المرأةُ في المأثور الديني والأسطورة١
حريم وحرام
عندما نعتاد الأمرَ يتحول إلى بدهية، ولا نلتفت إلى تناقضه وهشاشة أُسُسِه، وبمرور الوقت يُصبح من أشد الأمور اختلافًا بين الناس، بين مَن يُدقِّقُ ويرفض منطقَ الاعتياد، وبين مَن اعتادَه حتى اعتقد أنه بدهية.
ومن المعتاد — لكنه بالفعل ليس بديهيًّا — أن هناك متسلطًا وهناك مقهورًا، وأن للمستغلين مصالحَ تستدعي تزييف وعْي المضطهدين (بفتح الطاء)، ويشهد التاريخ أن أشد الأدوات مضاءً بهذا السبيل هي الأدوات الإيمانية، التي تلعب على الوجدان العاطفي للمتدين، ومن ثَم تراهم يُنفقون بسخاء وذكاء، على وسطائهم المحترفين من كهَنة ورجال دين، ينشرونهم في كل مكان، يبثُّون الصبر، وينفثون السلوان، مبشرين بجزاء أيوب، يتتبَّعون أيَّ تحرُّكٍ واعٍ ضد تزييف وعي الناس، ينقضُّون على كل رأْي أو سلوك أو حتى كلمة أو فكرة، فربما ثقبت الكلمة الجدارَ السميك للجهل المنشور، الذي يمنع المضطهد من الوعي بحاله وبوضعه في المجتمع.
ولأن تطور المجتمع البشري لم يصل بعدُ إلى الوضع الإنساني اللائق بكرامة الإنسان، فإن الظرف الاجتماعي الحالي لازال يسوغ القسمةَ الطبقية الصارخة بين الناس، طبقات، طوائف، أجناس، دائمًا هناك الأقوى والأضعف، المفترس والفريسة، القاهر والمقهور.
وربما أبرزُ نماذج تلك القسمة اللاإنسانية، وتشكل وصمة عارٍ كبرى في تاريخ البشرية، ذلك الذي حدَث منذ استولى الذكَر على مقدَّرات المجتمع البشري، وأزاح الأنثى من البؤرة إلى الهامش، ليصوغَ مجتمعًا ذكوريًّا أسَّس لأبشع أنواع التفرقة العنصرية داخل الجنس الواحد، ففرق بين طرفَي حياة لا تكتمل الحياة دون التقائهما جنسًا وجسدًا وروحًا وتكاملًا إنسانيًّا.
والتاريخ يؤكد أن الشرق كان هو المؤسس لذلك التقسيم العنصري الطبقي في آنٍ معًا، ولم يزل، ومن يومها تتعزَّى المرأة الشرقية بالصبر والسلوان الفقهي، وتبلسم جراحَها بخطابات منبرية، تؤكد لها أنها في مكان التكريم بين نساء العالمين، تتعزَّى صبرًا في عالم الأرض، وصبرًا في عالم السموات، في الدنيا وفي الآخرة. وإن أحسنت أيمانَها وأحصنت فرجها وأمتعت زوجَها وسيدَها، دخلت يوم الدينونة ضمن حريم السيد المؤمن الذكر في جنة رضوان، ذلك الحريم الذي تبدأ أعدادُه من السبعين لتصل إلى الملايين في بعض الأحاديث المنسوبة للنبي.
وإيمانها الذي سيعطيها تلك المنحة الخالدة لا يحسن إلا بالطاعة الكاملة للرجل والخضوع له والتسليم الكامل لسيادته الغشوم في دنيانا الفانية، حتى تضمن لها مكانًا كغانية ضمن حريمة في الآخرة أيضًا.
والدارس للمرأة في منظومة المأثور العربي، يجد ذلك المأثور يُميِّز جنسيًّا وخُلُقيًّا بين الذكَر والأنثى، فهو المخلوق الأول، وهي الثاني، بل هي منه قطعة، هو المخلوق لذاته، وهي المخلوقة له ومن أجله، ويلاحظ أن ذلك الاختلافَ العضوي بين الذكر والأنثى، قد تحوَّل في مأثورنا من تكامل ضروري لصُنْع الحياة، إلى امتيازٍ خاصٍّ للرجل، مأثورُنا يُعيد وضْعَ المرأة إلى زمن حواء الأسطوري، زمن الخطيئة الأولى، ويمركز الشرَّ كلَّه حولَها، فهي شيطان غواية لأنها رفيقة إبليس! المرأة لا تتحكَّم بشهواتها، ولا تكون مع رجل إلا وكان الشيطان ثالثَهما، ويتأصل سوءُ الظن بها في لا وعي الجماعة على أُسُس من الإيمان؛ لأنها هي التي أغوت آدم، حتى قصص الأنبياء تخبرنا أن نساء الأنبياء قد وقعن في الخطيئة؛ امرأة لوط، امرأة نوح، في التوراة سارة امرأة إبراهيم، هاروت وماروت أغوتهما امرأة! ولدا آدم تقاتلا على امرأة، فالمرأة تخضع للشهوة لا للعقل، ميولها للخيانة طبيعية، ومن الطبيعي أن تخون فهي أحد أربعة لا أمان لها «مع المال والسلطان والدهر» في الحديث «ولو طالت عشرتها». كل هذا دون أن نلتفت لحظة لفظاعة وضعها المجتمعي، ولا لكم الخيانة الذكورية للمرأة، وللتاريخ كلِّه.
وهكذا يُؤسس موروثنا لتبخيس المرأة، فقد خُلقت من ضلع أعوج، وناقصة عقل ودين، وشهادتها نصفُ شهادة الرجل، وميراثها نصف ميراث الرجل، وليس لها من الطلاق شيء، «ولو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها.» والكهنة رسلُ الشيطان والنساء مصايدُه، شلٌّ مستمر لشخصيتها، وإضعافٌ دائم لفاعليتها، ودفع دائم لها لتكون على الصورة التي يريدها الرجل، ليسقط عليها عدم براءته وشهوانيته ونقائصه، لتصبح مجردَ جسد، غير مطلوب منها أن تفكر فهناك من يفكر بالنيابة عنها. مطلوب منها فقط أن تعطيَه الراحة والمتعة! أن تكون مجرد متاع! ويترسخ المأثور داخلها هي حتى تؤمن هي ذاتها أنها مجرد فرَج! وأنها لذلك حرمة وحرام، فتفرض المأثور على ذاتها في شكل وسواس قهري داخلي، يضع بينها وبين عالمها كلَّ التحريمات حتى الصوت الذي هو عورة، لتحصل بذلك على رضا الزوج الذي هو رضا الرب، وتكتسب رضا الجماعة واحترامها، بحيث تتعايش مع الضغوط وألوان العقاب والاحتقار، المفترض احترامًا، وتصبح أكثر أعضاء الأسرة والمجتمع تحمُّلًا للاضطهاد، فقط لتعيش في وسطٍ يترصدها ويعدُّ عليها سكناتِها، ومن ثَم يصبح وضعُها هذا في المجتمع طبيعيًّا تمامًا، معتادًا تمامًا، بدهيًّا تمامًا، لا نلتفت إليه، ولا نفكر فيه، إلا عندما نصادف امرأة وعَت الأزمة، فتكسَّر في وجوهنا عدمُ براءتنا بسلوك جديد ورأْي جديد ومنطق جديد يُخيفنا ويرعبنا، هنا فقط لن نفكر إلا في هذا الانفلات وكيف نحجمه ونعاقبه، حتى لا تأخذ لحريتها مساحة من حريتنا، حتى نظل السادة، وحتى نجد دومًا مَن نحمِّله أمراضنا الداخلية. من نحمله أيضًا أوزارنا دون أن نناقش ذلك الفرض الذي فرضه مأثور، هو الذي فرز لمرحلة تاريخية طال أمدُها، ودون أن نناقش مدى صدْق الفرض ومدى اتساقه مع إنسانيتنا وما ندَّعيه من رُقيٍّ بشري، ونظل نطلب المرأة النموذج، التي تُظهر الخجل عندما تُحادث الرجل، التي تُكبت ميولَها الطبيعية ولا تتذكر سوى كونها عورة، التي تعرف عن يقين أنها حرم … حرم فلان … فهي حرام، بل الحرام ذاته، حرمة، مقدس، لا يجوز لمسه، وهي أيضًا وفي ذات الوقت منجسة لأن طبيعتها النجس، والفعل الجنسي معها يؤدي للنجس، لا بد أن يغتسل جسد الرجل جميعًا لرفع أيِّ أثر لتلك الملامسة والممارسة، كذلك دم الحيض يغطيها بالنجس؛ لذلك تُرفع عنها أثناء ذلك كلُّ التكاليف، لا تصلي، لا تصوم، كذلك طوال فترة النفاس وهو الأمر الذي له أصوله في الأسطورة وفي القديم الذي أسَّس لمعنى الحرام والحريم، وهو ما ينقلنا عن تلك الصورة التي قعَّدها لها المأثور، إلى محاولة قراءة نماذج سريعة لواقع المجتمع منذ ما قبل التاريخ، وهو يتحول بالمرأة من مركز السيادة إلى الحضيض، طبقيًّا وجنسيًّا وإنسانيًّا.
امرأة: الأصل أسطوري
امرأة، حواء، أنثى، أسماء ثلاثة مؤسسة أولى لذلك الكائن الذي كلما حاول التملص كلما قيل إنه لغز. وسعيًا وراء أصولِ التسميات تحكي لنا التوراةُ أن الله خلَق آدم الذكَر، ووضعه في الجنة حيث عاش وحيدًا لا يجد أنيسًا يُؤنِّس وحشتَه، وهنا قرَّر الربُّ أن يؤنسَه بكائن يسليه، وكان هذا الأنيس هو المرأة، وذلك في نصٍّ يقول فيه آدم عن المرأة المصنوعة من ضلعه: «هذه الآن عظم من عظامي، ولحم من لحمي، هذه تُدعَى امرأة؛ لأنها من امرئ أُخذت» (تكوين، ٢: ٢٣).
وهكذا فالنصُّ يجعل امرأةً تأنيث امرئ وليس العكس، ليظل الرجل أولًا، فهي تابعة له في الخُلق، وتابعة في المسمَّى، لكن بالتوراة نفسها نصٌّ آخر يُعيِّن تسميتَها لشأن آخر فلأنها مصدر الحياة وفاتحة المواليد، يقول النص: «دعا آدم اسم امرأته حواء؛ لأنها أمُّ كلِّ حيٍّ» (تكوين، ٣: ٢). وكلا التسميتين «امرأة» من ضلع امرئ، و«حواء» أم كلِّ حي، وفي الأصل العبري «تلك التي تُحْيِي» يُشكِّلان في يد الباحث مفاتيحَ تُضيء له ذلك القديم، ليكتشف أصْلَ وضْع المرأة في المجتمع.
عند قراءة الأسطورة بحثًا عن الاسم «امرأة» لن نجد أبدًا أنها كانت تابعة ﻟ «امرئ»، بل العكس تمامًا، فالميم للأمومة، ولا تجد في الإلهات الكبرى القديمة اسمًا يخلو من ميم الأمومة، فأصل الكون البابلي «مي»، والأم الإلهة الكبرى بالأسماء الثلاثة المتواترة حتى الآن «ما» «أماه» «ماما»، وكل إلهات الخصب في حوض المتوسط يحملن الاسم «ميرها، ميريا، ميريام، مريم، ستلاماريا»، والميرة هي الزاد، هي مانحة الطعام والحياة، وهو ما يُلقي الضوء عليها كمكتشفة أولى للزراعة، وميرها هي شجرة المر المقدس أيضًا التي أنجبت الآلهة الذكور الأبناء.
أما الكلمتان: أنثى وحواء، فتضيؤهما لنا قصصُ الخلق الأولى في الملاحم السومرية والبابلية، حيث تحكي عن مكان خاص كانت تعيش فيه الآلهة الخالدة يُدعى «دلمون» «البحرين الحالية»، وهو ما يناظر «أولمب اليونان». وهناك جاء إلى الوجود إلهٌ باسم «جي» ممثلًا لبداية البشرية على الأرض، رعيلًا أول يجمع اللاهوت مع الناسوت، أو الألوهية مع الإنسانية. واسمه ملصق من مقطعين يشيران إلى كونه أولَ سكان الأرض فهو من «آن-سيد أو رب» و«جي-الأرض»، وتحكي الأسطورة أن الأم الإلهة الكبرى «مما ممهور ساج» أو «ننهور ساج» هي التي ولدته، وأنها حرمت عليه ثمارًا بعينها في دلمون حرصًا على حياته، فعصاها بجهله وحُبِّه المعرفي وأكل منها، فأُصيب بمرض شديد في واحد من أضلاعه كاد يقضي عليه.
وهنا أسرعت الأم الإلهة فخلقت له إلهةً أنثى مهمَّتُها تمريضُ ذلك الضلع وعلاج الإنسان الأول «آنجي»، وكان اسمها «آنتي»، والاسم «آن تي» من ملصقين «آن = سيدة أو ربة» + «تي»، و«تي» عندما تكون اسمًا تعني الضلع فيكون المعنى سيدة الضلع، لكن «تي» عندما تكون فعلًا تعني تُحيي، أي تلك السيدة التي تُحيي أي هي أحيَت آنجي بعدما أشرف على الموت، وهو ما يُلقي الضوء على معنى كلمة حواء في التوراة العبرية «تلك التي تحيي» والعربية «أم كل حي»، كما يُلقي الضوء على أصل الأسطورة التي حورت أو فهمت خطأ فيما نقله المأثور التوراتي عن الرافدي، لتكون حواء أو «آنتي» مخلوقة من ضلع آدم، كما تبهرنا دراسة تلك الأصول عندما نعلم ببساطة أن «آن تي» هو أصل كلمة أنثى «نتاية» ببساطه، والأنثى والنتاية في الجذر تشترك أيضًا مع النتوء والظهور.
الإله من أنثى إلى ذكر
والدارس للأساطير سيجد من الشواهد القرائن الأركيولوجية ما يدعم الفرض: أن الأنثى كانت مركزًا لمجتمع أمومي ابتدائي، وأنها كانت في مركز يتناسب مع مجتمع كانت آلهته إناثًا، ومنطقيًّا لا يمكن أن نجد مجتمعًا كلُّ آلهته إناثٌ ويسوده على الأرض ذكورٌ ومن ثَم تكون النتيجة أن الأنثى كانت سيدةَ ذلك المجتمع.
ويبدو لنا أن السبب في ذلك حسب قوانين الحِراك التاريخي، هو امتلاكُها أساسًا اقتصاديًّا، دعَّم تلك السيادة. وهو ما نلمحه في تصور لشكل ذلك المجتمع الابتدائي، حيث كان المجتمع صيَّادًا، يخرج فيه الذكور للصيد والقنص، بينما كانت رعاية الصغار تستدعي استقرار المرأة بجوارهم، فكانت هي بداية الاستقرار في المكان، الذي أدَّى بعد ذلك إلى نشوء المشتركات ثم القروية فالمدنية.
وكان استقرارُها هذا دافعًا لها لاكتشاف الزراعة، وهي تلحظ سقوطَ الثمار على الأرض، ثم عودتها للإنبات فكان أن حاولتْ تقليدَ الطبيعة، فاستنبتت الثمار، فأسَّست لنفسها بذلك الكشف أولَ أساس اقتصادي متين لسيادتها. وهو الأمر الذي كان لا بد أن يُضيفَ لانبهار الرجل بقدرتها على الولادة انبهارًا آخر بأنها تمكَّنت من جعل الأرض تلد بدورها، مما أضاف لقدراتها السحرية (اقتصادية أصلًا) رصيدًا آخر، وربما كانت أيضًا هي مكتشفة الفخار، بالنظر إلى شكل الأوعية التي عُثر عليها بجوار الإلهات الإناث القديمة وهي ما كانت تُمثِّل دومًا ثديًا أو فرجًا أو فخذًا إذا استطالت، كما كانت مكتشفة الخمر، بتخمر الطعام الزائد في أوانيها، وهو ما فاجأ الذكور عند العودة من القنص بمزيد من السحر، يضفونه على المرأة السيدة الإلهة بعد ما دارت الرءوس بسحرها الجديد.
وهي أيضا مكتشفة النسيج، بما توفَّر لها من وقت واستقرار للملاحظة والكشف والتجربة والخطأ والمحاولة، حتى النجاح الذي أضاف لأساسها الإنتاجي مزيدًا ورصيدًا. لكنها وهي بسبيل تأسيس الاستقرار الأول الذي أسَّس للمدينة فيما بعد، كانت تضع ثمار خسارتها لأساسها الانتاجي وفقدها لمقوم سيادتها الاقتصادي، عندما احتاجت الزراعة إلى حيوانات أقوى تحتاج في ترويضها وتدجينها إلى عضلات أقوى وتفرغ أوسع، بعد أن استقر الرجال إلى جوار زرع المرأة وغِراسها، ومن ثم تمَّ سحبُ البساط من تحتها لصالح الذكور. ويلاحظ الباحث أنه مع ذلك الاستقرار المديني وبدء استخدام الحيوانات القوية في الحرث، يبدأ ظهورُ الآلهة الذكور بوضوح في منظومة السماء، وهو أمر فيه تفاصيل كثيرة نُحيل فيه الحضور إلى كتُبنا للمزيد، ونكتفي بتلك الإشارات السريعة لضيق الوقت المتاح، فقط نلمِّح ونؤكِّد على الأساس الإنتاجي لسيادة المرأة الذي فقدته، فسادَ الذكَرُ، وتحوَّلتْ ربةُ السماء من أنثى إلى ذكَر، فأصبحت الشمس ذكرًا بعد أن كانت أنثى، كذلك عشتار نجمة الجمال الزهرة، تحولت مع السيطرة الذكورية إلى الإله الذكر عستر في خطوط المسند والخط النبطي.
أما تصورات ذلك المجتمع لبداية الخلق فكانت بسيطة بساطة المجتمع الأمومي الأول، الحدث سهل، كان على الربَّة الكبرى أن تلدَ الكائنات، والتي تمَّ تمثيلُها في الأم الأرض ممتزجة بالأنثى السيدة على المجتمع آنذاك.
ولما كان الرجل قد لاحظ اختفاءَ دم الحيض مع بدء الحمل، فقد تصور أن ذلك الدم هو الذي يقوم بتكوين الجنين في الداخل ليُعطيَ بعد ذلك تلك الظاهرة المدهشة المذهلة ظاهرة إعطاء الحياة والمواليد، لكن بعد السيطرة الذكورية وتحوُّل الإله إلى ذكَر، كان لا بد أن يتحوَّل فعْل الخلق من الأنثى للرجل، ولكن لأن فكرة خلق الولادة من دم الحيض المختفي في بطن الأنثى قد ترسخت تمامًا، قامت أسطورة الخلق الذكرية على ذات الأساس، فقام الآلهة الذكور بذبح إله صغير مخنَّث لا هو ذكر ولا هو أنثى ليستخدموا دمَه بعجن طين الأرض ليصنعوا منه الإنسان الأول. ومن ثَم تحولت القصة عن فعل الولادة إلى فعل الخلق، وهو ما يترافق مع مزيد التفرغ الذي أحدثه الاستقرارُ والوفرة للبشر على الأرض لمزيد من الكشف والابتكار أو الخلق.
لكن في نفس الآن كان لا بد أن يتم تبخيس الأنثى كردِّ فعل نفسي إزاء سيادتها القديمة وسحرها الدائم، فتحوَّل الدم الحيضي في المأثور إلى نجس، لكن يبقى المأثور في اللاشعور الجمعي مستيقظًا، فحين تحيض المرأة تُرفع عنها التكاليفُ فلا تصوم للإله الذكَر، ولا تصلي للإله الذكَر، لأنها في هذه الأيام الخمس تستعيد وضْعَها القديم، إنها لا تعبد أحدًا حينئذ، لأنها في هذه الأيام الخمس حين يتغيب القمرُ الإله الذكري عن الحضور، والذي يوافق إيقاعه الحيض، يظهر حيضُها وتحضر قدسيتُها، لتصبح في هذه الأيام الخمس إلهةً، وتتقدس الخمسة لتصبحَ مانعة السحر والحسد كما كانت في القديم، أما يوم الخميس فيُصبح في المأثور اليوم المفضل لجماع المرأة، أما الخمسة فهي دلالةٌ واضحة على الفرج.
وللتذكرة فقط، ظلَّ دم الحيض حتى عهْد الجاهلية الأخير في جزيرة العرب مقدسًا. فقد كانت نسوة العرب ومكة يطفْن بالكعبة، ثم يمسسْن بدم حيضهن الحجرَ الأسود، تواصلًا مع ذكَر السماء، وهو ما عبَّرت عنه كتبُنا التراثية كأبلغ ما يكون، وهي تُلخِّص قصة تحوُّل المرأة وتبخيس الدم الخالق، بقولها: إن الحجر الأسود كان أبيضَ، فاسودَّ من مس الحيض في الجاهلية.
أما الكلمة حواء فتقترن بعد ذلك في الجذر مع الحية التي تحمل الكيدَ والدسَّ والخديعة، وتقترن حواء بالحية، والإبليس، الذين اشتركوا معًا في خديعة آدم، ذلك الآدم الذي خدَع الجميع وخدَع التاريخ؛ لأنه حقيقة إنما كان ضحيةَ شهوانيته وعدم براءته ومرضه السيادي، لأن خضوعه الداخلي الذي كان يرفضه باستمرار فيبخس المرأة، كان خضوعًا لحواء الحياة الحية أُمِّ كلِّ حي، ذلك المشترك الذي يضم في الجذر كلمة «الحيا» أي الفرج الأنثوي سر الحياة ومصدر الميلاد، وأزمة عدم البراءة في الرجال.