بَعضُ الإصْلاح
في إنجلترا يقسمون المسجونين لآجال بعيدة إلى أقسام: يمتد القسم الأول إلى ثمانية عشر شهرًا، والثاني إلى سنتين ونصف سنة، والثالث أو القسم المخصوص ينتقل إليه السجين بعد أربع سنوات، ومزية هذا القسم أن يعطى فيه السجين بنسًا كل يوم ويزاد كل سنة خمسي بنس إلى أن تكتمل الأجرة اليومية بنسين ولا يزاد عليها بعد ذلك، ويباح لسجين القسم المخصوص أن يشتري التبغ والحلوى من أجرته اليومية، وأن يشتري صحيفة أسبوعية، وما شاء من الكتب المباحة، سواء من أجرته أو من هدايا أصحابه.
ومزية القسم الثاني الذي هو دون القسم المخصوص، بعض التحسين في الملابس والفراش، والتوسعة في الرياضة والألعاب، وشراء الصحف وما إليها.
ويتوقف الكثير من هذه المزايا على درجات السلوك وهي ثماني درجات لكل يوم، ومن استوفى المقدار المطلوب من هذه الدرجات أسقط عنه ربع المدة، واستحق التوصية عليه بعد خروجه لتدبير عمل ومورد معيشة.
وفي السجون مكتبات تبلغ عدة الكتب في بعضها اثني عشر ألف مجلد، وتتلى على السجناء أخبار العالم مرة كل أسبوع ملخصة من الصحف السيارة، ويباح لهم سماع الإذاعة وأغاني «الحاكي» ولعب الشطرنج وبعض الألعاب الرياضية، وتلقى عليهم المحاضرات في موضوعات شتى يختارها مدير السجن أو قسيسه، ويسمح لهم بالتمثيل وتنظيم الحفلات في أيام الأعياد، وطعامهم على العموم خير في مادته وفي تنويعه من الطعام المسموح به للسجناء المصريين، أما العقوبات فهي كما في مصر الجلد، والسجن المنفرد، وغذاء الخبز والماء.
كل حجرة على بابها مذيع، والفراش نظيف ومريح، والنوافذ المشبكة بقضبان الحديد واسعة، والأبواب تترك مفتوحة إلا ما بين الساعة الواحدة والساعة السادسة، بحيث يتيسر للسجناء أن يتزاوروا كما يحبون، وقد مررنا بحجرة مغلقة أغلقها السجين باختياره، فلما شعر بنا فتح الباب ودعانا إلى زيارته وأخبرنا أنه حكم عليه بالسجن عشر سنوات؛ لاختلاسه واحدًا وسبعين ألف روبل من مصنع سكر، وأنه مفرج عنه ذلك اليوم، وهو مغتبط متهلل بعد أن قضى في السجن ست سنوات وعشرة أشهر وخمسين يومًا، وعوفي من قضاء المدة الباقية لاجتهاده وحسن سلوكه، وقال لنا: إنه وجد وظيفة كتابية في مصلحة التجارة بسبعمائة روبل مشاهرة، وسيبدأ العمل فيها على إثر خروجه.
ويأكل السجناء في حجراتهم ريثما تبنى في السجن حجرة واسعة للمائدة العامة، ويطلب من كل سجين أن يعمل ثماني ساعات كل يوم تتخللها ساعة للطعام، وينقسم السجناء إلى قسمين فمن كان منهم أميًّا يجهل الكتابة وجب أن يتعلمها على يد زملاء له من الذين كانوا مشتغلين بالتدريس خارج السجون، أما المتعلمون فيلحقون ببعض مصانع السجن؛ ليمارسوا صناعات يدوية معظمها من قبيل الغزل والنسيج والخياطة والزركشة، ولهم على ذلك مرتب يتراوح بين ثلاثين وخمسة وثلاثين روبلًا مشاهرة، تودع بأسمائهم في خزانة السجن وتسلم إليهم يوم الإفراج، ويسمح للسجين أن ينفق حصة من مرتبه في شراء الملابس والتبغ واللوازم ما عدا المشروبات الروحية فهي محظورة، وله بعد قضاء سنة يوم إجازة كل أسبوع يقضيه في بيتهن وتزاد الإجازة إلى أسبوعين خلال السنوات التالية، أما إذا كان السجين فلاحًا فله أن يقضي ثلاثة أشهر في قريته أثناء الحصاد، وللأصدقاء والأقارب أن يزوروا كل سجين مرة كل عشرة أيام أثناء السنة الأولى، ومرة كل خمسة أيام فيما يلي ذلك من السنين؛ لأنهم يختارون من بين السجناء وتعقد لهم لجنة لمعاقبة زملائهم الذين يخالفون النظام، وإنما يقصر حمل السلاح على الحراس الخارجيين، بل قد تشرف اللجنة على تصرفات موظفي السجن، وتقترح التعديل في بعض النظم المرسومة.
وهناك جماعة للتمثيل، وأخرى للشطرنج، وقسم للتصوير، وقسم للموسيقى، وقسم لهندسة الآلات، ومكتبة فيها ستة آلاف مجلد تشتمل على التاريخ، والصناعة، والأدب، والروايات، ويشرف عليها كتبي رقيق في الثالثة والعشرين يقضي سنتين؛ لاقترافه جريمة شهوية يخجل من التحدث عنها إلا بأنها تقع تحت طائلة المادة ١٨٢ من قانون العقوبات، وقد حولوا كنيسة السجن إلى مسرح جميل، وأزالوا الحواجز التي كانت تفصل كل سجين عن زميله عند شهود العظة الدينية.
وكل يوم من أيام العمل يحسن السجين أداءه يعفيه من يوم ونصف من أيام العقوبة، وأيام العمل خمسة والسادس للراحة، ومن يقصر أو يتكاسل يعاقبه زملاؤه بالحرمان من الإجازات والزيارات، والمسليات، وبعض المزايا الأخرى.
وفي السجن حمامات معتادة وحمامات تركية ساخنة، وقد شاهدت حجرة الحلاق يغشاها عدة سجناء للتزيين والتجميل، والأجرة عشرون كوبكًا لحلاقة الذقن، وثلاثون لقص الشعر، وخمسة وأربعون للتدليك، وثلاثون للتعطير، وستون لحلق الرأس كله، أما قص الشعر كما يقص عادة في السجون فهو بالمجان.
وفي السجن صيدلية ومستشفى يديره طبيب «غير سجين» وممرضة، ويشرف على مطبخ المستشفى شيخ ظريف ذو عوارض وشوارب طوال يتلهى بلفها على أذنيه! وعقوبته عشر سنوات لقتله امرأته غيرة عليها! وطبيب الأسنان يقيم في الحجرة التي كانت من قبل حجرة سوداء، وهي الآن مضاءة واسعة النوافذ، ومن هنا وهناك في الأبهاء العامة والحجرات عمدان الدعاية، وصحف مصورة يكتبها السجناء … إلخ إلخ.
هذا نظام السجن في موسكو كما وصفه الطبيب الإنجليزي الكبير، ولم يقل لنا ما هي نتائجه في الحياة العامة، ولكنه روى على أثر هذا الوصف أن السجناء لا يحاولون الفرار ولا ينصرفون من السجن في إجازة أو زيارة إلا عادوا إليه، وهذا طبيعي لا غرابة فيه بعد ذلك الوصف، وفي وسعنا أن نتخيله بغير مشاهدة ولا إخبار.
نقول: إن هذا النظام مفرط في التوسعة والترفيه؛ لأننا نعتقد أن ضرره أعظم من نفعه، إذ المقصود من الرحمة بالسجين أن نجتنب الإيلام الذي لا ضرورة له ولا منفعة فيه، وليس المقصود أن نحول السجن إلى متعة يشتهيها بعض الطلقاء، ويؤثرونها على حياة البيت ومتاعب الحرية.
أذكر في بعض أيام الشدة والكساد التي ندر فيها الغيث وجاع الفلاحون أنه رُئِيَ من المصلحة أن يشار على القضاة بإصدار أحكام الجلد على صغار السراق، بدلًا من إرسالهم إلى السجون … فنجح العلاج وأتى بالنتيجة المطلوبة، ثم تبين أن جرائم السلب والسطو التي هي أعنف من السرقة الصغيرة تكفل لمقترفيها قضاء العقوبة في السجون، فأخذت هذه الجرائم في الزيادة السريعة، وأذكر في الأيام التي هي أروج من ذلك وأرغد أن أناسًا تعمدوا السرقة ليستريحوا في أكناف السجون …
وقد رأيت في سجن مصر من اعترف لي بمثل ذلك، ورأيت سجينًا آخر يتخفى ولا يجيب نداء الحارس الذي يدعو المطلقين كل يوم؛ لأنه يرجو أن ينساه الحارس، ويظل في السجن أيامًا أخرى بغير عقوبة!
•••
إن «نسبة» السجناء في مصر تلفت النظر بالقياس إلى كثير من الأمم في أوروبا وآسيا وأفريقيا، ويؤخذ في الإحصاء التقريبي المقارن الذي جمعته لجنة «عصبة الأمم» الموكلة بشئون الجزاء والمسائل الجنائية ونشرته قبل بضعة أشهر أن عدد السجناء في مصر يبلغ مائة وستة وأربعين من كل مائة ألف من جملة السكان، في حين أن هذه النسبة تنقص إلى نحو تسعة عشر في حكومة أيرلندة الحرة، وسبعة عشر في فلسطين، وخمسة وستين في زنجبار وستة وخمسين في اليابان، وسبعة وخمسين في أستراليا، وهي تزيد في بعض الأمم حتى تبلغ ثلاثمائة وثلاثة وثمانين في «سيراليون» ومائتين وخمسة وسبعين في إستونيا، ومائتين واثنين وثلاثين في حكومة اتحاد أفريقية الجنوبية، وقريبًا من هذه النسبة في بلاد شتى من أمم الحضارة، ولكن النسبة في مصر تلفت النظر مع هذا؛ لأن الأمة المصرية لم تشتهر بحب الإجرام كما اشتهرت بعض الأمم التي لم تألف الحضارة والنظام، فهل لإيثار معيشة السجن على معيشة البيت دخل في زيادة عدد السجناء ولو بين طبقة الأراذل والخلعاء؟
يجوز هذا في نطاق محدود وحالات قليلة، ولكن ازدياد النسبة عندنا مرجعه فيما نظن إلى سبب آخر غير إيثار معيشة السجن على معيشة البيت، وهذا السبب هو تعاقب عصور الظلم والعسف والاستبداد حتى أصبح ضحية القانون وطريدة الحاكم موضع العطف لا موضع الازدراء، وأصبح دخول السجن لا يعيب صاحبه كما يعيبه في عهود الحرية والإنصاف، وسيزول هذا السبب رويدًا رويدًا ويعجل به الزوال كلما فهم الجهلاء والمنبوذون أن الخروج على الشريعة عداوة للمجتمع وليست عداوة للحاكم الظالم والحكومة الطاغية، وسبيل ذلك هو التعليم والتربية الخلقية وإصلاح المعيشة الاجتماعية لا تصعيب معيشة السجون وتعمد القسوة على السجناء.
ونحن كما أسلفنا في حل من كل تحسين ينقذ السجناء من الإيلام الذي لا ضرورة له، والتنغيص الذي لا نفع فيه، ولا يغلو إلى الحد الذي يغري بالإجرام والاستخفاف بالعقوبة.
ومن هذا التحسين فرض الكتابة والقراءة على الأميين، وتدريب الصناع على صناعاتهم حسب الأصول الحديثة، وتعليم من لا يحسنون الصناعات حرفة يبتغون بها الرزق والمعيشة الشريفة، وتخصيص درجات لمن يجتهدون في نقص تعلم القراءة والكتابة، أو في تعلم الصناعات وإتقانها تحسب لهم في نقص مدة العقوبة وتوفير وسائل الراحة، وتخول من يحصل عليها عند خروجه من السجن أن تضمنه الحكومة في عمل أو وظيفة ولو جازفت ببعض المال لتعويض الخسائر ووفاء الضمانات، فقد ثبت أن البلاء الذي يعانيه السجين بعد السجن أشد وأنكى من بلائه بالاعتقال وضياع الحرية؛ لأن الناس ينفرون منه ويسيئون الظن به ولا يأتمنونه على سعي ولا تجارة، فإذا أمنوا عاقبة السرقة والاختلاس أقدموا على استخدامه وانتفعوا بكفاءته ولم يحذروا غدرات طبعه، واستطاع كثير من الموصومين أن يستعيدوا حظهم من حياة العمل النافع والمكانة الاجتماعية.
ولا ضير من إباحة التدخين، والأطعمة المنوعة، والملابس الخارجية، على أن يكون ذلك كله مزية يكافأ بها المستقيم، ويحرمه المقصر والمسيء، بل هذه المزايا خليقة أن توفر للحراس والرقباء أسباب العقوبة الزاجرة المعقولة، وهي حرمان السجين بعض المزايا المشتهاة إذا أساء وخالف النظام، بدلًا من معاقبته بالجلد، والمشقة، والإعنات.
فقد رأيت كثيرًا من السجناء يباهون بالقدرة على احتمال الجلد والمشقة، ولم أر سجينًا واحدًا يستخف بأكل الخبز والقفار ولزوم العزلة والحبس عن الرياضة، فإذا كثرت المزايا كثرت الرغبة فيها والاجتهاد في تحصيلها، وكثرت وسائل العقوبة الأدبية التي تليق ببني الإنسان، وقلت الحاجة إلى العقوبات البهيمية التي ترهق البدن ولا تصلح النفس، بل تعودها الفخر بما هو أدعى إلى المهانة.
والسجناء في سجون سيبريا وجزيرة الشيطان وأمثالها من سجون أمريكا الشمالية والجنوبية ينامون على أسرة خشبية، ولا ينامون على الأرض كما ينام جميع السجناء المصريين ما عدا المرضى والمحكوم عليهم في المحاكم المختلطة، فلماذا يجبر السجين المصري على الرقاد فوق «البرش» والأسفلت وهو لا شك فراش لا تحتمله بنية الهزيل المهدد بالأمراض، ولا تؤمن غوائله في الشتاء؟ إن الرقاد على لوح من الخشب ليس من الترف في شيء، ولكنه أصح وآمن وأدنى إلى الكرامة والتهذيب، فما نحن بحاجة إلى تعليم الفقراء المصريين فضيلة النوم على التراب!
هذه التحسينات كلها ميسورة لمصلحة السجون المصرية، ولها أن تظل على يقين أنها تستطيع توفيرها جميعًا، ثم يبقى السجن بعد ذلك سجنًا يخيف من يخاف ويهذب من يتهذب، بل يبقى سجنًا ومدرسة ومستشفى! وهي الأماكن الثلاثة التي تعودنا أن نهرب منها ونحن صغار ونحن كبار!