الفصل الثالث

نهاية إخناتون الغامضة

كانت أيامًا عصيبة على كهنة آمون والمتدينين عمومًا، وهم عموم الشعب المصري، فعلامات الساعة تقترب، ويعلو عرش مصر آمنحتب الثالث كاسرًا كل القواعد المقدسة، فهو من أمٍّ ميتانية هي «موت أم ويا»، ومعنى اسمها يُشير إلى قدومها عبر المياه، فهو «موت القادمة بالسفينة»، ثم يزيد الأمر سوءًا فيتزوج بدوره من ميتانية، بل ويجعل من زوجته الميتانية تي الملكة العظمى هي الملكة «تي»، ويُسدل ستارًا كثيفًا من النسيان على الأميرة الطفلة سيت آمون الصاحبة الحقيقية للعرش، حسب القوانين الإلهية المقدسة السرمدية.

ثم يأتي ولده إخناتون بدوره من أمٍّ ميتانية هي الملكة «تي»، الذي يسير سيرة أبيه فيتزوج نفرتيتي، ليُسمِّيها اسمًا على مُسمًّى؛ لأن نفرتيتي الاسم المصري الذي أطلقه عليها الفرعون، ويعني الجميلة قد أتت، أو قد وصلت، والتي تشير إلى مجيئها من بلادٍ أخرى. وإذا كان آمنحتب الثالث قد استنجد بكهنةٍ مرتشين، بنى لهم معبد آمون بالكرنك، لينقش له رجاله المخلصون على واجهته قصته المصورة، عندما أنجبته أمه «موت أم ويا» من الإله آمون مباشرة، فإن ولده إخناتون جاء بقصةٍ أخرى تمامًا، واتخذ أسلوبًا مخالفًا تمامًا، فقد قام بنفي آمون نفسه وبطانته وقوانينه المقدسة، ثم كل الآلهة دفعة واحدة، لينصِّب ربه آتون وحده ربًّا للجميع طوعًا أو كرهًا. ولكنه كان قد حاز مبكرًا الرفض من قبل كهنة آمون لأنه بميلاده ذاته، كان بشخصه نفسه قمة مخالفة القوانين الإلهية، وتسنم العرش وبه تلك المعايب المفظعة الأصيلة في بذرته.

وحول الشك في شرعية حكم إخناتون، يقول أحمد عثمان: «أَحبَّ آمنحتب الثالث تي ابنة وزيره يويا، وتزوَّجَها في السنة الثانية لحُكمه، وجعلها ملكة على مصر، خروجًا على التقاليد المصرية التي كانت لا تمنع الملك من اتخاذ أي عدد من الزوجات، لكن الملكة التي تلد ولي العهد، يجب أن تكون هي الوريثة الشرعية، أي الابنة البكر للملك السابق. ولأن آمنحتب الثالث لم يلتزم بهذه التقاليد، عندما أصرَّ على اعتبار تي — وليست أخته سيت مون — هي الملكة، رفض الكهان اعتبار الولد الذي تلده تي ابنًا شرعيًّا لآمون. وكان أن اختفى ابنها الأول تحتمس في ظروفٍ غامضة، بعد أن عيَّنَه أبوه وليًّا للعهد بمدةٍ قصيرة؛ ولذلك عندما حلَّ موعد ولادتها الثانية في العام الثاني عشر لآمنحتب تركت القصر الملكي، وذهبت لتعيش في القصر الصيفي في زارو [أو ثارو أو شارو أو سيله أو شور/المؤلف]، وكان أول ما نسمع عن ابن تي أنه وصل إلى العاصمة طيبة، عندما كان قد بلغ ١٦ عامًا. وبحسب الاعتقادات المصرية فإن آمون يرفض الحلول في جسد الملك، إذا لم تكُن زوجته هي الوريثة الابنة البكر للملك السابق. وعلى ذلك فإن ابن تي لا يُعتبر ابنًا لآمون، ولا يحق له الجلوس على العرش … لكن آمنحتب الثالث تجاهل كل هذه التحذيرات، وأشرك معه ابن تي في الحكم بعد أن زوجه نفرتيتي.»١
وهكذا يذهب أحمد عثمان إلى مذهب المدرسة، التي ترى إخناتون قد ظهر فجأةً، وعُمره ستة عشر عامًا في طيبة، ليشارك أباه الحكم فترة تصل إلى ست سنوات، ليموت بعدها آمنحتب الثالث وينفرد إخناتون بالعرش. رغم أن هناك مدرسة نميل نحن إلى الأخذ برأيها، تقول إن إخناتون ظهر فجأةً ليحكم في طيبة، ولكن بعد موت أبيه آمنحتب الثالث ليحكم بمفرده سبعة عشر عامًا. وتُقدِّم تلك المدرسة على ذلك أدلةً قوية إلى حدٍّ بعيد. وأهمها خطابات الملك الميتاني «دوشراتا»، أو كما قرأناه نحن «ذو الشرى»، التي أرسلها إلى إخناتون تسديه النصيحة بالرجوع إلى أمه الملكة تي، لاستشارتها في أمور الدولة وعلاقتها بالدول الخارجية. وهو ما يعني أن الملك لم يكُن قد اكتسب خبرة كافية عند انفراده بالحكم لاحتياجه إلى رأي أمه. ويعزِّزون رأيهم بما جاء في إحدى رسائل ذي الشرى (دوشراتا المدياني/الميتاني). وكانت أولى رسائله لإخناتون بعد وفاة آمنحتب الثالث مباشرة. وكانت تتعلَّق باحتفالات تأبين الملك الراحل، وكان على الرسالة بطاقة تاريخها هو السنة الملكية الثانية، ويذكر فيها أن الملك إخناتون كان في مقر إقامته بطيبة، وهذا يدل على أن إخناتون أقام أثناء سنوات حُكمه المبكرة بطيبة، ولم ينتقل إلى العمارنة إلا في السنة الخامسة من سنوات حكمه.٢ لكن الدليل الدامغ في رأينا فهو رسالة الملك الميتاني إلى إخناتون يهنئه بارتقاء سنام العرش المصري ويعزيه في الوقت ذاته في وفاة والده، مما يشير إلى التعاقب المباشر للحدثين [مات الملك عاش الملك]، وهو ما يعني أن إخناتون لم يحكم مشاركًا لأبيه قبل وفاة والده، كما ذهب بعض علماء الآثار. يقول الملك الميتاني في رسالته:
عندما أُبلغت بأن أخي نيموريا [كما كان آمنحتب الثالث يُعرف في الألواح المسمارية/ المؤلف] قد ذهب إلى مصيره، بكيت في ذلك اليوم، لقد جلست هناك نهارًا وليلًا. في ذلك اليوم لم أتناول طعامًا ولا شرابًا؛ لأني كنت حزينًا، وقلت: ليت الذي مات كان شخصًا آخَر في أرضي أو أرض أخي، وأخي الذي أحببتُه وأحبَّني كان لا يزال حيًّا؛ لأن حبنا باقٍ كبقاء السماء والأرض، لكن عندما تولى الحكم نابخوريا [الاسم بالنقش المسماري لإخناتون ويُكتب أيضًا نفوريا من اسم العرش نفر خبروا رع/المؤلف] الابن الأكبر لنيموريا من الزوجة العظمى تي، قلت: لم يمُت نيموريا إذا كان ابنه الأكبر نابخوريا يحكم مكانه، إنه لن يغير كلمةً واحدة من مكانها السابق. والآن يا أخي سوف نحتفظ بصداقةٍ أقوى عشر مراتٍ مما كانت في عهد أبيك.٣

فيما عدا ذلك فإن أحمد عثمان أفادَنا بخبر نافع، يبدو أنه استنتاج ناجح من جانبه، مع تَرْك مساحة للقارئ لمزيدٍ من الاستنتاج، ليصل إلى أن إخناتون قد استُبعد صغيرًا من مصر، حيث ولدته أمه على المدينة الحدودية مع سيناء (شارو)، ولم يظهر له ذكر بعد ذلك إلا عندما تربَّع على العرش. وإذا تصورنا أنه لحماية الطفل من الدسائس والمؤامرات، تم استبعاده وهو على حدود سيناء، وإلى الجوار من أخواله الميدانيين، فإن هذا الاستبعاد لا بد أن يكون إلى هؤلاء المديانيين تحديدًا، ليقضي هناك طفولته حتى يفوعه صبيًّا في السادسة عشرة من عمره.

ونستعيد هنا رواية يوسفيوس اليهودي، نقلًا عن مانيتون المصري، وهو يحدِّثنا عن فتنة أوزرسيف الكاهن المصري، الذي هرب من عين شمس إلى الأسرى المضطهدين من بقايا الهكسوس، على الحدود المصرية في مدينة حواريس الهكسوسية، وكيف قام أوزرسيف وأتباعه بفتنةٍ عظيمة زمن فرعون باسم آمنحتب، وأن أوزرسيف أرسل واستدعى هكسوس فلسطين المطرودين من مصر منذ زمن أحمس، وعاوَنَهم لدخول مصر في غزوة هكسوسية ثانية.

ويقول لنا يوسفيوس إن بقايا هؤلاء الهكسوس أصحاب الفتنة، الذين عاشوا في حواريس، هم الذين أصبحوا بني إسرائيل بعد ذلك، وإن الملك آمنحتب كان لا يحب الحروب؛ لذلك أرسل ابنه «هارامبيس»، وكان في الخامسة من عمره، إلى ملِكٍ صديق، وانسحب جنوبًا بجنده تحاشيًا للحرب، ليحلُّوا ضيوفًا على ملك إثيوبيا. وقضى القدَر أن يعيش آمنحتب ومعه ثلاثمائة ألف جندي في هذا المنفى الإثيوبي ثلاثَ عشرة سنة، عادوا بعدها للقتال، وجاء ابنه هرمبيس أو حرمبيس (حور محب) بجيشٍ آخَر من البلاد التي تربى فيها، بعد أن بلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، واشتركا معًا في قتال الهكسوس والناس الفاسدين: أوزرسيف ورجاله، وهزموهم وطاردوهم حتى سوريا. وهنا نقف مع اسم آمنحتب كملكٍ يعتبره مانيتون ومن بعده يوسفيوس ويوليوس الأفريقي وغيرهم، هو فرعون خروج بني إسرائيل، لنجد أحداث ذلك القص يتوافق مع أحداثٍ تاريخية بين أيدينا. فإخناتون يغادر البلاد طفلًا، ليعود ملكًا على عرشها، وهو ابن آمنحتب الثالث الاسم الذي يلتقي مع آمنحتب في رواية مانيتو، كذلك هرمبيس تم إرساله إلى بلاد صديقه، ثم عاد إلى بلاده بجيشٍ ليصبح بعد ذلك ملكًا، وكلاهما حكَمَ صبيًّا في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره. ونتذكر الآن اللوحة الوحيدة اليتيمة، التي صُوِّر فيها ابنٌ ذكر لآمنحتب الثالث، وتصوِّرهما يركبان سفينةً؛ مما يشير إلى أهمية الحدث، وضرورة تسجيل لحظة وداع الأب لابنه المغادر. لكنَّا نتذكر أيضًا أنه تم محو اسم الابن، وكُتب محلَّه اسم «هرمبيس» (حور محب)، الذي جاء عند يوسفيوس بالنطق اليوناني هرمبيس، بعد انقضاء زمن العمارنة ومجيء الثورة الآمونية بقيادة قائد الجيوش حور محب الذي أنهى عهد العمارنة تمامًا، ومحا اسم آتون وإخناتون من كل أثر. وضِمنَ ذلك تم محو اسم ابن آمنحتب الثالث، وهو آمنحتب الرابع، ودُوِّن بدلًا عنه اسم حور محب، فظهر حور محب بذلك كما لو كان الابن المباشر لآمنحتب الثالث، وهو الخطأ الذي وقع فيه جميع المؤرخين القدامى، فبسقوط أسرة العمارنة كاملة (إخناتون، سمنخ كا رع، توت عنخ آمون، آي) من التاريخ، أصبح الانتقال يتم من آمنحتب الثالث إلى حور محب مباشرة، وهو الذي يُنطَق يونانيًّا هارمبيس، ذلك الذي استبعده آمنحتب غير المحدد، أبوه المذكور باسم آمنحتب دون تحديد، وهو طفل صغير، أيام فتنة أوزرسيف في رواية مانيتون الرائع.

ويعود الطفل صبيًّا ملكيًّا يافعًا يضرب بيدٍ من حديد، ليدفع بالخلاف مع الكهنة وقوانينهم إلى أقصى مدًى، ويسدِّد ضرباته لآمون ومعابده ويغلقها ويصادر أموالها، ويهاجم معه كل الآلهة الأخرى، ويعلن أنه الوحيد الذي يعرف الإله الوحيد، وأنه نبي ورسول هذا الإله الذي يُلقي إليه بالوحي، وأنه مُرسَل إلى كل البشر، بل وكل الكائنات حتى الجبال! وهو ما يُفهَم من الحوار المدوَّن في مقبرة وزيره رعمسيس، حيث يقول إخناتون لوزيره: «كلمات رع ألقيتها إليك، إن الإله علَّمني إياها وكشف لي عن خباياها، وهذه الكلمات عَرَفها قلبي وانشرح لها صدري.» فيرد عليه وزيره رعمسيس قائلًا: «إنك الوحيد الذي اختاره آتون لكي يُلقي إليه بتعاليمه، والخوف منك يملأ قلوب الناس، والجبال تستمع إليك كما يستمع الناس.»٤
ثم إن إخناتون اعتبر نفسه ابنًا مباشرًا للإله آتون، حتى أنكرَ بنوَّته لأبيه آمنحتب الثالث. وضِمنَ تراتيل إخناتون نستمع إلى هذا الشعور القوي بالنبوة وبالبنوة — حيث كان معنى النبوة هو معنى البنوة المباشرة للإله — إذ يخاطب ربه آتون قائلًا:

إنك في قلبي!

وليس هناك مَن يعرفك سوى ابنك نفر خبرو رع وع إن رع، الذي أطلَعْتَه على أسرارك وقوَّتك … إنك أنجبت جلالته كما تُنجب نفسك كلَّ يوم دون توقُّف. لقد خلَقْتَه مثل أشعتك لتجعل حياته مثل آتون … يا آتون الحي الوحيد، إنك أنت الأبدية، والسماء هي معبدك الذي تشرق فيه كلَّ يوم، لتلد ابنك الذي خرج من جسدك ملك الجنوب والشمال نفر خبرو رع وع إن رع … إنك أنت الأبدية وابنك مثلك … إنك تعمل طبقًا لما يخرج من فمك، إنك تلبِّي طلباته، إنك تحبه وقد صنعته مثل آتون … ابنك الذي خرج من أعضائك. إنك تسمع له وتسمع لما في قلبه … يا آتون الحي الذي يشرق كلَّ يوم، لتلد ابنك الذي خرج من جسد ملك الجنوب والشمال، نفر خبرو رع وع إن رع.٥
القصيدة فيها تمجيد واضح للذات، ولم يجد إخناتون حرجًا في أن ينال صفات آتون الإلهية، وهو ما آمن به وأعلنه للناس، بل يقول لنا عالِم الآثار «سيد توفيق»: «كان الشعب يخاطب إخناتون بصفته إلهًا، أو على الأقل في مصافِّ الآلهة؛ فقد أشارت إليه النصوص على أنه الإله الذي خلق نفسه بنفسه، الذي خلق الأرض كلها … وهو الذي خلق الإنسان وخلق معه الزمان وحدَّد عمره … وهو الأم التي أنجبت كل البشر … إن إخناتون لم يكُن ملكًا فحسب، بل ارتفع إلى مصافِّ الآلهة، فكان له كهنته الذين يقومون على خدمته مثل باقي الآلهة المصرية.»٦
نعم كان المصري القديم يؤمن بقدسية الملك؛ لأنه يحمل في تكوينه شقًّا إلهيًّا، فهو لاهوت قبل أن يكون ناسوتًا. لكن لم يحدث أن أعلن ملك عن ألوهيته الكاملة، وطلب من رعيته عبادته إلا في حالاتٍ نادرة، منها حالة آمنحتب الثالث ثم ولده إخناتون. وبعد ذلك لا نجدها إلا عند رمسيس الثاني. وهكذا أعلن إخناتون ألوهيته في حديث «سيد توفيق»، حيث يقول: «وقد أشار جون ويلسون إلى أن ديانة العمارنة، كان فيها إلهان رئيسيان؛ الملك الذي قال هو عن نفسه الابن الجسدي لآتون، وبدليل المناظر العديدة التي تمثله على جدران مقابر تل العمارنة، يتعبَّد إلى قرص الشمس الخالد، بينما ينحني جميع رجال بلاطه وهم يعبدونه. ويعتقد جون ويلسون أن صلواتهم لم تكُن موجهة إلى آتون، بل كانوا يتوجهون بها رأسًا إلى إخناتون. وقد وجه آي الذي أصبح ملكًا فيما بعد حديثَه إلى إخناتون قائلًا: ليتك تهبني عمرًا طويلًا سعيدًا كأحد المحبوبين منك … ليتني أسمع صوتك الجميل المقدس عندما تؤدي ما يُسَر له أبوك آتون الحي!»٧
ثم يُورِد لنا توفيق ترنيمة صلاة أخرى يؤديها أحد نبلاء العمارنة لإخناتون مباشرة، فيرفع إليه الدعوات قائلًا: «ليتك تجعل ابنك المحبوب إخناتون يعيش معك إلى الأبد، ليفعل ما يحبه قلبك، وليرى ما تفعله كل يوم؛ لأنه ينشرح صدره برؤية جمالك، دعه يبقى هنا في تل العمارنة حتى يتحول لون الإوز العراقي إلى السواد، وحتى يَبْيضَّ الغراب الأسود، وحتى تتحرك الجبال وتسير، وحتى يجري البحر إلى النهر، وليتني أظل أخدم الإله الطيب إخناتون، حتى يمنحني القبر الذي يعطيه.»٨
هذا بينما تم تنزيه وتجريد الإله إلى مستوًى لم تعرفه العقائد المصرية من قبل، فيقول «شتيندورف»: «في سنوات إخناتون المبكرة كان الإله يُصوَّر على الآثار في شكل آدمي له رأس الصقر؛ مثل رع حور آختي القديم، ثم لم تلبث أن حرَّمَت الديانة الجديدة تصوير الإله، على أن تُوجَّه العبادة نحو الأشعة المرئية المنطلقة من قرص الشمس. ومن المؤكد — على أية حال — أن إله الموتى القديم أوزيريس الأول بين الغربيين [أي حاكم مملكة الموتى في الغرب/المؤلف]، فَقَد مكانته وحلَّ محله فيها آتون الحي، الذي ينثر أشعته على الموتى المباركين في ساعات الليل، ولكن العادات الجنازية عمومًا ظلَّت فيما يبدو كما هي بدون تغيير.»٩
نعم كان الإله آمون قد بلغ رتبةً عالية من التجريد، فيصفه دوماس على ما بيديه من وثائقَ مصرية تتحدث عن آمون بأنه «الإله الذي لا يمكن معرفته، إنه ليس خفيًّا وحسب [كلمة آمون تعني الواحد الخفي/المؤلف]، ولكنه يقع بعيدًا عن وسائل البحث البشري. لقد استخفى عن ذاك الذي خرج منه، وهو المصباح الساطع ذو الأشعة العظيمة؛ إذ لا يُرى إلا من خلال شعيرته المحجوبة، ويبين نشيد «بردية ليدن» عمقًا روحيًّا يدعو للإعجاب: إنه خفي بين الآلهة، لا يعرف المرء مظهره، إنه أبعَد من السماء، إنه أعمق من الجحيم، إن أي إله لا يُعرف شكله الحقيقي … إنه بالغ الخفاء، حتى إن مجده لا ينكشف، إنه أكبر من أن يُفحص، وأعظم من أن يُعرف. إن المرء لَيسقط في الحال من الرعب، إذا تلفظ باسمه الخفي الذي لا يستطيع أحدٌ معرفته.» ويعقب دوماس بالقول: «لا يستطيع المرء أن يمنع نفسه تجاه هذه القصيدة المعاصرة على وجه التقريب لموسى النبي، من استثارة ذكرى الكلمة التي قالها يهوه: لا يمكن أن يراني إنسان ويعيش.»١٠
وهكذا جاء آتون باسم مجرَّد يدل على قرص الفرن الشمسي، لكن يبدو أن الاسم «آتون» كان هو الاسم الخفي، الذي عثر عليه إخناتون للإله؛ حيث كان معتقدًا أن لله اسمًا يجب عدم النطق به. وكان ذلك واحدة من العقائد المنتشرة في مصر حول الإله آمون والإله أوزيريس وفي حالاتٍ أخرى. وهي الأكثر انتشارًا كانت مع أرباب الشر التي كان يُكنى عنها أو يُشار إليها باسم إشارة؛ منعًا لحضورها، وهو ذات الاعتقاد أساسًا في عقيدة يهوه السيناوي المدياني؛ لأن يهوه ليست اسم الإله الحقيقي، إنما هو إشارة إليه بفعل الكينونة V. to be يكون، فهو الكائن فقط.
ونقف هنا مع أحمد عثمان إذ يقول: «إن إخناتون سقط عن العرش بانقلابٍ تحالَفَ فيه العسكر مع الكهنة، ومع سقوطه فَقَد ألقابه وأسماءه الملكية، فلا يستطيع أحد أن يشير إليه باسمه الذي كان يُعرف به أثناء وجوده على العرش؛ أي إنه صار لا اسم له، أصبح الإله غير المسمى! أصبح هو؟!»١١
ويعقب «سيد توفيق» قائلًا: «لا شك أن المركزية في عقيدة إخناتون واقتصارها على شخص الملك، كان سببًا في انهيار الديانة الجديدة بعد موت إخناتون عام ١٣٥٠ق.م. تقريبًا، وهو لا يزال شابًّا في الثانية والثلاثين من عمره؛ إذ بموته فقدت الرعية الرمز الحي الذي يتعبدون إليه.»١٢
هذا ما كان من رأي سيد توفيق في السر وراء انهيار ديانة آتون بغياب معبودها الحي، لكن هذا الغياب بسبب الموت، كما يقول توفيق، أمرٌ فيه نظر ومشكلات عدة، وشكوك كثيرة واضحة. ويعبر كلٌّ من سيل وشتيندورف عن هذه الشكوك الحادة في قولهما: «إن السنوات الختامية في حياته كانت حزينة جدًّا ومريرة في الواقع. وليس في مقدورنا أن نحدِّد طبيعة النهاية التي لقيها، وهل مات ميتةً طبيعية أم أُقصِي بالعنف.»١٣ ويقول د. عبد المنعم أبو بكر: «مات إخناتون واختفى دون أن نعلم ما حدث له في نهاية عمره، ولو أننا نرجِّح أن موته حدث نتيجة لمؤامرات دُبِّرت لقتله. ومما يُؤسَف له أننا لم نعثر حتى الآن على مقبرته، ونذهب إلى حد التوكيد أنه لم يدفن في المقبرة التي نقرها لأفراد أسرته في التلال الحجرية الواقعة إلى الشرق من مدينة تل العمارنة … ولعل أهل طيبة … تخلصوا من إخناتون … عندما بدأت المؤامرات تُحاك من أكثر من جانب، فهناك نفرتيتي الغاضبة الحانقة قد خَلَا لها الجو، وهناك الأم الملكية تي، وهناك أيضًا كهان آمون المنتصرون … وساد الفساد وانتشرت الفوضى وعمَّ الفقر بعد أن ضاعت المستعمرات المصرية في آسيا وانقطع ورود الجزية.»١٤
ثم يقول: «من المعروف أن مدة حكمه لا تزيد على تسعة عشر عامًا، ولم نعثر على جثته حتى الآن، ولا يمكن أن يكون قد عاش أكثر من ثلاثين عامًا.»١٥ هذا بينما يضع «جاردنر» افتراضات أخرى، وتخمينات في شكل سيناريو مفترض يقول: «يُمكن تقبل الرأي بأن جسد إخناتون قد مُزق إلى أشلاء وأُلقي به إلى الكلاب، وأما عن اللعنة التي لاحقته بعد موته بقليلٍ فليس من شكٍّ فيها، فقد ظلَّ جيلان من بعده يشيران إليه باعتباره العدو من أخت آمون، وقد هُجرت العمارنة عقب ذلك.»١٦
وعن زمن إخناتون جاءت إشارات بعد ذلك زمن خلفائه، تشير إلى حجم الكراهية التي حملها المصريون لعاهلهم، وحجم الانهيار الاقتصادي الكارثي الذي عاشته مصر في زمنه. فيقرأ لنا عبد المنعم أبو بكر لوحة توت عنخ آمون زوج بنت إخناتون، الذي عاد إلى طيبة وربها آمون. يقول أبو بكر: إن اللوحة التي أقامها في الكرنك، ونقش عليها نصًّا طويلًا، متحدثًا فيه عن مشاعره نحو الماضي، وطريقته التي اتبعها لمعالجة الموقف، لخير ما يُفسر لنا ما كانت عليه مصر في هذه الفترة: لقد تهدمت معابد الآلهة والإلهات، وأصبحت الأرض شذرًا مذرًا، وأدارت الآلهة ظهرها للبلاد … وإذا صلى إنسان لإله يسأله، فإن النصح لا يأتي إليه أبدًا، وإذا دعا الإنسان آلهته أيضًا لا تأتي إليه أبدًا، لقد أوذيت قلوبهم؛ لأنهم حطموا ما سبق عمله.»١٧
وعاد البلاط مع اختفاء إخناتون إلى طيبة (الأقصر)، ليتولى سمنخ كا رع العرش ليتلوه بعد أشهرٍ لا تزيد على عام أخوه توت، ليموت كلاهما ويرتقي العرش «آي» آخر أسرة العمارنة، قبل انقلاب حور محب الشامل والعودة إلى الآمونية الكاملة. ويقول كلٌّ من سيل وشتيندورف عما لحق إخناتون من غضب المصريين: «وتدل الحفائر الحديثة في موقع تل العمارنة على أن خرابها اقترن باضطهاد كل شيء يمتُّ بصلةٍ إلى ديانة آتون؛ فقد بُذلت جهود دءوبة متعصبة لإزالة كل ما يذكر بالحركة الدينية والشخصية الملكية المسئولة عن هذه الحركة.»١٨
والنص الذي يشير إليه أبو بكر يذكره «شتيندورف وسيل»، ويقولان عن الملك توت عنخ آتون، الذي عاد إلى دين آمون وعاصمة المملكة طيبة، مغيرًا اسمه إلى توت عنخ آمون هو هذا:
والآن حين ظهر جلالته كملك، كانت معابد الأرباب والربات من ألفنتين إلى مستنقعات الدلتا، قد سقطت فريسة الإهمال، تهدمت مقاصيرها ونمت فوقها الأشواك، وأضحت هياكلها كما لم تكن من قبلُ، وتحولت المعابد إلى أرضٍ مستباحة، فإذا أرسلت القوات إلى زاهي [بلاد الشام/المؤلف] لتوسيع حدود مصر؛ فإن جهودها تفشل، وإذا تقدم أحد طالبًا أي شيء من إحدى الإلهات فإنها لا تستجيب له؛ لأن قلوب الآلهة كانت غاضبة في أجسادها لأنهم [أي هراطقة تل العمارنة/المؤلف] دمروا ما سبق أن كان. والآن أدار جلالته شئون بلاده ومصالح الأرضين، ويطلب كل ما هو مفيد لأبيه آمون. وأقام جلالته الآثار لكل الآلهة، وصنع لهم التماثيل من ذهب جام الخالص، وأعاد أضرحتهم إلى ما كانت عليه لتدوم إلى الأبد.١٩
وهكذا أمكن لياروسلاف تشيرني أن يقول: «وبدأ اضطهاد ذكرى إخناتون منذ العهد الملكي لحور محب، فدُمرت أسماؤه الملكية وصوره، كما أزيل اسم إلهه آتون التي كانت مدونة داخل خراطيشه الملكية من كل مكان وجدت به. أما إخناتون فقد احتل مكانة في التاريخ المصري، بالصورة التي رأته بها أعين كهنة آمون، باعتباره عدو أخيتاتون الخسيء. أما عهده الملكي فقد أشير إليه بسنوات الخارج أو المهرطق.»٢٠
ومع عدم العثور على مومياء الملك في أماكنها المتوقعة، في مدفنه بتل العمارنة أو بوادي الملوك بطيبة أو بأي مكانٍ آخر، ومع الشكوك التي لحقت مصيره، نجد رأيًا آخر أقرب إلى منطق الأحداث، وهو التصور الذي وضعه «أحمد عثمان» في سيناريو يقول: «بدأت المؤامرات تُحاك داخل الجيش بتشجيع من الكهنة، للإطاحة بإخناتون ونظامه، وعندما ازدادت المؤامرات ضده نصحه آي بالتنازل عن العرش لتوت عنخ آمون. وخرج هو من مدينة العمارنة ليعيش في المنفى، فليس هناك دليل واحد يشير إلى موت إخناتون عند نهاية حكمه. فهو لم يُدفن في المقبرة التي أعدها لنفسه، وسط الصخور المحيطة بمدينة العمارنة، بل إن بعضًا من أتباعه ظلوا يذكرون تاريخ كتاباتهم، وينسبونها إلى عصره كأنه لا يزال على العرش. إلا أن اسمه مُنع تمامًا من المصادر الرسمية، وكان عند الضرورة يشار إليه بتعبير: باخرو با أخيتاتون، ومعناها ساقط أخت آتون/العمارنة.»٢١
ويتابع عثمان القول: «وتوجد دلالات على أن مكان المنفى الذي عاش فيه إخناتون، كان عند معبد سرابيط الخادم في سيناء، وهي تقع على بُعد بضعة كيلومترات إلى الشمال الغربي من دير سانت كاترين وجبل موسى، وعثر الأثري «فلندرز بتري» هناك على تمثال للملكة تي والدة إخناتون. كما وجدت دلالات على استمرار عبادة آتون في هذه المنطقة، بعد أن أصبحت ممنوعة في وادي النيل.»٢٢ ويشرح «عثمان» بقية السيناريو في قوله: «وبموت آي انتهى حكم العمارنة، وجاء قائد من الجيش اسمه حور محب ليصبح آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة. وكان حور محب أول من قضى على بقايا الثورة الدينية في مصر، وألقى القبض على جميع أتباع إخناتون، ووضعهم في منطقة زارو [أو ثارو أو سيلة أو شور أو شارو/المؤلف] في شمال سيناء، بعد أن حولها إلى سجنٍ حربي، ومنع أسماء كل ملوك العمارنة من دخول قائمة الملوك. فصارت المصادر الرسمية تضع اسمه هو مباشرة بعد آمنحتب الثالث. وكان حور محب هو الذي اختار «رمسيس» ليكون وزيرًا له وقائدًا للجيش ومسئولًا عن سجن زارو. وكان رمسيس هذا هو الذي استخدم المساجين من أتباع إخناتون، وكذلك الذين كانوا يسكنون مدينة زارو، للقيام بأعمال البناء الشاقة على الحدود المصرية.»٢٣
لكن أمر إخناتون وفلسفته ورجاله المثقفين كان أمرًا، بينما كان للناس العاديين شأن آخر. فيلاحظ الباحثون في أركيولوجيا العمارنة أن الناس كانوا يتعاملون مع التعاويذ الخزفية القديمة ويتزينون بها.٢٤ وهو ما يؤكده ياروسلاف في تقريره: «بالنسبة لعامة الشعب والطبقات الدنيا، فإن السمو الفكري لمبادئ إخناتون عزلتهم عنه، وزادتهم التصاقًا بمعتقداتهم القديمة، ففي حي العمال في العاصمة الجديدة أخت آتون وجدت أدلة أثرية على عدم تركهم لأيٍّ من آلهتهم القديمة الرئيسية منها أو الصغرى، مثل المعبودة توريس Toeris التي كانت تصور في هيئة فرس البحر (يعني فرس النهر/المؤلف)، والإلهين بس Bes وشد Shed، وكذلك الإلهتين حتحور وإيزيس.»٢٥ لهذا عقب جاردنر على استبعاد عالم الحساب الأخروي في عقيدة أوزير، بقوله عن مذهب إخناتون: «كان هناك عيب في المذهب هو حاجته الكاملة للتعاليم الأخلاقية، ويرجع سبب ذلك إلى حدٍّ كبير من غير شك إلى إقصاء أوزيريس. وإنه ليبدو كذلك أن عقيدة إخناتون لم تتغلغل إلى ضمير الجماهير. ولقد كشفت قرية العمال في العمارنة عن آثارٍ متعددة للعبادة القديمة، ومن بينها تماثيل للإله «بس» على شكل القزم، وللعين المقدسة لحورس وغيرها.»٢٦
 [انظر الإله بس رب المرح والجنس: شكل رقم «٢٠٣»]
لكن الغريب والمتناقض هنا أن إخناتون كان يجل أوزيريس، ويقدسه بشكلٍ غير واضح، حيث إنه قد هيأ في تخطيطه مدينة أخت آتون في السنة السادسة من حكمه، مدفنًا للعجل المنفي أبيس رمز أوزيريس٢٧ (نسبة إلى مدينة منف ومعبودها أبيس).
وبهذا الشأن يقول «جاردنر»: «… وهناك إشارة غريبة جاء فيها أن عجل منفيس في هليوبوليس [عين شمس]، يجب أن يُدفن هو كذلك في مدينة آتون، وهي دلالة أخرى على اعتماد الآتونية الجديدة على واحدةٍ من أقدم العبادات الدينية في مصر.»٢٨
والمعلوم أن أبيس هو صورة روح أوزيريس، وهو شعار أوزير المقدس.٢٩ هذا رغم أن إخناتون استبعد عالم أوزيريس الخالد، ومسألة الحساب والثواب والعقاب والجنة والجحيم، وكان أقصى ما يضمنه آتون لعابده المخلص، هو ذات الضمان التوراتي، قبل ظهور العقيدة الأخروية في أسفاره الأخيرة «فلتضمن لي حياةً طويلة وسعيدة كأحد أتباعك، ولتجعلني أحظى بدفنةٍ جيدة، ولتسمح لي أن أستمع إلى صوتك العذب في المعبد، حين تؤدي الصلاة «لوالدك» آتون.»٣٠ ويقول عبد المنعم أبو بكر: «لم يخصص أهل العمارنة جبانة لمقابرهم على الشاطئ الغربي للنيل، كما هي العادة عند المصريين القدماء، الذين اعتبروا الغرب المكان المخصص للموتى. بل إن كلمة الغرب في اللغة المصرية، كان قد استقر استعمالها للتدليل على الجبانة، وكانت مقابر العمارنة منقورة [بالحفر/المؤلف] في التلال الصخرية، التي تحد المدينة من ناحية الشرق، ولا بد وأن هذه الظاهرة ترجع إلى أن ديانة آتون، جعلت للشرق أهمية تفوق الغرب؛ إذ هو المكان المقدس الذي يشرق منه الإله.»٣١

وما يبدو لنا هو أن إخناتون قد غض النظر عن بعض العبادات المصرية التقليدية التي تواجدت مع عمال تل العمارنة، ودون أن يشير إلى تلك الديانات، ولجأ إلى إهمالها تمامًا، لكن ذلك كان يعني وجود جماعات أوزيرية واضحة في العمارنة.

إلا أن أهم الأرباب في تل العمارنة بعد «آتون» مباشرة، كان إله الريح شو، الهواء القديم المعروف، لكنه في العمارنة يصبح أحد أسماء وتجليات الإله آتون، فقد حمل الإله آتون في اسمه الجديد، الذي أعطاه له إخناتون مجموعةَ أسماء وألقاب، هي:

الحي، رع، حور، آختي، رب الأفقين، الذي يبتهج الأفق باسمه، شو، الذي هو آتون.

ويعقب ياروسلاف تشيرني على كيف يكون «شو» هو «آتون» بقوله: «ليس من السهل فهم هذا التعريف.»٣٢ لكنه يصبح واضحًا حسب نظريتنا إن تذكرنا أن إخناتون قضى طفولته بعيدًا عن مصر في بلاد مديان مع أخواله، وأن هناك كان الأدون أو السيد يهوه، أو هوا، أو هفا، وكان ربًّا للهواء والريح. ويصف إخناتون نفسه بقوله إنه «الكاهن الأول لرع حور آختي، المتهلل في الأفق باسمه ضوء الشمس، شو الذي هو آتون.»٣٣
ويتكرر «شو» أكثر من مرةٍ حتى في طقس تقديم القرابين، ففي العمارنة «وفي مقبرة آي نقش جداري ملفت للنظر، نرى فيه كلًّا من إخناتون ونفرتيتي، وهما يقدمان القرابين للإله. وكان كل قربان عبارة عن الاسم الثنائي للإله آتون، مكتوبًا داخل خرطوشين. وفي الجانب الذي يظهر فيه إخناتون من هذا المنظر، نرى رسمًا للإله شو إله الهواء، وعلى رأسه الريشات الثلاث التي تميزه.»٣٤ كما عمدت رسوم العمارنة إلى تصوير فعل رب الهواء الدائم في الشرائط الطائرة، سواء على الأعمدة أو على رءوس القوام.
figure
شكل رقم «٢٠٥»: الرباط الطائر بفعل شو/إخناتون.
figure
شكل رقم «٢٠٦»: الإله هفا/هو/شو ولفحة إخناتون الطائرة.
ورغم أن جاردنر يؤكد أن كلمة آلهة كانت محرمة في العمارنة،٣٥ إلا أن ما يحدث هناك من خلطٍ، يجد تبريره في عقائد مدينة عين شمس، مدينة رع حور آختي رب الشمس المعروف اختصارًا باسم رع، حيث عبروا عن ذلك الدمج الإلهي بنظريةٍ تتلخص في قانون إيمان ﺑ «رع الذي يعيش في شكل حورس الأفق، الذي يبتهج في أفقه باسمه شو الذي هو آتون». وغني عن التذكير أن قائد جموع الخارجين في قصة يوسفيوس، كان ينتمي باسمه إلى أوزير فهو أوزرسيف، وأنه كان كاهنًا مصريًّا في عين شمس، ثم لا يفوتنا تذكير آخر، وهو أن تحتمس ابن آمنحتب الثالث، الذي قالوا إنه مات صغيرًا، وافترضنا أنه ربما كان ذات إخناتون، أو أنه كان ابنًا أولًا فعلًا لإخناتون، وتم القضاء عليه بمؤامرةٍ من كهنة آمون، سببت تهريب الابن الثاني إلى مديان. إن هذا الابن قد قضى شطرًا من حياته بعد عودته من مديان، في عين شمس يدرس لاهوتًا وفلسفةً ربُّها رع؛ لذلك كان أول إعلان بعد تتويجه ملكًا، هو تلقيب نفسه «الكاهن الأول لرع حور آختي».٣٦
ورغم الاهتمام بالأوزيرية؛ ربما لوجود فريق أوزيري كبير حليف حرص إخناتون على دوام حلفه، فإن «سامسون» تقول لنا: «وفي المقبرة الملكية التي حفرها إخناتون لنفسه ولأسرته في صخور تل العمارنة، لا نجد أية إشارة في النقوش إلى الإله أوزيريس، ولا إلى طقسٍ من طقوسه، أو من طقوس وشعائر العالم السفلي.»٣٧
وإذا كان أتباع إخناتون بشكلٍ عام من الطبقات المتواضعة تمامًا، فإن سجلات العمارنة جرت على شرعة التوراة، التي لا تذكر سوى الرجال الذكور، وتهمل عادةً الأولاد وتهمل تمامًا ذكر الزوجات والنساء، فيقول لنا «جريفث»: «وقد خلت مدونات رجال الدولة من ذكر أنسابهم … أن الزوجة والأولاد كان يندر أن يرِد لهم ذكر في مقبرةٍ من مقابر أخيتاتون.»٣٨
وكما ظهر آتون مع تحتمس الرابع جد إخناتون، فقد ظهر معه أيضًا ردة عن آمون، واقترابًا واضحًا من الإله رع، ويقول «جريفث»: «ومع أن الرب المشترك آمون كان رب طيبة والدولة، فإن الرب الذي كانت تفضله الطبقة المتعلمة، وتُؤْثِره هو رع لا آمون.»٣٩ ويقول عبد المنعم أبو بكر عن نبوءة أبو هول الجيزة — وهو أحد الآلهة الشمسية في عقيدة عين شمس — لتحتمس الرابع بتولي العرش: «والواضح أن كهنة رع كانوا من وراء قصة الرؤيا، وأنهم قد نجحوا في تحويل ذلك الأمير [أي تحتمس الرابع/المؤلف]، من عقيدة آمون إلى عقيدة رع الشمس، بعد أن أشعروه بمدى مناصرتهم له، إذا هو انحاز إليهم، وعاونهم على التقليل من شأن إله طيبة. ونجحت المحاولة وتربع تحتمس الرابع على عرش البلاد، وأخذ يشيد بمناقب رع متغاضيًا عن آمون. ولعل أقدم البشارات بقرب ظهور مذهب جديد، أو تصور جديد عن إله الشمس، ترجع إلى عهد هذا الملك. ومن هذه التباشير تصوير قرص الشمس، تمتد منه ذراعان تنتهيان بأيدٍ بشرية تحيطان بالملك وتحميانه، وتغدقان عليه النعم، وهو ذات التصوير الذي اختاره إخناتون فيما بعد لإلهه آتون، مع تحوير يلائم عقيدته. بل عثر على اسم آتون نفسه مذكورًا على جعل سجل عليه الملك تحتمس الرابع تمجيدًا لذاته، وإشادة ببأسه وقوته، وجهاده في سبيل إخضاع الشعوب، وجعلهم من رعايا آتون.»٤٠
ولمزيدٍ من التوضيح حول نبوءة عين شمس ودورها الفاعل في السياسة المصرية القديمة، ما جاء في قصة تولي تحتمس الرابع العرش، دونًا عن أشقائه الأربعة، فيقول عبد المنعم أبو بكر: «تولى عرش مصر آمنحتب الثاني [السابع بين ملوك الأسرة الثامنة عشرة]، وكان قد أنجب خمسة أبناء بعث بهم إلى منف العاصمة القديمة، التي أصبحت في عصر هذه الأسرة مقر قيادة الجيش. وكان العرف قد جرى إبَّان هذه الفترة على إيفاد أمراء البيت المالك إلى هذه المدينة، ليتلقوا ثقافتهم العسكرية فيها، ويأخذوا بأسباب العلم والمعرفة، ويتعمقوا في شئون اللاهوت المصري في جامعة أون/هليوبوليس [عين شمس] القريبة منها. ويبدو أن علماء هذه الجامعة، وهم في نفس الوقت كهان رع صاحب الدين القديم، كانوا حاولوا منذ تداعي سلطانهم التأثير على قلوب من يفِد إليهم من الأمراء، وإغراءَهم بالالتفاف حول راية إلههم والدعوة له دون آمون، عساهم أن يسترجعوا من وراء ذلك بعضًا من سلطتهم السياسية القديمة، ويعيدوا إلى معابدهم مجدها القديم، وأن أحد أولئك الأمراء الخمسة ولم يكن أكبرهم سنًّا، بمعنى أنه لم يكن صاحب الحق الأول في تولي العرش بعد أبيه، مال إلى الاستجابة لدعوتهم، ليس اقتناعًا بها، بل على شريطة أن يؤيدوه في ارتقاء العرش دون إخوته بعد موت أبيه. ذلك هو تحتمس الرابع الذي تلاقت مصالحه مع أهداف كهنة هليوبوليس، وارتقى العرش مسجلًا قصة الرؤيا على لوحة كبيرة من الجرانيت، لا تزال قائمة في مكانها الأصلي بين ذراعي أبي الهول بمنطقة أهرام الجيزة. وهي إحدى القصص التي يحاول فيها الكهان تأكيد رضا أحد الآلهة عن شخصٍ معين، واختياره إياه ليكون ملكًا على مصر.»٤١
 [انظر شكل رقم «٢٠٧»]

ومن جانبٍ آخَر تظهر تلك القصة، أن أبا الهول قد أصبح محلًّا للوحي والتنبؤ، وأنه كان له كهنة مُكرَّسون لهذا الغرض تحديدًا.

ويتساءل كورت زيته U. Sethe: هل الصدفة وحدها فقط هي التي جعلت اسم آتون ، يشمل كل الرموز الخاصة بعبارة ، وتنطق «آت. إن. رع»، أو «أتون رع». وفي هذه الحالة يجب أن يكون معناها والد رع أو أبو رع.٤٢ والأب يُكنى عنه بالسيد، وبالرب، ورب الأسرة. والرب آدون السيناوي المدياني كان كذلك، فاسمه يعني السيد والرب والأب. إن آتون إذَن كانت تعني الأب وهو «أبو رع»، ولو قرأناها ساميًّا حسب خريطة اللغة حينها، قياسًا على «أبو مالك» حاكم جرار مثلًا زمن إبراهيم، وكان ينطق أبيمالك، فيجب نطق «أبو» هنا «أبي» أو «أبي رع». و«أبي رع» أو «أبيرا» يجب أن ترتبط بفئة الأبيرو أو العابيرو أو الخابيرو. ويصبح معنى الاسم أصحاب أبي رع، وأبي رع أو أبيرا هو آتون، وآتون هو النداء الذي يتوجه به الإسرائيلي حتى اليوم ينادي ربه «آدوناي»/يا سيدي. فليست كلمة العابيرو إذَن من عبور النهر كما اتفقت دواوين أصحاب التوراة، إنما من انتمائهم لعقيدة أبيرا، ربما (؟!).

وإذا كان جبل كاترين في سيناء المديانية أو في جبال آدوم، حسبما افترضنا جبلًا بركانيًّا يقذف بالحمم، ويتفجر في هيئة المشروم أو القضيب الذكري، فقد كان بالإمكان تصوُّر أنه هو الذي يلد النجوم والكواكب، التي تخرج نحو السماء مع كل دفعةٍ تفجيرية. ويمكن أن يكون والدًا للشمس رع، وهو ما يضيف تخريجًا جديدًا لتفسير: لماذا كان المصري يعتبر بلاد بونت التي تقع في الشرق أرضًا للإله، الذي يلد الآلهة أو «أبي را» أو «والد رع»؟ وكان البركان أيضًا هو «الآتون»، فمعنى آتون واحد في المصرية والسامية، فكلاهما يعني مركز النار المشتعلة، فهو أتون رع أو إت إن رع/والد رع. وهل من ولد رع سوى الكلمة الخالقة والفعل الخلاق الأول الذي رسمه المصريون في شكل ريشٍ وعصافير، إشارةً لهواء رع تنفسه؛ لأنه «هو» الذي لا اسم له، الخالق الأول المعنوي.

 [للمقارنة انظر مشهدين؛ أحدهما للعمارنة، والآخَر لآدوم] 
[شكل رقم «٢٠٨، ٢٠٩»]
١  أحمد عثمان، تاريخ اليهود … سبق ذكره، ج١، ص٥٥: ٥٧.
٢  آلدريد، إخناتون … سبق ذكره، ص١٠٣.
٣  شتيندورف وسيل، عندما حكمت … سبق ذكره، ص١٢٩، ١٣٠.
٤  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص١٠٣.
٥  سيد توفيق، إخناتون … سبق ذكره، ص٧٣.
٦  نفسه، ص٧٤.
٧  الموضع نفسه.
٨  الموضع نفسه.
٩  شتيندورف وسيل، عندما حكمت، سبق ذكره، ص٢١٢، ٢١٣.
١٠  دوماس، آلهة … سبق ذكره، ص١٢٦.
١١  أحمد عثمان، تاريخ … سبق ذكره، ج١، ص٥٩، ٦٠.
١٢  سيد توفيق، إخناتون … سبق ذكره، ص٧٤.
١٣  شتيندورف وسيل، عندما حكمت … سبق ذكره، ص٢٢١.
١٤  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص١١٧.
١٥  نفسه، ص٧٠.
١٦  جاردنر، مصر الفراعنة … سبق ذكره، ص٢٦٢.
١٧  أبو بكر، إخناتون، ص١٢١.
١٨  شتيندورف وسيل، عندما حكمت … سبق ذكره، ص٢٢٣.
١٩  نفسه، ص٢٢٤، ٢٢٥.
٢٠  ياروسلاف تشيرني، الديانة … سبق ذكره، ٨٩.
٢١  أحمد عثمان: تاريخ … سبق ذكره، ج١، ص٥٩، ٦٠.
٢٢  نفسه، ج١، ص٦٠، ٦١.
٢٣  نفسه، ج١، ص٦٠، ٦١.
٢٤  أحمد قدري، المؤسسة العسكرية … سبق ذكره، ص١٥٢.
٢٥  ياروسلاف، الديانة … سبق ذكره، ص٨٧، ٨٨.
٢٦  جاردنر، مصر الفراعنة … سبق ذكره، ص٢٥٦.
٢٧  ليوولين جريفث، الانقلاب الديني في مصر، ترجمة عبد الرحمن صدقي ودريني خشبة، النهضة المصرية، القاهرة، د.ت، المجلد الثاني من تاريخ العالم، ص٣٨.
٢٨  جاردنر، مصر الفراعنة … سبق ذكره، ص٢٤٨.
٢٩  إيفانز، هيرودت … سبق ذكره، ص١٢٤.
٣٠  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٨٧.
٣١  نفسه، ص٨٧.
٣٢  ياروسلاف، الديانة … سبق ذكره، ص٨٢.
٣٣  جاردنر، مصر الفراعنة … سبق ذكره، ص٢٤٤.
٣٤  جوليا سامسون، نفرتيتي … سبق ذكره، ص١٥٤.
٣٥  جاردنر، مصر الفراعنة … سبق ذكره، ص٢٥٥.
٣٦  شتيندورف وسيل، عندما حكمت … سبق ذكره، ص٢٠٤.
٣٧  جوليا سامسون، نفرتيتي … سبق ذكره، ص٨٦.
٣٨  ليوولين جريفث، الانقلاب الديني … سبق ذكره، ص٤٢.
٣٩  نفسه، ص٣٣.
٤٠  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٦٦، ٦٧.
٤١  نفسه، ص٦٣، ٦٤.
٤٢  Sethe, K., Bitrage Zur Geschichte Amenophis IV in kgl. Ces. d. Wiss Machrichten Philist, Klasse 1921, Heft 2. p. 121.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤