فلسطين وإسرائيل: الخلل في التوراة أم في التاريخ؟١
حدث هذا أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، عندما انقضَّت موجاتٌ بشرية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، قادمةً من جزر البحر الإيجي، كان أكبرها تلك التي اكتسحت العاصمةَ الحيثية «خاتوشاش/بوغاز كوى حاليًّا، تركيا» ودمَّرتْها، لتتركها خرابًا بلقعًا إلى الأبد، ثم تزحف منها جنوبًا لتقضيَ على «قرقميش/جرابلس حاليًّا شمالِيَّ حلب»، لتحتلَّ بعدها «أوغاريت/رأسَي شمرا الآن قرب اللاذقية»، ومن بعدها «أرواد»، لينحدرَ السيلُ الجارف جنوبًا باتجاه حدود مصر الشرقية عبر سيناء، مترافقًا مع جناح بحري لمهاجمة شواطئ مصر الشمالية، مصحوبًا في الوقت نفسه بجناح ثالث هبط على السواحل الليبية ليهاجمَ حدود مصر الغربية، وكان ذلك الهجوم الثلاثي أكبرَ كمَّاشة عسكرية تعرضتْ لها مصر.
ويحكي لنا «رمسيس الثالث» أحد المحاربين العظماء في التاريخ، أنه قد تصدَّى بجيوش مصر لهذا العدوان الثلاثي، وألحق به هزيمةً مروعة في ثلاث معارك برية وبحرية، وكان ذلك عام ١١٨٠ قبل الميلاد. أما علم التاريخ فقد حاول تفسيرَ وجود عناصر من هؤلاء المهاجمين على الساحل الفلسطيني بعد ذلك، يعيشون هناك في شكل ممالك مستقرة، بأن انكسار الهجوم البحري الكاسح للمنطقة، الذي جاء من جزر البحر الإيجي وعاصمتها «كريت»، قد انكسر على الحدود المصرية انكسارًا شديدًا، لكن الفرعون المصري المنتصر ترك لهم سواحل فلسطين ليقيموا بها، ويكونوا من رعايا الفرعون وجنوده، وفيالقِه المتقدمة في آسيا.
أما «هيرودوت» أبو التاريخ، فيقول: إن هؤلاء المهاجمين هم من حملوا اسم «اليلست»، ويضيف المؤرخون من بعدُ أن هيرودوت اليوناني أول من أطلق على بلاد كنعان شرقِيَّ المتوسط اسم «بلسيتا» و«بالاستين»، نسبة إلى هؤلاء الغزاة «البلست»، لتحمل بعد ذلك اسمَ فلسطين.
موجات الهجوم
ويعلمنا علمُ التاريخ من وثائقه أن ذلك الهجوم الفلسطيني القادم من كريت والجزر الإيجية، قد هجم على منطقتنا في شكل موجات متتابعة، بعد أن شكَّلتْ قبائلُ بحر إيجة اتحادًا قويًّا في نهاية ١٣٠٠ قبل الميلاد، وأن أول تلك الموجات قد اضطر مصر إلى التخلي عن مستعمراتها في سوريا وفلسطين، وأن أول الموجات قد تمكَّنت تمامًا من احتلال ساحل فلسطين في زمن قياسي.
وكان أول ذكْر في وثائق التاريخ لهؤلاء «البلست»، هو ذلك الذي نقرأه في وثائق الفرعون «أمنحتب الثالث ١٣٩٧–١٣٦٠ قبل الميلاد» ذلك الزمن الرخي الذي ضمت فيه مصر دولَ الشرق القديم تحت جناحَيها، وتدفقت عليها الجزيات، منذ زمن الفاتح الكبير «تحتمس الثالث»، فكان عصرُ «أمنحتب الثالث» عصرَ رخاء عظيم.
وقد تلَا الموجةَ التي وصلت زمن «أمنحتب الثالث ١٣٩٧–١٣٦٠ قبل الميلاد» ذكرٌ لموجات أخرى كان تاليها تلك الموجة التي وصلت زمن «رمسيس الثاني ١٢٩٢–١٢٢٥ قبل الميلاد»، ويبدو أن المصريين قد أسروا منهم أعدادًا كبيرة، حيث نجدهم بعد ذلك يعملون كمرتزقة في جيوش مصر باسم الشردانيين «نسبة إلى جزيرة سردينيا».
وعلى نُصْب عُثر عليه في «صان الحجر» بمحافظة الشرقية، نجد حكايات عن سفن البلست الضخمة، ونقوشًا تُصوِّرهم يلبسون خوذًا ذات قرون، ويحملون دروعًا مستديرة، ويمتشقون سيوفًا طويلة ضخمة، وهو النصب الذي روى لنا كيف صدَّ الفرعون «مرنبتاح بن رمسيس الثاني» هجومَهم، ليردَّهم عن الحدود المصرية.
أما في فلسطين ذاتها، فقد نظم «البلست» أنفسَهم عندما دخلوها، في هيئة ممالك صغيرة مستقلة في إدارتها، منها جرار وغزة وعسقلان وأشدود وجازر وغيرها، لكن ضمن اتحاد فيدرالي، مركزُه الرئيسي مدينة أشدود، أما قوتهم العظيمة فتكمن فيما نعلمه من نصوص مصر ومن التوراة، أنهم صنعوا أدوات القتال من الحديد، وأن الحديد كان عندهم مادة اعتيادية ووفيرة، حتى إنهم صنعوا منه عجلاتِهم المقاتلة.
وكل هذا إنما يعني ببساطة، القول: إن الفلسطينيين جاءوا المنطقة كعنصر دخيل، قادم من كريت وبحر إيجة، وهو أمر يُشكِّل عمودًا لأعمال بحثية كثيرة، تُشكِّل الخلفية التاريخية للأحداث التي تجري في منطقتنا، منذ قيام دولة إسرائيل مرة أخرى في عام ١٩٤٨م.
ماذا تقول التوراة؟
إذا التاريخ قال: إن الفلسطينيين جاءوا مهاجرين من كريت إلى فلسطين، ليستقروا بها زمن الفرعون «رمسيس الثالث» حوالي عام ١١٨٠ قبل الميلاد، أي بعد خروج بني إسرائيل من مصر بحوالي خمسين عامًا، ومعلوم أن كبرى المدارس البحثية قد استقرَّ رأيُها على خروج الإسرائيليين من مصر زمن الفرعون «مرنبتاح ابن رمسيس الثاني» حوالي عام ١٢٢٩ قبل الميلاد.
ومثل ذلك التاريخ وتلك التزمينات، تستتبع عددًا من النتائج والدلالات، حيث تقول التوراة: إن الإسرائيليين قد سبق لهم أن استقروا بفلسطين قبل زمن الدخول إلى مصر بحوالي خمسة قرون، وهو ذلك الزمن الأسطوري الممتد من إبراهيم إلى إسحاق إلى يعقوب المسمَّى إسرائيل، وأنه إذا كان الإسرائيلي والفلسطيني وافدَين على كنعان، غريبَين عليها، فإن إبراهيم كان داخلَها الأول، حيث سكن بين أهلها الكنعانيين وتكلَّم بلسانهم، وذلك قبل مجيء الهجرة الفلسطينية بحوالي ستة قرون كاملة.
هذا كلام، لكن التوراة نفسها لها كلام آخر وقول آخر فماذا تقول التوراة؟
- أولًا: لقد جاء إبراهيم وأسرتُه الصغيرة إلى أرض تسميها التوراةُ أرضَ كنعان، قادمًا من موطنه «أوركسديم»، وأن إبراهيم قد تنقَّل في كنعان بين عدة مواضع، أهمُّها ذلك الموضع المعروف بمملكة «جرار» التي كان يحكمها ملكٌ اسمه «أبي مالك»، وتصف التوراةُ تلك المملكة بأنها مملكة فلسطينية، وذلك في قولها: «وتغرَّب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أيامًا كثيرة» (سفر التكوين، ٢١).
- ثانيًا: يتكرر ذكرُ جرار بذات التوصيف في زمن إسحاق بن إبراهيم في قول التوراة: «فذهب إسحاق إلى أبي مالك ملك الفلسطينيين إلى جرار، وزرع إسحاق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف، فحسده الفلسطينيون» (سفر التكوين، ٢٦).
وهكذا، ومع إبراهيم أول رجل مهم في التاريخ التوراتي، نجد مملكة باسم «جرار» تُوصَف بأنها فلسطينية، وهو ما يعني اعترافًا من جانب التوراة بوجود العنصر الفلسطيني في فلسطين قبل زمن الأب إبراهيم بزمن أبعد، يسمح بإقامتهم ممالكَ مستقرة، ويصبح القولُ: إن «هيرودوت» أول من أطلق على أرض كنعان اسمَ فلسطين قولًا مردودًا بشهادة التوراة ذاتها، أما عند خروج الإسرائيليين من مصر، نجد نصًّا توراتيًّا صريحًا يُسمِّي أرضَ كنعان بكاملها، وليس جرار وحدها، باسم فلسطين، وذلك في قوله: «يسمع الشعوب فيرتعدون، تأخذ الرعدةُ سكانَ فلسطين» (سفر الخروج، ١٥). وفي نبوءة متأخرة للنبي اليهودي «صفنيا»، نجده يخاطب تلك الأرضَ بلسان ربِّ اليهود قائلًا: «يا كنعان أرض الفلسطينيِّين، إني أخربُكِ بلا ساكن» (سفر صفنيا، ٢).
وهكذا اكتسبت أرضُ كنعان اسمَ أرض الفلسطينيين زمنَ خروج الإسرائيليين من مصر، رغم أن الفلسطينيين كانوا عنصرًا يقطن بساحل فلسطين ضمن عناصرها الأخرى، وقد حددت التوراةُ مساكنَ الفلسطينيين كمجموعة ممالك متحدة على الساحل، بترتيب يصعد من الجنوب إلى الشمال، بدءًا من غزة على حدود مصر، وذلك في قولها: «من الشيحور الذي هو أمام مصر إلى تُخُم عقرون شمالًا، تُحسَب للكنعانيين، أقطاب الفلسطينيين الخمسة: الغزي والأشدودي والأشقلوني والعقروني والعويين» (يشوع، ١٣)، وفي قول آخر تمزج فيه التوراةُ بين الكنعاني والفلسطيني نجد: «وكانت تخوم الكنعاني من صيدون حينما تجيء نحو جرار إلى غزة» (تكوين، ١٠)، لكن الترتيب هنا كان من صيدا في الشمال إلى غزة في الجنوب.
وقد بات من المشكوك فيه عند الباحثين الآن، أن يكون الإسرائيليون الذين خرجوا من مصر، لهم علاقة بذلك الرعيل الأول المسمَّى بالبطاركة أو الآباء (إبراهيم، إسحاق، يعقوب، الأسباط)، ناهيك عن كون مسألة البطاركة برمتها — كما حكتها التوراة — تدخل في عداد الأساطير عند باحثين محترمين، إضافة إلى جلَّة محترمة من باحثين آخرين، يرون أن قصة إبراهيم والبطاركة الأوائل لونٌ من الصياغة التي تمَّتْ متأخرة بعد الخروج لربط الخارجين بتاريخ قديم، لإلقاء تاريخ إسرائيل المقدس في عمق التاريخ القديم، وأن كل الأمر ربما تمَّ بعد قيام مملكة داود في أورشليم، بتدوين إسرائيل في خضم تاريخ أعرق، وأبعد في القِدم، من باب إيجاد موطئ قدم لإسرائيل في التاريخ القديم للمنطقة.
مصداقية التوراة وخلل التاريخ
لكن تظهر هنا مشكلةٌ كبيرة، تُثيرها مصداقيةٌ مدهشة للتوراة، من حيث تطابقُها مع نصوص التاريخ الآثارية، حيث تنسب التوراةُ الفلسطينيين إلى أصول من جزيرة تسمَّى مرة «كفتور» ومرة «كريت»، وتسجل بهذا الشأن نصوصها من قبيل: «وهكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا أمدُّ يدي على الفلسطينيين، وأستأصل الكريتيين، وأُهلك بقية ساحل البحر» (حزقيال، ٢٥)، و«الرب يهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور» (إرميا، ٤٧)، و«ويل لسُكان ساحل البحر أمة الكريتيين، كلمة الرب تكون عليكم يا كنعان أرض الفلسطينيين» (صفنيا، ٢)، وفي تعبير واضح لا يقبل لبسًا يقول: إن بعض الهجرات تمَّتْ بفعل إلهي، يقول النص: «يقول الرب: ألم أُصعد إسرائيلَ من أرض مصر، والفلسطينيين من كفتور، والآراميين من قير؟» (رعاموس، ٩).
وهنا المشكلة، والخلل بعينه، فإذا كانت روايةُ التوراة ككتاب في التاريخ قد تطابقت مع المكتشفات والسجلات الآثارية في هذه المسألة، وإذا كان كلاهما قد أكَّد قدومَ الفلسطينيين من جزيرة كريت وبحر إيجة، فإن هناك خللًا يتمثَّل في كيف نوفِّق بين قول التاريخ باستقرارهم على الساحل الفلسطيني في عهد الرعامسة، حول القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وبين وجودهم حسب التوراة في فلسطين قبل خروج الإسرائيليين من مصر، ناهيك عن قول التوراة بوجودهم زمن البطاركة الأوائل.
وبالحسابات يقول علم التاريخ: إن الفلسطينيين قد استقرُّوا على سواحل فلسطين بعد أن سمَح لهم رمسيس الثالث بذلك، أي بعد الزمن المفترض للخروج الإسرائيلي من مصر بحوالي خمسين عامًا، وبحسابات التوراة نعلم أن الإسرائيليين أقاموا بمصر ٤٣٠ عامًا حسب الرواية العبرية المازورية، ويضاف إليهم أربعون عامًا زمن التيه في سيناء، يكون المجموع ٥٢٠ سنة كاملة، إضافة إلى حوالي سبعين سنة افتراضية بين إبراهيم وحفيده يعقوب، فيكون المجموع ستةَ قرون كاملة، هي الفارق بين تزمين المؤرخين للخروج وبين زمن الغزو البلستي التاريخي لفلسطين، وهذا إنما يعني وجود الإسرائيليين بفلسطين قبل وصول الفلسطينيين إليها بستِّ قرون كاملة، وهو ما لا تقول به التوراةُ ذاتُها، أليس ذلك خللًا حقيقيًّا؟
والإشكالية في محاولة إيجاد حلٍّ يتطلب أحدَ فرضَين، فإما أن نتأخَّرَ بعصر الرعامسة ستة قرون إلى الوراء قبل التزمين المتفق عليه حاليًّا بين المؤرخين، وهو ما سيترتب عليه إشكالياتٌ كبرى، حيث سيلحق الخللُ بكل تاريخ المنطقة، الذي تمَّ تزمينُه قياسًا على تزمين التاريخ المصري، وإما أن نتقدمَ بزمن الخروج الإسرائيلي من مصر ستة قرون، أي يكون الخروج قد حدث عام ٦٠٠ قبل الميلاد، وهو غير ممكن علميًّا؛ لأنه سيتضارب تضاربًا صارخًا مع حقائق تاريخية ثابتة، وتفصيلات شتى لا تسمح بهذا الجموح في الافتراض المستحيل.
إشكالية تبحث عن حلٍّ
نعود هنا مرة أخرى لزمن البطاركة الأوائل، وقول التوراة بوجود الفلسطينيين في ذلك الزمن الأسطوري، زمن إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لندقِّقَ النظرَ مرة أخرى، فنجدها إطلاقًا لا تذكر أرضَ كنعان إلا باسم أرض كنعان، ولا ذكْرَ لفلسطين ولا لفلسطينيين إلا عند الحديث عن مدينة واحدة بالذات هي «جرار» التي يسكنها فلسطينيون، وهو ما يضعُنا أمام واحد من احتمالين: فإما أن يكون الكاتب التوراتي لهذا الجزء من التوراة — والذي كُتب متأخرًا بعد الألف الأولى قبل الميلاد — قد استقرَّ في ذهنه اسمُ فلسطين للدلالة على تلك الأرض، فاستخدمه في غير موضعه من الزمن وأطلق اسمَ فلسطين السائد في زمانه على أرضٍ كانت تحمل فقط اسمَ كنعان في الزمن السحيق، وإما أن تكون جرار تحديدًا ووحدها دون غيرها كانت موئلًا للفلسطينيين زمن البطاركة، وأن الفلسطينيين قد سكنوها كجند مرتزقة أو جالية بموافقة الفرعون، وهو الاحتمال المرجَّح لدينا، حيث نعلم من التاريخ أن حيًّا بكامله شمال شرقِيَّ مصر قد حمل اسم «الحي الجزري» زمن الرعامسة، لسكنى الإيجيين فيه، وكانت جرار أقرب المدن الفلسطينية إلى الشيحور المصري الواقع شرقِيَّ الحي الجزري تمامًا، وقد سُمِّيَ «الجزري» نسبةً للجُزر، وعُبدت هناك آلهةٌ غريبة تمامًا على مصر، تليق بالأغراب الملتحقين بخدمة الفرعون.
والأسباب في وضْع الاحتمالين واستبعاد أن تكون فلسطين مسكونةً بجنس البلست زمن البطاركة، هو كما قلنا إن التوراة كانت تصفها بأرض الكنعانيين، وأنها لم تصف أيَّ مكان فيها بالفلسطيني سوى مدينة «جرار»، هذا إضافة إلى أن الأحداث التي رافقت زمن البطاركة لم يأتِ فيها ذكرُ الفلسطينيين إطلاقًا في أي وثيقة تاريخية، لا في مصر ولا في أيٍّ من دول المنطقة ولا بفلسطين ذاتها، علمًا أن ذلك الزمن لحقتْه أحداثٌ جسام، تمثَّلت في غزو الهكسوس لمصر، وتذهب جلَّةٌ محترمة من الباحثين إلى أن دخول بني إسرائيل إلى مصر قد حدث زمن الهكسوس، وهو زمن ما كان يسمح بدخول البلست، حيث كان الهكسوس قوة كبرى تحتل مصر ذاتها وتقهرها، مع عدم وجود أيِّ إشارة لفلسطين بهذا الاسم ولا لهجرة باسم البلست في أركيولوجيا ذلك الزمن.
لكن التوراة من جانبها تُصرُّ زمن الخروج على وجود الفلسطينيين في فلسطين كحقيقة واقعة، والأمر هنا ليس كما في عهد البطاركة حديثًا عن مدينة واحدة، بل عن مجموعة ممالك قوية ومقتدرة للفلسطينيين بشكل لا يَدعُ سبيلًا للشكِّ فيه، بنصوص غزيرة كثيفة ومتعددة، تُحدِّثُنا عن قراهم وأسماء زعمائهم، بل وشخصيات هامة من بنيهم، وقواد عسكريين، وشكل أسلحتهم، وحروبهم مع الإسرائيليين عند دخول الأرض، وعباداتهم، وآلهتهم، مما يشير إلى أن الفلسطينيين كانوا قد أصبحوا حقيقةً مسلَّمًا بها في فلسطين، حتى إنهم أعطوا أرض كنعان اسمًا جديدًا هو أرض الفلسطينيين، وأن ذلك قد حدث أثناء تواجد الإسرائيليين في مصر.
محاولةُ حلٍّ
رغم أن آخرَ النظريات وأكثرَها اعتمادًا في الأكاديميات العالمية، تلك التي تقول باضطهاد الإسرائيليين في مصر زمنَ الفرعون «رمسيس الثاني»، وبخروجهم من مصر في عهد ولده الفرعون «مرنبتاح»، فإننا لا نعلم كيف وجَد هؤلاء السبيلَ، «مثل بروغش، وبيير مونتيه، وغيرهم»، كيف وجدوا السبيلَ إلى التوفيق بين ذلك وبين الحقيقة التي تؤكد مجيء الفلسطينيين واستقرارهم على الساحل الكنعاني زمن «رمسيس الثالث»، أي بعد خروج الإسرائيليين من مصر حسب ذلك التزمين بحوالي خمسين عامًا، بينما التوراة التي تُعَدُّ لدى هؤلاء مرجعًا تاريخيًّا أساسيًّا في حسابات تزمينهم للأحداث، تقول إن الخارجين قبل خروجهم كانوا يُطلقون على الطريق السينائي طريقَ فلسطين، وعلى كنعان كلِّها اسمَ الفلسطينيين، وأنهم عندما وصلوا إليها وجدوا الفلسطينيين قوةً قائمة في ممالكَ دخلوا معها حروبًا طاحنة قبل أن يستقرُّوا إلى جوارهم هناك.
ومن ثَم لا يبقى أمامنا سوى اقتراح فرضٍ لا ينزلق إلى الاصطدام بما استقرَّ عليه علمُ التاريخ في تزمينه للأحداث وللأُسَر الحاكمة في مصر، إنما هو فرضٌ يرجع قليلًا بزمن الخروج إلى الوراء، فنحن نعلم أن أول الهجمات البلستية قد حدثتْ زمنَ «أمنحتب الثالث» ١٤٠٥–١٣٦٧ قبل الميلاد، وهنا نفترض نجاحَ تلك الهجمة واستقرارَها على الساحل الفلسطيني، أي إننا بوضوح نستبعد الخروج زمن «مرنبتاح» ١٢٢٩ قبل الميلاد، ونرجع به إلى تلك الفترة الواقعة زمن خلوِّ العرش بعد سقوط «أخناتون ابن أمنحتب الثالث» الذي حكم بين ١٣٦٧ و١٣٥٠ قبل الميلاد، وهو الزمن المناسب للخروج؛ لأن زمن مرنبتاح كان زمنَ قوةٍ مصرية تسيطر على فلسطين ذاتها، أما زمن خلوِّ العرش بعد سقوط أخناتون فكان فترةَ ضعفٍ تسمح بوقوع أحداث الخروج، ومهاجمة الخارجين لفلسطين التابعة لمصر، لكن ليجد الخارجون أن الفلسطينيين قد استقروا هناك زمن «أمنحتب الثالث» وربما قبله بقليل وأسَّسوا ممالكَهم هناك.
وبالحسابات الافتراضية، نحن ندفع بزمن الخروج الإسرائيلي إلى الخلف إلى عام يقع قبل ١٣٥٠ قبل الميلاد، وبإضافة زمن التيه في سيناء وهو أربعون عامًا، فإن وصول الإسرائيليين إلى فلسطين يكون قد حدث حوالي عام ١٣١٠ قبل الميلاد، وبذلك نكون قد أرجعنا زمنَ الخروج مائة وعشرين عامًا إضافية عن الزمن المفترض لخروجهم زمن مرنبتاح، وهو ما يعني أنهم قد دخلوا فلسطين قبل قرنٍ من زمن الفرعون مرنبتاح.
وإن فرضْنا هذا سيحلُّ عددًا من المشاكل الكبرى في التاريخ غيرِ المحلولة حتى الآن، فسيحل أولًا مشكلةَ وجودِ الفلسطينيين بفلسطين قبل الخروج الإسرائيلي من مصر، وثانيًا سيُعيد الاعتبارَ إلى المؤرِّخ المصري «مانيتون السمنودي» (القرن الثالث قبل الميلاد) الذي أثبت مصداقيةً عالية في كثير مما أورده، ومع ذلك استُبعد ما ذكره عن الخروج زمن فرعون باسم «أمنوفيس» لصالح فكرة الخروج زمن مرنبتاح، استنادًا إلى لوح مرنبتاح الذي يقول فيه إنه هاجم قومًا باسم إسرائيل ودمَّر بذرتَهم. وهنا بالتحديد يكمن الخللُ في رأْيِنا، حيث نحتسب أن لوح مرنبتاح كان يتحدث عن حملة تمَّتْ بعد خروج الإسرائيليين واستقرارهم في فلسطين، ضمن الحملات التأديبية التي كان يشنُّها الفراعين على مستعمراتهم، بينما «أمنوفيس» الذي ذكره مانيتو كفرعون للخروج هو النطق اليوناني للاسم المصري «أمنحتب» وكان أخناتون يحمل اسم «أمنحتب الرابع».
هذا ناهيك عن كون ذلك الفرضِ يجعل الخارجين من مصر، ربما كانوا أتباعًا مباشرين لأخناتون كأول داعية للتوحيد في التاريخ، وهو ما يُفسِّر التوحيد الإسرائيلي بعد ذلك، إضافة إلى حلِّ معضلة كأداء كانت تقف دومًا في وجه القائلين بالخروج زمن مرنبتاح، وتتمثل في أن التوراة قد أكَّدت أن الإسرائيليين عند غزوهم فلسطين، قد دمَّروا مدينة أريحا وأحرقوها بالكامل، وقد قامت بعثةُ حفائر بريطانية بقيادة العالمة الأركيولوجية «ك. كينون» عام ١٩٥٠م، بإجراء حفائر في مدينة أريحا للكشف عن أي أدلة، تُشير لتدمير أريحا، ومدى صدق الرواية التوراتية.
وقد تأكَّد للبعثة البريطانية أن أريحا قد دُمِّرت بالفعل، لكن في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهو ما شكَّل معضلةً لأصحاب نظرية الخروج زمن مرنبتاح؛ لأن أريحا تكون بذلك قد دُمِّرت قبل زمن مرنبتاح بقرن من الزمان، وقد اعتمدت البعثةُ البريطانية في تزمينها لدمار أريحا، على ما عثرت عليه من جعلان وكسرات فخارية تحمل أسماءَ ملوك مصريين، حكموا خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد، هذا مع آثار الحريق المدمر، وآثار التهديم الذي تعرضتْ له أريحا.
ونقصد من هذا كلِّه القولَ: إن العودة بزمن الخروج ١٢٠ سنة إلى الخلف، إلى فترة خلوِّ العرش بعد سقوط أخناتون، يحلُّ معضلة آثارية كبرى ومشكلة تاريخية حقيقية، ويتطابق موعد دمار أريحا مع موعد دخول الإسرائيليين إليها، كما يحلُّ لنا مشكلة مستعصية تُفسِّر وجود الفلسطينيين بفلسطين قبل دخول الإسرائيليين إليها، ولماذا حملت كنعان اسمَ أرض الفلسطينيين حتى في التوراة ذاتها، لكنها لم تحمل يومًا اسمَ أرض الإسرائيليين، وهو الأمر الذي لم يزل بعدُ قيد البحث في كتابنا: النبي موسى وآخر أيام تلِّ العمارنة.