الجريمَة وَالعِقاب
هذا الرجل الكيس اللبيب يروي بلسان مدير الشرطة في بعض البلاد الآسيوية قصة عن «أسرة موقرة» مؤلفة من أب وأم اشتركا في قتل زوج المرأة السابق، ولهما بنت هي بنت الخليل وإن كانت منسوبة إلى الحليل، وقد حدثت جريمة القتل؛ لأن المرأة حملت وزوجها السابق لا يشك في سفاحها إذا ظهر عليها الحمل، فدبرا الجريمة قبل أن يفتضح السر ونجحا في إخفائها، ثم انقضت الأيام والسنون والأسرة تعيش في سلام لا يعكر صفوها معكر ولا ينغص عليها العيش تبكيت الضمير ولا يجترئ أحد على الإيماء إليها بمسبة أو إهانة.
ويقول سامع القصة لمدير الشرطة سائلًا: لا أظن الزوجين قد نسيا ما اقترفا؟
فيجيبه المدير: «إني لن أدهش إذا كانا قد نسياه، فإن الذاكرة الإنسانية قصيرة الأمد قصرًا يستغرب، ولئن سألتني رأيي من الوجهة الفنية لم أحجم أن أبوح لك بأنني لا أعتقد أن الندم لاقتراف الجريمة يرين ثقيلًا على ضمير إنسان، إذا كان على يقين من كتمان سره.»
ويعود سامع القصة فيسأل: «ألا تشعر بشيء من النفرة أو القلق وأنت جالس إلى هؤلاء القوم؟ أنا لا أرغب في انتقادك، ولكني أراني مضطرًا أن أكاشفك بأنني لن أحسبهم مستطيعين أن يكونوا أناسًا لطفاء!»
فيجيبه المدير: «إنك في هذا لأنت على خطأ، إنهم ناس جد لطفاء، وهم معدودون هاهنا بين خيار القوم، والسيدة كارتريت على الخصوص «معتبرة» أنيسة المحضر، ومن عملي أن أمنع الجريمة وأن أعتقل المذنب بعد وقوعها، ولكن خبرتي بالمجرمين أكبر من أن تدعني أظنهم على الجملة شرًّا من الآخرين، وقد تدفع الضرورات رجلًا دمثًا إلى اقتراف جرم محظور فيكشف ويناله الجزاء، إلا أنه لا يندر أن يظل بعد ذلك رجلًا دمثًا كما كان، نعم إن المجتمع يعاقبه على انتهاك قوانينه وهو حق لا نزاع فيه، ولكن أعمال الإنسان ليست في كل حين هي دليل باطنه الخفي وجوهره الصميم، ولو أنك زاولت صناعة الشرطي كما زاولتها عهدًا طويلًا لرأيت أن المهم في أمر الإنسان هو كيف يكون لا كيف يعمل، وماذا هو لا ماذا صنع … ومن دواعي الغبطة أن الشرطي لا شأن له بأفكارهم وإنما شأنه كله متصل بأعمالهم، ولو كان الأمر على غير ذلك لاختلف جد الاختلاف ولعاد أصعب مما هو الآن بكثير.»
وخلاصة الرأي الذي يذهب إليه الكاتب الخبير أن كثيرًا من المعاقبين يشبهون كثيرًا من غير المعاقبين، وأن بعض الجناة إذا أفلتوا من الجزاء لم يميزهم أحد بوسم خاص أو علامة ظاهرة بين سائر الناس.
ولهذا الرأي أنصار كبار بين رجال القانون المؤهلين لدراسة هذه الأمور، وفي طليعتهم المحامي الأمريكي النابه «كلارنس دارو» صاحب كتاب «الجريمة وأسبابها ومعالجتها» وهو حجة في هذا الموضوع لسعة علمه ووفرة القضايا الجنائية التي درسها ودافع عن جناتها، والقضايا الجنائية في أمريكا مدرسة زاخرة بالمعارف والعظات، لا يتاح نظيرها في الأقطار الأوروبية أو الشرقية؛ لأن جرائم الحضارة الحديثة في أمريكا قد بلغت من الإتقان والتنوع مبلغ الفنون المحكمة التي تستنفد جهود المحققين والقضاة والمحامين.
وفي وسعنا — بل الواجب علينا — أن نفهم هذا الرأي دون أن يتقاضانا فهمه أن نتبعه ونسترسل معه إلى نتائجه البعيدة.
فمما لا شك فيه أننا نستطيع أن نؤمن بهذا الرأي، ونستطيع أن نؤمن معه بالحقائق الضرورية لمنع البغي على المجتمع، ومنع البغي على الجناة والمسيئين.
فمهما يقل القائلون في تساوي بعض المعاقبين وبعض الناجين من العقاب، فهناك حقيقتان ليس فيهما خلاف بين الباحثين في موضوع الجريمة والعقاب: أولاهما أن المجرمين الذين يشبهون سائر الناس يستحقون أن يعاقبوا؛ لأنهم مسئولون عن أعمالهم، والثانية أن المجرمين الموسومين بالشذوذ الخلقي يحتاجون إلى عناية الطب، كما يحتاجون إلى علاج الشريعة.
يرى «كانْت» أن عقاب المجرم واجب وحق، ولو لم تكن له نتيجة غير جزاء العمل بمثله ومقابلة الأضرار بالأضرار، فإن العدل البديهي يأمر بأن من يؤلم يتألم ومن يسيء يسأ، والضمير الإنساني يأبى أن يرى شقيًّا معذبًا، ومن يشقيه ويعذبه يغدو ويروح آمن السرب مستريح البال، ولو لم يتماد في الإيذاء والتعذيب.
أما أصحاب الفقه الحديث فلا يحسبون من عمل المجتمع أن يتولى تطبيق العدل البديهي على هذا المنوال، وإنما يطلب المجتمع عقاب المجرم لإصلاحه أو للوقاية من شره، وكل ما عدا ذلك عبث لا يفيد ولا يليق.
فمنذ أصبح عقاب المجرم حقًّا للمجتمع ولم يعد حقًّا للمعتدى عليه أصبح العقاب لمحض الانتقام والتشفي رذيلة لا تليق ولا تؤدي إلى المصلحة الاجتماعية، وليس يليق أيضًا أن تعاقب المجرم لردع غيره وإرهاب الناس من مثل مصيره، فإن هذا معناه كما يقول المنكرون لمذهب الردع والتمثيل أنك تعذب زيدًا لإصلاح خالد، وهذا إن صح أن العبرة بمصير المجرمين تردع أحدًا ممن تسوقهم ضرورة الطبع أو ضرورة الحوادث إلى الإجرام، وهو في اعتقاد هؤلاء المنكرين غير صحيح.
فإذا كان الغرض من العقاب هو إصلاح المجرم وحماية المجتمع، فهل السجن على أحسن نظمه ومقاصده مما يحقق هذه الغاية ويكفل للمجرم الصلاح وللمجتمع الحماية؟
الحق أن فكرة «السجن» عتيقة جدًّا ظهرت في تاريخ الإنسان قبل أن تظهر فكرة العقاب للإصلاح والوقاية الاجتماعية بآلاف السنين، فقد كان السجن في بداية الأمر مكانًا لاعتقال الأسرى أو المحكوم عليهم بالموت، ثم أصبح مكانًا للتخلص من بعض المغضوب عليهم أو الواقفين في طريق ذوي السلطان، ثم جاء العصر الحديث فحسبنا أن استبقاء السجون واتخاذها مكانًا للعقاب وتنفيذ القانون على سنة من سلف أمر لا محيص عنه ولا ضير فيه، مع أن قليلًا من التدبر يرينا أن «فكرة السجن» قابلة لكثير من المناقشة والمراجعة في العصر الحديث، وأن الأمم قد يأتي عليها يوم تستغني فيه عن السجون بتة وتعدل عنها إلى طريقة أصلح منها لتنفيذ القانون، وربما كان هذا اليوم غير بعيد بالقياس إلى ما غبر من تاريخ السجون.
أما إذا اتخذنا السجن «مستشفى» لعلاج المرضى المطبوعين على الجريمة فمن الواجب إذن؛ كما يقول «كلارنس دارو» أن نجعل توقيت العلاج في السجون كتوقيت العلاج في المستشفيات.
فنحن لا نرسل المريض إلى المستشفى ليبقى فيه سنة وإن شفي في ثلاثة أشهر، أو ليخرج بعد أيام وإن كان شفاؤه يحتاج إلى أعوام، فلا بد إذن من وسيلة لعرفان الوقت الذي يحسن فيه الإفراج عن السجين بغير ارتباط سابق بموعد معروف لا يقبل التعجيل والإرجاء.
إن تجربتي للمجرمين «المطبوعين» الذين يصلون إلى السجون دلتني على أنهم قلما يكونون إلا واحدًا من اثنين: فإما رجل معطل الحس بآلام الناس، وقد يكون معطل الحس بآلام نفسه وأقرب الناس إليه، وإما رجل مختل الإرادة لا يضبط نزواته في ساعة الهياج أو ساعة الإغراء، وكلا هذين لا تنفعه السجون الحاضرة على أحسن ما ارتقت إليه من تنظيم وتعليم، وإن حاجته إلى العلاج والعناية النفسية لأشد من حاجته إلى العقاب والإيذاء؛ لأن الإيذاء يوسع الهوة بينه وبين المجتمع الإنساني وهو محتاج إلى من يقرب المسافة بينه وبين أبناء جنسه، ويمحو من نفسه أنه عدو يحارب الأعداء ويحاربونه.
ومن اليوم إلى اليوم الذي تلغى فيه السجون، ونهتدي فيه إلى طريقة أصلح منها لحماية المجتمع وتنفيذ القانون، يخيل إليَّ أننا لا نملك وسيلة للإصلاح في هذا الصدد خيرًا من استخدام الرقي العلمي، والتقدم الصناعي، في مطاردة الجريمة، وكشف أسرارها قبل وقوعها وبعد وقوعها إلى زمن طويل، وقد نصل إلى المستطاع من تحقيق هذا المقصد إذا رفعنا طبقة الشرطة وزودناهم كما نزود المحققين بالأساليب العلمية التي تعين على مطاردة أعداء المجتمع، وتعقبهم قبل الإجرام في دور النية والشروع، وبعد الإجرام في دور الهرب والتضليل.
سألت الأب «سمرز» أن يجرب معي هذه الأداة فعمد إلى تجربة خلاصتها أن يطلعني على عشر ورقات من ورق اللعب وأن أنتقي واحدة منها في ذهني ولا أبوح بها لغيري، فأخذت ورقة القلبين الاثنين ثم عرضت علي الأوراق واحدة بعد واحدة والأب سمرز يسألني أهذه ورقتك؟ فلما عرضت علي ورقتي تعمدت الإنكار وقلت: لا، وأنا أراقب موضع التسجيل على الأداة لأرى الأثر الذي يظهر عليه، وقد حاولت جهدي أن أحتفظ بسكينتي وقلة اكتراثي ولكن الأداة الكهربائية سجلت اضطرابي اليسير جدًّا مرة بعد مرة حتى اضطررت إلى الاعتراف.
وأشار الكاتب إلى أسلوب «نفسي» يعتمد على تداعي الخواطر للكشف عن سرائر المتهمين، فإذا كانت التهمة سرقة مائة دولار في محفظة سوداء من درج مكتب، وضع المحقق خمسين أو ستين كلمة وتلاها واحدة بعد واحدة على المتهم، وطلب منه أن يعقب على كل كلمة بغير روية، فإذا تريث المسئول أكثر من ثانيتين ونصف ثانية وهي المدة الطبيعية للتعليق فهناك وجه للريبة، وإذا تليت عليه بين الكلمات كلمة مائة دولار، ثم كلمة درج، ثم كلمة مكتب، ثم كلمة محفظة، ثم كلمة سوداء وأطال الوقوف عند كل منها، فهو إذن يعلم شيئًا يريد إخفاءه ويجفل من ظهوره.
هذه أساليب مفيدة لا يحسن إهمالها وترك البحث فيها، ولكن ينبغي مع التوفر على دراستها أن نذكر: «أولًا» أن العقاقير الحاجبة للإرادة قد تمكن المحقق من إملاء الاعتراف على المتهم وإرهابه حتى يخاف الإفضاء بسبب الاعتراف، وأن نذكر «ثانيًا» أن العقول تختلف في قوة العارضة وسرعة الجواب، فيتلجلج المسئول وهو بريء ويخشى أن يحسب المحقق هذا التلجلج دليلًا على اتهامه، فيضطرب ويزداد اضطرابه كلما ألح عليه هذا الخاطر ولمح من المحقق ما يؤيد وهمه، وربما أعانت سرعة الخاطر إنسانًا آخر على تحضير الجواب المناسب دون أن يظهر عليه من الاضطراب ما يلفت النظر أو يريب.
وأن نذكر «ثالثًا» أن إتقان أساليب التحقيق لا بد أن يقابله من الطرف الآخر إتقان أساليب الإجرام، وتخصص المجرمين في دراسة أساليب الشرطة، وأساليب المحققين والاستعداد لها بما يحبطها ويتغلب عليها، فتنشأ عصابات المجرمين المعروفين «بالمحترفين» والأخصائيين، ولا يبقى من المتهمين من تفلح معهم تلك الأساليب غير الأفراد المعروفين «بالهواة»؛ لأنهم لا يجيدون الحرفة ولا يتعاونون فيما بينهم على إتقانها.
فلا ينبغي أن ننسى أن الأساليب العلمية لن تستأصل الجريمة من الدنيا، ولكنها على كل ذلك ملازمة ونافعة؛ لأنها وسيلة لا يصح إهمالها، ولا محيص لنا من استخدام كل وسيلة مستطاعة في هذه الحرب التي بقيت منذ أوائل عهد الناس بالاجتماع، وستبقى على ما نرى من أحوالنا المعهودة إلى زمن لا تعرف له نهاية.