الفصل الأول

شخصية إخناتون وشخصية موسى

ليس هناك باحث تناولَ بدراسته النبيَّ موسى، إلا وذكر الفرعون إخناتون، فرعون التوحيد، قياسًا على عقيدة التوحيد اليهودية، إضافةً إلى كثيرٍ من الأبحاث التي قامتْ على العلاقة بين العقيدة الآتونية، التي نادى بها الفرعون إخناتون في مصر، وبين عقيدة التوحيد الموسوية. وقد أدى إلى هذا التداعي لأحدهما — كلَّما ذُكر الآخر — عددٌ من العوامل التي تَشي بعلاقةٍ ما بين العقيدتين، بل ربما بين الشخصين.

وأول الملاحظات تلك التي لاحظها علماء المصريات، تتعلق بالاسم «موسى»، فالاسم مصري قح، فالكلمة المصرية القديمة مس تعني «أنجب» أو «ولد»، وتدخل في تركيب أسماء مثل «تحوت مس»، و«رع مس». لكن كلمة موسى قد تحتمل معنًى آخر هو بدوره مصري أيضًا، فربما كانت مُركَّبة من الشقين «مو + سا»، والكلمة «مو» وحدها تعني «ماء» (مو )، والكلمة «سا » تعني «ابن». ويعني اسم موسى بذلك «ابن الماء»، وهو اسم يشرح ويفسر الحدَث الذي ترويه التوراة؛ إذ عثرت عليه ابنةُ الفرعون في سفط بالماء، فأطلقَت عليه الاسم الذي يليقُ به حال العثور عليه، وهو ما تُفصح عنه كلمات التوراة؛ إذ تقول: «ودعت اسمه موسى، وقالت: إني انتشلته من الماء» (خروج، ٢: ١٠). وعلى كلتا الحالتين، فالاسم مصري قح.

وكانت هذه الملاحظة الأولى التأسيسية مدعاةً للقول إنه ليس فقط الاسم هو المصري بل الشخص بذاته، وهو ما رأيناه عند فرويد في كتابه «موسى والتوحيد»، الذي تركَنا نستنتج أن موسى كان أميرًا مصريًّا من البيت المالك، ولم يكُن أبدًا راعيًا عبرانيًّا.

تلك كانت الملاحظة الأولى عن علاقة موسى بمصر، وهو الأمر الذي يؤكده المقدس في تاريخه، حيث يروي لنا المقدس أن موسى رُبِّيَ في بيت الفرعون كابنٍ بالتبنِّي، بعد أن رَمَت به أمه في سفط بالنهر، وعثرت عليه ابنة الفرعون كما تقول قصة التوراة، أو زوجة الفرعون كما يقول القرآن، فالقصة هنا تريد القول إنه من أصول عبرانية، لكنه رُبِّي في القصر الفرعوني الحاكم بمصر.

ولأن فرويد كان يرى موسى مصريًّا بالميلاد والعنصر والثقافة، فقد أعطى بعض الإشارات التي تترك القارئ يستنتج أن قصة التوراة عن عبرانية موسى كانت أكذوبة بالكامل. فلم يكُن لهذا الأمير المصري أية علاقة ببني إسرائيل، وكان مصريًّا بالجنس والاسم، ويبدو أنه أمير من البيت المالك، و«من قرابة الفرعون المصري إخناتون» أول مَن نادى بالتوحيد في التاريخ الإنساني المعروف. وقدَّر فرويد أن موسى آمنَ بعقيدة سيده الفرعون بشدة، واقترب من الفرعون وأثبت إخلاصه العميق له، وربما حلم هذا الرجل (موسى) بعرش البلاد بعد إخناتون، بحكم تلك العلاقة القرابية، وبحكم إثباته الولاء والإخلاص لسيِّده الفرعون ولديانته الجديدة.

وعندما سقط إخناتون وديانته بانقلاب قام به كهنة آمون أو العسكر أو كلاهما بالتحالف، أُسقط في يد موسى، الذي كان في ذلك الوقت قائدَ الحامية الحدودية في شرقيِّ الدلتا. فهو إنْ عاد إلى طيبة سيظل مشكوكًا في ولائه لآمون وعقيدة البلاد، وفي هذه الحال لن ينالَ شيئًا، بل ربما لحقَتْه بعض الأضرار التي تلحق بالمهزومين، وربما حُوكِم باعتباره كان من المتحمِّسين لسيده وديانته. وهكذا ضاع حلمه في حُكم الإمبراطورية من الداخل، فتوجَّه بديانته إلى العبرانيين الذين كانوا مُستبعَدين على حدود الدلتا الشرقية، وخرج بهم من مصر، ليُقيم بهم دولةً بدلًا عن الدولة التي فقَدَها؛ فقد كان الموقف مصيريًّا؛ إما العودة والمحاكمة، وإما القرار التاريخي الجريء. وبالفعل خرج يقود الإسرائيليين في سيناء، بعد أن علَّمَهم عقيدةَ سيده إخناتون الآتونية، لكنَّ الإسرائيليين الأجلاف لم يحتَملوا قوانينَ وقواعدَ تلك العقيدة الراقية، فقتلوا سيدَهم في سيناء، وتحولوا إلى عبادة العجول القديمة، ثم بعد زمان شعَروا بالذَّنب تجاه هذا السيد وربِّه فعادوا إليها، لكنها العودة التي شابَتْها مصريةُ المؤسس الأول والحقيقي لديانتهم المُلتبسة بقوميَّتِهم. ورغم أن فرويد لم يقُل ذلك صراحة، إلا أنه الاستنتاج الذي لا بدَّ أن يصِلَ إليه القارئ اللبيب؛ فقد قام الإسرائيليون يسلخون موسى عن مصريته، رفعًا لتلك الوصمة التاريخية، ويصوغون قصةً أسطورية تربطه بالميلاد ببني إسرائيل، فاستعاروا قصة الإلقاء في اليم، التي كانت منتشرةً إبَّان ذلك في أساطير الأبطال في حضارات المنطقة القديمة، وقالوا إن موسى كان إسرائيليًّا بالمولد، وأنه فقط رُبِّي في قصر الفرعون، فكان مصريًّا بالتبني، «وصدق العالم تلك القصة الأسطورية».

على أية حال، نحن نقصد هنا بيان العوامل التي أدَّت باستمرارٍ إلى الربط بين موسى وإخناتون، حتى وصل الأمرُ كما عند فرويد إلى القول أن موسى كان من أصلٍ مصري ملكي، وأنه التلميذ المباشر لإخناتون. وقد ظلَّ مثل ذلك الربط يحدث طويلًا في كتابات الباحثين، استنادًا إلى شواهد مثل تلك التي قدَّمها ديورانت، والتي قدَّمها برستد عن التشابُه الدقيق بين أناشيد إخناتون لربه الواحد، وبين أسفار المزامير والأمثال بالكتاب المقدَّس. هذا ناهيك عن الأوامر الصريحة بالكتاب المقدس عن عدم تصوير الإله، وهو ذات الأمر الذي اتَّضح في ديانة آتون الإخناتوني.

وفي ذلك يقول عباس العقاد: «وقد عقد كلٌّ من هنري برستد وآرثرويجال Weigall، مقارنةً بين صلوات إخناتون وأحد المزامير العبرية، فاتفقت المعاني بينهما اتِّفاقًا لا يُنسب إلى توارد الخواطر. وقد خطر لويجال أن «آتون» و«آتوم» تصحيفُ «آدوناي» بمعنى السيد أو الإله في اللغة العبرية، وأن إخناتون ورث آراءَه «عن أمه، وهي تنتمي إلى سلالةٍ آسيوية»، من شعبٍ يقيم بين سورية وآسيا الصغرى (يقصد ميتاني المزعوم أنها بأعلى الفرات)، حيث يُعبد آدوناي أو آتون على مختلف اللهجات.»١

أما الإشارة القوية التي كانت تُحيل دومًا إلى صلةٍ من أي نوعٍ بين موسى وإخناتون، فهو ما جاء ذكره عند المؤرخ اليهودي يوسفيوس، وهو ينقل عن مانيتو المؤرخ المصري. فروى أن الإسرائيليين قد خرجوا من مصر، زمنَ فرعونٍ زاهدٍ لا يحب الحروب ولا القتال. وهي صفات نعرفها الآن عن إخناتون، بل قال يوسفيوس إن هذا الفرعون كان اسمه أمنوفيس، وأمنوفيس هو النطق اليوناني للاسم المصري آمنحتب، وهو الاسم الصادق للفرعون إخناتون، فهو آمنحتب الرابع ابن آمنحتب الثالث. لكن تلك النظريات جميعًا أخذت في السقوط والتداعي، بعد أن بدأ علماء المصريات يتجهون نحو الإجماع على أن الخروج قد تم في عهد مرنبتاح ابن رمسيس الثاني، وهو ما أدى إلى الابتعاد التدريجي عن فكرة العلاقة المباشرة بين موسى وإخناتون، والاتجاه إلى الفصل بينهما، وأنه إذا كانت ثمة علاقة، فهي تأثُّر موسى بتلك العقيدة القديمة بشكلٍ ما، تأثر عن بُعد تفصله زمنيًّا سنوات تزيد على القرن من الزمان، وليس تأثرًا مباشرًا وعلاقة تماسٍّ بين الشخصين، وهو ما تعبر عنه رؤية فراس السواح إذ يقول:

«إن تأثر الديانة اليهودية بالديانة الآتونية هو أمرٌ منطقي وممكن، بصرف النظر عن حكاية موسى المصري؛ فالديانة اليهودية نشأت في زمنٍ لا يبعد كثيرًا عن زمن ازدهار الآتونية، ونستطيع بسهولة أن نفترض أن الديانة الآتونية بعد انهيارها، تحوَّلَت إلى ديانةٍ سرية، انتشرت بين المضطهدين الغرباء، وخضعت لتحولات أساسية عبر الوقت، إلى أن اتخذت شكلها الجديد على يد موسى. وقد استمرَّت بعض الصلوات الآتونية حية في كتابة التوراة.»٢
ويضيف رمضان السيد قوله: «وتقرب هذه العقيدة (أي الآتونية) بين الأفكار الدينية المصرية، والأفكار الدينية السائدة في معظم المناطق، تحت اسم «أوهون» أو «آدون» بمعنى السيد.»٣ ومن جانبه يقول سيجموند فرويد: «إن قانون الإيمان اليهودي كما هو معلوم يقول:
Sehem Jisroel (Adonai) Elohena Adonai Echod.
وإذا لم يكُن من قبيل المصادفة أن اسم آتون المصري، يُذكر هنا باللفظة العبرية Adonai، وبالاسم الإلهي السوري أدونيس، وإذا كان التشابه نتيجة لتماثلٍ بدائي في المعنى واللغة، فإن في استطاعتنا ترجمة العبارة اليهودية على النحو التالي: أصغي يا إسرائيل: إن إلهنا آتون Adonay هو الإله الأوحد.»٤

وكما انشغل الباحثون انشغلنا، وحدَّدنا لنا موقفًا يلتقي في تفاصيله مع كل ما قلناه من البدء حتى الآن، وهو القول الذي كان بكامله إعادة قراءة لوضع الأمور في صحيح نصابها؛ تمهيدًا لطرح رؤيتنا في علاقة الموسوية بالآتونية، وموسى بإخناتون، والإسرائيليين بمصر القديمة. لكن قبل أن نطرح رؤيتنا هنا، علينا أولًا أن نمر على زمن إخناتون وعهده، مع عرض بعض تفاصيل تلك الشخصية الثرية، التي شغلت الدنيا، ولم تزَل.

figure
شكل رقم «١٥٣»: اسم آتون بالعبرية.

إخناتون

لوحة واحدة فقط ليس هناك غيرها، منقوشة على الجدار الجنوبي من الواجهة الخارجية لقاعة الأعمدة الكبرى البحري بالكرنك. يظهر فيها الفرعون «آمنحتب الثالث وبرفقته ابن له». وعدا ذلك لا يظهر لآمنحتب الثالث أي ابن في أي صورة تمثله مع أفراد عائلته. فقط زوجته «تي» وبناته في نقوشه الكثيرة. أما أبناء ذكور فلا، عدا تلك اللوحة اليتيمة التي تصور الفرعون وولده «يركبان سفينة بحرية»،٥ وهو أمر لا شك له مغزى، لم نجد فيما وصلنا من مصادر موثوقة أي بحث تم بشأنه، «ولماذا على سفينةٍ بحرية بالذات؟»
أما الأمر الذي يزيدنا التباسًا، فهو أنه في زمنٍ تال لزمن آمنحتب الثالث وولده، تمت إزالة الاسم المكتوب لابن الفرعون على لوحة السفينة تلك، وكُتب بدلًا منه اسم لفرعون يأتي بعد ذلك بفترة، خاتمًا الأسرة الثامنة عشرة، وبادئًا الأسرة التاسعة عشرة «حور محب».٦ وبذلك فقدنا اسم الابن المدوَّن على لوحة السفينة، كما أدى التدخُّل في اللوحة إلى التباساتٍ مبكرة عند المؤرخين، وهو ما حدث عند مانيتو المصري، ومن أخذ عنه من مؤرخي العصر الكلاسيكي. فاحتسبوا حور محب الذي جاءنا بالنطق اليوناني «هورامبيس» في رواية يوسفيوس، ولدًا مباشرًا لآمنحتب الثالث. وظلَّت أسرة العمارنة بعدما لحقها من مطاردة ومحو من على الآثار زمنًا طويلًا أسرة مجهولة، حتى تم الكشف عن مدينة أخت آتون في العمارنة، لتعرف الدنيا أخبارها التي كانت غير معلومة بالمرة.
أما الالتباس الثاني فهو أننا نعلم أن «آمنحتب الثالث»، قد رُزق بولدٍ اسمه «تحتمس»، وقد عُثر على سوطه وعليه نقش يقول: «ابن الملك وقائد الجيوش تحتمس.»٧ كل ما نعلمه عنه أنه قد تم إرساله إلى منف لتلقي العلم، ثم فقَدْنا أخباره بعدها؛ مما أدَّى، بقرارٍ من المؤرخين وليس من الوثائق، أن هذا الابن قد مات صغيرًا،٨ ويبقى السؤال: هل كان الابن المصور مع أبيه في السفينة هو «تحتمس»، أم إنه كان ذلك الذي عرفناه بعد ذلك باسم آمنحتب الرابع/إخناتون؟ ثم سؤال آخر لم يطرحه أحد بالمرة، بعد أن افترض المؤرخون أنه كان لدى آمنحتب الثالث ولدان؛ الأول باسم تحتمس الذي مات، والثاني باسم إخناتون. والسؤال هو: ألا يمكن أن يكون تحتمس هو ذات آمنحتب الرابع إخناتون؟ خاصةً إذا علمنا أن الفرعون كان يحمل أكثر من اسم، وأن اسم آمنحتب الرابع كان اسم العرش. أما إخناتون فقد أطلقه هذا الفرعون على نفسه، بعدما قرَّر الإعلان السافر عن عقيدة آتون الإله الواحد، فانتسب إليه باسمه، وألغى اسم آمنحتب الذي ينتمي إلى الإله «آمون» = «آمون-حوتب». ثم الأمر المريب الشديد الغرابة: أننا لا نجد إطلاقًا أي لوحة أو أي نقش أو أي كتابة، تشير إلى ولدٍ أو ولدين لآمنحتب الثالث، سوى معرفتنا من السوط باسم تحتمس، الذي ذهب لعين شمس ثم مات صبيًّا، باستنتاجات المؤرخين، ولوحة السفينة بالكرنك، التي لا تفصح عن اسم ذلك الابن. فهل كان ذلك الإهمال مقصودًا في فنون آمنحتب الثالث ومدوناته؟ يبدو أننا يجب أن نسلم بذلك؛ لأنه من غير المنطقي إطلاقًا ألا يظهر وريث العرش في لوحات والده طوال حياته، لنجده فجأة على العرش بعد موت أبيه، حتى ظن الباحثون لفتراتٍ أن إخناتون مجرد مُغتصِب للعرش، حتى تأكدوا أن إخناتون الذي اعتلى العرش، وظهر فجأة دون مقدمات، كان ابنًا لآمنحتب الثالث.

أكثرنا على قارئنا من طرح التساؤلات والألغاز. ولكن ما حيلتنا ونحن لا نستطيع قبول الأمور، كما تُلقى إلينا على علاتها، وإن كانت أسئلتنا مشروعة تمامًا، فإنها أسئلةٌ مقصودة؛ لارتباطها بما سنطرحه، خلال الفصول القادمة، من حلولٍ مقترحة لقضية إخناتون وموسى؛ لأننا أبدًا لم نقتنع بقصة الخروج زمن مرنبتاح ابن رمسيس الثاني؛ ولما تجمع بأيدينا من قرائن وأدلة تؤكد رؤية أخرى، ترى أنه كانت هناك علاقة ليست فقط مباشرة، بل أكثر من مباشرة، أكثر من علاقة شخصية بين شخصية الفرعون إخناتون وشخصية النبي موسى، وهو ما عهدنا له بالجهد السالف جميعه، ما سنوضحه في الفصول التالية.

وشخصية الفرعون إخناتون حازت من التضارب في الاجتهادات حولها، ما لم تحُزه شخصية أخرى من التاريخ. وهنا نقف نستمع إلى المصرولوجيين يحدثوننا عن ذلك التضارب، فيقول لنا عبد المنعم أبو بكر:
«قد مجده البعض إلى درجة رفعوه إلى مرتبة الأنبياء، إذ اعتبروه أول مَن نادى بالتوحيد بين البشر، كما حمل البعض الآخر على إخناتون حملات منكرة، محاولًا الحط من قيمته إلى درجة أنه قيل عنه: كان هذا الرجل شاذًّا في خلقه، شاذًّا في عقله، منحدرًا إلى الحضيض في بعض تصرفاته … أما شذوذه العقلي؛ فلمخالفته لأهل عصره في عدم تشيعه لآلهة طيبة، ومقته الشديد للإله آمون. أما شذوذه الخلقي فهو موضع الغرابة، فإننا لفي شك مريب في تلك العلاقة بينه وبين أخيه سمنخ كا رع؛ إذ كان حبه له وتعلقه به خارجًا عن نطاق العقل والمألوف.»٩ فهناك شابان يظهران في أسرة العمارنة هما سمنخ كا رع وتوت عنخ آمون، وقد احتسبهما المؤرخون أشقاء لإخناتون، رغم عدم ذكر نقوش ومدونات الأب آمنحتب الثالث لأيٍّ منهما.
 [انظر إخناتون يقبل سمنخ كا رع، الشكل رقم «١٥٥» صفحة ١٤٢٤] 
ثم نستمع إلى «سيد توفيق» يحدثنا عن إخناتون قائلًا: «وتعددت الآراء بل تضاربت أحيانًا في تقييم هذه الشخصية، فالبعض يرى في إخناتون أول الموحدين، والفيلسوف الأول، وأول المثاليين، والمفكر الأول. بينما يعتبره البعض الآخر مجرد حالم عاطل، تسبب بإهماله وتراخيه في مواجهة مشاكل السياسة الخارجية في فقدان مصر للولايات الخارجية، التي كانت خاضعة لها أيام الإمبراطورية التي شيدها آباؤه وأجداده. واعتقد فريقٌ ثالث أنه سياسي ماهر، اتخذ الدين ستارًا لحماية نفسه وزيادة نفوذه الشخصي. وقد ظهر إخناتون في رأي «جون ويلسن» كداعية لشيءٍ جديد في الدين، يدعو بصفةٍ عامة إلى العالمية، في عادات وأخلاق الناس، وفي الفن واللغة والأدب. واعتبر فرويد إخناتون المصلح الأول الذي أتى قبل موسى عليه السلام، واعترف به كأول الموحدين. لقد كان إخناتون فريدًا في دعوته لعبادة آتون، فريدًا في إخلاصه وتفانيه للماعت (أي للحق والعدل والنظام في مصر القديمة، حتى إنه لقَّب نفسه بالذي يعيش على الماعت. المؤلف)، فريدًا في تماثيله، حتى اللغة التي سادت عهده، كانت ذات قواعد خاصة بها.»١٠
ويحدثنا عاشق المصريات مختار السويفي قائلًا:
«ما زالت شخصية إخناتون محلَّ خلاف شديد بين المؤرخين وعلماء المصريات، القدماء منهم والمحدثين، بعضهم يرفعونه إلى درجةٍ سامية، وبعضهم يهبطون به إلى الحضيض. ويدعون أنه كان شخصية غير طبيعية ومنحرفة، وأنه كان مخنثًا، واختفاؤه المفاجئ من الحياة المصرية والتاريخ المصري، ما زال لغزًا غامضًا حتى الآن، فلم يُعثر له على جثة. وربما كان موته نتيجة لعملٍ عنيف. وعلى أية حال فقد تولى عرش البلاد بعده أخوه سمنخ كا رع الذي مات وعمره دون العشرين، بعد أن حكم لفترةٍ قصيرة جدًّا، ولكنها كانت حافلة بالصراعات الهائلة التي قادها كهنة آمون؛ لاستعادة أملاكهم وسطوتهم وسلطاتهم السابقة التي كانوا يتمتعون بها قبل عهد إخناتون.»١١
أما المصرولوجيست الحجة سيرل آلدريد فيؤكد ذات المعاني؛ إذ يقول:
«يقول بعضهم: إن ديانة آتون خلت خلوًّا واضحًا من التحدث عن الأخلاق في الأناشيد التي كانوا يخاطبون بها آتون. ولم تنجُ شخصية إخناتون ذاتها من إلصاق التُّهم الأخلاقية بها، فأشارت له النصوص التالية لعصره باعتباره مجرمًا آثمًا، ثم شاركها بعض الباحثين الغربيين مثل هذا الهجوم، وتشككوا في مدى مصداقية إخناتون. فاعتبره أحدُ الباحثين فرعون الاضطهاد، واعتبره آخر فرعونَ الخروج الذي غرق. أما الأثري «جلانفيل» فرأى فيه ملكًا لا يستحق سوى اللوم والتأنيب. أما «برستد» عالم الآثار الأمريكي فقد امتدحه وقرظه، ووصفه بأنه أول شخصية متميزة في التاريخ. ويرى عالم المصريات «جاردنر» أن نظراته تدل على التعصب وبلبلة الفكر، مما يجعله نموذجًا للمصابين بالهوس الديني.»١٢
هذا رأي علماء عصرنا في إخناتون، ولم يكُن رأي أهل زمانه فيه بأحسن من رأي أهل زماننا، فهذا عالم المصريات «مختار» يقول لنا:
«تكاتفت عناصر مختلفة ضده، فالشعب البسيط الذي يعيش على التقاليد، رفض أي تغيير لما كان في عهد آبائه وأجداده، كما أن رجال الجيش لم يغفروا له ضياع تلك الإمبراطورية المترامية الأطراف التي أقاموها بدمائهم ودماء آبائهم، ثم رجال العقائد الدينية الأخرى وفي مقدمتها عقيدة آمون الذين تربصوا به يتكتلون ضده دفاعًا عن مصالحهم. ولقد توقف التاريخ فجأةً فيما يتعلق بإخناتون، الذي اختفى فجأة وانطفأ نور رسالته، ولا ندري أين دُفن، وهل مات ميتةً طبيعية أو قُتل، وأين جثته الآن؟ وغير ذلك من الأسئلة المتعلقة بنهايته، وهي أسئلة لا يجد التاريخ لها إجابةً شافية.»١٣
ثم يتابع قائلًا:
«فيما يتعلق بسيرة حياته ومنجزاته وأفكاره وعقائده، فقد اختلف المؤرخون فيما يتصل بذلك، فهناك رأي يمجِّد فلسفته وعبقريته، التي أخرجَت عقيدة جديدة للتوحيد، كما أخرجت روائع فنية ومبادئ أخلاقية، كانت نتيجة مباشرة لوحيه الشخصي. أما الرأي الثاني فيعتبره حاكمًا أهمل واجباته المقدسة، مما أدَّى إلى انهيار البلاد وتدهور أحوالها. ويقول إن المصريين القدماء في عهده رفضوا رسالته في أيامه وبعد موته، ولم يعترفوا عند تأريخهم للأحداث بحكمه كملك على البلاد، وأسقطوا اسمه من قوائم الملوك الرسمية، واعتبروه ملعونًا قد حلَّت عليه اللعنة.»١٤

هذه فقط نماذج لإيضاح أي تناقض صارخ يواجهنا بشأن التعامل مع هذا الفرعون، ومكامن الفخاخ الكثيرة لباحثٍ يريد وجه الصدق التاريخي؛ لذلك وقبل أي بحث، علينا أن نجيب على السؤال الأبسط، مَن هو إخناتون كشخصٍ تاريخي؟

وفق الحسابات التاريخية، وتزمينات توافقَ عليها أهل علم المصريات، يفترض أن يكون إخناتون قد وُلد منذ حوالي ٣٤٠٠ عامٍ تقريبًا، في مدينة طيبة عاصمة مصر الإمبراطورية، في أقصى جنوب البلاد. وأبوه هو آمنحتب الثالث الذي حكمَ حوالي ١٤٠٥–١٣٦٧ق.م. وهو الفرعون المشهور برخاء عصره إلى حد تشبيهه عند الباحثين بعصر لويس الرابع عشر في فرنسا، وبعصر هارون الرشيد في بغداد، حيث تدفَّقَت خيرات البلاد المفتوحة سيولًا دافقة على عاصمة الإمبراطورية، فكان قمة عصر الرخاء في تاريخ العالم القديم.

وعند ولادته أعطاه أبوه اسمًا على مسماه هو شخصيًّا، امتدادًا للعز والفخار الذي ارتبط به، فأسماه آمنحتب الرابع.١٥
وكما قلنا … فوجئ المؤرخون، وربما الناس في عهده، بظهوره المفاجئ لتولِّي العرش بعد وفاة أبيه. ويُحيطنا عالم المصريات «سيد توفيق»، أحد الذين اهتموا بدراسة إخناتون دراسةً خاصة، أن إخناتون «بدأ الحُكم في طيبة بعد وفاة والده مباشرة، وكان عمره لا يزيد على ستة عشر عامًا، فعاونته أمه الملكة «تي» في السنوات الأولى من حكمه، ثم تزوَّج نفرتيتي. وقد بدأ حياته — مثل أسلافه من ملوك مصر — بعبادة الإله آمون؛ إله الدولة في ذلك العصر، والآلهة التقليدية المعروفة من قبل، مثل أوزيريس وإيزيس وحتحور وآتوم. وتدل على ذلك النصوص … على جدران مقبرة خرواف رقم «١٩٢» بطيبة الغربية، والتي ترجع إلى أوائل حكمه في طيبة.»١٦

ويُحيطنا عالِما المصريات «شتيندورف» و«سيل» علمًا أن الفرعون الجديد آمنحتب الرابع، قد اتخذ لقبًا رسميًّا هو «نفر خبرورع» الذي نقرؤه في الكتابات المسمارية في رسائل تل العمارنة: «نبخوريا». ومعناه: «جميل الهيئة رع»، مع لقب آخر هو «وع إن رع»؛ أي: «وحيد رع». وكان هذا الفرعون رقيقًا ومخلصًا في علاقاته الأسرية، ويحاكي أباه في مظهره الشخصي. وتزوج من أميرةٍ تُدعَى نفرتيتي. يعتقد كثيرٌ من المتخصصين أنها «من أصلٍ أجنبي»، من أميرات البيوت الحاكمة في البلاد المفتوحة للإمبراطورية المصرية، التي كان يتوافد منها، منذ عدة أجيال، أعداد غفيرة كهدايا من حكام غرب آسيا للفراعين.

وعن الظروف التي اعتلى فيها آمنحتب الرابع عرش البلاد، يقول لنا سيرل آلدريد: «عندما اعتلى آمنحتب الرابع — ابن آمنحتب الثالث من الملكة تي — عرش مصر، كان في سن صغيرة وتنقصه التجربة. وقد ورث عن أبيه موقفًا صعبًا؛ إذ وقعت ميتاني حليفة مصر في ذلك الوقت، تحت ضغط الحيثيين الذين استردوا قوتهم. وصاروا يثيرون الاضطرابات بين الولايات العميلة الجشعة في سوريا، وفي نفس الوقت كانت جموع البدو الخابيرو من محترفي السلب والنهب، تسبِّب القلاقل في فلسطين.»١٧
وإخناتون هو فرعون المفاجآت، فهو يظهر فجأةً، ويقوم بتغيير شامل لعقيدة البلاد فجأةً، ويختفي فجأةً، ويترك وراءه كثيرًا من الألغاز بدون حلول. يصفه المؤرخون بأنه كان «طفلًا هزيلًا ضعيفًا، تراكمت عليه الأمراض ولازمته طَوال حياته، ويدل على ذلك تركيب جسمه الغريب؛ فوجهه كان نحيفًا إلى درجة الهزال، طويلًا، برزت عظامُه وتدلَّت ذقنه، واتسعت مقلتا عينَيه، وارتسمت على شفتَيه الغليظتين ابتسامة خفيفة، إنْ دلَّت على شيء فهي تدل على طيبة قلبه وحُبه للسلام، وحمل رأسَه الكبيرَ عنقٌ طويل فوق كتفَين ضيِّقين منحدرين. وتميز جسمه ببطنٍ كبيرة متهدلة، لا تتناسب مطلقًا معه، كما كانت فخِذاه عريضتين، أما الساقان فكانتا رفيعتين بشكلٍ ملحوظ».١٨
 [انظر إخناتون في صباه المبكر، الشكل رقم «١٥٦»، صفحة ١٤٢٥] 
figure
شكل رقم «١٥٧»: آمنحتب الرابع/إخناتون، المتحف المصري.
وقد علمنا أنه ابن الملك آمنحتب الثالث، تاسع ملوك الأسرة الثامنة عشرة الفرعونية، الذي حكم حوالي ١٤٠٥–١٣٦٧ق.م. وحمل ذات اسم أبيه، وبدأ الحكم في طيبة، عاصمة الإمبراطورية المصرية، كبرى إمبراطوريات ذلك الزمان بعد وفاة والده مباشرةً، ثم تزوَّج من الجميلة نفرتيتي، لكنه كان يحمل أفكارًا مخالفة للسائد في الثقافة المصرية القديمة إلى حدٍّ بعيد؛ حيث أعلن لنفسه إلهًا باسم «آتون». ويبدو أن كهنة الإله آمون قد اضطروا أن يسمحوا للملك الجديد ببناء معبد لإلهه في الكرنك معقل آمون. فشيد لآتون معبدًا ضخمًا شرقي معبد آمون. وتم تسجيل آتون رسميًّا واعترف به بين آلهة المصريين القدماء، وفي العام السادس من حكمه بدأ الفرعون حملة تغييرات شاملة، بدأها باسمه، فغير اسمه من آمنحتب الرابع إلى اسمٍ فريد، لم يتكرر من قبله ولا من بعده، هو «إخناتون». ذلك الاسم الذي اختلف العلماء في ترجمته وتفسيره، فترجمه برستد «آتون راض»، وفضل له زيته «السعيد بآتون»، وفسره هاري سميث بأنه «روح آتون»، وذهب جون ويلسن إلى أنه «المفيد لآتون»، ثم فازيني الذي قرَّر أنه «الروح الفعالة لآتون».١٩
وترجمه «علي فهمي خشيم» بقوله: إن الكلمة (إخناتون) مركَّبة من ثلاثة مقاطع، هي «إخ. ن. إ ت ن»، والمقطع الأخير هو اسم الإله الذي اختاره، وحرف «ن» الأوسط الأداة المصرية للإضافة. ويبقى المقطع الأول «إخ»، الذي يحمل معانيَ أهمها: العظمة، المجد، البريق، السطوع، الفخر، النفع، الامتياز، القوة، السيطرة، الروح. لذلك ترجم «بدج» الاسمَ إلى معنيين مجدآتن Glory of Aten، روح آتن Spirit of Aten. وهو بهذا المعنى يصبح قوة الشمس أو روحها؛ أي: روح الإله آتون.٢٠

ويبدو أن إخناتون وجد نفسه في طيبة محاطًا بمناخٍ مُعادٍ، وبسلطان كهنة الإله آمون، فأخذ قرارًا تاريخيًّا ببناء عاصمة جديدة ينتقل إليها مع حاشيته وأتباعه المخلصين. وقد استدعى لهذا الغرض رجالَ بلاطه وقوَّاده العسكريين، وشرح لهم رغبة الإله آتون في بناء مدينة جديدة، تحمل اسم «أخت آتون»، وأن الإله هو الذي حدَّد الموقع برغبته واختياره. وكان موقع تل العمارنة في منتصف الطريق بين القاهرة والأقصر، هو المكان الذي اختاره الإله آتون للتجديد الديني المقبل. وهناك حيث تتراجع الجبال الشرقية مخلفة سهلًا على شكل الهلال، قرَّر إخناتون بناء مدينته. وسجل قراره: «سأبني في الشرق حيث تظهر الشمس؛ أي: في المكان الذي أحاط فيه نفسه بالجبال … سأبقى هناك حتى يسودَّ البجع ويبيضَّ الغراب، وحتى تروح الجبال وتجيء، وحتى يسري الماء نحو المنبع.» والمعنى أن عقيدته الجديدة ستبقى، حتى تحدث مستحيلات لن تحدث إطلاقًا. لكن ما حدث أنها كانت أسرع مدينة مصرية ملكية زالت من الوجود، قياسًا على أي مدينة مصرية أخرى، لكن ألا يعني ذلك الإيمان المغلظ، أن الفرعون الشاب كان يتوقَّع لمدينته نهاية قريبة؟

وبعد قرونٍ طويلة وزمان سحيق البُعد، في عام ١٨٨٧ ميلادية، كانت إحدى الفلَّاحات تجمع سباخًا من خرائب العمارنة، التي لم تُعرف هويتها بوضوح حتى ذلك التاريخ. وفي العمارنة التي تقع على مبعدة ١٩٠ ميلًا جنوب القاهرة، عثرت تلك الفلَّاحة على عددٍ كبير من الألواح الطينية المكتوبة بالأحرف المسمارية، وهو الأمر الجديد تمامًا في تاريخ مصر القديمة. ويؤكد جاردنر أنها الحالة الغريبة والوحيدة، في تاريخ مصر جميعه، حتى زمن إخناتون، التي نجد فيها ألواحًا مسمارية. وذلك بقوله: «ولم يكُن شيء مثل ذلك قد عُثر عليه من قبلُ في مصر إطلاقًا؛ لهذا لم يأخذ علماء المصريات الأمر بجدِّية، وقرَّر الأثريون أنها قِطَع مزيَّفة، لكن بعد دمار كثير منها، وبعد مناقشات طويلة، ومقارنات مع الموجود بمتاحف العالم من نصوص مسمارية، أدركوا حقيقة تلك المكتبة الكبرى وأهميتها، وأنها كانت مراسلات بين آمنحتب الثالث وولده إخناتون، وبين مختلف الحكام الآسيويين في عصرهم، وكانت الكتابة باللغة الآرامية، بالخط المسماري البابلي، قد أصبحت لغة المعاملات الدبلوماسية في العالم إذ ذاك.»٢١
وضمن تلك الرسائل عثر على قِطَع سامية أدبية مشهورة، مثل ملحمة جلجامش التي وُجدت مترجمة إلى لغتين هما: اللغة الحيثية واللغة الحورية أو الكارية، مع أساطير من آداب حضارة الرافدين، مثل أسطورة آدابا، وأسطورة سرجون الأكدي، الذي قذفت به أمه في سفط بالماء، حتى أنقذته الإلهة عشتار ومنحَتْه حُكم البلاد. كما عُثر بدون مناسبة، ودون أن نعرف السبب على ملاحم أخرى، مثل ملحمة ملك الحرب الأكدية التي تتحدث عن فتوحات سرجون الأكدي، ووُجدت منها نسخة أخرى بالحيثية في عاصمة الحيثيين خاتوشاش بتركيا عند بوغازكوى الحالية.٢٢ وقد استنتج بعض الدارسين أن المقر الرسمي الأول لحفظ تلك الرسائل كان في مقر الحكم بالعاصمة طيبة، ثم نقلها إخناتون معه، حيث انتقل إلى عاصمته الجديدة في العمارنة.٢٣
 [انظر رسائل العمارنة: الشكل رقم «١٥٨–١٦١» صفحة (١٤٢٦–١٤٢٩)]

الدعوة الجديدة

أول ما نجد ذكرًا ممجدًا لرب الشمس باسم آتون، عند الفرعون تحتمس الرابع، الجد المباشر لإخناتون. ويقول د. عبد المنعم أبو بكر: «ومن هذه التباشير تصوير قرص الشمس، تمتد منه ذراعان تنتهيان بيدين بشريتين تحيطان بالملك وتحميانه، وتُغدقان عليه النعم، وهو ذات التصوير الذي اختاره إخناتون فيما بعدُ لإلهه آتون، مع تحويرٍ يُلائم عقيدته. بل عُثر على اسم آتون نفسه مذكورًا على جعل رجعران سجل عليه الملك (يقصد تحتمس الرابع) تمجيدًا لذاته، وإشادة ببأسه وقوته، وجهاده في سبيل إخضاع الشعوب، وجعلهم من رعايا آتون.»٢٤
ومن بعده نجد إشارة إلى عبادة «آتون» في لوحتين في عهد آمنحتب الثالث، ابن تحتمس الرابع، تُنسبان إلى الفنانين سوتي وحور، اللذين كانا يعملان في طيبة، وكانا على صِلة بولده إخناتون.٢٥
ويقول «سليم حسن»: «الواقع أن الانقلاب الديني الذي أحدَثَه «آمنحتب الرابع/إخناتون» فيما بعد، لم يأتِ دفعةً واحدة، بل جاء على مراحل. ومنذ عهد تحتمس الرابع، بدأت تبدو ميولٌ لتمثيل إله الشمس، في صورة جديدة غير صورته التقليدية، التي كانت تتخذ شكلًا بعينه على حسب الأحوال. وكلها كانت تتمثل في هيئة إنسانية برأس حيوان وبصورة إنسان، وحسب. أما الصورة الجديدة؛ فكانت على هيئة قرص الشمس وحسب/آتون. وقد أخذت عبادة الشمس بهذه الصورة، تنمو شيئًا فشيئًا في عهد آمنحتب الثالث، ولكن دون مساس عبادة آمون بأذًى. لكن لما جاء آمنحتب الرابع اختمرت فكرة عبادة رع في صورته الجديدة على أن يكون إله الإمبراطورية، وأقام لنفسه حاضرةً جديدة في المكان المعروف الآن بتل العمارنة بالقرب من ملوي، وسماها إخت آتون أي أفق آتون. كما أسَّس مدينة أخرى بهذا الاسم في بلاد النوبة، ومن المحتمل كذلك أنه أسس ثالثة في آسيا.»٢٦ ومن جانبنا نرى أن أخت آتون الآسيوية ربما كانت تلك التي وردت في أسفار الكتاب المقدس، كما في (سفر القضاة، ١٢ / ١٣–١٥) باسم: «فرع-آتون»، أو «فرعتون». و«فرع» هو الشقيق أو الأخ، فهي بصدق النطق مع الدلالة «أخت آمون». وحدد قاموس الكتاب المقدس موقعها في جبل العمالقة في إفرايم، وأنها تحمل الآن اسم «فرعاته» على بعد سبعة أميال ونصف، جنوبي غربي شكيم (نابلس الحالية) بفلسطين.
وهكذا يؤكد عبد المنعم أبو بكر: «أن شرر الثورة الدينية كان قد بدأ يتطاير منذ أيام تحتمس الرابع، ووجد مناصرةً قوية في عهد ابنه آمنحتب الثالث. هذا الملك أطلق اسم «بهاء آتون» على الزورق الملكي الذي أهداه لزوجته تي. كما عاش في عصر آمنحتب الثالث رجل اسمه «رع مس»، جمع بين وظيفتين؛ إحداهما: كاهن آمون. والثانية: مدير البيت في معبد آتون. بل أكثر من هذا، ما ورد في أحد النصوص في عصر هذا الملك، أن «بن بوي»، وكان عملَ كاتبًا لخزانة معبد آتون، كان يطلب من فرعون أن يتوسط عند الإله آمون، ليمده بالقرابين الجنازية، كل هذا يدلُّ على أن آتون كان معترفًا به في عصر آمنحتب الثالث، وأنه كان له معبد في طيبة قبل ثورة العمارنة.»٢٧
ويحيطنا «سيرل آلدريد» علمًا أنه: «توجد بالمتحف البريطاني لوحةٌ من مخلفات بيت بانحسي بالعمارنة، عليها منظر للملك آمنحتب الثالث يبدو فيها رجلًا بدينًا مسنًّا، مسترخيًا على عرشه بجوار زوجته الملكة تي، وفوقهما الأشعة الآتونية.»٢٨ وسعيًا وراء ما يمكن العثور عليه حول الإله آتون في المراحل السابقة للفرعون إخناتون، نعلم من المصرولوجيست «سيد توفيق» أنه: «لم يكُن آتون سوى صورة جديدة لإحدى ظواهر الشمس المختلفة المعروفة من قبل، اتخذت اسمًا جديدًا أول ما ظهر في الدولة الوسطى، وعلى وجه التحديد في الأسرة الثانية عشرة من ١٩٩١–١٧٨٦ق.م. بمفهومين؛ الأول: كوكب الشمس. والثاني: الإله المقيم في هذا الكوكب. واستمر آتون بهذين المعنيين، حتى جاء إخناتون وحرره من المعنى الأول، واختار له المعنى الثاني. ولم يظهر الإله في صورته المألوفة لنا، وهي قرص الشمس ذات الأيدي الإنسانية في أوائل عهد إخناتون، بل تعبد الملك للإله آتون في صورته البشرية برأس الصقر حور أختي متوجًا بقرص الشمس … بعد ذلك وقع اختيار إخناتون على قرص الشمس ذي الأيدي البشرية، ليكون الرمز المقدس لإلهه آتون. وقد عرف المصريون القدماء القرص ذا الأيادي الإنسانية منذ عهد الملك آمنحتب الثاني ١٤٥٠ق.م. (والد تحتمس الرابع، والد آمنحتب الثالث، والد إخناتون/المؤلف)، مثل عليها القرص يخرج منه ذراعان آدميتان تحضنان وتحميان خرطوش الملك … لقد اختار إخناتون إلهه صورة قرص الشمس محدبًا، أي صورة أمامية مجسمة له، وذلك بخلاف ما عهدناه في الفن المصري، الذي تظهر فيه الشمس المجنحة، كزخرفة على الأعتاب العليا لمداخل المعبد … ويزينه الصِّل، وتخرج من القرص أشعة على شكل خطوط ترمز إلى الأذرع، وينتهي كلٌّ منها بيدٍ بشرية يمسك بعضها بأحد رمزين؛ الأول: للحياة عنخ. والآخر: للسعادة واس، متوجهة بهما إلى أنف الملك والملكة فقط.»٢٩
 [انظر الشكل رقم «١٦٢، ١٦٣، ١٦٤، ١٦٥» صفحة (١٤٢٢، ١٤٣٠–١٤٣٢)] 
figure
شكل رقم «١٦٦»: إخناتون ونفرتيتي يتعبدان تحت أشعة قرص الشمس (لاحظ تاج إخناتون المستطيل وذؤابة تتدلى منه، لاحظ أيضًا أيدي آتون ممسكة بعلامة العنخ عند أنف الملك.

بل ونجد في طيبة أيام حكم آمنحتب الثالث، قبل الانقلاب الديني الذي قاده ولده إخناتون، المهندسين سوتي وحور ينقشان نشيدًا للإله آمون باعتباره الشمس، ويخاطب قرص الشمس باسمه آتون؛ لأن آتون كانت تعني قرص الشمس المادي ذاته، ويقول ذلك النشيد:

التحية لك يا قرص آتون النهار،
الذي خلق الناس وجعلهم يعيشون.
الصقر القوي ذو الريش المتعدد الألوان،
الذي جاء للوجود ليرفع نفسه.
الذي جاء للوجود من تلقاء ذاته دون أن ينجبه سواه.
حورس الأكبر الذي يقيم في نوت السماوية
عند طلوعه يبتهج الإنسان.
وعند غيابه يحدث للإنسان مثل هذا.
ذاك الذي يدير القطر المزدوج من أعظم كائن إلى أصغره.
أم الآلهة والناس،
صانع الخير الفنان الساحر الذي لا يعرف الكلل …٣٠
ومع الظهور المفاجئ للإله آتون زمن آمنحتب الثالث، الذي صِيغت فيه الأنشودة السابقة، موجهة إلى الإله آمون وقرص الشمس الآتون، ثم صعود آتون وتفرده وحده بالربوبية زمن آمنحتب الرابع/إخناتون، حاول البعض القول إن عبادة آتون كانت أصيلة في مصر، فهي عبادة الشمس القديمة ذاتها، التي تجلت في حور وفي آتوم وفي رع وفي آمون. ويقول د. أبو بكر: «وعقيدة الشمس عُرفت في مصر منذ فجر تاريخها، وصوَّرها المصريون على هيئة إنسان يحمل فوق رأسه تاج الملك، ويتربع على عرش الدنيا، ويطلقون عليه اسم آتوم، ويعتبرونه أول الخليقة وأصل البشر جميعًا.»٣١ خاصةً إذا أخذ بالحسبان إمكان تبادل حرفي «ميم» و«نون» في آتوم وآتون، علمًا أن آتون كان هو قرص الشمس ذاته، فهو الأتون أي الفرن الناري العظيم.
هذا بينما يذهب آخرون إلى العكس تمامًا، فيقولون إن الديانة الآتونية ديانة غريبة على الفكر المصري القديم، خاصةً مذهبها التوحيدي الذي يناقض ما فُطر عليه المصريون من تعدُّدية مفرطة، وحرية هائلة في مساحة الاعتقادات. ويزعم هؤلاء أن عبادة آتون قد وفدت على مصر مع الساميين، الذين كانوا في مجملهم يقدسون الشمس، ويرمزون لها بموقدٍ ناري في المعبد،٣٢ يعمل الكهنة على اشتعاله الدائم، وهو ما نجده في الهيكل اليهودي وعبادات الفرس واليونان وغيرهم. فيقول أحد هؤلاء، وهو يتحدث عن عقيدة التوحيد في بوادي الشام: «إن دعوة التوحيد أصيلة في هذه المنطقة، وإنها انتقلت مع الهكسوس العموريين، أو العمالقة إلى مصر بين ١٧٨٥–١٥٨٠ق.م. وسببت ظهور الديانة الآتونية التوحيدية التي دعا إليها إخناتون في ١٣٧٥–١٣٥٨ق.م.» ويضيف آخر قوله: «ونحن لا نستبعد أن تكون عقيدة الوحدانية التي تبنَّاها إخناتون قد جاءت إلى مصر عن طريق قبائل الهكسوس العربية، التي حكمت مصر زهاء قرنين قبل إخناتون.»٣٣
ثَم اختلافات بين الباحثين على مستوًى آخر، عبَّر عنها أبو بكر وهو يقول: «لقد اختلفت الآراء في ديانة إخناتون، وهل كانت وليدة تنافُس سياسي بين إخناتون كملك على العرش، وبين سلطان كهنة آمون وثرائهم العجيب، أم كانت فتنة حتمتها ظروف الإمبراطورية المصرية، التي جعلت الثروة تنحصر في فئةٍ قليلة من الناس، فقام النزاع المرير بين العمال وبين هؤلاء الأغنياء المستملكين لثروة البلاد، أم إنها كانت ثورة قامت بين كبار الموظفين المدنيين وكبار رجال الجيش؟»٣٤
وربما يدعم الآراء الأخيرة ما ذكره «زينون كاسيدوفسكي» أن «إخناتون … اختار مقربيه من الفئات الاجتماعية المضطهدة؛ لأنه كان باستطاعته أن يثق بهم أكثر. ويجدر أن نشير هنا إلى الكتابة التي وُجدت في مقبرة أحد أفراد حاشيته لقد كنت شخصًا ذا منشأ وضيع من جهة أمي وأبي، لكن الملك أوقفني بكرمه وأعطاني قوتي اليومي، أنا الذي كنت فيما مضى أستجدي كسرة الخبز.» ثم ينبهنا كاسيدوفسكي إلى وجوب ملاحظة أنه «قد اكتُشف في تل العمارنة … تابوت أحد النبلاء كان في خدمة إخناتون، وكان النبيل يُدعى نيحيم (نظنها مناحيم الإسرائيلية/المؤلف) وهو آسيوي. أما وزير هذا الفرعون المدعو بانحامو، فقد عُد شخصًا جبارًا في العصر الفرعوني، مع أنه كان آسيوي المنشأ.»٣٥
بل إن جيش إخناتون نفسه، كان يتكون من أخلاطٍ أجنبية، أو كما يقول «حماد»: «إن جيشه كان مكونًا من مختلف الجنسيات؛ إذ نرى صفًّا من الجنود، يتقدمهم مصري يرتدي النقبة ذات الثنيات، ويحمل الترس والرمح وبلطة. ويليه آسيوي يحمل الرمح والسيف الأقنى، والثاني نوبي (يقصد زنجي) يحمل قوسًا مزدوج الانتهاء وسهامًا.»٣٦ بل وصل الأمر إلى حد أن كاهن آتون نفسه، المفترض أنه أهم شخصية حينذاك بعد الفرعون؛ فقد كان بدوره آسيويًّا، أو حسبما يسجل التاريخ «وكان عصر العمارنة تحوُّلًا واضحًا في نظرة المصريين نحو الأجانب، وحيث بدأت الاستعانة بأعدادٍ كبيرة منهم في مختلف مناصب الدولة، فكان الكاهن الخاص لإخناتون سوري الأصل «آسيوي»، ومن قبل عرف القصر الملكي في طيبة طوائف مختلفة من الأميرات الآسيويات في حريم الملك أمينوفيس الثالث.»٣٧ أي آمنحتب الثالث والد إخناتون. وهي العلامات التي ذهبت بلويس عوض إلى القول أن: «تل العمارنة قد أخذت اسمها من العمو Ammou أو العمرو Amro أو العمورو Amourru أو العموريين Amorites أو آل عمران، كما نسميهم في العربية؛ إما لأن العموريين احتلوها بالفعل، وكانت من مراكزهم الرئيسية في فترةٍ ما. وإما لأن ذاكرة الأجيال حفظت رأي المصريين في أخيتاتون (مدينته العمارنة) وإخناتون وعبادة الإله الواحد، وتعريفهم بديانته على أنها ديانة الأعداء العموريين، وأنها كانت تستخدم الأعداء العموريين.»٣٨ وهي كلها مؤيدات لوجهة النظر التي ترى آتون إلهًا غير خالص المصرية، وأن إخناتون نفسه كان سامي الهوى آسيوي المزاج والتفكير؛ ولأن فرويد كان ذا اهتمام خاص بالفرعون إخناتون، فقد أدلى بدلوه لتفسير مسألة التوحيد الطارئة، واقترح الأسباب التي أدَّت إليها وأفرزتها، فيقول: «كانت الظروف السياسية قد طفِقت منذ ذلك العهد، تمارس تأثيرها على الدين المصري، فبفضل المآثر المظفرة لفاتح كبير هو تحتمس الثالث، أصبحت مصر قوة عالمية، ضمت إلى إمبراطوريتها بلاد النوبة في الجنوب، وسورية، وجزءًا من بلاد الرافدين في الشمال. وقد تجلَّت هذه النزعة التوسعية منذ ذلك الحين في الدين في شكل نزعةٍ شمولية توحيدية. فلما كان سلطان فرعون لا يشمل مصر وحدها، بل كذلك النوبة وسورية؛ فقد بات من المحتم ألَّا يبقى الإله مجرد إله قومي. وما دام فرعون قد أصبح السيد الأوحد، اللامحدود السلطان على كل عالم المصريين المعروف؛ فقد بات من المحتم أن يغدو إلههم الجديد إلهًا قويًّا، وأوحدَ هو الآخر. لم ينكر آمنحتب الرابع قطُّ أنه تبنى عبادة شمس أون … بل إنه خَطَا خطوةً أخرى إلى الأمام، فلم يتعبَّد للشمس بوصفها شيئًا ماديًّا، إنما بوصفها رمزًا لكائن إلهي، تتجلى قدرته في أشعتها؛ ففي أحد أناشيده جاء ما يلي بصريح العبارة: أيا أنت، أيها الإله الأوحد، الذي ليس إلى جانبه إله آخر.»٣٩
ومع إلهٍ أوحدَ غيور دكتاتور، يطلب كل المساحة لذاته، ويستبعد كل الآلهة، كان لا بد أن يمارس إخناتون أشد درجات التعصُّب الديني، لأول مرة في التاريخ المصري، فيقول أحمد عثمان: «إن إخناتون اعتبر أن آتون — الذي ليس له صورة أو تمثال — هو إلهٌ واحدٌ لكل البشر، ثم منع دخول معبده إلا لمن ترك المعبودات الأخرى، وثارت ثائرة الكهنة المصريين، فترك الشاب العاصمة، واختار موقعًا بمحافظة المنيا، قبالة مدينة ملوي، يُعرف الآن بتل العمارنة، وبنى فيه مدينةً جديدة؛ ليعيش فيها هو وأتباعه. وقرر الاعتماد على الجيش لتنفيذ سياسته، فعيَّن خاله الثاني «آي» مشرفًا على الخيالة وقائدًا للحرس الملكي، في مكان والده «يويا»، كما أنشأ فرقة عسكرية من أبناء الجاليات الأجنبية في مصر لحراسته. وهذا يتضح من رسومات مقابر النبلاء في تل العمارنة، ثم أرسل فرقًا عسكرية إلى جميع المدن المصرية، لإغلاق المعابد ومصادرة أوقافها، وأمر بتسريح جميع الكهنة عدا كهنة آتون، ثم أمر بشطب اسم آمون من على جميع النقوش، حتى تلك التي تدخل في اسم والده آمون حوتب، وكذلك كلمة نترو، وهي جمع لكلمة نتر بمعنى معبود.»٤٠
ويحدد لنا شتيندورف وسيل بداية حملة التعصب والكراهية في قولهما: «… وفي السنة السادسة من حكمه، أصبحت عبادة آتون الديانة الرسمية للدولة، وأُغلقت معابد الآلهة الأخرى في كل مكان، وصُودرت ممتلكاتها، ودُمرت تماثيل الآلهة القديمة، ومُحيَت صورها من نقوش المعابد، وأُزيلت أسماؤها. وتركز الاضطهاد الشديد على آمون وعائلته، ليس فقط في المعابد، بل وحتى في حجرات المدافن الخاصة، إذا كان هناك سبيل إلى دخولها، وحرم اسم آمون بالتحديد، وكل مَن يحمل اسمًا يحتوي «آمون» أُجبر على تغييره. وكان الملك نفسه من أوائل مَن فعلوا ذلك، فتخلى عن اسم آمون حتب آي آمون راضي، وتَسمَّى بإخناتون أي المفيد لآتون.»٤١
ويشرح عبد المنعم أبو بكر مؤكدًا ذلك التعصب الرهيب، الذي امتلك عقل إخناتون «فأعلنها حربًا لا هوادة فيها ضد آمون؛ إذ أمر بتجريد حملة من العمال والصناع، تعاونهم فرقٌ كبيرة في الجيش لإبداء حركة إرهاب عنيفة، هدفها محو آمون ليس من طيبة فقط، بل من كل أرجاء الإمبراطورية المصرية والقضاء على كهنته».٤٢
وهكذا يأتي تعقيب فرويد موجزًا كل الأحداث يقول: «ولئن كان آمون هو الضحية الرئيسية لاضطهادات العاهل، فإنه لم يكُن الضحية الوحيدة، فعلى امتداد أرجاء الإمبراطورية أُغلقت المعابد وصُودرت أملاكها، وحظرت العبادات وحجزت الكنوز الكهنوتية. وقد أمر العاهل مدفوعًا بحميته بالتنقيب عن نقوش الأنصاب القديمة، لتُمحى منها كلمة إله في حال ورودها بصيغة الجمع. ولا غرو أن تكون هذه التدابير قد أثارت في أوساط الكهنوت المضطهد والشعب المستاء حاجة محمومة إلى الانتقام، أمكن لها أن تروي غليلها بعد وفاة إخناتون؛ ذلك أن ديانة آتون لم تكُن ديانة شعبية، ولم يعتنقها في أرجح الظن إلا جماعة صغيرة من الأشخاص الدائرين في فلك العاهل.» ثم ينقل عن ويجال في كتابه حياة إخناتون وعصره قوله: «ديانة آتون تستبعد الخرافات كافةً، وشعائر السحر والشعوذة جميعًا. كان إخناتون يرفض الاعتراف بفكرة جحيم يثير من الرعب، مما لا سبيل إلى توقيه إلا برُقًى سحرية، لا تقع تحت حصر. ورمى إخناتون بهذه الرقى جميعًا إلى النار، وقدم الجن والغيلان والأرواح والمسوخ وأنصاف الآلهة وأوزيريس نفسه، مع بطانته كلها لقمةً سائغة لألسنة اللهيب، فآلت إلى رماد. ولم يسمح إخناتون بأن تُحفر لآتون أي صورة على القبول، وكان الملك يقول: إن الإله الحقيقي لا شكل له، وقد بقي على رأيه هذا طوال حياته.»٤٣

وهناك احتمالٌ أن حملة الكراهية تلك، جاءت بعد مؤامرةٍ فاشلة دُبرت ضد إخناتون، وهو ما يؤخذ من أقوال إخناتون نفسه، التي وجدناها مدونة على إحدى لوحات حدود مدينة أخت آتون، ويقول فيها:

أقسم بحياة والدي آتون؛
إن الكهنة كانوا أشد إثمًا من كل الأشياء التي سمعتها حتى
العام الرابع، بل وأشد ضررًا من كل الأشياء التي وقعت
حتى العام السادس.
ثم هناك وثيقة ثانية عبارة عن تسجيلاتٍ، وردت مرسومة على جدران مقبرة رئيس الشرطة ماحو، وتحتوي على تفصيلات مؤامرة دبرها ثلاثة أشخاص أحدهم مصري. أما الآخران فكانا من الأجانب، وبدت شعورهما مسترسلة وقصرت لحيتهما. ويبدو أن هدف المؤتمر كان اغتيال الملك؛ إذ نرى الوزير بعد القبض عليهم يتوجه بالشكر لآتون، الذي وفَّقه لكشف هذه المؤامرة قبل تنفيذها.٤٤
ويبدو أن التحقيقات أسفرت عن يدٍ طولى لكهنة آمون في هذه المؤامرة، وهو الاستنتاج الذي ينبني على تركيز حملة الكراهية تدميرها على آمون أكثر من بقية الآلهة. وهكذا وللظروف التآمرية المحيطة بالفرعون ودعوته، كان لا بد أن تكون مدينته الجديدة ثكنة عسكرية عظيمة، تُعطينا صورةً مخالفة عن الفرعون المحب للسلام، الكاره للحرب، الطيب الرقيق الدمث، فقد أصبح مؤكدًا الآن أن إخناتون بسبب تعصُّبه كان شديد القسوة مع مخالفيه. ويقول أحمد قدري: «إن الجيش كان المؤسسة الوحيدة التي اعتمدَتْ عليها الدولة بعد سقوط طبقة الكهنة.»٤٥
وإن أخت آتون تحوَّلت لتُصبح المقر الرسمي لأقوى سلاح بالجيش آنذاك، فقد أمست «المقر الرسمي لسلاح المركبات الحربية بالجيش المصري، حيث يدل على ذلك وجود الثكنات العسكرية، التي كانت تشغلها وحدات هذا السلاح، ووجود أرض التدريبات الحربية، التي كانت تتمرن عليها هذه الوحدات … وهو ما يُعتبر دليلًا على مدى الأهمية، التي كان يوليها عصر العمارنة للقوات المسلحة المصرية.»٤٦
وتقول المصرولوجيست «جوليا سامسون»: «كانت هناك فكرة خاطئة، قال بها الكثيرون من المؤرخين وعلماء المصريات، مؤداها أن شدة اهتمام إخناتون بالدين الجديد الذي دعا إليه، وشخصيته كشاعرٍ حالم، قد جعلته ينصرف تمامًا عن التفكير في شئون الدولة وشئون الحكم، خاصةً بالنسبة للشئون العسكرية والحربية وشئون الأمن المحلي والقومي. ولكن عُرف الآن أن إخناتون قد واصل سياسة حفظ توازن القوى بين مصر ومستعمراتها في أفريقيا وآسيا وبين دول الشرق الأدنى التي بدأت في الظهور والنمو. وعرفنا أيضًا أنه اتخذ إجراءً عسكريًّا، بإرسال حملة حربية لإخماد القلاقل التي أثارها البدو في النوبة.»٤٧
وكان المعلوم في خطابات العمارنة القادمة من الولايات المصرية في الخارج، أن تلك الولايات تتعرَّض للهجوم والاقتطاع من الأملاك المصرية، بواسطة الخابيرو وحكام ميتاني. والمظنون أن ميتاني تقع في أعالي الفرات، حسبما مَوْضَعَها المؤرخون، وهو أمر لا يلتقي مع وجود الخابيرو في تلك المناطق الفراتية، قدر ما يتناسب مع وضع ميتاني في مديان بسيناء عند العقبة وبلاد آدوم. فالخابيرو والمديانيون كما نعلم في التوراة بينهم صِلات قرابية متصلة من النسب المتجدد، ناهيك عن سكن الخابيرو بلاد مديان ومحيطها معظم الوقت. وقد اتُّهم إخناتون تحديدًا أنه السبب في ضياع أملاك مصر الإمبراطورية؛ لتقاعسه عن إرسال الجيش وكراهيته للحروب، لكن يبدو أن إخناتون قد اتُّهم ظلمًا بسبب دعوته الدينية، وبأنه فرَّط في أملاك مصر بالخارج. فهذا «جاردنر» يقول: «ليس فقط إخناتون وحده مسئولًا عن ضياع هيبة مصر، إنما سبقه أبوه، فهناك رسائل من أكيزي لآمنحتب الثالث، بها شكوى مريرة من الهجوم الذي تتعرض له تلك الولايات. وفي رسائل العمارنة توسُّلات يائسة من رِب عدِّي نائب الفرعون في بيبلوس، تطلب العون ضد عبد شري ومن بعده عزيرو حكام ميتاني، اللذين ارتبطا بالخابيرو وساجاز قاطعي الرقاب.»٤٨
figure
شكل رقم «١٦٩»: سيجموند فرويد.
وهكذا يجمع المؤرخون الآن على أن المتقاعس الأكبر الذي أهملَ ولايات الإمبراطورية هو الأب آمنحتب الثالث، الذي انغمس في الملذات، حتى أنهكت جسده وروحه، وأصابته أمراض الإسراف البدني مبكرًا. وفي ذلك يقول شتيندورف: «ومن غير المحتمل أن يكون آمنحتب الثالث، قد وضع قدمه على الأرض السورية، ومع ذلك فقد حاول أن يترك على آثاره انطباعًا، بأنه استطاع شخصيًّا بسيفه الماضي، أن يُخضع البلاد الأجنبية، بما فيها كوش البائسة ونهارين وسوريا، ويضعها جميعًا تحت قدمه. كما حاول أيضًا أن يقلِّد حملات سلفه العظيم تحتمس الثالث، فقام كهنته الأوفياء تنفيذًا لمشيئته بتخليده في كل معابده باعتباره الحاكم الظافر. فهو يظهر مثلًا على نصب تذكاري عظيم، واقفًا في عربته العسكرية، ممسكًا بالسوط والقوس في يده، وهو يقود خيوله منتصرًا فوق أجساد أعدائه الممزقة. بينما هو في الحقيقة قد قنع بالخروج للصيد والقنص، ليذبح الثيران والأسود بدلًا من الأعداء البشريين. وما ادَّعاه أنه قتل ١٠٢ أسدًا بيدَيه، خلال السنوات العشر الأولى من حكمه، يبدو أكثر إقناعًا من محاولته تصوير نفسه كفاتحٍ عظيم.»٤٩
وأبدًا لم يقتنع المؤرخون حتى بشهادة آمنحتب بن حابو الحكيم، الذي عُين زمن آمنحتب الثالث في وظيفة الكاتب الملكي الرئيسي للمجندين، وقال فيما تركه مدونًا باسمه: «كنت أجنِّد الشباب لمولاي، وعددت بقلمي الملايين من أعدادهم، لقد جنَّدتُ أقوى الرجال من مقعد عائلاتهم، وكنت أفرض الضرائب على البيوت، بعدد مَن بها، وأختار القوات من منازلهم، وأغرقت الفلاحين بأحسن الغنائم، التي أخذها جلالته من ميدان القتال، وكنت أحصي كمية الغنائم من انتصارات جلالته وأنا بينها، وأتصرَّف طبقًا لما يقول وأنجز ما يكلفني به. ووجدت أن ذلك مفيد لي في المستقبل.»٥٠
وربما يزيد في إدانة آمنحتب الثالث ميله الشديد لمسالمة أنسبائه، فلدينا رسالة من عاملة عبدي خيبا أو عبد هفا أو حاكم أورشليم، ترِدُ بها فقرة واضحة الدلالة. فهو يتساءل غاضبًا مستنكرًا عن تقاعُس الملك في إرسال كتائب الجيش المصري، لصد هجمات «الخابيرو». وهذه الفقرة تقول: «طالما أن سيدي الملك على قيد الحياة، فسوف أقول لمندوب جلالته: لماذا تحب العابيرو وتكره أمير الولاية المقيم؟» ومن جانبنا ننقِّب عن مصدر ذلك الغزو العابيري، فنقرأ رسالة أخرى من ذات الوالي الأورشليمي تم تصنيفها تحت رقم 286EA: «إلى كاتب الملك، سيدي من خادمك عبدي خيبا … أفصح في قولك لسيدي الملك: إن جميع أراضي سيدي الملك قد فُقِدَت.» ثم نقرأ الرسالة رقم 288EA تقول: «إن أراضي الملك قد فُقِدَت، لقد أُخِذَت مني، وهناك حرب ضدي من بلاد سعير.»٥١
ويبدو لنا أنه رغم قيام آمنحتب الثالث ببناء المعبد العظيم بالكرنك للإله آمون، ورغم رخاء عصره الذي لا شك عمَّ على كهنة آمون، وكان لهم النصيب الأعظم من جِزَى الشعوب المفتوحة؛ فإن هناك مشكلة أساسية جعلت كل هذه الرشاوى لا تجد صدًى مناسبًا من الكهنة؛ حيث كانت مشكلة الملك معهم مشكلة تأسيسية، تتعلق بالقواعد والقوانين المقدسة للملكية، حيث كانت قاعدة القواعد وناموس النواميس، أن يَئول العرش إلى بنت الملك الكبرى أولًا، ثم يتزوَّجها شقيقها، أو أي أمير يحمل الدم الملكي في عروقه عن طريق الأم وليس الأب، إنْ عزَّ وجود هذا الشقيق. وكانت حالة آمنحتب الثالث مخالفة لتلك القواعد بشدة؛ فقد تزوَّج أبوه تحتمس الرابع من «موت أم أويا»، وهي سيدة ميتانية من بلاط حكام تلك البلاد ولم تكُن مصرية؛ أي من مديان حسب نظريتنا، فهي من بدو يعيشون على الحدود المصرية. وزاد الأمر سوءًا أن ابنه من بعده الملك آمنحتب الثالث، لم يجد أميرة وارثة ليتزوَّجها، لتطبيق الشرع الإلهي لأحقية الحكم، والبعض يقول إنه كان له شقيقة طفلة اسمها سيت آمون لا تصلح للزواج، فتزوَّجها صوريًّا لكنه فضَّل عليها واحدة أخرى، هي مليكته تي، وكانت بدورها من خارج الدم الملكي. وقرَّر الفرعون، فيما يبدو، الوقوف أمام القوانين المعمول بها والثورة عليها. لكنه كي يثبت أحقيته الشرعية في التاج، أمكنه رشوة بعض الكهنة؛ لإيجاد قصة مناسبة ترقى به إلى الحكم الشرعي، فلجأ إلى حيلةٍ استُخدمت قبل ذلك مرات متباعدة، وهي ترقى بالملك إلى رتبة أعلى من المحددات القانونية لشرعية الحكم، فتضعه في مكان المعصوم وتعطيه حصانةً فوق القانون، وتتمثل في القول إن الملك قد أنجبه الإله آمون مباشرة بنفسه؛ حيث كان الدم الملكي في نسل الأسر الحاكمة يعود مباشرة إلى الإله حور القديم عبر سلسلة مواليد إناث. ومن ثَم تأتي الحيلة لتنسب الملك مباشرة إلى رب الدولة آمون الذي عاشر الأم الملكية، وهي في هذه الحالة الميتانية «موت أم أويا»، بعد أن اصطفاها من بين العالمين، وتمثَّل لها بشرًا سويًّا في شخص زوجها تحتمس الرابع، وضاجعها في هيكله بمعبده؛ لذلك فإن آمنحتب الثالث إطلاقًا لم يكُن ابن تحتمس الرابع، إنما هو ابن الإله آمون مباشرة. وفي ذلك يقول «شتيندورف»: «فهناك نقوش كثيرة من مختلف المعابد، تُصوِّر كيف أُنجب الملك من آمون، وكيف جاء إلى العالم تحت رعاية الآلهة. فنرى مثلًا داخل قاعة معبد الأقصر الإله خنوم Khnum، جالسًا أمام عجلة الفخراني؛ حيث يشكل في وجود الإلهة إيزيس طفلين ذكرين، هما الملك القادم آمنحتب الثالث وقرينه كا KA، الذي يشبه الملك تمامًا في مظهره وطبيعيته. وفي الصورة التالية نجد آمون يتصل بالزوجة الملكية العظمى موت إم أويا Mutem Wiye، ويلد منها الطفل الملكي الذي سبق أن خلقه خنوم. وفي منظرٍ آخَر يظهر الإله تحوت Thoth للملكة، ويعلن لها حملها القادم، ثم نجد نقشًا مجاورًا يقود فيه خنوم وإيزيس الملكة إلى غرفة الولادة. وهذا يتم في حضور وبمساعدة عديدة من الآلهة وأنصاف الآلهة. وبعد أن تضع طفلها تحمل الربة إيزيس الأمير المولود، وتُقدِّمه إلى أبيه آمون، الذي يأخذ الطفل بين ذراعَيه، ويعده بأن يحيا ملايين السنين مثل رع. وتقوم الربات والأبقار المقدسة بإرضاع الطفل الملكي، الذي ينمو تحت رعاية الآلهة، حتى يجلسه أبوه آمون في النهاية على عرش مصر.»٥٢ وهكذا تمكَّن آمنحتب الثالث أن يحصل بالحيلة على مكانٍ حصين إزاء شرعية الحكم؛ لأن أمه ليست من الأسرة المالكة، ولا يجري في دمها دم حور الملكي، ثم تزوَّج بزوجة غير ملكية الأصل هي الملكة تي. وحتى يثبت ذلك ويؤكده؛ تمادى إلى حدِّ أنه قرَّر أن يكون إلهًا معبودًا باعتباره الابن المباشر لآمون. وقد أصبح مؤكدًا لدينا الآن، أنه كان يعبد في صورة تماثيل بصولب ومنف وهيراكيوبوليس/الكوم الأحمر وطيبة، وهو ما زال حيًّا، بل وقرَّر أن تكون تي بدورها إلهة لها ذات الحق؛ فقد وجدنا دلائل مؤكدة أنها كانت تُعبد في سيدنجا، بعد أن تم تعيينها ربة للإقليم.٥٣

لكن ذلك كله وإنْ صار رسميًّا، فإنه لم يكُن ليخدع الكهان المخلصين من أتباع آمون، والذين ظلوا يعملون في الخفاء ضده وضد أسرته، كما سنرى ذلك أيام ولده إخناتون؛ خاصة أن إعادة آمنحتب الثالث لفعلة أبيه، بالزواج من فتاة غير نبيلة الأصل، ولا تجري في دمها الدماء الملكية هي «تي»، أضاف مزيدًا من البلل إلى الطين؛ لذلك سنقف قليلًا مع الملكة تي، نستطلع شأنها وشئون أسرة العمارنة.

ويعود تشبيه المؤرخين لعصر آمنحتب الثالث، بعصر لويس الرابع عشر في فرنسا، أو بعصر هارون الرشيد في إمبراطورية العرب، إلى كون هذا الفرعون قد ورث إمبراطورية مصرية واسعة الأرجاء، تتدفق منها الخيرات على عاصمة الإمبراطورية طيبة، حيث مقر الحكم في أقصى جنوب مصر. وفي العام الثاني من حكمه، تزوَّج آمنحتب الثالث مليكته تي ابنة يويا وتويا، وأصبحت ملكة على تلك الإمبراطورية الواسعة، رغم أنها لم تكُن من أفراد البيت الملكي. وكان المظنون أن أسرتها من عامة الشعب، ويُرجح أن والدها يويا وأمها تويا، يعودان إلى بلدةٍ تقع شمالي طيبة اسمها إخميم.

والمعلوم لدى علماء المصريات، أنه كان هناك أميرة تُدعى سيت آمون، ذكرت نقوشها أنها «الملكة بنت الملك»، لكنها كانت طفلة صغيرة عندما اعتلى آمنحتب الثالث العرش، وهو ما دعا إلى افتراض أنها كانت شقيقته وابنة تحتمس الرابع. وكان اللقب التالي الذي حازته سيت آمون هو «ابنة الملك وزوجة الملك»؛ مما أدى إلى استنتاج أن آمنحتب الثالث عقَدَ عليها زواجًا صوريًّا، مراعاةً أو خداعًا للقوانين. لكن زوجته الفعلية كانت هي «تي»، التي صارت ملكة على الإمبراطورية المصرية منذ العام الثاني لحكم آمنحتب الثالث، بقراراتٍ جريئة من الملك، الذي قرَّر أن يفرض مليكته على الجميع، وإنْ رغمَتْ أنوف، بل وقام يُعلن منحها لقب «الزوجة الملكية العظمى»، القاصر على الملكة بالوراثة في العادة المقدسة. ويقول لنا «سيدل آلدريد» بشأن الأصل غير للملكة تي، أن أباها كان يويا الكاهن الأكبر للإله مين في إخميم، والمشرف على ماشية المعبد. أما الأهم فهو أنه كان قائد فيلق المركبات الملكية (سلاح الفرسان). ويعقِّب آلدريد بقوله: «فهو إذَن من الماريانو الأشداء محترفي الجندية.» ثم يُحيطنا علمًا أن «يويا» كان من أقرباء الملكة «موت-أم-ويا» زوجة الملك الراحل تحتمس الرابع، ووالده الملك آمنحتب الثالث.٥٤
ويُحيطنا عبد المنعم أبو بكر علمًا بشخصية تي قائلًا: «وكانت تي سيدة ذكية صقلتها الأحداث، واستطاعت بدهائها أن تظل حتى آخِر أيام حكم زوجها صاحبة اليد العليا، ليس في مصر فحسب، بل في توجيه سياسة الإمبراطورية كلها، حتى بات ذلك أمرًا معروفًا عند الأمراء والحاكمين في أقاليم الشرق، فكانوا يقدِّرونها ويبعثون لها برسائل الود.»٥٥ وهكذا جاء حكم آمنحتب الثالث مشكوكًا في شرعيته من شقين: الأول أنه من أم ميتانية، والثاني أن زوجته بدورها ليست من حاملات الدم الملكي؛ لذلك سيكون نسلها مشكوكًا في شرعيته بدوره. وقد قرَّر آمنحتب الثالث تحدي الجميع بجعله الملكة تي الملكة الفعلية للإمبراطورية، بل وربة معبودة رغم أنف الجميع في تحدٍّ سافر للقوانين المقدسة.
وذهب كثيرٌ من علماء المصريات إلى أن تي كانت من غمار الشعب المصري، وهو ما يؤكده عبد المنعم أبو بكر في قوله: «كان آمنحتب الثالث من أم ميتانية … أُحيط بكل مظاهر الرعاية منذ طفولته، كما تجمعت له كل الأسباب ليصبح ملكًا، تخضع لأمره كل ثروات العالم، وتُجبى موارده كلها تحت أقدامه. نشأ مترفًا يعشق الحياة الرغدة، ويقبل على ملذات الدنيا، ويعتبره التاريخ مثلًا يُضرب لأبهة الشرق، فإن حبه للبذخ وإقباله على الانهماك في ملذات الدنيا، يجعلنا نعده بحقٍّ سلطان مصر الفرعونية … ولم يكَد يكتمل العام الثاني لتربع آمنحتب الثالث على العرش، ولعلَّه كان قد بلغ الربيع الثامن عشر من عمره، حتى اختار صبية لا تنحدر من أصلٍ ملكي زوجةً له. أبوها هو يويا كاهن الإله مين، وأمها هي تويا إحدى سيدات القصر المشرفة على الملابس في البلاط الفرعوني؛ أي لم يحمل أحدٌ من أبويها لقبًا ذا أهمية. هذه الصبية هي تي التي عُرفت بقوة شخصيتها، واستطاعت أن تجعل من نفسها إحدى سيدات التاريخ المصري الشهيرات؛ إذ كان لها أثرٌ كبير في توجيه سياسة الإمبراطورية المصرية في عصر زوجها، كما لعبت دورًا مهمًّا في الأحداث التي جرت في عهد ولدها آمنحتب الرابع/إخناتون … وإذا كان آمنحتب الثاني نصف ميتاني، ولم يكترث أبدًا لنقاء دمه الملكي، فإنه كان أول ملك اختار الزوجة الملكية العظمى، من بين بنات الشعب المصري. لقد كان — ولا شك — جريئًا في تصرُّفاته، ومجدِّدًا في التقاليد المصرية، والوثائق التي وصلت إلينا من هذا العصر، تشهد بمدى تدلُّه هذا الملك في حُب أثيرته ابنة الشعب تي، وإمعانه في إرضائها. لقد وجد من حقها عليه أن يعلن زواجه منها على شعب إمبراطوريته جميعًا. فحمل الرسل إليها بعددٍ من الجعارين الكبيرة، نقش عليها نصًّا يُعتبر بمثابة إعلان ملكي لزواجه … وما من شكٍّ أن مثل هذا الإعلان، يحوي بين طياته اعترافًا قويًّا بشعور الملك، أنه أقدَمَ على عمل ما كان له أن يُقدِم عليه، كما يحمل إصراره على ذكر اسم والد «تي» وأمها. والدليل على أنه أقدَمَ على هذا الزواج وهو يعرف معناه، لكنه لا يأبه للنتائج، وظلَّ بعد ذلك حريصًا على أن يقرن اسم زوجته الكبرى باسمه في كل مناسبةٍ دينية أو سياسية، ويشفع ذكرها بذكر أبويها أيضًا.»٥٦

وإنْ كنَّا نرى إصرار آمنحتب الثالث على ترديد ذكر اسم والدَي «تي»؛ يويا وتويا، كلَّما ورد اسم ابنتهما الملكة، له أسباب أخرى غير تدلُّه الملك في حب «تي»، وهي الأسباب التي سيأتي بيانها في موضعها من هذا العمل.

ولم يقف إكرام آمنحتب الثالث لزوجته «تي» عند هذا الحد، بل ذهب إلى أبعد منه، فنراه يخالف كل القواعد القديمة في الفن المصري، التي كانت تحرص على عدم إظهار الزوجة الملكية إلى جوار زوجها في النقوش والتماثيل، إلا في مناسباتٍ معيَّنة، وبشرط أن تقف الملكة بحجمٍ صغير جدًّا، بجانب ساق زوجها تحتضنه، ولا تصل قامتها بأي حالٍ إلى ركبته، بتواضعٍ كأنما هي شخص لا أهمية له أبدًا. وإنْ حدثَ أنْ ظهرت الملكة بجانب الملك، فيجب تمييزها بحجمٍ صغير إلى جوار حجم الملك الكبير. لكن تي أضحت تُصوَّر في التماثيل والنحوت والرسوم على قَدَم المساواة مع زوجها الملك، ويصادق على ذلك تمثالها الضخم الذي يصوِّرها جالسة إلى جوار زوجها دون تمييز في الحجم، وهو محفوظ الآن بالمتحف المصري.٥٧
 [انظر الشكل رقم «١٧٠»]
لكن إذا كانت تي وأبوها يويا يمتُّون بصِلة قرابة للملكة الوالدة «موت أم أويا»، كما قال آلدريد، وأن «موت أم أويا» من أصل ميتاني؛٥٨ ألا يفتح ذلك بابًا للشك في مصرية الملكة تي، وبذلك يكون آمنحتب الثالث قد خالف جميع القوانين السماوية دفعةً واحدة؟!
هنا نجد من الضروري إيضاح الأحوال في مصر بعد طرد الهكسوس منها، فهذا عبد المنعم أبو بكر يصوِّر لنا أحوال البلاد في لوحةٍ واضحة المعالم؛ تفاصيلها في قوله: «كما تركزت تجارة العالم القديم في مصر، وكما انتشرت الحضارة المصرية في ربوعٍ كثيرة، ولم تعُد قاصرة على فلسطين والساحل الفينيقي فقط، فإن المصريين فتحوا أبوابهم للآسيويين، فدخلت البلاد عناصر جديدة من المظاهر الحضارية، وظهرت في عصر الأسرة الثامنة عشرة أدوات موسيقية جديدة، أتت من آسيا مع أنواعٍ من الرقص الغريب. بل انتشرت في مصر بعض العادات الآسيوية، وقبِلَ المصريون عبادةَ آلهةٍ آسيوية، كما رضي ملوك مصر أن يستعملوا في اتصالاتهم الخارجية اللغة البابلية. ودخلت على اللغة المصرية كلمات أجنبية كثيرة كمدلولات للأشياء الجديدة الدخيلة على مصر. وأصبحت طيبة عاصمة الإمبراطورية، بل عاصمة العالم تتمتع بأزهى ما وصلت إليه البشرية إذ ذاك، من مظاهر الرفاهية والرخاء.»٥٩ وهي ذات المعاني التي يكرِّرها سير آلدريد، وهو يصف أحوال مصر الإمبراطورية في قوله: «كل هذه الثروة المنصبة داخل مجتمع عالَمي منفتح، في دولة ذات بلاط فاخر، به حاشية ضخمة من الأميرات الأجنبيات وبطانتهن، أثرت على البيئة المصرية النمطية … وهذا الجو الذي لم تعهده الحياة الثقافية في مصر قبل ذلك، يرجع الفضل الأكبر فيه إلى انفتاح مصر في عهد الدولة الحديثة على جيرانها الأموريين والحوريين، وعلى دنيا الهندو أوروبيين. والحقيقة أن مصر بعد حكم الهكسوس، فقدت كثيرًا من ملامحها المحلية، واقتبست الكثير من مدنيات بلاد شرقي البحر المتوسط، فأصبح الملك الإله يشبه إلى حدٍّ كبير أبطال هوميروس … وأصبح لأعوانه طابع الماريانو (المرتزقة المقاتلين)، الذين كانت لهم السيطرة على المجتمع الآسيوي في ذلك الوقت، وتزايد نفوذ وتأثير الزوجات الأجنبيات والعبيد، بل حتى الموظفين العاديين.»٦٠
figure
شكل رقم «١٧١»: تدريب على لونٍ من رقص الرجال الإيقاعي. لاحظ ربط الساقين لضبط الحركة، والمغنِّي يضع يده على أذنه وصدغه بنفس الأسلوب الشرقي الحالي (أول الصف الأول)، فن اعتيادي بمصر القديمة.
figure
شكل رقم «١٧٢»: من فنون الرقص المصري المعتمد على الحركة للصورة الفنية المطلوبة، فن اعتيادي بمصر القديمة.
figure
شكل رقم «١٧٣»: ألوانٌ أخرى من الرقص المصري مع عازفة ومصفقات، ولم تزَل العوالم والريفيات يطرقعن الأصابع بذات الحركات المصاحبة إلى اليوم، فن اعتيادي بمصر القديمة.

المهم أن آمنحتب الثالث عاش حياة شديدة الرفاهية، غارقًا في الملذات، وهو ما تؤكده الخطابات التي كان يرسلها إلى أمراء مصر على البلاد الآسيوية، فهناك خطاب أرسله إلى «ميلكيلي» أو «الملك علي» أمير جازر مع رسوله خانيا، يقول له فيه: إنه في حاجة إلى «أربعين فتاة من أجمل فتيات المدينة، يتميزن بوجوهٍ جميلة وقوام ممشوق، وليس في إحداهن ما يعيب حُسنها»، ويردف الفرعون بعد ذلك القول: «وسأتخذ من هذه الهدية مقياسًا لحُسن ذوقك وخبرتك.»

وهناك خطاب آخَر أرسله إلى «شوبا ندو»، أحد الأمراء السوريين، وثالث إلى «عبدي خيبا» أمير أورشليم، يطلب منه إحدى وعشرين فتاة، أبكارًا غير ثيبات، ثم أرسل أكثر من أربع مرات، يلح في طلب ثلاثين عذراء، من حليفه الملك الميتاني «دوشراتا». وهو ما يعقِّب عليه عبد المنعم أبو بكر: «لا نكاد نشك أن البلاط المصري كان يعج بالغواني الأجنبيات، وأن صاحبه كان منغمسًا حتى أُذنَيه في اللهو والمجون، وكانت النتيجة الحتمية لازدحام البلاط الملكي بهذه الوفرة من السرايا (وقد حضر منهن في عصر آمنحتب الثالث فقط ٤٢٨ غانية على أقل تقدير)، أنْ أخذ الدم الأجنبي يزداد امتزاجًا في عروق المصريين، وبخاصةً أن سراة القوم وكبار رجال الدولة، أخذوا هم أيضًا يجارون الملك، ويعملون من جانبهم على استجلاب محظيات من بلدان آسيا القريبة، وكان لتجميع هؤلاء في البيوتات المصرية أيما أثر في انتشار كثير من العناصر الحضارية الأجنبية، وتغلغُلها في الحضارة المصرية.»٦١ ويختم آلدريد وصف حياة هذا الملك، فيقول: «إن الملذات قد استنفدت صحته»، «حتى انتهى عاجزًا مريضًا، ومات بملذاته.»٦٢
وسعيًا وراء العثور على طرف الخيط في الأصل الوطني للملكة تي، نقترب من يويا وتويا: كان يويا والد الملكة تي هو قائد المركبات الملكية وصاحب الخيل، أي كان قائدًا لسلاح الفرسان. وقد أثبت الفحص الطبي لمومياء يويا، أنه كان ذا مظهر مخالف للجنس المصري، فهو طويل القامة على غير المعتاد، شعر رأسه طويل أبيض متموج، أنفه كبير بارز معقوف، شفتاه غليظتان بارزتان.٦٣ وهو الأمر الذي شكَّك تمامًا في انتسابه للمصريين، وقامت على ذلك أبحاثٌ كثيرة.
figure
شكل رقم «١٧٤»: الملكة تي سوداء سيناوية/رأس من خشب الأرز محفوظ بمتحف آثار برلين، العينان مطعمتان والرأس مكسو بقلنسوة من الفضة، والقلنسوة مُثبتة على الجبين بشريطٍ من ذهب.
وقد حاز «يويا» هذا في عهد الملك «آمنحتب الثالث» على ألقاب كثيرة وعديدة، ربما كان أهمها هنا: وكيل الملك للعجلات؛ أي: نائب الفرعون على قيادة سلاح الفرسان. و«حامل ختم الملك»، ومعنى ذلك: أنه كان الكاتب الملكي الرسمي وكاتم السر. وأيضًا لُقِّب «فم الملك»، وهو ما يعني أنه كان المتحدث الرسمي باسم البلاط. ثم لُقِّب «آذان الملك»؛ أي: إنه أيضًا كان رئيس الاستخبارات وشرطة أمن الدولة. ثم لُقِّب «الذي أغناه ملك مصر»، وهو ما يعني أن يويا ما كان ليصل إلى مركزه هذا، إلا بفضل الملك ورضاه ورعايته وبقصد منه، وأنه لم يكُن كذلك قبل ذلك. أما اللقب الأهم فهو «الأب المقدس» أو «والد الإله»، وهو اللقب الذي كان يعني لحامله أنه حمو الملك، ووالد زوجته الملكة أو شقيقتها.٦٤ لكن ما يجب تذكُّره جيدًا أن مقبرة هذا الرجل «يويا» وزوجته «تويا» التي اكتُشِفَت بوادي ملوك، لم يُعثر بها على نقوشٍ أو رسوم أو كتابات تمثِّل الاعتقادات المصرية، وخاصةً تلك التي تمثِّل الاعتقادات في الحياة بعد الموت، وهو الأمر الذي يخالف المعتاد في كل مقابر مصر القديمة؛٦٥ مما يشير إلى أن صاحبها كان لا يعتقد، حسب عقيدته المجهولة لنا الآن، في عالَم آخَر من بعد الموت فيه بعث وحساب وجزاء وثواب وعقاب. والمعلوم أن الديانات السامية وأبرزها اليهودية، كانت لا تعتقد في بعث وحساب، ولم يطرأ ذلك الاعتقاد على الديانة اليهودية، إلا متأخرًا جدًّا قبل قرنين فقط من الميلاد. كذلك كان الأنباط لا يهتمون إطلاقًا بالموتى، وكانوا يعتبرونهم لونًا من القمامة، والأغراض التي انتهت فائدتها يُهال عليها التراب؛ منعًا لضررها على الأحياء ليس أكثر.
وبعد خلاف طويل بين الباحثين، انتهى الأمر إلى أن يويا وتويا، قد أنجبا عددًا من الأبناء والبنات، منهم مَن انطفأ ذكره مبكرًا، أو ليس لدينا عنه معلومات كافية مثل حنين Anen، الذي يترجم عادة «عانن»٦٦ ثم أشقاء وشقيقات أخريات أكثر أهمية، وصلتنا أسماؤهم من هذه الحقبة الهامة في تاريخ مصر. فإضافةً إلى «تي» التي اختارها آمنحتب الثالث ملكةً لإمبراطوريته، كان هناك أيضًا أسماء تحمل ذات التنغيم الغريب على اللسان والمسمع المصري، فقد كان من أبنائه الذكور «آي» الذي اعتلى عرش مصر بعد ذلك بفترة، وكان ذا يد طولى في أحداث فترة العمارنة، وكانت له زوجة تحمل اسمًا من ذات النغمات «تاي». ولا نعلم إنْ كانت شقيقةً له وللملكة «تي» أم لا، لكنها قد حملت فيما بعد لقب «مربية الملكة»، وحمل «آي» نفسه لقب أبيه يويا «الأب المقدس»، و«والد الإله». وهو ما تم تفسيره بأن «آي» كان والدًا للملكة نفرتيتي التي تزوَّجها الملك آمنحتب الرابع/إخناتون؛ لذلك استحق «آي» ذلك اللقب، الذي يعني أنه حمو الملك إخناتون، كما تقلد كافة المناصب والألقاب، التي كان يحوزها أبوه «يويا».٦٧ وبهذا المعنى يكون آي ابن يويا وتويا والدًا للملكة نفرتيتي، وخالًا للفرعون آمنحتب الرابع/إخناتون وحمًا له. أما الأهم هنا فهو أن آي قد نُسبت إليه كثير من الآراء، التي جاء بها الفرعون إخناتون، التي تُسمى بالهرطقة الآتونية، بل إن النشيد الشهير لدينا الآن، في عبادة الإله آتون، والذي يظن البعض أن مؤلفه هو إخناتون، قد وُجد مسجلًا بالتحديد، وبالذات في مقبرة آي في العمارنة.٦٨ وقد أنجب آي إضافةً إلى نفرتيتي — إذا كانت نفرتيتي ابنته فعلًا — الأميرة التي حملت اسم موت سخمت، والقائد العسكري نخب مين.٦٩
ومعلوم أن «آي» قد أصبح وصيًّا على العرش بعد اختفاء إخناتون، وإبان حكم الصبيين اللذين خلفا إخناتون على العرش: سمنخ كا رع وتوت عنخ آمون، وبعد موتهما المبكر قفز على العرش، وشرع له بزواجه من عنخ أس. أن. با. آمون أرملة توت عنخ آمون.٧٠
figure
شكل رقم «١٧٥»: رأس تي، جاءتنا تماثيلها من سيناء بالتحديد وبالذات!
ويستلفت كل حواسنا ذلك التنغيم في أسماء أسرة العمارنة، ذات الأصول الميتانية «موت أم ويا»، يويا أو يهويا، وتويا وتي وآي أو ياي. وقد لاحظ عالِم المصريات سيرل آلدريد ذلك فقال: «واضح أن العائلة كان لها وَلَع واضح بأسماء من نفس الفصيلة مثل ييي ويوا وآي، وكلها متقاربة الرنين قد توحي بوجود نوع من القرابة بين حامليها.»٧١ لكن الاسم المنغم هذا يحمل لنا إشارات واضحة إلى الرب التوراتي ياه، إهيه، يهوه، يهيه، يه، على مختلف التنغيمات. لقد كانت أسرة العمارنة من جهة الخئولة تعبد الإله يهوه السينائي المدياني؛ لأنها ببساطة كانت من نسل سيدات ميتانيات أو مديانيات. وهو ما يفسر لنا لماذا خَلَت مقبرة يويا وتويا من أي نقش حول العالَم الآخَر؛ لأن عقيدة يهوه خَلَت تمامًا من أي اعتقاد في البعث والحساب، وكان اليهودي يعتقد أن مصير الجميع بعد الموت صالح وطالح إلى هوية العالم التحت أرضي، يعيشون هناك في الرغام والطين بين الآفات التحت أرضية كالأفاعي والعقارب والديدان. وكان ثواب المؤمن أو عقابه دنيويًّا، بطول العمر والسعادة المادية، أو العكس بالشقاء في الحياة، ثم الموت السريع.

ثم نتساءل: لماذا نجد تماثيل تي في سيناء، تحديدًا بالذات قرب الجبل المقدس كاترين؟ ثم ألا تشير تلك التماثيل إلى امرأة كوشية مهجنة، فهي سوداء لكنه السواد السيناوي بكل ملامحه.

ثم نعود بقارئنا إلى لوحات حتشبسوت في رحلة بونت، لنعلم دون أن تصيبنا الدهشة أن زوجة عظيم بونت بارح أو فرح أو رابح أو رابع أو رباح، كانت تحمل اسم «إ-تي»، وهو اسم يحمل معنى السيادة: الرئيسة.٧٢ (الرئيسة بمعنى السيدة)، كما في تسمية المصريين الآن للأفراد باسم «سيد»، ومنهم صاحب هذا الكتاب.
١  عباس العقاد، الله، كتاب الهلال، عدد ٤٢، القاهرة، سبتمبر ١٩٥٤م، ص٥٦، ٥٧.
٢  السواح، مغامرة … سبق ذكره، ص١٠٦.
٣  رمضان السيد، تاريخ مصر القديمة، هيئة الآثار المصرية، القاهرة، ١٩٩٣م، ج٢، ص١٠١، ١٠٩.
٤  سيجموند فرويد، موسى … سبق ذكره، ص٣٤.
٥  محمد عبد القادر محمد، آثار الأقصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ١٩٨٢م، ص٧٣، ٧٥.
٦  الموضع نفسه.
٧  آلدريد، إخناتون … سبق ذكره، ص٨٩.
٨  عبد المنعم أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٣٦.
٩  نفسه، ص٣٩، ٤٠.
١٠  سيد توفيق، إخناتون أول الموحدين، فكر للدراسات والأبحاث، العدد ٩، القاهرة، ١٩٨٦م، ص٧٠.
١١  مختار السويفي، مصر والنيل في أربعة كتب عالمية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ١٩٨٦م، ص١٢٢.
١٢  آلدريد، إخناتون … سبق ذكره، ص٧، ١٦.
١٣  جمال الدين مختار، تقديمه لكتاب جوليا سامسون (نفرتيتي) سبق ذكره، ص١١.
١٤  الموضع نفسه.
١٥  سيد توفيق، إخناتون … سبق ذكره، ص٧٠.
١٦  نفسه، ص٧١.
١٧  آلدريد، إخناتون … سبق ذكره، ص٧٢، ٧٣.
١٨  عبد المنعم أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٣٧.
١٩  سيد توفيق، إخناتون … سبق ذكره، ص٧٠، ٧١.
٢٠  فهمي خشيم، آلهة … سبق ذكره، ص٢٨٩، ٢٩٢.
٢١  جاردنر، مصر الفراعنة … سبق ذكره، ص٢٣٢، ٢٣٣.
٢٢  طه باقر، الوجيز … سبق ذكره، ص٣٦٥.
٢٣  جوليا سامسون، نفرتيتي … سبق ذكره، ص٢٨.
٢٤  عبد المنعم أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٦٧.
٢٥  سليم حسن، الأدب المصري … سبق ذكره، ج٢، ص١١٠.
٢٦  سليم حسن، مصر القديمة … سبق ذكره.
٢٧  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٦٩.
٢٨  آلدريد، إخناتون … سبق ذكره، ص١٠٤.
٢٩  سيد توفيق، إخناتون … سبق ذكره، ص٧٥.
٣٠  دوماس، آلهة … سبق ذكره، ص١٢٢، ١٥٦، ١٥٥، ١٢٣.
٣١  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٤٥.
٣٢  عفيف بهنسي، إيبلا والتوراة، مجلة المعرفة، وزارة الثقافة، دمشق، عدد ١٩٧، تموز ١٩٧٨م، ص٧٧.
٣٣  أحمد سوسة، العرب واليهود … سبق ذكره، ص١٧٢.
٣٤  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٤٠.
٣٥  كاسيدوفسكي، الواقع والأسطورة … سبق ذكره، ص٧٩.
٣٦  محمد حماد، كامس … سبق ذكره، ص١٨.
٣٧  محمد إبراهيم بكر، صفحاتٌ مشرقة من تاريخ مصر القديمة، دار المعارف، القاهرة، ط٢، ١٩٨٧م، ص٢١٩.
٣٨  لويس عوض، مقدمة … سبق ذكره، ص٢١.
٣٩  فرويد، موسى … سبق ذكره، ص٢٩-٣٠.
٤٠  أحمد عثمان، تاريخ اليهود، ج١، ص٥٨، ٥٩.
٤١  شتيندورف وسيل، عندما حكمت … سبق ذكره، ص٢٠٦.
٤٢  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٨٠.
٤٣  فرويد، موسى … سبق ذكره، ص٣١.
٤٤  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٧٨.
٤٥  أحمد قدري، المؤسسة العسكرية المصرية في عصر الإمبراطورية، ترجمة مختار السويفي، هيئة الآثار المصرية، القاهرة، ١٩٨٥م، ص١٥٧.
٤٦  نفسه.
٤٧  جوليا سامسون، نفرتيتي … سبق ذكره، ص١٣٠.
٤٨  جاردنر، مصر الفراعنة … سبق ذكره، ص٢٥٧، ٢٥٨.
٤٩  شتيندورف وسيل، عندما حكمت … سبق ذكره، ص٩٦.
٥٠  نفسه، ص٩٨.
٥١  Albright, W., Akkadian Letters, The Amarna Letters, in A.E.T., p. 487.
٥٢  شتيندورف وسيل، عندما حكمت … سبق ذكره، ص١٠٣.
٥٣  آلدريد، إخناتون … سبق ذكره، ص٦٥.
٥٤  نفسه، ص٨٣-٨٤.
٥٥  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٧٢، ٧٣.
٥٦  نفسه، ص١٩–٢٣.
٥٧  نفسه، ص٢٣.
٥٨  آلدريد، إخناتون … سبق ذكره، ص٨٤.
٥٩  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص١٥، ١٧.
٦٠  آلدريد، إخناتون … سبق ذكره، ص٦٠.
٦١  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٨، ٣٠، ٣٥.
٦٢  آلدريد، إخناتون … سبق ذكره، ص١٩، ٦٩.
٦٣  نفسه، ص٥٢.
٦٤  أحمد عثمان، غريب في وادي الملوك، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط١، ١٩٨٩م، ص٦٦، ٦٧.
٦٥  نفسه، ص٦٥، ٦٦.
٦٦  أحمد قدري، المؤسسة العسكرية … سبق ذكره، ص١٤٣.
٦٧  نفسه، ص١٤٦، ١٤٧. انظر أيضًا: آلدريد، إخناتون … سبق ذكره، ص٨٦، ٨٧.
٦٨  آلدريد، إخناتون … سبق ذكره، ص٨٥.
٦٩  نفسه، ص٨٧، ٨٨.
٧٠  قدري، المؤسسة … سبق ذكره، ص١٧٨؛ وشتيندورف وسيل، عندما حكمت … سبق ذكره، ص٢٢٢، ٢٢٣.
٧١  آلدريد، إخناتون … سبق ذكره، ص٨٤، ٨٥.
٧٢  سليم حسن، مصر القديمة … سبق ذكره، ج٤، ص٣٢٨، ٣٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤