هل بنَى الفراعنةُ الكعبة؟!١
دأب د. سيد كريم على مطالعتنا بمجلة الهلال، بنظريته حول علاقة الديانة المصرية القديمة بديانات البدو الساميين، وبخاصة عقائد أهل جزيرة العرب، وهو رأي بحدِّ ذاته يتسم بكثير من الصحة والوجاهة. وقد ذهبتْ كثيرٌ من المدارس العلمية إلى القول بتأثير مصر القديمة في عقائد جيرانها، وألَّف أصحابُها في ذلك مؤلفاتٍ شتَّى، ولنا في ذلك مؤلَّفٌ خاص حول عقيدة الخلود المصرية، بحسبانها النبعَ الأصيل لعقيدة الخلود، التي ظهرت بعد ذلك في ديانات حوض المتوسط الشرقي، بعنوان «رب الثورة: أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة.»
والغريب أنه رغم خطورة هذا الموضوع فقد مرَّ مرورَ الكرام، ولم نسمعْ أو نقرأ عليه تعقيبًا، على حدِّ ما نعلم، مما أعطى السيد الدكتور الضوءَ الأخضر للاستمرار والمثابرة.
وواضحٌ من البداية أني لن أكون مجاملًا، وفقَ حسابات بسيطة تمامًا؛ أولها أن ميدان البحث العلمي ميدانٌ لا يصح فيه لفارس تجاوزُ شروط الفروسية، وقواعد اللعبة، لتحقيق قصبَ السبق. وأعتذر عن استخدام تعبير «اللعبة»، في حديثي عن العلم وشروطه؛ لأن الموضوع برمته كان عند د. كريم مجرد لعبة. وثاني هذه الحسابات هو أن القارئ أمانة، والكلمة أمانة، وأول شروط البحث العلمي هي الأمانة، ورغم بساطة الحسابات، فإنها لم تتركْ لنا بصرامة حقوقها (وهي لوجه الحق، حق، وأحق أن تتبع)، أي فرصة للمحاباة أو المجاملة.
موجزُ الأمر
والعجيبُ في أمري مع د. كريم، أني ألتقي تمامًا معه في القول بهجرة مصرية إلى جزيرة العرب، كانت سببًا في نشوء اتجاهٍ ديني هناك. وقد عالجتُ هذا الأمرَ في بحث خاص، كنتُ أودُّ إرفاقَه بهذا التعقيبِ لولا أنه سيضيفُ مساحةً يَضيق بها المتاحُ في عدد واحد، إلا أنَّ أول ما يُزعج أيَّ عارف بتاريخ مصر هنا، هو قول د. كريم: إن الثورة المصرية ضدَّ الملك والكهنة في نهاية الأسرة السادسة، هي التي أدَّتْ إلى هجرة أصحاب «منف» إلى جزيرة العرب. وقوله بصريح العبارة إنهم أصحاب عبادة الإله «رع». ومصدر الإزعاج هنا هو أن «منف» كانت مقرًّا لعبادة الإله «فتاح»، وليس «رع»، وأن الإله «فتاح» قد توارى في الظلِّ مع مدينته «منف» بعد أن قام كهنةُ الإله «رع» بانقلاب ديني وسياسي في الوقت ذاته، واستولوا على الحكم في نهاية الأسرة الرابعة، وأسَّسوا الأسرة الخامسة الحاكمة، واستمروا في الحكم في الأسرة السادسة. وكانت مدينة الإله «رع» المقدسة، هي مدينة «أون» عين شمس الحالية، وليس مدينةَ «منف».
وبذلك تكون الثورة الشعبيةُ التي قامت ضد الملوك والكهنة، قامت ضدَّ ملوك وكهنة الإله «رع» في «أون» وليس في «منف»، ويكون الإلهُ «رع» إلهَ مدينةِ «أون» وليس إله مدينة «منف»، مما يُشير إلى خلل خطير فيما قدمه السيد الدكتور لقارئه، أما إن أراد صدْقَ المراد، فإن هجرة أهل «منف» تكون قد سبقت الثورةَ الشعبية بحوالَي ثلاث قرون أو أكثر، عندما حدث الصدامُ بين «منف» و«أون»، أو بين أتباع «فتاح» وأتباع «رع»، الذي انتهى باستيلاء «رع» وأتباعِه على سُدَّة الحكم.
ومن هنا، فإذا كنا نلتقي مع السيد الدكتور في أمور، فإنَّا نخالفه في أخرى، وهي ليست مخالفةً لمجرد المخالفة، إنما سيرًا مع صحيح الأمور وتاريخيتها. أما أشد تحفظاتِنا فهي تتعلق بمدى التزام الكاتب — أيِّ كاتبٍ — بالحياد والموضوعية وتحرِّي الحقيقة، بحيث لا يميل مع هواه كلَّ الميل، فيفسِّر النصوصَ على الرأي الخاصِّ ليؤكِّدَ فكرتَه. ومن هنا، وتأسيسًا على ذلك، سنناقش ما كتبه د. كريم بمعيار واحد، هو مدى التزام الصدق العلمي وشروط تحقيقه.
الآلهةُ المصرية
لقد كان جميلًا من د. كريم أن يحاولَ اكتشافَ جديد، يُضيفه إلى مجموعة إبداعاتِ وكشوف المصريين القدماء، فقام يختار «مبدأ التوحيد» ليضعَه من بين أول الكشوف التي وصل إليها المصريون في «منف»، منذ بداية الأسرات وقيام الدولة المركزية، أي منذ حوالَي خمسة آلاف عام مضتْ، وبذلك يُؤكِّد في موضوعه أنهم كانوا أساتذةَ عربِ الجزيرة في ذلك، عبرَ الأنبياءِ الذين زاروا مصر وتعلَّموا فيها التوحيد، ثم عادوا يعلمونه في جزيرتهم، وعبرَ الهجرةِ الكبرى لكُهَّان «منف» بعد الثورة إلى الجزيرة.
والسيد الدكتور — لا شك بمقصده — يريد أن يرفعَ أكثرَ من شأن قُدامَى المصريين وينزعَ عنهم شبهةَ التعدُّدِ في العبادة. وهو في ذلك يُبرهِنُ على وفاء لمصر، وحبٍّ نادرِ المثال مشكور، لكن البحث العلمي شيءٌ، ومعاني الحبِّ والكُره والوفاء أو عدمه، شيءٌ آخر، لا مكانَ لها في قاموس البحث العلمي، ولعله لم يَغِبْ عن بال السيد الدكتور أن مصرَ العظيمة بإفضالها على الإنسانية، وبكشوفها في مجال الفكر والتحضُّر، ليستْ بحاجة إلى محاولات جديدة، كأن تكون أصلَ التوحيد الإبراهيمي، خصوصًا أن المصدر الأقدم عن رواية النبي إبراهيم ورحلاته وعبادته (أقصد التوراة، وكانت المصدرَ الوحيد في ذلك حتى مجيء الإسلام)، ليس فيها ما يُشير إلى عبادة واحدة، ولا تُشير التوراةُ في قصتها عن النبي إبراهيم وعهده إلى إله واحد، بل إلى «إلوهيم»، أي مجموعة الآلهة. ولم نعرف عن النبي إبراهيم أنه كان موحِّدًا إلا عندما جاء القرآنُ الكريم، وأوضح أن إبراهيم النبيَّ هو أصلُ التوحيد الحنفي.
نعم ولا شك أن القول بكشْف المصريين لهذا المبدأ الديني الذي يمركز العبادةَ في ذاتٍ واحدة، ينسبُ لهم قصبَ السبق في أمر هو من الفتوح المبينة، لكن المشكلة أن ذلك لم يحدثْ، وإن كان قد حدَث فلم يحدثْ إلا بعد ذلك بقرون في عهد أخناتون على ما يزعم البعضُ. هذا إضافة إلى أن د. كريم لم يكن موفَّقًا كلَّ التوفيق وهو ويحاول ذلك.
ولعل أول ما يعترض مقولةَ د. كريم، القائلة: إن أهل «منف» في الأسرة القديمة أول الموحدين، هو أن المصريين القدماء لم يعرفوا التوحيد بالمعنى المطلق الذي عرفناه في الإسلام، (الذي يقصده د. كريم) طوالَ تاريخهم الديني الطويل، فكانت الآلهة تربو على المئات، «آلهة أقاليم، وآلهة مدن، وآلهة عواصم، وآلهة للدولة، وآلهة لقوى الطبيعة، وآلهة للملوك، وآلهة الشعب» تنطبع بوجه عام بالشكل الطوطمي الممثَّل في رأس الحيوان على الجسد الآدمي. وكان واضحًا أن المصريين قد توقَّفوا عن تطوير شئون الآلهة، ولم تُشكِّل المسألةُ بالنسبة لهم قضيةً شاغلة، بعد أن انصرفوا إلى أمرين: الأول هو البناء السياسي والحضاري وتأمين الحدود عسكريًّا والتقدم العلمي الدنيوي، والثاني: هو التجهيز لعالم آخر مقبل يُجازَى فيه الإنسانُ على ما أتاه من أعمال في دنياه. وكان هذا المبدأ الثاني بدوره مسألةً حضارية ملحَّة، حيث يقوم التعاملُ الاجتماعي بمقتضاها على أُسُسٍ خُلُقية تضمنُ للمجتمع سلامتَه وتماسُكَه وأمنَه؛ كي ينصرفَ أكثر إلى شئون الارتقاء بدولته وبحياته الأرضية، هذا إضافة إلى العامل البيئي الذي ارتبط به التعددُ وسنناقشه بعد قليل.
ولعل د. كريم لم يقصد بالتوحيد ما عرفه المصريون بإله الدولة، فهو لم يكن بالمرة توحيدًا إنما اعترافٌ بسيادة «إله الدولة» على بقية الآلهة الإقليمية تدعيمًا لمركزية الحكم ليس إلا، وحتى هذا الإله السيد كان يتغير مع تغيُّرِ الدولة الحاكمة، فهو بداية كان «حور»، ثم في الدولة القديمة «فتاح»، ثم «أتوم رع»، ثم في الدولة الوسطى الإله «آمين» أو «آمون» المندمج ﺑ «رع»، بل وكان هذا الإله السيدُ يدخل باستمرار كضلع أكبر في أسرة ثالوثية «أب وأم وابن». وهو أمرٌ طبيعي يتسق وفكرَ الإنسان في المراحل الأولى من تطوره، عندما كان يتصور الإلهَ على شبهه ومثاله، ويسلك مثل سلوكه، ويتزوج، ويُنجب، ثم يدخل هذا التثليثُ في تتسيع، حتى كان لكل مدينة تثليثها وتتسيعها الخاص، ولم يكن الإنسان في باقي أنحاء المعمورة أكثر توفيقًا من ذلك. فرغم استفادة اليونان والرومان من علوم الشرق وبخاصة مصر، وكان يُفترض فيهم ارتقاءٌ أكثر سيرًا مع سُنَّة التطور، ولما ورثوه من تراث ثقافي عن مصر، فإنهم فعلًا تقدَّموا وكوَّنوا إمبراطورياتٍ عظمى، وأضافوا للإنسانية رصيدًا جديدًا، ومع ذلك كانت آلهةَ الأولمب بالمئات، إضافةً إلى كمٍّ هائل من مغامرات الآلهة، كان يُتلى هناك بُكرةً وأصيلًا.
لكن يبدو أن د. كريم قد رأى في التعدُّد لدى المصريين مثلبةً ونقيصة، تعيبُ بقيةَ علومهم وفنونهم، فأراد أن يُنزِّهَهم عنها، وغاب عنه أن ذلك كان أمرًا طبيعيًّا سواء كان آلهةً بالمئات، أم تثليثًا أم تتسيعًا. أم تسبيعًا كما حدث لدى الرافدين من قدامى الساميين، ولم يكن له أيُّ أثرٍ مباشر في تخلُّفٍ اجتماعي أو حضاري، بل كانت مصرُ رائدةً في كافة الميادين العلمية، بينما كان الآخرون في بداءة بداوتهم ينعمون (من الأنعام) أو على الأصح يتمرغون، أيًّا كانت ادعاءاتُهم، ولعله يعلم أن العالَمَ المتقدم اليوم — سواء في الغرب الذي يعتقد بالتثليث، أو في الشرق الذي يَدين بالاشتراكية العلمية — يُسمَّى العالمَ المتقدم؛ لإنجازاته في العلوم الدنيوية. ولو قسناه بمنطق د. كريم، لكان أشدَّ العوالم تخلفًا. أو يُصبح واجبًا عليه إثباتُ أن الأمريكان والسوفييت موحدون! وهو أمر لا شك عسير.
التوحيد والتعديد
ولعلي أكون مخطئًا، وربما أكون مُصيبًا، عندما أطرح تصوري لمسألة التوحيد والتعدد في التاريخ الديني، مرتبطةً بالظرف البيئي، لكنه اجتهادٌ شخصيٌّ يصح قبولُه أو رفضُه، ويقوم هذا التصورُ على الفصل والتفريق بين البيئة الزراعية النهرية، والبيئة البدوية الصحراوية؛ ففي البيئة الزراعية تتعدَّدُ أشكالُ الطبيعة ومظاهر الحياة تعدُّدًا ثريًّا هائلًا، أنهار دافقة، شلَّالات، أحجار جامدة، شجر، طيور، حيوان نافع، حيوان ضاري، كائن ضخم قوي، حشرة ضعيفة، موسم خصب، موسم جفاف، أصوات وضجيج من كل نوع، سيمفونية نعرفها نحن أهل الوديان الخصبة، تضج بالنقيق والعواء والثغاء والتغريد والهدير.
وفي المقابل نجد البيئة الصحراوية ضنيةً بالشكل واللون والصوت، مظاهرُ الحياة محدودةٌ جدًّا وتكاد تنعدم؛ فالصحراء تترامَى أطرافُها دون طارئ جديد، فهي رتيبةُ الوقع متشابهةٌ دائما، مشهدٌ واحد باستمرار، ولونٌ واحد باستمرار، أصفر مسترخي يتمطَّى في كُثبان ملتوية، وزمن هادئ التوقيع، نادر المفاجآت، والإيقاع الدائم تثاؤب وقيلولة في صمتٍ ممتدٍّ أبدًا. ومن هنا نزعم أن العامل البيئيَّ أدَّى دائمًا بالبدو إلى نظرة مصبوغة بالتوحُّد والوحدانية، مقابل أثرِ التعدد الهائل للحياة وصخبها في الحياة النهرية الزراعية، مما دعَا إلى اقتراب البدوي من معنى الواحد مقابل المتعدد عند المزارع.
ومع ذلك عندما كانت تتعدد المظاهر، كان البدوي يُعدِّدُ، فهو مرةً يعبد التيس، ومرةً يسجد للصخر، ومرةً يثور البركان فيسجد للبركان مرتعدًا، لكنه كان التعددَ البسيطَ السهل، بما لا يُقارن بمظاهر بيئة المزارع الضجوج الخجوج المتغيرة المتلونة دومًا، وما كان أسهل أن يكشف البدويُّ قيمةَ خروفه، وأهمية القمر في ليل الصحراء الصامت المفزع، فيقرن بين قرنَي الخروف وقرنَي الهلال فيسجد عابدًا ويهتف الباحثون مهلِّلين لقد تمَّ التوحيد، وأصبح الخروف قمرًا في أقنوم واحد!
مغالطات
ويبدو أن د. كريم لم تتقبلْ نفسُه أن تكون هاجر مجردَ جارية، منحها فرعونُ مصر للنبي إبراهيم ليتسرَّى بها، على ما جاء في التوراة، ولا نعلم هل كان ذلك ترفعًا بها عن ذلك، أم ترفعًا بالنبي عن معاشرة الجواري؟ وكلاهما كان واقعًا في العهود الخوالي. فلم يكن هناك حرجٌ على الأنبياء والمؤمنين من إتيان ملك اليمين والتسري بالجواري والإماء. لكن د. كريم يعامل الماضي بذوق الحاضر، فيؤكِّد أن هاجر كانت إحدى أميرات البيت المصري المالك، في الأسرة الثانية عشر الفرعونية، حوالي عام ١٨٩٠ق.م، بالتحديد والتدقيق والتمحيص والتفحيص المبين، ثم لا يعطينا أيَّ إفادة بالمرة عن مصدر هذا اليقين، ولا من أيِّ مصدر أثاري أو آركيولوجي استقاه! ونؤكد له، ولقارئنا الذي نحترمه ونحترم وقفته لمطالعتنا، أنه ليس هناك مصدرٌ أثاري واحد يقول ذلك، ولم يُعثرْ حتى الآن على وثيقة مصرية واحدة تُشير إلى النبي إبراهيم وإلى زيارته مصر، لا من قريب ولا من بعيد، ولا بالرمز، ولا بالإشارة، ولا حتى بنص يحتمل التأويل، كما لم تُشر النصوص المصرية إلى دخول اليهود مصر زمنَ النبي يعقوب، مع ولده النبيِّ يوسف ولا حتى لموسى، ولا لرحلة الخروج الشهيرة في التوراة، وهو أمرٌ أثار حيرةَ الباحثين طويلًا حتى اليوم، وكُتب في ذلك مصنفاتٌ شتَّى لعلماء أجلَّاء، لم يستطعْ واحدٌ منهم أن يعطيَ مثل جزْمِ د. كريم الواثقِ القطعيِّ هذا. ونحن بالطبع لا نُنكر أن ما جاء في قصص الأنبياء وزيارتهم لمصر قد حدث، لأن ذلك أمرٌ يُعَدُّ لدينا بدهية تتأسس على إيمان راسخ بالكتب السماوية، لكن ما نُنكره هو الادِّعاء بما لم تكشفْ عنه آثارُ مصر حتى الآن، وما نستنكره هو أن يقدم لنا د. كريم ذلك في صيغة التقرير، في حين كان يجب عليه تقديمُه في صيغة التقدير، كرأي وتقدير شخصي، وحتى الرأي الشخصي لا يُلقَى على عواهنه دون توثيق أو مبررات كافية.
ثم يجازف الدكتور مجازفةً مفزعة حقًّا، تُصيب الباحث بهلَع شديد، فيُرفق بموضوعه لوحةً فرعونية تُصوِّر شخصياتٍ تُوضِّح سيماهم أنهم من البدو الساميين، وسبق لي أن لاحقتُ هذه اللوحة في المصادر، فلم أجد عليها تعليقًا أكثر من كونها شخصياتٍ بدوية سامية في مصر بزعامة شخص يُدعَى أبيشا. لكن الأخ الدكتور يُعلِّق بالقول الجهير: «سيدنا إبراهيم عليه السلام، لوحة اكتُشفت في حفريات مدينة منف حيث زار معابدَها، وتزوج الأميرة المصرية هاجر عام ١٩٨٠ق.م.» وهكذا وببساطة يتصورها هيِّنةً، هان معها عقلُ القارئ، عندما يُلقمه الأقصوصةَ وهو يطالع بحسْن نية وثِقة، ليؤكِّدَ فكرةً، هي لوجه الحقِّ جميلة، لكنها لوجه الحقِّ أيضًا قد صِيغت بأسلوب أقل ما يوصف به أنه نوعٌ من اﻟ «فهلوة» وغير جميل.
ولا يقنع د. كريم بذلك، إنما يتمادَى، فيعرض لنا صورةً لهرم «ميدوم» الواقع غربِيَّ مدينة الواسطى (تبعد عن القاهرة ٩٠ كم جنوبًا)، المعروف بالهرم الكاذب لضآلة الكشوف فيه، مقارنًا بلوحة للكعبة المكية، مع التعليق على صورة هرم «ميدوم» بالقول: «كعبة منف، هرم ميدوم الكاذب، بناه الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة، بُنيَ قبل الهرم الأكبر كرمز لإله التوحيد رع، كان ثالوث معبوداته أليت وعيزت ومنى.» ولا ندري كيف ساغ له أن يتحدثَ عن توحيد وتثليث في آنٍ معًا، بل وتربيع بإضافة كبيرهم «رع». ثم يُضيف معقِّبًا: «عندما وصل بنو مناف أو جُرهم إلى أرض مكة، أقاموا بيتًا للرب مماثلًا لمعبدهم الجنائزي بمنف، الذي يُطلق عليه حاليًّا هرم اللاهون، الذي بناه الملك «سنفرو» مؤسس الأسرة الرابعة ليكون كعبةً للتوحيد.»
وما يبدو لنا الآن هو أن د. كريم عمد إلى خلط الأوراق كلها بسرعة خاطفة. وهو عالِم بما يفعل تحقيقًا لهدف مقصود، هو أن ينقل هرم «ميدوم» إلى منف ليصبحَ هو الهرم «المنفي» بدلًا من هرم سقارة، وذلك عبرَ ورقة ثالثة هي هرم «اللاهون»، بحيث يصبح هرم اللاهون هو «الجوكر»، الذي يصرفُ انتباهَ المشاهد (آسف: أقصد القارئ) عن الورقتين الأخريين في الثلاث ورقات (هرم ميدوم بالواسطى وهو المقصود وعليه العين، هرم سقارة وهو هرم منف الحقيقي وهو المطلوب نسيانه، وهرم اللاهون بالفيوم وهو الجوكر المستخدم لإرباك الصيد: آسف: أقصد القارئ)، وقبل أن يُفيقَ القارئ لما حدث، يمدُّ يدَه يريد ورقةَ الهرم المنفي، فيطالعه هرم ميدوم بدلًا من سقارة، فيسلم القارئ بعد أن تحوَّلَ الأمرُ إلى «فزورة» محيرة، فينسى سقارة ولا يذكر سوى ميدوم، وبقدرة قادر ينتقل هرم ميدوم إلى منف، وينتهي دورُ هرم اللاهون عند هذا الحدِّ بعد انتفاء الحاجة إليه ويدور عقلُ القارئ في الطريق المرسوم له بعد أن أصابه الدوارُ، «ويقنع بأن الذي عدَّى البحر ولم يبتلَّ، العجل في بطن أمه!» ويحقق الدكتور ما يريده. وما يريده هو ميدوم بدلًا من سقارة هرمًا لمنف، لا لشيء إلا لأن صورة هرم ميدوم تُشبه الكعبة، وهو شَبهٌ لا يمكن لمسُه في الواقع، إنما يمكن تمريرُه عبر صور مطبوعة غيرِ واضحة وملتقطة عن بُعد، تزيد في ضبابيتها عواملُ الطبع أو الطبخ، ومع الطبخ لا يأكل القارئُ ملبن إنما يأكل مقلب.
وهرم «ميدوم» مصاطبُ تهدَّم أعلاها، إضافة إلى أنه أقربُ إلى التكعيب، وكان للعوامل الجوية وللتعرية أثرُها في تآكُل الطبقة الملساء من صفائح الجير الأبيض التي تُشكِّل كسوةً للأحجار، وقد حدث التآكلُ على شكل شريطٍ عند الثُّلث الأعلى من الهرم، فبدا لعيون د. كريم شبيهًا بالشريط الذي يُحيط بالثُّلث الأعلى من الكعبة، وهو عملٌ فنيٌّ حديثٌ جدًّا قام به المصريون المحدثون المسلمون، عندما كانت مصر تُرسل للكعبة كسوتَها، وكان الغرض من هذا الشريط غرضًا جماليًّا فنيًّا بحتًا، كُتبتْ عليه آياتٌ من القرآن الكريم ليس أكثر، ولم يكن أصيلًا في بناء الكعبة ذاتها. ومن هنا قام د. كريم بمجازفته الهائلة ليقول: إن الكعبة أنشأها أهلُ منف المهاجرون في الحجاز على غِرار كعبتهم المنفية «هرم ميدوم» الذي ليس أصلًا في منف، إنما في الواسطى، ولا هو بكعبة، إنما مثوى لجسد الملك «والمصادفة الطريفة هنا أنِّي من مواطني مدينة الواسطى أصلًا، وجلا لي أن أزورَ غرفةَ المدفن الملكي مجدَّدًا، عند معالجة الموضوع، وكتبتُ هذا الجزء وأنا جالس في استراحة هرم ميدوم أُطالعه عن كثَب، أقلِّب أمرَه وأتساءل: هل ظلمه د. كريم أم أنصفه؟ لكني على أية حال لم أجازفْ بقراءة الفاتحة على روح الملك.»
رمسيس يُؤمِن أخيرًا
وحتى يزيدَنا السيدُ الدكتور تحسُّرًا على جمال أفكاره، وإمكانِ إثبات صدْقِها بالأسلوب العلمي، يُضيف من عندياته القولَ: إن فرعون موسى المعروف بأنه رمسيس الثاني (وبالمناسبة هذا فرض مرَّرتْه الكتاباتُ الصهيونية ولم يتأكَّدْ صدْقُه العلمي)، كانت له زوجةٌ مؤمنة موحِّدة، فأرسلت مع قائد الجيش المصري الذي كان بدوره مؤمنًا موحِّدًا، كسوةً إلى الكعبة، صُنعت خصِّيصًا لهذا الغرض، وقد حدث هذا الأمرُ سرًّا بالطبع؛ لأن زوجَها رمسيس الثاني كان كافرًا أثيمًا، (ولا يغيب عن القارئ أنه هو الفرعون الذي ترَك لمصر أهمَّ الأعمال المعمارية والفنية العظيمة، وصاحبُ غزوات وفتوحات تُحسَب لمصرَ كلِّها)، وهكذا يكون المصريون قد بدءوا صناعةَ كسوة الكعبة وإرسال المحمل للحجاز من ألوف السنين، ولا مانعَ أن نتخيَّلَ هنا «ليلى مراد» تَلبسُ تاجَ القُطرَين، وتُغنِّي على صوت الدفوف وهي تودِّعُ قائدَ الجند: «يا رايحين للنبي الغالي، هنيا لكم وعقبالي.» وندخل مع د. كريم إلى تمثيلية رمضانية، يتسلَّط فيها فرعونُ الجبار، وتلتقي فيها الزوجةُ الملكية سرًّا بأخيها في الإيمان، قائد الجند المغوار، ويتعاهدان عند أستارِ الكعبة في حُبِّ الله، وحتى تأتيَ النهايةُ السعيدة، فإن حبكةَ الدكتور كريم الدراماتيكية استلزمت أن يُخالفَ حتى النص الديني، ويؤكِّد أن رمسيس الجبَّارَ قد أكرمه اللهُ بالإيمان بعد أن رأى معجزةَ فلْقِ البحر بالعصا، فنجا من الغرق والحمد لله.
ثم وفي نهاية موضوعه، يقول بذكاء أريب: «… وبعد، فهذه مجردُ آراء تاريخية قد يصحُّ بعضُها، ويُخطئ بعضُها، ولكن في قراءتها فائدة.» وبذلك يعتذر مقدَّمًا لمَن يكتشفُ أمرًا؛ فيؤكِّد أنها «مجرد آراء»، والرأيُ يحتمل الصوابَ والخطأ، لكنه ينثني للقارئ العادي المستسلم ليكمل عملية الحقن قائلًا: إنها مجردُ آراء، ولكنها «تاريخية»، حتى يُثبتَ الأمرَ عنده، ثم يُصيب هدفًا ثالثًا «سيرًا على سنة الثلاث ورقات» فيحقِّق لنفسه أهمَّ صفات العالِم وهي التواضع، متصوِّرًا ذلك يعفيه من المآخذ.
ولوجه الحقِّ فلا شيءَ خاصَّ بيننا وبين الرجل إلا الحرص على القارئ الذي يتلقَّى المعلومةَ بحسْن نية وثقة في الكاتب، والحرص على سيادة المنهج العلمي وشروط البحث العلمي دون الأشخاص، خاصة في ظروفنا الحالية، ومحاسبة مَن يتخطاه حتى ولو كان الغرضُ نبيلًا وجميلًا، فالغاية لا يمكن أن تُبرِّرَ الوسيلةَ، خاصة في مجال البحث العلمي. ونحن أشدُّ ما نكون حاجة إلى الصدق العلمي، فإنْ ذهَب بدوره، فكلٌّ إذنْ إلى ضياع.
ومرة أخرى أُكرِّر للسيد الدكتور أنه ليس من الضروري أن يكون التوحيدُ هو المجدُ الذي يجب أن تكونَ مصرُ قد اكتشفتْه، فمجدُ مصرَ لا يُنكرُه إلا حاقدٌ أو متجاهلٌ أو كلاهما، وهو إنكارٌ لا يُشكِّلُ أيَّةَ قيمة؛ لأننا نعلمه اعترافًا بدواخلهم، وعجزًا في طوايا ضمائرهم، وقصورًا في هِمَمهم، وشللًا قعيدًا في تاريخهم، هذا إن كان لهم تاريخ.