أخلاق (١)
الألفة شرط المعرفة.
ولا تصدق هذه القاعدة على شيء كما تصدق على أخلاق الناس، واستطلاع أسرار الإنسانية التي لا تنكشف — وليس في الوسع أن تنكشف — من اللقاء الأول.
فنحن لا نعرف شعبًا من الشعوب ولا فردًا من الأفراد حق عرفانه حتى نقاربه ونعاشره، ونزيل ما بيننا وبينه من حجاب الغرابة الذي يمنعنا أن ننفذ إلى قرارة نفسه ونتغلغل إلى بواعث أعماله ومناشئ إحساسه، وما يراه هو طبيعيًّا عاديًّا في نظره ويراه الآخرون في أنظارهم غريبًا أشد الغرابة بعيدًا أشد البعد من العادات المألوفة.
لكن الصعوبة في الأمر أن الغرابة مانعة للمعرفة من جهة ولازمة لها من الجهة الأخرى.
مانعة للمعرفة؛ لأنها تحجب عنا الأسرار التي تنطوي وراء الظواهر ولا تنكشف إلا بانكشاف الأستار والحواجز.
ولازمة للمعرفة؛ لأن المعرفة هي التمييز والفصل بين الحدود، وكيف ترانا نميز إنسانًا من إنسان، إذا نحن لم نشعر بوجود الاختلاف والغرابة بينه وبين غيره؟ أو نعتقد أنه مخلوق غير الخلائق الأخرى في دخيلته وظاهر أمره؟
لهذا كانت المعرفة الحقيقية أصعب الأشياء وأدعاها إلى اليقظة والانتباه؛ لأنها تفرض على النفس أن تجمع بين النقيضين في وقت واحد، وترى الشيء غريبًا ومألوفًا في حالة واحدة، وإنما يكون تذليل هذه الصعوبة بإشراك الشعور والخيال والعقل في البحث عن الأمور التي نبتغي عرفانها والنفاذ إلى بواطنها، فما يراه العقل متناقضًا مختلفًا يجمعه الشعور في نور واحد ويتولاه الخيال بالتقريب أو التبعيد حتى تتمكن النفس من إدراكه واستيعابه على حقيقته التي تخفى عن الحس والمشاهدة.
وفي السجن يعاني الباحث هذه الصعوبة بعض المعاناة حين يراقب أخلاق السجناء ويعالج التمييز بينهم وبين سائر الناس في الطبائع والعادات، فهو يراهم مئات وألوفًا ولا يرى غيرهم في حالة تعارض حالتهم ومعيشة تفترق من معيشتهم، فيسبق إليه — من ثم — أنهم وسائر الناس على حد سواء في جملة الأحوال، وأنك تستطيع أن تبدل ألفًا منهم في جنح الظلام بألفٍ مِمَّنْ يعيشون خارج السجن دون أن تحس الفارق بين هؤلاء وهؤلاء عند طلوع الصباح!
إِلَّا أن هناك أمرًا خليقًا أن يهون هذه الصعوبة ويزيل اللبس والاختلاط بعض الإزالة، وذاك أن المسافة بين هذه البيئة «السجينة» وبين الباحث الغريب عنها تظل بعيدة مفصولة مهما يطل الوقت ويبطل الفارق في مكان الإقامة، فتبقى بينه وبينها على طول المدى وقرب الجوار مسافة كافية للرؤية الصحيحة والتمييز الواضح.
•••
ومن السهل على مَنْ يراقب أحوال هؤلاء السجناء أن يقسمهم قسمة عاجلة إلى طائفتين من المجرمين مختلفتين في البواعث والأخلاق وضروب الإجرام.
فهناك مجرم الاعتداء الذي لا يبالي إيلام غيره.
وهناك مجرم الخسة الذي لا يبالي ما يجلبه على نفسه من العار والمهانة.
وأظهر ما يبدو من خلائق المجرم الأول — مجرم الاعتداء — أنه جامد الحس من ناحية الشعور بالألم على إطلاقه، فهو يتحدث عن أفجع المصائب وأشنع حوادث القتل والتعذيب كأنه يتحدث عن فكاهة لا إزعاج فيها للسامع ولا للمتكلم، وقلما يدرك استغرابك إذا أنت استغربت هذه اللهجة منه في وصف الفظائع والموجعات دون التفاف منه إلى وقعها أو مبالاة فرائسها أو المستمعين لقصصها، وقد كان في الدور السادس — وهو الدور الذي فوق دورنا الخامس في عنابر السجن — فتى من قرى الصعيد قتل أخته في القاهرة؛ لأنها هربت من أهلها ولاذت بدور البغاء، فتعقبها حتى عثر بها في الدار التي تسكنها، وراوغها أيامًا وهو يخفي عنها قصده حتى اطمأنت إليه وسالمته ومهدت له صنوف المتعة بصواحبها وجاراتها، وهو يتحين الفرصة لقتلها في غفلة عَمَّنْ حولها، إلى أن سنحت له ذات يوم ففاجأها بطعنة سكين وانقض عليها بالطعنات دراكًا حتى فارقت الحياة، ففي ليلة من ليالي السجن طاب له السمر واستدرجه زملاؤه في الحجرات المجاورة له إلى شرح قصته، فما راعني إلا أن أسمع هذا الفتى يصف قتل أخته، وكيف غرر بها، وكيف تناول الطعام معها وهو يخفي السكين في ثيابه، ثم كيف طعنها بعد ذلك، وكيف صاحت به تناديه باسم الأخوة وتناشده حرمة المشاركة في الأمومة، ثم كيف قضى عليها واحتز رأسها وسافر به إلى بلده ليريه أنداده وقرناءه الذين عيروه من قبل واستطالوا عليه. فلو أنه كان يتكلم عن ذبح شاة أو دجاجة لما اختلف الأمر ولا تباينت اللهجة، ولا كان أقل من ذلك مبالاة بِمَا يقول واسترسالًا في النكات والمزاح كلما عبث به أصحابه وتعمدوا إحراجه واستفزاز طبعه، وليس هذا كله من الغيرة على العرض والنخوة للكرامة، فإن الغيرة على العرض تثير الغضب والنقمة ولكنها لا تخلق البلادة ولا تعمي الإنسان عما صنع بعد فوات الثورة وسكون الهياج ويقظة النفس للذكرى والاستعبار والأسف على ما كان من سبب القتل والاضطرار إليه.
ومع هذا ربما كان لهذا الفتى القروي الجاهل الخشن عذره من عادات قومه وشدة الغيرة في نفسه، وربما كان يبالغ في الاستخفاف بفعلته لتخدير شعوره والأنفة من الندم على شيء هو من واجبه في شرع فتوته وفي شرع أبناء بلده، ولكني سمعت فتى متعلمًا يباهي بقليل ما تعلم من الدروس الابتدائية والثانوية ويكلم سجناء «الحماية» باللغة الإنجليزية ليدلهم على حظه من الدراسة، ويريهم أنه سليل طبقة غير طبقة المسجونين معه في مثل جرمه، وكان قد حكم عليه بالسجن خمس سنوات لاشتراكه في جماعة مؤلفة للسطو على الأغنياء، فلما استدرجوه ذات ليلة للكلام عن سبب سجنه لم يتردد في ذكر السبب الصحيح، ولم تبد على كلامه مسحة من الندم والخجل، وإنما كان يبدو عليه الزهو بانتمائه إلى جماعة لها فروع وقرارات ورؤساء أقسام واجتماعات ومداولات، وكان يتحدث عن قتل مَنْ تقرر عندهم قتله كأنه يتحدث عن عقبة يفخر بالمهارة في إزالتها، ولا يفرض لها حياة تصان وتتعلق بها الآلام والأحزان.
وقد كنت أسمي هذه البلادة في هؤلاء المنكوبين «أنانية» أو إمعانًا في الأثرة العمياء لو كانوا يشعرون بالألم في نفوسهم ولا يشعرون بالألم في نفوس غيرهم، ولكنهم على ما علمت من أطوارهم الكثيرة محجوبون عن شعور الألم حيث كان، فلا يحسونه في أبدانهم ولا في ضمائرهم كما يحسه الآخرون فيما يعتريهم من المؤلمات الجسدية والفكرية، وربما ضرب أحدهم رأسه بالحائط ضربًا عنيفًا داميًا ليتهم غيره بضربه، أو ربما وخز نفسه وعرض أعضاءه للتلف؛ من أجل أيام قليلة يطمع في قضائها بالمستشفى أو تحت الرقابة الطبية، وقد قطع أحدهم بضعة من جسمه بحديدة كليلة يكتبون عليها في السجن رقم السجين ولا تصلح للقطع إلا بجهد شديد؛ لأنه قَدَّرَ أن هذه الفعلة قد توقع مأمور السجن في عقوبة أو شبهة إهمال!
فالآفة عند سجين الاعتداء إنما هي آفة نقص في وظائف الشعور وليست آفة «الأنانية» على معناها الشائع المفهوم، وليس ببعيد أن يجرم الإنسان لفرط الشعور بالألم كما يجرم لقلة الشعور به في نفسه وفي غيره، ولكن هذا الصنف من المجرمين نادر جد الندرة بين مَنْ شهدت في سجناء «قره ميدان».
أما مجرم الخسة الذي لا يبالي العار والمهانة فهو حقير بين ضراة المجرمين المعتدين، يقولون عنه إنه «نتن» يدخل السجن في غير طائل، ويصبر على الإهانة وسوء المعاملة من المساجين ولا يستثار.
ومعظم ما يقترفه هؤلاء المجرمون «الأخساء» مقصور على صغائر السرقات والاحتيال على الصغائر والأغرار وما إلى ذلك من جرائم النذالة والطمع الوضيع.
وهم في الحق «نتنون» كما يقول عنهم زملاؤهم من أصحاب الضراوة والاعتداء: شعورهم بالعار ضعيف وشعورهم بالزهو أضعف، ويعترفون على إخوانهم علانية بأقبح الرذائل في غير حياء ولا إحساس بفقدان الحياء، ومع هذا تأبى الطبيعة الإنسانية أن تحرم أحدًا نصيبه من الزهو والمباهاة ولو كان من أدنى الأدنياء، فحتى هؤلاء يزهون فيما بينهم ببعض الخلال، ويأخذون على أنفسهم بعض العيوب، وبماذا يزهون؟ يزهون بالافتنان في أساليب النذالة والاحتيال الشائن المرذول، وعلى مَنْ يعيبون؟ يعيبون على الجهلاء بتلك الأساليب! وعلى المحدثين في الإجرام؛ لأنهم بلهاء لا يفهمون الخدع و«المصطلحات» التي يفطن لها ذوو الدراية بالسجون! وهم في كل حال لا يعدون الزهو الرخيص الذي لا يكلفهم جهدًا من الجهود.