المصريون والإسرائيليون في التوراة وفي التاريخ١
من استهلاك الوقت أن نتحدث عن مصر في التاريخ، والكلام بشأنها من نوافل القول، فشأنها معلوم وأنشر من أي حديث، حتى أصبح من فساد الرأي أن يؤرِّخَ باحثٌ لأي علم من العلوم دون الرجوع إلى أصول تلك العلوم في مصر القديمة، هذا في مجال العلوم، وفي ميدان التاريخ كعلم، أما في ميدان الاعتقاد، وفي الصحائف المقدسة، فلها شأنٌ عظيم أيضًا، لكن بوضعها ذلك البلد الضال أهله، الذي تألَّه حاكمُه، فكفر، فوصم مع شعبه بأنهم من المجرمين؛ لذلك استحقوا أن يكونوا من المغرقين، بقرار من «يهوه» رب التوراة، وبضربة من عصا إعجازية دمرت الزرعَ والضرع في وادي النيل، قبل أن تطبقَ البحر المفلوق على من بقي منهم، أليسوا مجرمين؟
أما إسرائيل فهي عمدة المقدس وعقدته الجامعة، هي المحور منه والقلب الخافق، فهي شعبٌ مقدَّس، فضَّله الله على العالمين، سلسلة من النجباء الأنبياء المطهرين؛ فالأبُ نبيٌّ يُنجب نبيًّا، في سلسال توارث النبوة كما توارث أرض فلسطين، خير خلف عن خير سلف، فكانوا في المقدسات هم المقدمين على غيرهم من الأمم الضالة، جدُّهم البعيد هو إبراهيم الخليل، وآباؤهم إسحاق، ويعقوب الملقَّب بإسرائيل، وبنوه بنو إسرائيل الأسباط المُكرمون، ومنهم يوسف الصبي الفاتك الجمال الذي توزر على خزانة المصريين، وعلَّم خبراء الزارعة ومهندسيها في مصر، كيف يواجهون قحطَ السنين، ومن بعده جاء «موسى» أعظمُ أنبياء إسرائيل، ويغصُّ التاريخ المقدس بعد ذلك بسيرة أولئك الهداة المطهرين، فهذا «شاءول» يقيم لهم دولةً في فلسطين، ليترك تأسيسَها وتعميدها لداود الملك وولده سليمان، بينما أصبح ذلك الأخير سيدًا على مملكة عظمى تغنَّت بها كتب الدين وكتبُ الأساطير، فتسلط على الوحوش والهوام والجن والعفاريت، وأصبحت إسرائيل في زمانه أغنى الدول، حتى كانت الفضة في الشوارع مثل التراب (بتعبير التوراة)، أما في المأثور الإسلامي فكان أحد أربعة ملوك ملكوا العالم الأرضي من أقصاه إلى أقصاه.
هذا شأن إسرائيل في مأثورات الدين، لكن الغريب والمشكل الحقيقي أمام هذا الرتل العقائدي الهائل، أن التاريخ كعلم، يعلم يقينًا تاريخ مصر بحفائره وعلمائه وأركيولوجيته، بأعلامها الآثارية الشاهدة، كما انتهى ترتيبُ أوضاعها الزمني عبر أُسرات ودول، من مينا موحِّدِ القطرَين مرورًا ببُناة الأهرام إلى التحامسة ثم المناتحة فالرعامسة حتى الشناشقة والبطالمة، فأرض مصر تفيض بالحفائر، غنيةٌ بالأحداث، لكن ذلك العلم نفسه، علم الحفائر والآثار، علم التاريخ، رغم الهوس الحفائري في إسرائيل الآن، يجد الأرض ضنينة بأي معلومة ذات شأن، فالتاريخ كعلم لا يعرف عظيمًا أقام لإسرائيل مملكة باسم «شاءول»، ولا يعلم بشأن محارب ذي بأس أَسَّس لإسرائيل قوميتها باسم «داود»، ولم تردْ في وثائقه بالمرة أيَّةُ إشارة لملك حكيم حاز شهرةً فلكية باسم «سليمان»، كما لم يُسمع أبدًا ولم يُسجَّل في مدونات مصر ولا في مدونات الدول المجاورة، خبرُ جيشِ الدولة العظمى وهو يغرق في بحر تفلقُه عصًا، وإطلاقًا لا يدري شيئا عن صبيٍّ جميل فتَن نساءَ مصر وأذهلهنَّ بجماله فقطعوا الأيادي وهنَّ في الهيام به ساهمات. كلا لا يعلم التاريخ من كل ذلك شيئًا ولو يسيرًا، وكلُّ ما يعلمه عن إسرائيل حكايات متناثرة عن شوارد قبائل من شذاذ الآفاق باسم «الخابيرو، العابيرو»، وإيماءة هنا ولفتة هناك تتحدث بإهمال عن جماعة باسم إسرائيل سحقتها كتائبُ الفرعون «مرنبتاح»، أو ما جاء في نصوص الرافدين عرضًا عن مملكة باسم «عمري»، ربما ويحتمل ويُظن ومن الجائز وقد تكون هي مملكة إسرائيل زمن ملكها «عمري» وابنه «آخاب». لكن الأسماء المعظمة المبجلة المفخمة في التاريخ الديني، فلا شيء منها البتة وقطعًا في التاريخ كعلم.
الإسرائيليون يدخلون مصر
تقول التوراة — ولا يقول التاريخ هنا شيئًا — إن أول احتكاك للبدو العبرانيين بمصر والمصريين، كان زمن الأب إبراهيم، الذي هبط مصر مع زوجته سارة هربًا من القحط الذي حل بأرض كنعان، فحصل هناك على فضل عظيم وخير عميم، يأتي خبرُه في نص التوراة القائل عن هدية فرعون لإبراهيم: «فصنع إلى إبرام خيرًا بسببها — أي بسبب سارة — وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتن وجمال … فصَعِد إبرام من مصر، وكان إبرام غنيًّا جدًّا في المواشي والفضة والذهب» (سفر التكوين، ١٢ و١٣).
ثم تُحدِّثُنا التوراة — ولا يُحدِّثُنا التاريخ — عن قصة الصبي الأخاذ في جماله «يوسف» ابن إسرائيل «يعقوب»، وقصة بيعه في مصر، وكيف أثبت مهارةً إسرائيلية أوصلته إلى كرسي الوزارة، ليصبح الرجل الثاني في مصر بعد الفرعون، وكيف أرسل يوسف يستدعي أهلَه لينعموا بخير مصر كملجأ للإسرائيليين كلما قحطت بهم الحياة ولحقتْ بهم المجاعات.
لكن التوراة لا تُخبرنا بالسبب الذي أثار حنقَ الفرعون التالي على العرش، إلى حدِّ تسخيره ضيوفَ مصر في الأعمال الشاقة، عقابًا لهم على أمر مجهول، ونحن نعلم أن «ماعت/العدالة/القانون الكوني» كانت تاجَ القانون المصري الدائم، ومن هنا يظن أغلبُ الباحثين أن الإسرائيليين لعبوا دورًا مع الهكسوس الغزاة ضد المصريين، وتعاونوا مع أعداء البلاد فحقَّتْ عليهم النقمة، وتمَّ أسرهُم مع فلول الهكسوس الأسيرة بمصر.
وبدورنا نذهب مع هذا الظن، ونحتمل دخول يوسف وأهله مصر في عهد «أسيس» آخر الحكام الهكسوس على مصر، وهو ما يلتقي مع الاسم «عزيز» الذي جاء بالقرآن الكريم، خاصة أن الآيات كانت تتحدث دومًا عن حاكم مصر باسم الفرعون، عدا زمن يوسف، زمن دخول الإسرائيليين إلى مصر، ناهيك عما سجلتْه التوراةُ عن سياسة يوسف في مصر أثناء السنين القحط السبع، حيث احتكر «الميرة» جميعًا في خزائنه وباعها للمصريين الذي يموتون جوعًا مقابل الاستيلاء على أرضهم ثم مواشيهم ثم أنفسهم هم ليتحولوا إلى عبيد لصالح الحاكم الهكسوسي، أما مشاعر المصريين تجاه هؤلاء الإسرائيليين فقد تبدَّت بوضوح في اعتبارهم الإسرائيليين نجسًا يجب اجتنابُه، وهو ما ورد جميعُه في نصوص توراتية من قبيل: «اشترى يوسف كلَّ أرض مصر لفرعون؛ إذ باع المصريون كلُّ واحد حقلَه؛ لأن الجوع اشتدَّ عليهم، فصارت الأرض لفرعون، أما الشعب فنقلهم إلى المدن من أقصى مصر إلى أقصاها، فقال يوسف للشعب إني اشتريتكم اليوم وأرضكم للفرعون» (سفر التكوين، ٤٨). وفي نفس السِّفر كان يوسف يقول لإخوته: «جواسيس أنتم، لتروا عورة الأرض جئتم.» وكان ينصحهم دومًا بالابتعاد عن المصريين؛ «لأن كلَّ راعي غنم رجسٌ عند المصريين» (سفر التكوين، ٤٦).
الإسرائيليون يخرجون من مصر
هذه حكاية التوراة عن الدخول إلى مصر، فماذا عن الخروج؟ تقول التوراة: إن موسى قد وُلد في مصر إبَّان أزمة الإسرائيليين بمصر، والقصة معروفة، فقد رُبِّيَ في القصر الملكي، وتبنتْه ابنةُ الفرعون وأكرمت مثواه، لكن الصبي يكبر فيقتل مصريًّا تعصبًا لبني جِلدته، فيطلبه القصاصُ وتطارده العدالة، فيهرب إلى مديان بسيناء، حيث يلتقي هناك برب سينائي يُدعَى «يهوه» على هيئة نار في عليقة، ويحمل منه أوامر صريحة لبني إسرائيل، ليخرجوا من مصر تحت قيادة موسى إلى فلسطين، وعاد موسى إلى مصر بتلك الأوامر، وبالعصا الثعبان، مع وعدٍ إلهي يقول: «الآن تنظر ما أنا فاعله بفرعون، فإنه بيدٍ قوية يُطلقهم، وبيدٍ قوية يطردهم من أرضه، أنا أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم» (سفر الخروج، ٦).
وتتتالى الأحداثُ فيضرب موسى بعصاه النيل ليتحول دمًا، وتصير مصرُ خرابًا، ثم يضرب بعصاه ضرباتٍ متتالية، فتمتلئ مصرُ بالضفادع والبعوض والذباب والطاعون والجراد مع برد وظلام، ثم يهبط الربُّ يهوه بنفسه لتحقيق الضربة الأخيرة بقَتْل أطفال المصريين، وذلك في النص «وقال موسى: هكذا يقول الرب: إني نحو منتصف الليل، أخرج في وسط مصر، فيموت كلُّ بكر في أرض مصر؛ من بكر الفرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرَّحَى، وكل بكر بهيمة، ويكون صراخٌ عظيم في كل أرض مصر» (سفر الخروج، ١١).
«وفي تلك الليلة كان صراخٌ عظيم في مصر؛ لأنه لم يكن بيتٌ ليس فيه ميت» (خروج، ١٢). ولم ينسَ الإسرائيليون عادتَهم في الخروج من مصر بالخير الوفير، فقد «فعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهبًا وثيابًا، وأعطى الربُّ نعمةً للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم، فسلبوا المصريين، فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس» (خروج، ١٢).
ثم تأتي الضربةُ الحقيقية لإفناء المصريين، في رواية التوراة عن قيام مَلِك مصر وجيوشه بمطاردة الفارِّين بالذهب، حيث أدركوهم عند البحر، وهنا تحدُث المعجزةُ الكبرى «ومدَّ موسى يدَه على البحر، فأجرى الربُّ بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة وانشق الماءُ فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم، فمدَّ موسى يدَه على البحر، فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة، فدفع الربُّ المصريين وسط البحر» (خروج، ١٤). ويتوجه الخارجون من مصر إلى فلسطين ليغزوها ويحتلوها ويقيموا لهم هناك دولة، تلك الدولة التي قُيِّض لأحد ملوكها «سليمان» أن يحوز في مقدسات المنطقة شهرةً لا تُضارع، ومع ذلك فقد قال «ﻫ. ج. ويلز» ونقل عنه الباحثون العرب مثل د. أحمد سوسة ود. أحمد شلبي قوله: «أما الوصف الذي اعتاد الباحثون ترديدَه عن اتساع وامتداد حدود مملكة سليمان، فيعده أكثرُ الباحثين من قبيل المبالغات التي درجَتْ عليها دويلاتُ تلك العصور، والحقيقة أن مملكة سليمان التي تبجَّحتِ التوراةُ بعظمتها كانت أشبهَ بمحمية مصرية مرابطة على حدود مصر، قائمة على حراب أسيادها الفراعنة، وكان سليمان يريد أن يُجاريَ الفراعنةَ في البذخ والظهور بما هو فوق طاقاته وإمكانياته الاقتصادية، فأثقل كاهلَ الشعب بكثرة الضرائب، ولما عسر على سليمان أن يحتلَّ أرض فلسطين الساحلية طلب معونة فرعون مصر، فأرسل جيشًا مصريًّا صغيرًا احتلها وسلَّمها له مهرًا لابنته.» ثم يتساءل: «كيف صوَّر كتبةُ التوراة مملكةَ سليمان في صورة تفوق الواقعَ بكثير؟ فسليمان لم يكن وهو في أوج مجدِه إلا ملكًا صغيرًا يحكم مدينةً صغيرة، وكانت دولتُه من الهزال وسرعة الزوال بحيث لم تنقضِ بضعةُ أعوام على وفاته، حتى استولى شيشنق أولُ فراعنة الأسرة الثانية والعشرين على أورشليم.» ثم يتابع قولَه: «إن أمور مصر في عهده كانت مرتبكةً فخفَّتْ هيمنتُها على فلسطين وبلاد الشام، وكانت أمور الدولة الآشورية مرتبكةً كذلك، وقد منح هذا لسليمان شيئًا من الحركة والنشاط والتبسط في ممارسة السيادة، أما ما جاء عن قصة ملك سليمان وحكمته التي أوردها الكتابُ المقدس، فقد تعرضت لحشو وإضافات على نطاق واسع، على يد كاتب متأخر شغوف بالمبالغة، في وصْف رخاء عصر سليمان، مولهًا بتمجيد حُكْمه، وقد استطاعت هذه الروايةُ أن تحملَ العالمَ المسيحي بل والإسلامي على الاعتقاد بأن الملك سليمان كان من أشد الملوك عظمةً وأُبَّهة، لكن الحق أنه إذا قيست منشآتُ سليمان بمنشآت تحتمس الثالث أو رمسيس الثاني أو نبوخذ نصر، فإن منشآت سليمان تبدو من التوافه الهيئات، أما مملكته فهي رهينة تتجاذبها مصر وفينيقيا، وترجع أهميتُها في معظم أمرها إلى ضعْف مصر المؤقت.»
ماذا يقول التاريخ؟
وهكذا يتضح أن الباحثين عندما يريدون الحديثَ عن أحداث التوراة حديث المؤرخين، يضطرون إلى المقارنات والاستنتاجات، بالنظر إلى أن تاريخ مصر، على كثرة ما اكتُشف منه، لا يُشير إلا لمامًا في لمحات سريعة إلى القبائل البدوية، بينما تتحدث التوراةُ بالتفاصيل عن مصر وملوكها ومدنها وطبائع أهلها، مما يشير إلى معرفة واضحة من جانب الإسرائيليين بشئون مصر والمصريين، وهو أمرٌ طبيعي تمامًا؛ حيث إن وضْعَ إسرائيل كقبائل هامشية ما كان يشغل حيِّزًا هامًّا في المدونات المصرية، بينما كان المدوِّنُ الإسرائيلي لا يستطيع إغفال مصر.
المهم أن أولَ ذكْرٍ لإسرائيل في مدونات مصر، جاء في قصيدة منقوشة على لوح تذكاري من الجرانيت الأسود، أُقيم في معبد الملك «مرنبتاح» الجنائزي، والقصيدة تتغنَّى ببطولات الملك وانتصاراته، حيث تقول: «الأمراء منبطحون أرضًا يصرخون طالبين الرحمة، وليس بين الأقواس التسعة مَن يرفع رأسَه، لقد دُمرت أرض التحنو (ليبيا)، وخاتي (تركيا) هادئة، وكنعان قد استُلبت بقسوة، وعسقلون تمَّ الاستيلاءُ عليها، وجازر قد أُخذت، وينوعام أصبحت كأن لم تكن، وإسرائيل أقفرت وليس لها بذر، وخورى (أرض فلسطين) عُدَّتْ أرملةً لمصر.»
وقد وقف علماء كُثُر مع هذا النص واعتبروه دالًّا على حدَث الخروج من مصر، حيث تَرِد كلمةُ إسرائيل في نصوص مصر لأول مرة، واعتبروا الفرعون «مرنبتاح» هو فرعون موسى والخروج، بينما ذهب آخرون إلى أن النصَّ يتحدث عن حرب شنَّها مرنبتاح على عدد من الشعوب خارج مصر، وأنه هاجم أراضيهم وضمنها إسرائيل.
هذا كل ما ورد من التاريخ التوراتي المهول في تاريخ مصر «إسرائيل أقفرت وليس لها بذر». ويبدو أن الأمر لم يكن يستأهل الفخار به والإطالة بشأنه قياسًا على أعمال الفرعون الأخرى، فاكتفى بتلك الإشارة السريعة، التي قامت عليها ألوفُ الأبحاث في جامعات العالم، مقارنةً بالتوراة، ولم تَزلْ.
أما قول «ويلز» السالف: «إن إسرائيل كانت مجردَ دويلة رهينة لمصر، وأنها كانت تابعًا متقدمًا في آسيا للفراعنة.» فهو استنتاج يُطابق أحداثَ التاريخ، وما ورد في تاريخ مصر القديمة من وثائق عن الحملات التأديبية التي كان يقوم بها الفراعنةُ على بدو آسيا في حال أيِّ تمرد أو عصيان، مع تركهم على أحوالهم، ويحكمون فقط بوالٍ من قِبل الفرعون غالبًا ما يكون منهم، مع بعض كتائب مصرية لمنْع أيِّ شغب.
وتتحدث التوراةُ عن زمن حكم «رحبعام» بن الملك سليمان، ولم يمضِ على موت سليمان خمسُ سنوات، فتُخبرنا بشأن حملةٍ قام بها فرعون مصري باسم «شيشق» على دولة يهوذا في فلسطين، حيث تقول: «وفي السنة الخامسة للمك رحبعام صَعِد شيشق ملكُ مصر إلى أورشليم، وأخذ خزائنَ بيت الرب وخزائن الملك، وأخذ كلَّ شيء، وجمَع أتراسَ الذهب التي عملها سليمان» (سفر ملوك أول، ١٤).
وهو الخبر الذي يلتقي مع الوجود التاريخي لفرعون باسم «شيشنق»، وبأخبار لحملةٍ قام بها على فلسطين، مع جدول بالمدن التي هاجمها، لكن دون أن يذكر كلمة إسرائيل إطلاقًا ولا كلمة يهوذا ولا حتى أورشليم، وهو ذات الفرعون الذي قالت التوراةُ: إنه كان صهْرَ سليمان، وأن سليمان طلب منه مساعدتَه للاستيلاء على مدينة جازر الفلسطينية الساحلية، فأرسل إليه شيشنق بضعةَ كتائب مصرية احتلتْها له وتركها له هدية، وقد عُثر مؤخرًا في مجدو على نُصْب تذكاري أقامه شيشنق هناك تذكارًا لحملته على المملكة السليمانية بعد موت سليمان، وهو الأمر الذي يشير إلى أن سليمان كان تابعًا مخلصًا لشيشنق، كما يشير في جانب آخر إلى عصيان ما ارتكبه ولدُه «رحبعام» بحقِّ الفرعون فاستحق التأديب.
ومن المعلوم أن مصر ظلت ترعى فلسطين وتُزوِّدها بالميرة أيام القحط والجفاف، كما ظلت ملجأً آمنًا لأهلها عند أيِّ خطب أو غزو خارجي، وهو بالضبط ما حدث زمن هجوم الملك الكلداني نبوخذ نصر على يهوذا، حيث لجأ أهلُها بالألوف المؤلفة إلى مصر، التي استقبلتْهم بالترحاب زمن الفرعون «واح اف رع» المسمى باليونانية إفريس (٥٨٧–٥٦٨ق.م) أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وهو ما حكتْه التوراةُ في الإصحاح ٢٥ من سفر ملوك ثاني، وتأكَّد بوجود جالية يهودية تعيش بعد ذلك في جزر الفنتين جنوبِيَّ أسوان بمصر.
وتحكي لنا التوراةُ عن معركة بين مصر وأشور وقعت في بلاد الشام، مما يشير إلى خروج الجيوش المصرية للدفاع عن بلاد الشام ضد غزو آشوري، وتقول التوراة إن مَلِك إسرائيل «يوشيا» اعترض طريقَ الفرعون نخاو ليمنعَه عن نجدة سوريا، فاضطر الفرعونُ إلى قتْل الملك الإسرائيلي، كما اضطر بعد ذلك لأسْر ابنِه «يَهُوآحاز» الذي تخابر مع الآشوريين، وتم ترحيلُ الملك الإسرائيلي «يَهُوآحاز» إلى مصر، وهي رواية سفر الملوك الثاني بالإصحاح الثالث والعشرين، ولا نجد في مدونات التاريخ نظيرًا للرواية، لكنا نجد ما يصادق عليها، حيث تمَّ العثورُ على لوح عليه نقشٌ ورسم وكتابة عن شخص باسم «يوده ملك» وترجمتها «ملك يهوذا»، وتعود إلى زمن الفرعون نخاو، وهو ما جعل المؤرخون يتأكدون أنه بعينه الملك الإسرائيلي الأسير «يَهُوآحاز».
وبينما كانت التوراة تصف مصر بأنها «جنة الرب أرض مصر»، حيث الراحة والهدوء والرخاء والدعة، نجد أيوب النبي يحلم بأيام مصر «قد كنتُ مضطجعًا الآن ساكنًا، كنتُ نِمتُ مستريحًا، مع ملوك ومشيري الأرض، الذين بنوا أهرامًا لأنفسهم» (أيوب، ٣)، وفي سفر الخروج نجد الإسرائيليين يعانون الجوع بسيناء، فيحتجُّون على موسى معبِّرين عن ندمهم لترْكِ أُسَر مصر قائلين: «ليتنا كنا بمصر، جالسين إلى جوار قدور اللحم.» وهي كلها الأمور التي تُفسِّر ما استقرَّ في نفوس الإسرائيليين تجاه المصريين، متمثلًا في نبوءات تردُّ لمصر الجميل.
نبوءات التوراة لمصر
في الأزمنة الأخيرة لإسرائيل، زمن أنبياء إرميا وإشعيا، وقبل زمنٍ من تدمير الهيكل على يد طيطس الروماني وتشتيتهم في بقاع العالم، وقف أنبياءُ إسرائيل على عتبات النهاية، يتنبَّئون بعودة المجد السليماني وقيام دولة إسرائيل مرة أخرى، وأنها حينذاك ستسود العالم، لكن قيامها كان يشترط أولًا وأخيرًا خرابًا تامًّا لمصر، وإذلالًا لها، وهو ما يُفصح عن التكوين النفسي والعقلي ومدى التشوه الذي لحق بنفوس القوم تجاه مصر.
يقول إشعيا في الإصحاح التاسع عشر من سِفره: «وحْيٌ من جهة مصر، هوذا الربُّ راكبٌ على سحابةٍ سريعة وقادمٌ إلى مصر، يذوب قلبُ مصر في داخلها، تنشف المياه من البحر، ويجفُّ النهر وييبس، وتنتن الأنهار، والرياضُ على النيل على حافة النيل، وكلُّ مزرعة على النيل تيبس وتتبدد ولا تكون، في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء، فترتعد وترتجف من هزة يدِ ربِّ الجنود التي يهزها عليها، وتكون أرض يهوذا رعبًا لمصر.»
ثم يؤنِّبُ إشعيا بني جِلدته الذين يلجئون إلى مصر وفيئها في الملمَّات، بقوله في إصحاحه الثلاثين: «ويل للبنين المتمردين يقول الرب، الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر للمعونة؛ ليلتجئوا إلى حِصن فرعون ويحتموا بظلِّ مصر، فيصير لكم حصنُ فرعون خجلًا، والاحتماءُ بظلِّ مصر عارًا.»
أما النبي إرميا في الإصحاح ٤٦، فقد وقف يعبر عن مكنون كلِّ إسرائيلي تجاه مصر في قوله: «أخبروا مصر، واسمعوا في مجدل، واسمعوا في نوف «منف» وفي تحفنحيس، قولوا انتصب وتهيأ الآن؛ لأن السيف يأكل حواليك، نادوا هناك فرعون ملك مصر هالك، نوف تصير خربةً وتُحرق فلا ساكن، ها أنا ذا أُعاقب آمون نو، وفرعونَ مصر، وآلهتها، والمتوكلين عليه.»
أما حزقيال النبي فلم يبخل على مصر وهو يوجِّه كلامَ الرب الإسرائيلي إلى الفرعون المصري المقبل، بالإصحاح ٢٩ حيث يقول: «ها أنا ذا المليك على أنهارك، أجعل من أرض مصر خربة مقفرة من مجدل إلى أسوان، وأُشتت المصريين وأُبددهم من الأرض.»