الطعَام ومَطالِب الجسَد
أيسر تجربة للمسائل العامة خليقة أن تؤكد لنا صحة هذه الحقيقة المأثورة، وهي أن المبدأ لذاته ليس بالمهم، أو ليس بالشيء الذي يستحق الجانب الأكبر من الاهتمام والدراسة، وإنما المهم قبل كل مهم هو تطبيق المبادئ وتنفيذها، فإن التطبيق في أيدي المصلحين قد يصلح المبادئ الفاسدة ويقوِّم اعوجاجها، كما أنه قد يفسد المبادئ الصالحة ويعكس مقاصدها إذا هو جرى على أيدي العجزة وأهل الفساد.
فليس الإصلاح إذن منوطًا بالقاعدة والنظام، وإنما هو منوط بضمان التطبيق، وحسن الرقابة على التنفيذ.
وهذه الحقيقة تسري على مسألة الطعام في السجون أشد من سريانها على مسائل الدواوين الأخرى؛ لأن الإغراء حاضر والشكوى عسيرة وتحقيقها أعسر، وخوف السجناء من الشهادة الجريئة خوف غير مستغرب من أناس مهددين مملوكين في قبضة الحراس والرقباء، موسومين بالكذب والخداع عند المشرفين عليهم والموكلين بشئونهم، موصوفين بضعف الخلق، وضعف النخوة، وضعف الغيرة على الحق، وضعف الإبانة عنه، فإذا هَمَّ أحدهم بالشكاية ثناه ضعفه فأحجم، وإذا ألح عليه الضيم فأقدم بعد وجل وتردد لم يستطع الإفصاح ولا إقامة الدليل، ولم يجد من العطف والتشجيع ما يغنيه عن حسن البيان وقدرة الإثبات، وقد يخذله زملاؤه طلبًا للسلامة وإيثارًا للزلفى ومرضاة الحراس والرقباء، فالحاجة إلى مراقبة التنفيذ في مثل هذه الأحوال أشد وألزم، والثقة بالمبادئ والنظم أقل ثقة تعهد في مبدأ أو نظام.
ولو سئلت رأيي في تعديل طعام السجن من حيث المبدأ والنظام لما اقترحت من التعديل غير القليل: زيادة جزء من المواد السكرية وجزء من الفاكهة والسماح في الشتاء بالمشروبات الساخنة، وما عدا ذلك فهو غذاء صالح كما هو قائم الآن؛ لأنه يقوم على البقول عامة الأسبوع، والخضر النيئة مرتين في الأسبوع، وتستبدل الخضر المطبوخة مع اللحم بالبقول مرة أو مرتين على أقصى تقدير، وهذا على قلته كافٍ لحاجة الجسم نافٍ للضرر الذي يصيب الإنسان من نقص بعض الأصناف.
لكن الاهتمام جد الاهتمام إنما يكون بالرقابة على تنفيذ هذا النظام، فإن العدس قد يكون صحيحًا وقد يكون منهوكًا بالسوس، والخضر النيئة قد تكون ذابلة هزيلة وقد تكون ناضرة جزيلة، واللحم قد يكون لحم حيوان شائخ أعجف سقيم، وقد يكون لحم حيوان فتًى فاره سليم، والسمن قد يكون مغشوشًا مخلوطًا وقد يكون من اللبن النقي الممخوض، والخبز قد يصنع من الدقيق النظيف وقد يصنع من الدقيق المشوب بالحصى والتراب، والفرق كل الفرق ما بين عدس وعدس وخضر وخضر، ولحم ولحم، وسمن وسمن، وخبز وخبز، وإن كانت كلها في العنوان سواء.
فالرقابة هنا هي أس النظام، والحذر من العبث والإهمال هو أولى الأمور باليقظة والانتباه.
كذلك المرضى المستحقون للبر والرحمة قد يصلون إلى مكانهم من المستشفى بغير عناء ولا كلفة إذا حسنت الرقابة واستقام الإشراف، وقد يحرم هذا الحظ من هو أهله ويعطاه من هو غير أهله إذا التوت الأمور واستفاض الخلل والإهمال.
ومن الحق علي أن أقرر هنا أنني شكوت مرة من بعض الخلل الخطير فلم ينقض يوم على الشكوى حتى أزيلت أسبابها وحيل بين المسيء وما يسيء، ومن الحق علي كذلك أن أشهد لكثير من الأطباء والموظفين في سجن مصر بالجد والأمانة والإخلاص وبذل الوسع في تخفيف الشقاء وتلطيف الآلام، فإذا قضيت هذا الحق وهو فرض لا أنساه فمن حق الضعفاء عليَّ أن لا أنسى حاجتهم إلى الرقابة الناجعة، ولا أنسى سهولة الإجحاف بهم والقسوة عليهم، إذا آلت الأمور إلى غير القادرين وغير المخلصين.
•••
على أن مسألة الطعام في السجن — سواء صلح نظامه أو افتقر إلى التعديل والتنقيح — مسألة لم تغب عن أذهان الحاكمين، ولم يغفلوا عن تقريرها بالمبدأ والقاعدة تارة وتعهدها بالرقابة والاستطلاع تارة أخرى، ولكن العجيب كل العجب أنهم قد غفلوا وتغافلوا جميعًا في مصر وفي معظم بلاد العالم عن وظيفة جسدية ليست في صميمها بأقل من وظيفة التغذية، وقد ترجح عليها بما لها من الأثر السريع في الأخلاق والآداب، ونعني بها وظيفة الغريزة الجنسية وحاجة الرجل إلى المرأة في الشهور أو السنين الطوال التي يقضيها بمعزل عن النساء، فهل في وسع طبيب أن يجيز تعطيل هذه الوظيفة في جسد صحيح ميسور الغذاء؟ وهل في وسع حاكم أن يزعم أن السكوت عنها أو إسبال الستار عليها كافٍ لإلغائها وكفيل بمحوها وإخفائها؟ وهل في وسع الحاكم والطبيب أن يرضيا عن شذوذها وتحولها كما تشذ وتتحول في مئات من الأحوال ينتهي خبرها إلى الحراس والرقباء، وفي ألوف من الأحوال لا ينتهي خبرها إليهم وإن كانت في حكم المعلوم المفهوم؟
ليس السجناء نساكًا ولا رهبانًا فيطالبوا بزهد النساك والرهبان، وليس من الصلاح لهم أن يطالبوا بذلك وهم لا يؤمنون بنية الزهد ولا يستمرئون سلوى العفاف، ولا يقصدون النسك ولا الرهبانية، فمن أعجب الدلائل على كسل العقل الإنساني واعتياده أن يحل المشكلات بالإعراض والتغابي هذه الغفلة السادرة عن المسألة الجنسية في السجون، وهي مشكلة لا تحل بالسكوت ولا تحل بالشذوذ ولا بد لها من حل، وليس من يتصدى لحلها بين الرؤساء المسئولين كأنما هي شيء غير موجود!
حدث في بعض الليالي أن استيقظ السجن كله على ضجة هائلة لا يتميز منها صوت بين صليل عشرات من الجرادل والكيزان تتساقط على الأرض أو تصطدم بالجدران، ويتخلل ذلك صياح المجروحين وعويل المضروبين وزمجرة كزمجرة الوحوش وضحك كضحك المخبولين، ثم جاء ضابط السجن وفتح الحجرة التي انبعثت منها هذه الضجة فإذا بالذين فيها وعدتهم نحو الثلاثين ممن يسمونهم بالأحداث عرايا متهتكون وإذا بالحادث كله مسألة من مسائل الشذوذ.
ويتكرر هذا الحادث وإن لم تتكرر هذه الضجة، ويبطل الحياء منه لكثرة التكرار والابتذال فيرويه بعض المتهمين على مسمع من السجناء والحراس بصفاقة كأنها صفاقة الحيوان، ومنهم من كان يساق إلى الجلد فينعى على زميله أنه خائن وأنه حانث في يمينه، ولا يحسب أن في الأمر غير ذلك ما يشين، وربما وقعت هذه الحوادث وفي الحجرة أكثر من خمسة أو ستة؛ لأن الحياء منها يوشك أن يكون في حكم المعدوم.
وقد عولجت هذه الآفة بأساليب مختلفة في أمم شتى، فسمحت حكومة الفيلبين للسجين بعد قضاء فترة يسيرة أن ينتقل إلى مستعمرة تأديبية يتصل فيها بأهله وذويه.
وقررت حكومة سلفادور أن تسمح لمن تشاء من زوجات السجناء أن تزوره زيارات أسبوعية في حجرات مستقلة.
وأضافت ولاية مسيسيبي إلى ذلك أنها تمنح السجين فترة تجريبية من شهر إلى ستة أشهر إذا استقام في أثنائها واهتدى إلى عمل صالح يرتزق منه مدت له التجربة سنة فسنة إلى آخر المدة المحكوم بها، وأعفي من العقوبة.
أخبروني في الإصلاحية التي بظاهر كييف أن تجربة السماح للسجناء — ومعظمهم من القتلة — بالذهاب إلى قراهم إبان الحصاد تجري على ما يرام، لأنهم يعودون بلا استثناء، وأمامهم تجربة أخرى وهي أن يأذنوا للسجين العامل في الحقول أن يملي على الحارس أسماء صديقاته البنات في كييف، فيجيز الحارس واحدة منهن إلى حيث تلقى السجين، وتدار الظهور وتغمض العيون عندما يوغل الفتى وفتاته في الغاب.
ويقال إنهم يعتمدون على هذه التجربة في محو الشذوذ الجنسي من السجون، فإن بقي منه أثر فكالذي يبقى في المجتمع الطليق بين المطبوعين عليه.
إلا أن الروسيين المحدثين قد عالجوا شذوذًا بشذوذ، وأدنى من ذلك إلى العرف والفائدة أن يباح للسجناء الخروج من السجن في فترات محدودة، وأن يعتبر إطلاقهم حينئذٍ مكافأة لهم على حسن السلوك ولا سيما في المسائل الجنسية، ولا شك أن السجناء يحتاجون إلى ترك سجونهم فينة بعد فينة لمطالب كثيرة غير هذا المطلب، تنفعهم وتنفع ذويهم وقد تخفف أعباء الزيارات عليهم وعلى إدارات السجون، ولعل التجربة تنفعهم أيضًا فيما لا يقع الآن في الحسبان من تقويم خلق وإحياء عبرة وتجديد ثقة وتشويق إلى نعمة الحرية، ومهما يكن في التجربة من حرج محتمل أو مقطوع به فهو دون الحرج الذي يصيب النفوس والأبدان من إكراه الغرائز وفرض الحرمان أو الشذوذ على من لا يحمده ولا يبتغيه.