كلمَةُ تقْديم
عالم السدود والقيود الآن — عندي وعند كل عابر بسبيله — هو ذلك البناء المعزول في ناحية منزوية إلى طرف من الأطراف في بعض أحياء القاهرة الواسعة الكثيرة، كأنه يحس نفرة الناس منه ونفرته من الناس، واسمه في سجلات الحكومة سجن مصر العمومي، واسمه الشائع على الألسنة «قره ميدان».
أما يوم كنت آوي إليه ولا أرى غيره ولا أسمع بالدنيا إلا من وراء جدرانه فلم يكن بناءً معزولًا ولا كانت الناحية التي هو فيها ناحية منزوية إلى طرف من الأطراف، ولكنه كان هو العالم بأسره وبأرضه وسمائه، وكان العالم الخارجي جزءًا لاحقًا به مضافًا إليه، وتلك شيمة في النفس الإنسانية أن تنقل مركز الكون كله إلى حيث تكون، فالسجن وإن كان عند السجناء منزلًا بغيضًا يصبحون ويمسون على أمل الخلاص منه وكراهة الاستقرار فيه، هو مع ذلك محور العالم ما داموا بين جدرانه، وهو شط والدنيا كلها شط آخر يتقابلان ويتناظران، فلو ظهرت في السجن صحيفة كبيرة لكان لأخباره فيها مكان «الحوادث المحلية» الظاهر في صدور الصحف السيارة، ولكانت أخبار العالم فيه كأخبار الحوادث الخارجية ورسائل الأقاليم ومنقولات البرق والبريد، وإذا ارتقى بعضها إلى محل الرعاية والتنويه فإنما يرتقي إليه بالإضافة إلى سجين من السجناء أو حادث يدور حول عقره وحجراته وخباياه.
وهذه الصفحات هي خلاصة ما رأيته وأحسسته وفكرت فيه يوم كنت أنزل «عالم السدود والقيود» وأشعر به ذلك الشعور، وأنظر إلى العالم من ورائه ذلك النظر: لست أعني بها أن تكون قصة وإن كانت تشبه القصة في سرد حوادث ووصف شخوص، ولست أعني بها أن تكون بحثًا في الإصلاح الاجتماعي وإن جاءت فيها إشارات لما عرض لي من وجوه ذلك الإصلاح، ولست أعني بها أن تكون رحلة وإن كانت كالرحلة في كل شيء إلا أنها مشاهدات في مكان واحد، ولا أن أستقصي كل ما رأيت وأحسست وإن كنت أقول بعد هذا إن الاستقصاء لا يزيد القارئ شعورًا بما هناك، وإنه لا فرق بينه وبين الخلاصة إلا في التفصيل والتكرير، وإنما دعوى هذه الصفحات — بل خير دعواها — أنها تتكفل للقارئ بأن يستعرض عالم السجن كما استعرضته دون أن يقيم هناك تسعة شهور كما أقمت فيه.
فإن كانت الصفحات التالية عند دعواها فذاك وحده هو حقها من القراءة وشفاعتها عند القراء، وهي إذن قد اختصرت تسعة شهور طوالًا في مدى ساعات معدودات يطويها القارئ بين دفتي هذا الكتاب الصغير وهو يتفكه ولا يضيق ذرعًا بالسدود والقيود، وحسبها ذلك من نجاح.