الزيَارَة أو بُرج بَابل
كان التعجب صعبًا على أبنائنا الأولين على ما يظهر؛ لأنهم حصروا عجائب هذه الدنيا في سبع لا أكثر، وحسبوا من هذه العجائب «برج بابل» الذي كان سكانه لا يتفاهمون لأنهم يتكلمون بلغات كثيرة.
وكل بيت على الأرض هو «برج بابل» عجيب يأوي الناس منه إلى مكان واحد، ولا يتفاهمون فيما بينهم وإن تكلموا بلغة واحدة؛ لأنهم يفترقون في ألوان الحياة أبعد ما يختلف إنسان من إنسان: بين امرأة ورجل، وشيخ وطفل، ومهموم ولاعب، وقديم وحديث، ولا توجد أسباب للافتراق بين عقل وعقل وشعور وشعور أبعد ولا أوسع من هذه الأسباب التي تجتمع في بيت واحد.
كل بيت هو «برج بابل» لا يحتاج إلى أكثر من «قاموس واحد» ليصبح أعجوبة من تلك الأعاجيب التي أحصاها آباؤنا الأقدمون على أصابع يد واحدة وإصبعين اثنين من اليد الثانية!
ولكني أحسب أن برج بابل يحتاج إلى صورة هزلية تمثله كما نمثل بعض الناس في الصور الهزلية بأنف أطول من أنوفهم الطويلة، أو رجل أقصر من أرجلهم القصيرة، كلما تعمدنا المبالغة التي تعيننا على إبراز الحقيقة.
ولا أحسب أن فنانًا يجد للبرج الداثر صورة هزلية أظرف وأصدق من ذلك المكان المعروف في كل سجن بقفص «الزيارة»؛ لأنه المكان الذي يتكلم فيه الناس بلغة واحدة، ويتكلمون بأعلى ما في وسعهم من زعيق وصريخ.
وتصغي إليهم على مسافة ثلاثة أشبار فلا تفهم ما تسمع ولا هم يفهمون ما يسمعون، وثق أنهم لا يتكلمون في الفلسفة، وما أنت في ذلك بحاجة إلى توكيد.
وثق أنهم لا يصطنعون الألغاز والمعميات في التعبير كما يصطنعها المتخاطبون أحيانًا بالأصفار والرموز، ولكنهم يتكلمون في أبسط الأمور، ويجتهدون غاية الجهد في التوضيح والإنصات.
ومع ذلك كله لا يتفاهمون بالكلمات كما يتفاهمون بالظنون والإشارات.
وإذا شاء لك حسن الحظ — أو سوء الحظ — مرة واحدة أن تشهد قفص الزيارة عرفت سر هذه العجيبة، وعرفت أنها كسائر الأسرار من أبسط الأشياء؛ لأنها الشيء الذي لا يكون غيره، وهكذا ينبغي أن يكون.
أربعة أقفاص يقابلها من الجانب الآخر أربعة أقفاص مثلها على مسافة أشبار، وفي كل قفص رجل أو اثنان أو ثلاثة، وأمامهم جميعًا دقائق معدودات يقولون فيها كل ما أعدوه للقول في شهور أو أسابيع، ويحب كل منهم أن يقول كل ما عنده وأن يسبق الآخر إلى إفراغ ما في جعبته، ويتواصى كل منهم قبل دخوله إلى القفص أن يخفض صوته ولا يغطي على صوت جاره.
ولكنهم لا يبدءون حتى يختلط بينهم الكلام وتأخذهم العجلة، فإذا هم من حيث لا يشعرون قد انتقلوا من الهمس إلى زعيق المصابين بالصمم المغلق، وإذا بالسامع من وراء الجدار يسمع سؤالًا عن الزرع وجوابًا عن السوق، وكلمة عن الأبناء والبنات وكلمة عن الماشية والأنعام، ولا يدري ماذا جواب ماذا ولا هم يدرون من السائل ومن المجيب، إلا أن يرى المتحدثين رأي العين، فيفهم بالظن من ملامحهم وإشاراتهم ما يتخاذل دونه الكلام، أو أكثر الكلام.
وهذه هي الزيارة التي يتشوف إليها المسجون ويحسب دوره فيها باليوم والساعة، لا لأنه يسمع ولكن لأنه يرى، ولا لأنه يعنى كثيرًا بمن يراه ولكن لأنه ينفذ بهذه الرؤية إلى العالم الخارجي ولو بعض النفاذ.
وعلى هذا الشوق من المسجونين إلى أيام الزيارات لا تجد «مصلحة السجون» سريعة إلى شيء كسرعتها إلى انتحال الأعذار لإلغاء الزيارات عامة بحجة المرض تارة وبحجة الوباء تارة أخرى، فما هو إلا أن يشاع أن مرضًا معديًا ظهر في ناحية من أنحاء القطر حتى ينتهي خبر هذه الإشاعة إلى كل مسجون في كل زاوية من زوايا السجون؛ لأنه يصغي إلى «برج بابل» فلا يسمع فيه لغطًا ولا ركزًا، وما حاجته بعد ذلك إلى مطالعة الصحف ونشرات الأطباء!
قال لي مسجون من مدمني المخدرات حجبوه في اللحظة الأخيرة عن زيارة كان يتوقعها منذ أسابيع: إنني يوم ساقوني إلى السجن كان في بيتي اثنان مريضان بالحمى، فلماذا لم يغلقوا في وجهي باب السجن ذلك اليوم؟
قلت: إنه لمنطق سليم! فإن الحميات والأمراض وأوبئة العالم بأسره لن تحجب عن أبواب السجن هذا المدد الذي يتدفق كل يوم من خضم المجتمع الواسع، ولكن للمتهمين والجناة على ما يبدو من هذه التفرقة في المعاملة «خاطرًا» عند مصلحة السجون ليس للزوار الأبرياء.
وفي حساب بعض السجناء أن «الزيارة» قيراط إذا كان الإفراج أربعة وعشرين.
قال بعضهم لواحد من أولئك السجناء الذين فجعتهم مصلحة السجون في بعض هذه القراريط: لا تعلم «المصلحة» هذا الحساب فتعطيك أربعًا وعشرين زيارة و«تأكل عليك» الإفراج.