كحفرية دائمة الحضور في التفعيلة «فعلان»، كحفريات كائنات الطبيعة التي نجدها في الصخور، فيدلُّنا وجودُها باعتبارها أثرًا من الماضي، على هوية هذا الماضي. ويسمَّى العلم الذي يهتمُّ بحفريات الطبيعة «جيولوجيا»، بينما العلم الذي يهتم بآثار الإنسان وما تركه من تراث وحضارة «علم الأركيولوجي»، أما الأسلوب الذي نتبعه الآن في بحثنا القصير هذا، فهو ما يدخل تحت ما يسمَّى علْمَ أركيولوجيَّا اللغة، في إطار من علم «الميثولوجي» أو دراسة الأساطير.
ولو تناولنا بعض الكمات في لغتنا لنتعاملَ معها أركيولوجيًّا، وفقَ ما عرفناه، عن «آن»، سنجد عددًا من الأمثلة التي لا يُحصيها الحصرُ، فحرف الميم (م)، عندما نبحث عن جذوره اللغوية، نجده يدل على الضمِّ والزمِّ واللمِّ والتلاحق والإحساس الشديد بالشيء، وعادة ما يكون مشدَّدًا «مّ» كما في «ضمَّ»، «همَّ»، أي استعدت أحاسيسه لتحريكه لأمر شديد القرب لدرجة التلاصق، و«شمَّ» دلالة الإحساس الشديد بالشيء، و«جمَّ» للدلالة على الكثرة المتلاصقة المضمومة لبعضها، و«عمَّ» بمعنى اشتمل وغطَّى … إلخ.
والنبي محمد ﷺ هو في علم الأنساب من الفرع العدناني، وليس من الفرع القحطاني، و«عدنان» هي «عدن + آن»، وعدن لم تزل علمًا حتى اليوم على مدينة في جنوب الجزيرة، ولو تتبعنا الهجرات القديمة في جزيرة العرب، سنجد القبائل العدنانية، قد هاجرت فعلًا بعد دمار مأرب وانهيار اليمن السعيد، من الجنوب اليمني إلى الشمال، لتستقرَّ في أرض الحجاز، بينما ظلَّت بعضُ القبائل في اليمن بعد أن أصابها القحط ليصبحوا «قحطانيين»، من «قحطان»، علمًا أن «عدن» أو «أدن» كان علمًا على إله الخصب والمطر في كثير من المناطق السامية، وكان لقبًا لرب الخصب «بعل»، وإليه تُنسب الكلمة «جنات عدن»، لأن كلمة «جن» كانت تَعني وحدةَ قياس للأرض، تُعادل بمقاييس اليوم ثمانية عشر ذراعًا، وهي في اللسان اليمني القديم «جنان»؛ لأن أداة التعريف لديهم كانت حرف النون (ن) تلحق بآخر الكلمة، كما في اسم أحد كبار معبوداتهم القديمة إله الرحمة أو «رحمن»، و«جن» تُجمع في اللسان العدناني الشمالي «جنات».
وباعتبار الأرض الخصبة ملكًا لإله الخصب عدن، فتصبح «جنات عدن» و«عدن» بدورها كلمةً تتركب من ملصقين هما «عاد + آن»؛ لأن الإله عدن في أسطورته، كان إلهًا للخير والخصب، تعرَّض للقتل والموت كما تموت الطبيعة الخصبة في الشتاء، لكنه يعود من الموت حيًّا في فصل الربيع دومًا، فتعود بعودته الخصوبةُ والنماء، وهي قصة متواترة في ديانات الخصب التثليثية، ويُعَدُّ الاحتفالُ بعيدِ قيامة مجيد لآلهة الخصب عيدًا كبير الانتشار في المنطقة، حيث كل مجموعة تؤمن بإلهٍ للخصب تُقيم له احتفال العودة من الموت سنويًّا، في فصل الربيع بالذات، ومن هؤلاء «عدن» أو «يسوع» المسيحية، ويصبح معنى «عدن» الإله «عاد-آن» العائد من عالم الموتى.
ولا يغيب عن الفطن ربط «عدنان» باليمن السعيدة المكتظة بالخير، والتي حازت على هذا اللقب نتيجة سعدها في سالف الأزمان، وبخضرتها ووفرتها وخصبها، نتيجة وجود الإله «عدن» أو «أدن» في العبادات القديمة، ولنلاحظْ أن «اليُمن» بضم الياء، يعني أيضًا السعد وكان الرسول ﷺ يقول عن نفسه: أنا رجل يمانٍ، بمعنى أنه رجل سعد، بل وقال الحديث: «إن الدين أيضًا يمانٍ، والحكمة يمانية.»