الوعْظ
من المناظر — ولك أن تقول من المسامع — القليلة المؤنسة في السجن حلقات الوعظ التي يعقدونها بين حين وآخر، ففيها يتسنى لِمَنْ بالسجن أن ينظروا إلى اجتماع إنساني يخاطب فيه السجناء خطاب أصحاب النفوس التي قد يثمر فيها الكلام وقد يرجى لها العلاج!
رأيت أول حلقة من هذه الحلقات يومًا من أيام الاثنين على ما أذكر، إذ كان بعض الحراس ينطلقون بين الحجرات ينادون: «المسيحيين المسيحيين» وأنا أعجب لهذا النداء ولا أدري لماذا يجمعون المسيحيين وحدهم دون بقية السجناء، وقبل أن أسأل أحدًا عن القصة رأيت الواعظ المسيحي في ثيابه السود، فذكرت الوعظ في السجون وانتظرت أثناء الرياضة الصباحية حتى أسمع ما يقول باسم الدين لهؤلاء الخارجين على الشرع والقانون.
وما هي إلا لحظات معدودات حتى أقبل السجناء المسيحيون أفرادًا متفرقين من مذاهب شتى لا تجمعها كنيسة واحدة، فجلسوا بين يدي الواعظ القرفصاء إلى زاوية مشمسة في فناء السجن، وجلس هو على كرسي وفتح التوراة وأخذ يقرأ منها ما صادفه من القصص، ويشرح معناها بصوت يعلو ثم يعلو حتى يسمعه مَنْ في الميدان القريب.
ومنذ ذلك اليوم كان يطيب لي أن أشهد هذه الحلقات وأسمع ذلك الواعظ كل يوم اثنين؛ لأنه كان يتحدث عن قصص التوراة حديث الحاشية المخلصة عن النوادر الملكية التي تقع بين كبار السلاطين وكبار الأتباع ذوي الدالة عليهم، وكان يروي التجارب التي يبلو بها الله أنبياء بني إسرائيل كأنها مفاجآت الأب الشيخ الحكيم حين يمتحن مدارك الأبناء الصغار، ويغتبط بما يراه من حيرتهم البريئة وضعفهم المستسلم، ويضحك أحيانًا ضحك العطف والرجاء حين يكشف لهم عن دعواهم القاصرة وغرورهم المتعجل، فيطيب لي أن أرى التوراة منقولة إلى عالم الخيال الفطري والتصوير الشعري والتمثيل الفني الذي لا تكلف فيه.
وكان من عادته إذا فرغ من شرحه ووعظه أن يطلب إلى أحد السجناء أن ينهض للصلاة والدعاء ويجهر بما يجيش في نفسه ونفوس زملائه، فمنهم مَنْ يحسن الكلام ومنهم مَنْ يتعثر بالألفاظ المألوفة في الأدعية والصلوات، وكل أولئك مما يستحب الإصغاء إليه والتأمل في مغزاه.
ولا أحسب أن أحدًا منهم كان يجيد الكلام في دعائه وصلاته كما كان يجيده رجل من أضراهم بالشر وأولاهم بالعقاب وأسوئهم سيرة بين السجناء، وإن شهدوا له بالبراعة والذكاء: وهو تاجر مخدرات مشهور.
سمعته مرة يصلي ويذكر خطايا الخاطئين وآثام بني الإنسان … فسألت عنه فقيل لي هذا فلان صاحب الحيل المعروفة في ترويج المخدرات، وكنت قد سمعت عنه وعن قضاياه وأحابيله في إيقاع صرعاه، وإغرائهم بتناول السموم وإدمانها، فقلت: لو كان هذا المصلي الخاشع يدعو الله ليستجاب دعاؤه لما دخل السجن، ولا قام مقامه هذا للصلاة فيه! ولكنها حيلة جديدة من حيله الكثيرة، ولعلها أيضًا من حيل التخدير!
•••
ويتردد على سجن مصر عدة من الوعاظ المسلمين بين الصبيحة والظهيرة، ولكن في غير موعد مقرر أو يوم معلوم.
فإذا وصل أحدهم إلى السجن جمعوا له سجناء دور من الأدوار في ساحته الأرضية، وجلس هو على كرسي أمامهم ينصح لهم ويحذرهم عقاب الآخرة بعد عقاب الدنيا على طريقته في النصح والتحذير.
فبعضهم كان يحفظ خطبه ويعيدها كما هي كل مرة بعد تحوير طفيف لا يقدم ولا يؤخر، وهو يحاول أن يذهل سامعيه من السجناء عن هذا التكرار برفع الصوت والتلبس بالغضب والصرامة في الزجر والإنذار، ويمضي في تكراره مطمئنًّا إليه؛ لأنه يعظ في كل مرة سجناء دور واحد من أدوار السجن الكثيرة، وتنقضي مدة طويلة بين العظتين في الدور الواحد يخيل إليه أنها كفيلة بالتشكك والنسيان.
وبعضهم يتوخى الطريقة العصرية في اختيار المناسبات، واتخاذ المناسبة الأخيرة من بعض الحوادث الطارئة التي لها مساس بأحوال سامعيه.
وبعضهم يعتمد على التأثير بالسن والمهابة والسمت والثياب الفاخرة، ويحيط عظاته بمراسم طنانة كأنها مراسم أصحاب العزائم والتعاويذ.
وكان يعنيني أن أراقب السجناء حين يحضرون إلى العظات وحين ينصرفون، لأرى كيف يقبلون عليها وكيف ينصرفون عنها وكيف — فيما بين ذلك — يستمعون إليها؟
فبدا لي أن أناسًا منهم يحضرونها بروح الهازئ المستخف الذي يتحدى الواعظ بشقاوته واستعصاء أمره، وكأنما يقول بينه وبين نفسه: (هلموا إلى ذلك الرجل الطيب الذي يحسب أنه يفهم من الأمور ما لا نفهم، لنرى كيف يعلمنا العقل والدربة، ويصلحنا بكلماته وتهويلاته.)
وأناس منهم يرحبون بساعة الوعظ كما يرحب التلميذ بساعة لعب يستريح فيها من حصة الدراسة، ويأنس فيها بالجلوس بين إخوانه في شيء من الطلاقة والسماحة.
وأناس آخرون يرحبون بساعة الوعظ؛ لأنهم يغتنمون فيها الفرصة حين يزجرهم الواعظ ويصب عليهم اللوم والتبكيت، ليبثوه الشكوى من قسوة الحراس وجور الأحكام، ويلقوا شيئًا من اللوم على (النظام) وشيئًا من اللوم على الأيام.
ولا تخلو جموعهم من أفراد تلمحهم عند انصرافهم منكسي الرءوس كاسفي البال من أثر الوعظ أو من تداعي الخواطر واسترسال الخيال، وربما سمعتهم يرثون لأنفسهم ويندمون على ما فرط منهم، ويودون لو هداهم الله وردهم أناسًا كسائر خلقه لا يعرفون المحاكم والسجون، ولا يبتغون العيش إلا من الرزق الحلال، ناعمين وادعين بين الأمهات والآباء والأزواج والأبناء، ثم يعلقون ذلك كله على القدرة والاستطاعة، وهم مستقرون في ضمائرهم على أنهم لا يقدرون ولا يستطيعون؛ لأنهم لا بد لهم من العيش وكسب الرزق، وهم يشكون بوار الصناعات وشح الناس وندرة الأعمال.
•••
على أن أثر الوعظ في الجملة ضعيف سريع الزوال، وقد يبلغ من ضعف أثره وسرعة زواله أن ينقضه بعض سامعيه في ساعة سماعه، وأن يصبح الواعظ نفسه هدفًا يرميه أولئك الخبثاء، وصيدًا يصيدونه، ودليلًا يثبتون به أو يثبتون فيه بطلان وعظه وضياع جهده وعبث رجائه، حتى يخيل إلى الإنسان في هذه الحال أن حلقة الوعظ إنما هي حلقة سباق وصيال بين الجريمة والهداية، تلتقيان فيها لتنظر كلتاهما أيهما هي الأقدر على الظفر بالأخرى وتعريضها بين المتفرجين للهزيمة والسخرية! انتقامًا منها لاعتدادها بنفسها وسوء ظنها بقوة غريمتها! وقلما تتمثل حلقة المباراة هذه في شيء كما تتمثل في القصة التالية التي سمعتها من أحد موظفي السجن، والعهدة على راويها.
أعرف واعظًا مشهورًا يطوف بلاد القطر ويحب أن يتخذ له أبناء من موعوظيه في كل بلدة وكل إقليم، يرعاهم رعاية أبوية ويسره أن يرى منهم حفاوة البنوة وتحيتها، ويمد يده للتقبيل كلما انتهى من وعظه غير ممتنع ولا ناظر إلى تقبيل يده إلا كما ينظر الأب إلى تحية الاعتراف والشكر من ولده.
وشاخ الواعظ الذي أعنيه وضعف عن الطواف في أنحاء القطر، ولكنه لم ينقطع كل الانقطاع عن الوعظ في السجون وإن أطال الفترة بين عظاته كلما تقدمت به السن.
وجاء الشيخ يومًا وهو لا يكاد يقوى على الجلوس والحركة إلا بمعونة معين، فأسهب في نصائحه على عادته وملأ السجن بأصوات الدعوات يلقيها على سامعيه، ثم يطلب منهم تكريرها مرات متواليات بنغمة مرتلة يلقنهم إياها وهو يهتز بينهم على نغمة ترتيلها، أو يتركهم يعيدونها ويسبح في غيبوبته العلوية حتى يفيق منها!
فلما ختم عظاته وترتيلاته تدافع السجناء حوله يهمون بتقبيل يديه والتماس البركة منه فإذا هو يحجم عنهم ويصيح بهم صيحة منكرة: «مكانك يا ولد! إياك أن تقترب يا ولد! من بعيد يا ولد!» كأنه يرتل هذه الكلمات على طريقته في ترتيل النغمات!
قلت لبعض الموظفين مِمَّنْ اتفق وجودهم على مقربة مني: «ما خطب الشيخ يأبى تقبيل اليد من هؤلاء؟ أزهادة منه في السجناء؟ أم زهادة في هذا الصنف من قبلات الأبناء؟»
قال: «لا هذا ولا ذاك، ولكنه معذور لأنهم سرقوه مرة ويخشى أن يعيدوا عليه الكرة، فهو يجانبهم هذه السنوات ويستعيض الله خيرًا من تلك القبلات.»
قلت: «يا سوء هذا التقريظ! أيسرقون واعظهم وهم في دار العقاب؟!»
قال: «لقد فعلوا جزاهم الله من أبناء عققة، وفعلوها في يوم تجلى فيه الأستاذ فاختلب القلوب وأبكى العيون، وأرسل يديه لهم ينكبون عليهما بالتقبيل ويوسعونه من التمسيح والتبجيل، وهو يحسب أنهم ينتصحون ولا يسرقون، وينتفعون بما يفعلون، فقد أشبعهم وعظًا وهداية فأشبعوه اعترافًا ورعاية.»
وذهب إلى حجرة المأمور وقد رضي عن نفسه وأحب أن يكافئها بعطسة أو عطستين من عطسات الإيمان والتشميت برحمة الله. فضرب يده في جيبه الواسع فإذا علبة السعوط ضائعة، وأسرع إلى مكان الساعة الذهبية الثمينة فإذا الساعة ضائعة! وكيس النقود أين هو؟ لا ريب أنه لن يبقى في الجيب إذا فارقته الصاحبتان الحميمتان!
«وطارت بقايا الوعظ من رأس مولانا، وصاح بالمأمور يستغيث، فأكبر الرجل أن يصاب الأستاذ في كفالته بهذه الخسارة الفادحة؛ لأنها خسارة في وعظه وفي ماله، فجمع السجناء الموعوظين ولما يستقروا بالحجرات، وأقسم لهم لينكلن بالسارق شر تنكيل إذا هو اهتدى إليه ولا بد أن يهتدي إليه، فلينقذ نفسه مَنْ شاء السلامة ولا عقاب عليه.
فأما علبة السعوط فقد عادت فارغة؛ لأن «الشطار» أحرص من أن يفلتوا من أيديهم شيئًا فيه رائحة الدخان.
وأما الساعة فقد عادت لأنها لا تنفع، وعاد معها كيس النقود؛ لأن النقود التي فيه أكبر من أن تبلع، وسئل السارقون: كيف تجترئون على الأستاذ وتستحلون ماله وعتاده وتزدرون وعظه وإرشاده؟ فقال خبيث منهم: ما اجترأنا عليه ولا سرقناه، وإنما هي بركة من مولانا نغتنمها ونتقرب بها إلى الله!»
قال الموظف الذي يقص عَلَيَّ ما رآه: تلك قصة الشيخ. فهل يلام إذا هو ضن بهذا المال المبارك وفرَّط في القبلات؟ وهل عليه جناح إذا هو أشفق من هذا الإفراط في اختلاس البركات؟!
•••
ونحسب أننا نظلم السجناء إذا أحلنا الذنب كله في فشل المواعظ على رداءة طباعهم واستعصاء أدوائهم، فالواقع أن المواعظ على أحسن حالاتها لا تشفي غلتهم ولا تخاطبهم بما يناسبهم ولا تتحرى دخائلهم ومواقع التأثير والإقناع من طواياهم، والواقع أن إصلاح الأخلاق عسير في السجون، وهي على نظامها القامع الذي يفرض الكبت على الطبائع، ويشل وظائف الحياة في جسوم قوية ونفوس لا تقصد العفة لطهارة أو قداسة حتى يقال إنها تستفيد بالرياضة وعلاج الشهوة والإرادة.
وأشد من ذلك إيذاء لأخلاق السجناء أنهم يفقدون في السجن الدرس الوحيد الذي هم مفتقرون إليه.
فهم أناس منحرفون يجزيهم القانون بما يجزيهم به حين يعتدون ويسلبون؛ لأنهم يؤمنون بالعنف والقوة ولا يؤمنون بالحقوق وآداب الاجتماع، ويعتقدون أنهم في حرب مع المجتمع من غلب فيها ظفر ولا جناح عليه، فإذا استطاع أحدهم شيئًا فعله ولم يحسب حسابًا لما يجوز له وما لا يجوز.
فماذا يلقون في السجن من معاملة السجانين؟ يلقون من معظمهم ما يثبت في نفوسهم تلك العقيدة ويزيدهم إيمانًا بأن الأمر قائم على العنف والغشم واعتداء مَنْ يستطيع العدوان ويأس الضعيف المغلوب من إنصاف ذوي السلطان، فيبطل درس الشريعة والأدب ويبقى درس الواقع الذي شبوا عليه من نشأتهم الأولى ووجدوا مصداقه في السجن ومباءة الإصلاح والتوبة، وكيف يراد منهم أن يعدلوا عن ذلك الدرس ويرتابوا في صدقه وهم لا يجدون إلا ما يؤيده ويزكيه!