المنع وَالترخيص
كل شيء في السجن ممنوع حتى يصدر الأمر بإباحته وإلغاء منعه.
فالأصل في السجن «المنع» لغير سبب وبغير تفسير، فإذا أبيح عمل من الأعمال وأجيز أمر من الأمور، فذاك الذي يحتاج إلى سبب ويحتاج بعد ذلك إلى ترخيص واستئذان.
وإن هذه القاعدة وحدها لكافية لأن تجعل السجن سجونًا كثيرة بعضها أضيق وأثقل من بعض، ولكنها مع ذلك رحمة سماوية إذا قيست إلى الطريقة التي ينفذونها بها حرفًا حرفًا ومرةً مرةً، بغير تصرف ولا قياس ولا مراعاة للنظائر والمناسبات.
فإذا أبيح الشيء مرة فإنما يباح في حالة لا تسري إلى غيرها وفي وقت لا يمتد إلى ما بعده، فلا يمكن أن تتكرر الإباحة ولو تكررت الدواعي والمناسبات، ولا يمكن أن يباح الشيء الذي يشبهه تمام المشابهة ويجري مجراه في وصفه وفحواه ذهابًا مع القياس والاستطراد، كلا! بل كل شيء مباح بحرفه ووسمه ووقته وشخص المقصود به، فإذا تغير الحرف أو الوسم أو الوقت أو الشخص فقد بطلت الإباحة وعاد المنع كما كان!
وبعض الأمثلة غني عن الإسهاب في هذا الباب.
كان قوام طعامي خارج السجن الفاكهة والخضار الطازج ولا سيما في الصباح والمساء، وقد ميزت من الخضار الجرجير والخس، ومن الفاكهة الكمثرى الإيطالية والجوافة؛ لأن هذه الفاكهة تشتمل على خلايا وبذور تساعد الهضم بخشونتها مساعدة لا تقوم بها الثمار الأخرى.
فأما الفاكهة فقد فصلت فيها مصلحة السجون من قديم عهدها الأول فصل أنبياء بني إسرائيل في المباح والمحظور من الطعام والشراب، فهذا حلال وهذا حرام، ولا نقض بعد ذلك ولا إبرام، وليست الكمثرى مما يسمح به ذلك «الحاخام»، أما الجوافة فلم يحن أوانها من العام!
واختلف الحال في الخضار فلم يتنزل في أمره تحريم كذلك التحريم بين آيات الكتاب العظيم، ولكن كهان الهيكل قد حجروا على ما أباح الكتاب واسعًا فلبث «المنع» الأصيل في مكانه القديم لا يتراجع عنه ولا يريم!
كتبت اللجنة الطبية التي تقرر لي أصناف طعامي كل أسبوعين هذه العبارة في تذكرتي الصحية: «يصرف له خضار كالفجل والجرجير …»
فمضت أيام وأنا لا أرى غير الفجل في كل غداء، والفجل، وقاك الله، صنف يحتمله الهضم الضعيف يومًا، ثم لا بد له من أسبوع على الأقل لينساه ويجازف مرة أخرى بالرجوع إليه، فأما الفجل وحده ولا خضار غيره مطبوخًا أو نيئًا في كل غداء فذاك بلاء للهضم الضعيف وليس بغذاء أو دواء!
قلت: «فأين الجرجير؟»
قالوا: «إن الساعي الذي يذهب في طلب هذه الأصناف لا يجده في السوق، ولا يسعه أن ينتظره حتى يعبر به الباعة في الطريق.»
قلت: «وما باله لا يشتري الخس مثلًا أو الكراث؟»
قالوا: «إن اللجنة الطبية لم تسمح بغير الفجل والجرجير!»
قلت: «بل سمحت بكل خضار لأنها لم تذكر الفجل والجرجير إلا على سبيل التمثيل.»
قالوا: «لا بد من سؤالها والاستئذان منها؛ لأنها لو شاءت لذكرت أسماء الأصناف الأخرى ولم تقصر الإشارة على هذين الصنفين.»
وبديه أن السجن مدرسة كما يقولون، ولكنه ليس بالمدرسة التي ألقي فيها درسًا في معنى التمثيل بالكاف أو في معنى التخصيص والتعميم!
•••
وسمحت لي اللجنة باللبن في طعام الإفطار، فكأنها قد سمحت لي بكوب فارغ لا شيء فيه؛ لأن اللبن الذي يصل إِلَيَّ في الصباح الباكر لا يكون صالحًا للغذاء، ولا ينبغي أن يصلح لغير الإهراق قبل ذلك بساعات.
وبيان ذلك أن اللبن الذي يجلبه المتعهد إلى مستشفى السجن إنما «يسلم» في الساعة العاشرة من كل صباح.
والساعة العاشرة موعد حسن لِمَنْ يتناولون اللبن في الغداء، وموعد لا بأس به لِمَنْ يتناولونه في العشاء، على شريطة أن يكون محلوبًا في صباح يومه ولا يكون «بائتًا» متخلفًا من اليوم الذي قبله.
فأما في طعام الإفطار فأين هو المستشفى الذي يطعم مرضاه لبنًا مضت عليه أربع وعشرون ساعة في الصيف أو في الشتاء؟
وخطر لوكيل السجن الذي خاطبته في هذه المسألة عند مروره بي ساعة الرياضة أن «يتصرف» فيها بعض التصرف على خلاف القاعدة المرعية هناك، فأمر رئيس الممرضين أن يضع المقدار اللازم لي من اللبن في «الثلاجة» من ساعة وصوله حتى ساعة تقديمه في صباح اليوم التالي، عسى أن يمنع ذلك فساده وتخثره ويبقيه سائغًا سليمًا حتى موعد الإفطار.
لكن رئيس الممرضين ذهب إلى المأمور يستأذنه كما هي العادة في كل شيء، فأنكر المأمور هذا الحل «الهرطقي» لأنه بدعة عجيبة لم يتنزل بها الوحي في «الناموس» القديم، ووجب أن يهرق اللبن هدرًا وأن يلغى الإفطار عليه حتى تعود اللجنة الطبية إلى فحص جديد.
وليس يخفى أن «النظام» لا يمكن أن يمنع وضع اللبن في ثلاجة المعمل الملحق بالمستشفى أو في أي مكان يحتويه، ولا يمكن أن يمنع صيانة اللبن من الفساد بغير كلفة ولا نفقة زائدة ما دام الثلج لا ينقطع عن المعمل في صيف ولا شتاء، بل صيانة اللبن أنفع للمستشفى وأقل نفقة عليه من شراء لبن جديد لي في الصباح الباكر قبل حضور الأطباء.
ولكن «الناموس» لم ينص بالحرف والوصف على قنينة من اللبن توضع في الثلاجة لأجل سجين يُسَمَّى عباس العقاد فهو قد نص إذن على المنع والتحريم!
•••
على أن الأخطر والأغرب في باب الضحك والفكاهة، لولا ما فيه من مساس بالحياة، هو قصة انتقالي إلى المستشفى أو انتقال المستشفى إِلَيَّ، ثم ما كان بعد ذلك من فصل حكيم في هذه المشكلة العضال التي ليس لها إلا ذكاء سليمان بن داود.
وسيعجب القارئ من «عنوان» هذه القصة كما أسلفته؛ لأنه لن يتخيل أن هناك مشكلة تقوم بين مريض ومستشفى لينتقل المريض إلى المستشفى أو ينتقل المستشفى إلى المريض.
ولكنه إذا عرف القصة على جليتها لم يستطع أن يتخذ لها عنوانًا أصدق من ذلك العنوان، فهي في الواقع خلاف بيني وبين المستشفى قد انتهى — بحكمة سليمانية — على أن ينتقل هو إِلَيَّ بدلًا من انتقالي أنا إليه.
وجلية القصة أن الأطباء قرروا بعد أيام من دخولي السجن وجوب وضعي في مستشفاه ومعاملتي في اختيار الطعام والفراش وأوقات الرياضة معاملة المرضى.
ولكن ماذا حدث بعد هذا القرار؟ هل نقلت إلى المستشفى كما يقضي العقل و«النظام»؟
كلا! وإنما الذي حدث أنهم اعتبروا الحجرة التي أنا فيها ملحقة بالمستشفى وانفض الإشكال!
وقد أبلغوني ذلك الحل الحكيم فأضحكني على الرغم من مضض السجن وتعب الجسم وسوء العاقبة، وأصبحت أعذر ذلك العطار الذي حسب أنه استراح من النمل بكتابة كلمة الفلفل على حق السكر، فإن هذه الحيلة العطارية ليست بأغرب من حيلة السادة المشرفين على السجون الذين كتبوا اسم المستشفى على حجرة العنبر، فأصبحت بهذه المعجزة السحرية مكانًا صالحًا للعلاج، مشرقًا بالضياء، متوهجًا بحرارة الشمس، معزولًا من الرطوبة! ولا أحسب الفرق عظيمًا بين مَنْ يحاول تضليل العناصر الطبيعية بكلمة على حق كبير، وَمَنْ يحاول تضليل النمل بكلمة على حق صغير، فهما ولا ريب في البراعة سواء …
ولما قلت لهم: إن المستشفى فيه حجرة تدخلها الشمس ويتخللها الهواء وتصلح للإقامة فيها قالوا: «وكيف تقيم فيها؟ أليست فيها دواليب الملابس؟»
قلت: «وهل يستحيل نقل هذه الدواليب؟ أليست صحة مريض أولى بمكان في المستشفى من دولاب؟»
فدار البحث أيامًا بين السجن والإدارة العامة والأطباء والنيابة وغيرها من المراجع التي لا أدريها، ثم ظهر بعد طول البحث وشدة التنقيب أن الدولاب الأصيل أولى بمكانه في المستشفى من الإنسان الطارئ الغريب!
وغاية ما صنعوه بعد جهد جهيد أنهم نقلوني من الحجرة الأولى إلى حجرة أخرى في طرف العنبر مزيتها على زميلتها أن الشمس تنالها — في الظاهر — من حائطين اثنين بدلًا من حائط واحد.
ولما انتقلت إليها واقترحت عليهم أن يفتحوا في الحائط الآخر كوة صغيرة تنفذ منها الشمس إلى داخل الحجرة، حسبت من دهشتهم واستغرابهم أنني طلبت إليهم أن يفتحوا ثلمة في الدين أو ثلمة في نظام الدولة … سامحني الله!
غير أنهم في هذه الحجرة الجديدة قربوا الشبه بينها وبين المستشفى من وجوه مختلفة غير كتابة العنوان على الباب، فأغلقوا شعاع الباب بالزجاج وجعلوا للنافذة رتاجًا يفتح ويقفل، ومدوا إليها أسلاك النور الكهربائي الذي لا ينقطع طول الليل عن المستشفى الأصيل، ولم يفعلوا ذلك إلا بعدما استحال ترك الحجرة بغير نور، وبعدما ثبت أن بقائي في الظلام الحالك بلا قراءة ولا حديث ولا شاغل من الساعة الخامسة في المساء إلى الساعة السادسة في الصباح، أسبوعًا بعد أسبوع وشهرًا بعد شهر هو علاج وبيل لا ينصح به أحد من الأطباء.
ولكنها إباحات السجن ولا بد في طي كل إباحة من قيد أو قيود.
فالمفتاح الذي ينير ويطفئ النور لا بد أن يركب عند الباب من خارج الحجرة، ولا يصح في حكم النظام أو حكم «الناموس» أن يركب في داخلها لكي أفتحه وأقفله حين أحتاج إلى فتحه وإقفاله.
وهو في تركيبه خارج الحجرة يظل معرضًا لكل سجين يعبر بالعنبر أو يمشي في الدور، ولا يكون معرضًا لسجين واحد يحرص عليه؛ لأنه ينير له ويعينه على شأنه، ولكنه النظام ولا تفسير ولا تأويل لِمَا يقضي به النظام!
فإذا فرغت من القراءة الساعة العاشرة أو الحادية عشرة أو الثانية عشرة، فسبيلي أن أقرع الباب السميك أستدعي الحارس ليتولى هو بيديه «شعائر إطفاء النور»، فإذا كان قريبًا متيقظًا في تلك الساعة فالخطب هين، والدعوة لا تطول إلا ريثما تجاب، أما إذا ابتعد أو نام فالحل الوحيد في حكم النظام هو إزعاج السجناء الذين معي في الدور جميعًا لإدارة المفتاح الصغير، فإن لم يكن هذا فمبيتي سهران إلى الصباح؛ لأن أعصاب عيني لا تألف الغمض في الضياء.