الفصل الأول

علاقة إخناتون الفرعون بأوديب الملك اليوناني

في عام ١٩٦٠م انتهى إيمانويل فليكوفسكي من تدبيج عمله غير المسبوق «أوديب وإخناتون»، الذي أوجز المسألة كلها في فقرةٍ تقول: «لم يكُن إخناتون موحدًا أولًا، ولم يطلق عليه مَن خلفوه من فراعنة لقب المجرم من جراء محاولاته في ميدان الإصلاح الديني، ولكن من جراء خطيئة أخرى تسردها صفحات هذا الكتاب.»١

يؤسس فليكوفسكي عمله على أسطورة يونانية، عمرها الآن حوالي ٢٧٠٠ سنة، هي أسطورة أوديب/أوديبوس، الذي قتل أباه وتزوَّج أمه، التي وصلت إلى المؤلفين اليونان، فسجلوها لنا في شكل مسرحيات كتَبَها أساطين المسرح اليوناني، إيسخوليوس وسوفوكليس ويوربيدس، كلٌّ على طريقته. وقد استند العالِم النفسي سيجموند فرويد إلى أسطورة أوديب، لتفسير عقدة نفسية أعطاها اسم بطل الأسطورة، فهي عقدة أوديب التي يراها تفسر الرغبة الباطنة عند الابن الذكر، في الاستحواذ على أمه وقتل أبيه.

وقد ذهب البعض إلى أن شخصية أوديب شخصية تاريخية حقيقية، وحاولوا نبش الأرض وراءها، لكن جميع الحفريات ذهبت هباءً دون أي أثر حقيقي واضح يشير إلى مملكة بيت الملك لايوس والد أوديب. وكانت أقدم إشارة لأسطورة أوديب قد وردت في أوديسة هوميروس حوالي ٩٠٠ق.م. وربما قبل ذلك.

وتتلخص الأسطورة، كما وردت لدى هؤلاء الكتاب، في أن الملك لايوس ملك طيبة اليونانية، لم يُنجِب وريثًا للعرش من زوجته يوكاستا، وعندما تحقَّق حلمه وحملت زوجته، جاءته نبوءة كهنوتية تقول: إن الطفل الذي سيولد سوف يقتل أباه ويتزوَّج أمه. ولتفادي الكارثة استلم الطفلَ خادمٌ بالبلاط، وحمله إلى أرضٍ صحراوية قاحلة، بعد أن تم ثقب قدمي الطفل. لكنَّ راعيًا بتلك الصحراء يعثر على الطفل، أو يتسلَّمه من الخادم، فيربيه في بيته، ويعجب ملك المملكة المجاورة كورنثة بوليبوس Palybus وزوجته ميروبي Merope بالطفل، فيتبنَّيانِه، ويطلقان عليه اسم أوديب، أي القدم المتورمة، وينشأ الطفل معتقدًا أن الملك بوليبوس أبوه، وأن الملكة ميروبي هي أمه.

ويشب الصبي ويحضر حفلًا بالقصر، لكن أحد المدعوين تندُّ عنه ملحوظة تشكِّك في صحة نسب أوديب، فيرحل أوديب لاستشارة المعبد، فيعلم أن قدَره هو أن يقتل أباه ويتزوج أمه، فيقرر أوديب ألا يخضع لهذا القدر، ويهرب من كورنثة جميعًا، حتى لا يقتل بوليبوس الملك، ظانًّا أنه أبوه، ولا يتزوج ميروبي ظانًّا أنها أمه.

ويقترب أوديب من حدود مملكة طيبة، وطنه الحقيقي عند تقاطع للطرق، ليلتقي بأبيه الحقيقي «لايوس»، وتحدث مشادة حول أحقية كلٍّ منهما في عبور الطريق، وهو لا يعرف أن هذا الشخص هو أبوه الحقيقي، فيقتل أوديب أباه «لايوس»، ويستمر في سيره نحو طيبة.

وعند مشارف طيبة كان يكمن الوحش «أبو الهول الأنثى/سفنكس» المجنَّح، وكان أبو الهول يستوقف المارة ليُلقي عليهم بالألغاز، فإن لم يحلَّ المارُّ اللغز هجم عليه السفنكس وخنَقَه، ويُلقي السفنكس لغزه الجديد على أوديب، فيحله أوديب ببساطة. وهنا يُصاب السفنكس بالهزيمة والحسرة، فيُلقي بنفسه من فوق الصخور منتحرًا، وهنا يهتف سكان طيبة للشاب الذي خلَّصَهم من الوحش، فيُتوِّجُونه ملكًا عليهم بعد مقتل ملكهم «لايوس» الذي هو أبو أوديب الحقيقي، ويزوِّجونه من ملكتهم «يوكاستا» التي هي أمه الحقيقية، تعبيرًا عن عرفانهم له.

وينجب أوديب من أمه يوكاستا طفلين، هما بولينكيس Polynices وأتيوكليس Eteocles، وطفلتين هما أنتيجوني Antigone وأسميني Ismene، لكن فجأة تحدث جائحة شنعاء أو كارثة في البلاد في شكل مجاعة أو وباء، وعند استشارة الوحي أجاب أن بالمدينة شخصًا أغضب الآلهة، فأرسلت بسخطها على طيبة، فهذا الشخص قد قتل أباه وتزوَّج أمه، وكي تهدأ الآلهة لا بد من عقاب المجرم.

ويقوم الملك أوديب بنفسه يبحث ويدقِّق ويستجوب الناس، حتى يصل إلى الخادم الذي سبق وحمل أوديب صغيرًا، وإلى الراعي الذي أنقذه، لتتضح الحقيقة بالتدريج، ويعلم أوديب بما حدث، فيفقأ عينَيه عقابًا لنفسه ويتخلى عن العرش، ويترك المدينة طريدًا، بينما تشنق أمه يوكاستا نفسها، في الوقت الذي أدَّى فيه «كرايون»، شقيق يوكاستا وخال أوديب دورًا بارزًا في إدانة أوديب وعقابه.

ثم يأتي القسم الثاني من الأسطورة ليقول لنا إن أنتيجوني ابنة أوديب قد صحبت أباها الأعمى في منفاه، بينما تربع الابن الأكبر بولينكيس على العرش، بشرط أن يخليه لأخيه الأصغر أتيوكليس بعد عام، ويتناوبان الحكم سنةً بعد سنة، وكان الخال «كرايون» هو مَن وضع تلك الصيغة، وعندما يحين الوقت ليتخلى أتيوكليس عن العرش لأخيه الأكبر بولينكيس، يرفض التنازل بتحريضٍ من خاله كرايون، الذي كان حاكمًا فعليًّا من وراء ستار.

وهنا يقوم الابن الأكبر المخلوع بولينكيس بضرب الحصار حول طيبة اليونانية، بمعونة جيش حميه أدراستوس Adrastus ملك آرجوس. وعند أبواب طيبة السبعة، يلتقي سبعة قادة من كل جانب في قتالٍ منفرد، ويلتقي بولينكيس بأخيه أتيوكليس، ويقتل كلٌّ منهما الآخَر، لتحق عليهم لعنة أبيهم أوديب، الذي أعلن هذه اللعنة على شعبه، عندما حاول التراجع عن قرار نفي نفسه، ورفض شعبه هذا التراجع، وتكاتف عليه ولداه وخالهما وطردوه من المملكة.

ويحرِّم كرايون دفن الابن الأكبر بولينكيس؛ لأنه استعان بالأجانب ضد وطنه، ويعلن أن مَن يدفنه سيلقى عقابه موتًا بطيئًا. وفي الوقت نفسه يأمر بجنازةٍ فاخرة، ومقبرة فخيمة للأخ الأصغر أتيوكليس، ويقوم بنفسه بالإشراف على تلك الجنازة العظيمة، تكريمًا لصاحبها، لكن أنتيجوني ترفض الامتثال لأوامر كرايون الجائرة، وتقوم بدفن أخيها بولينكيس، فيحكم عليها كرايون بالحبس في كهفٍ هو مقبرتها حتى تموت.

وعندما يأتي الجيل التالي، يقوم أبناء القادة السبعة من مملكة آرجوس بحصار طيبة مرة أخرى، وهم الذين أطلق عليهم لقب السلالة: Epigoni، فينجحون في الاستيلاء على طيبة. وهكذا حلَّت اللعنة على طيبة اليونانية وبيت الملك لايوس، لسببٍ أعلنته الآلهة؛ لأن لايوس الأب والد أوديب، هو أول من أدخل اللواط إلى بلاد اليونان، عندما عشق الشاب خريسبوس Chrysippus واغتصبه.
وفي روايات أخرى متناثرة غير المسرحيات الثلاث التي تختلف في بعض التفاصيل، نجد أوديب ينجب أولاده ليس من أمه، ولكن من زوجة أخرى تُدعى أوريكانيا Euryganeia. وفي رواية ثالثة أن بعض الأطفال كانوا من يوكاستا وبعضهم من أوريكانيا. ثم رواية رابعة تقول بزوجة ثالثة لأوديب باسم استيمدوسا Astymedusa.
وبينما يذهب بعض الباحثين إلى أن هذه القصة هي مخلفات رمزية لحروب تاريخية حدثت بين ملوك طيبة وآرجوس، فإن آخرين مثل «ريجلان» يجدها أسطورةً نمطية نموذجية متكررة في قصص الأبطال لدى شعوب مختلفة، وهو النموذج الذي يشتمل على عدد من العناصر الأساسية هي كالتالي:
  • (١)

    أم البطل عادةً ما تكون عذراء أو لا تكون أحيانًا.

  • (٢)

    تكون أم البطل من أسرة مالكة، وعادةً ما يكون الأب من أقرباء الأم.

  • (٣)

    تحيط بالحمل ظروف غير طبيعية، وقد يُشاع أنه إله أو ابن إله.

  • (٤)

    عند ميلاد الطفل تحدث محاولات متعددة للقضاء عليه، وعادةً ما يدبرها الأب أو الجد من جهة الأم أو الوصي على العرش.

  • (٥)

    يتم تهريب الطفل ليربيه أبوان بديلان، ولا يُذكر لنا شيء عن تفاصيل طفولته هناك.

  • (٦)

    يحرز الطفل في سن الشباب تفوُّقًا ملحوظًا، وربما تمثَّل في قتل وحش، أو عملاق، أو ملك ظالم.

  • (٧)

    يصبح الطفل ملكًا محبوبًا، لكنه يفقد صلته الطيبة بالآلهة.

  • (٨)

    يتم استبعاده عن المدينة أو يموت موتًا غامضًا، غالبًا ما يكون فوق تل مرتفع، ولا يُدفن جسده، أو لا يعرف موضع دفنه، لكنه يصبح مباركًا ويُقام له أكثر من ضريح مبارك.

  • (٩)

    لا يُخلِفه أبناؤه على العرش.

وقد طبق لورد ريجلان هذا النموذج على عددٍ من الأساطير، فوجده يتطابق مع نماذج متعددة، فهو يطابق أساطير أشهرها: أوديب، تسيوس، رومولوس، هرقل، برسيوس، جايسون، اسكيبيوس، ديونيسيوس، أبوللون، زيوس، موسى، سيجوردو آرثر، روبين هود … إلخ.

ومن هنا يبدأ فليكوفسكي مشواره، ليثبت لنا أن قصة أوديب التي كانت تتردد في بلاد اليونان القديم، ليست قصة يونانية، وليست أسطورة، إنما هي ترديد لحقائق تاريخية وقعت في بلاد مصر الفرعونية، وأن بطلها كان الفرعون آمنحتب الرابع المعروف باسم إخناتون.

ويبدأ بالسفنكس (أبو الهول الأنثى)، فهذا الكائن الذي يحرس طيبة اليونانية في إقليم بيوتيا اليوناني، لم يكُن كائنًا مألوفًا في بلاد اليونان؛ لأن أرضه الأصلية هي مصر، وأي صور أو نسخ أخرى له، عُثر عليها في أي مكان، فهي إما مصرية، أو تقليدٌ للنموذج المصري، بل إن بيساندر قد قال: إن سفنكس طيبة اليونانية هذا قد جاء وافدًا من بلاد إثيوبيا، ولم تكُن طيبة المصرية في عمق مصر الجنوبي تُحسب عند اليونان من بلاد إثيوبيا، إنما إثيوبيا هنا هي تيوبيا/طيبة المصرية. والاحتمال الأرجح لدينا أن إثيوبيا/الحبشة الحالية المعروفة، هي التي اكتسبت اسمها من «طيبة» المصرية.

ومعلومٌ أن سفنكس الجيزة كان خلال الدولة الحديثة الفرعونية، بدءًا من الأسرة الثامنة عشرة، يُعد تمثيلًا للإلهة حتحور وهي تتأهب للقتال، وهو ما أثبته عالِم المصريات «إدوارد نافي». أما صيغة أبو الهول الأنثوي فقد ظهرت فجأةً، زمن حكم آمنحتب الثالث في الأسرة الثامنة عشرة. ومن اللوحات التي وصلتنا من هذه الأسرة، نعلم أنه في طيبة قد أُقيمَت تماثيل للسفنكس، كان يقدم لها قرابين بشرية.

وعلى الجانب الآخر؛ فإن طيبة اليونانية الواقعة في إقليم بيوتيا، تُحكى عنها أسطورة تقول إن مُنشِئَها هو الملك قادموس، الذي هاجر إلى طيبة اليونانية من البلاد الفينيقية، وبحذف التصريف الاسمي؛ فإن الملك يكون «قدم»، وهي صيغة أخرى من «أدم» أو «آدوم». ولا ننسى أن الهكسوس قد احتلوا الجزر اليونانية، وأنهم هجَّروا الأقوام من مواضعها في تهجينٍ جنسي متعدد. وقد سميت طيبة اليونانية باسم «طيبة ذات البوابات السبع»؛ لأن سورها الخارجي كان له بوابات سبع. أما طيبة المصرية فيقال إنه كان لها مائة باب، وغربي طيبة المصرية لم يبقَ من معبد آمنحتب الثالث الجنائزي سوى تمثاليه الضخمين اللذين أطلق عليهما اليونان: تمثالي ممنون. لكن زمن آمنحتب الثالث نفسه كانت طيبة سيدة مدن الدنيا. وعند الغزو الآشوري تم نهب طيبة وتدميرها، ثم أحرقها البابليون ثم الفرس بلا رحمة، وظلَّت منشآتها محجرًا لكل مَن يريد البناء ولصنع الطواحين طوال السنين، تُنزع حجرًا وراء حجر عبر القرون. ومع ذلك فإن طيبة على حالها هذا اليوم، تُعد أروع ما تقع عليه العين إطلاقًا من أطلالٍ خالدة في الدنيا جميعًا.

ومن اللوحة التي عُثر عليها بين يدي أبي الهول، والتي يصف فيها تحتمس الرابع كيف اختارته نبوءة الإله ليكون ملكًا، نفهم أن كهانة السفنكس قد أصبحوا مصدرًا للوحي والتنبؤ، وقد استنتج «ب. برويد» أن كهنة طيبة قد أقاموا فيها عددًا من السفنكس في طيبة، ليدلوا بنبوءةٍ تُنافس نبوءة أبي هول الجيزة. وفي زمن آمنحتب الثالث أصبحت عبادة السفنكس من أشيع العبادات.

ويقول «دسين A. Dessenne»: إنه زمن آمنحتب الثالث وزوجته تي حدث بعض التحوير في صورة السفنكس، فقد تم تصوير الملكة تي في صورة أبي هول أنثى، وأضيفت له أثداء المرأة وجناحين، وتم نقشه في صورة امرأة تمزق ضحيتها. لقد كان سفنكس طيبة اليونانية نموذجًا للسفنكس الذي ظهر زمن آمنحتب الثالث وزوجته تي تحديدًا في طيبة المصرية، وهنا لا بد أن نتذكر سفنكس آدوم المجنح ذا الأثداء.

ويلحظ فليكوفسكي كما لحظ باحثون آخرون، المكانة التي وصلت إليها الملكة تي زوجة آمنحتب الثالث، رغم أنها من غير أصولٍ ملكية، حتى إن الملك أصدر عددًا هائلًا من الجعارين تعلن هذا الزواج، وزعت في أرجاء الأرض المعروفة آنذاك، ثم بعد ذلك بدأ إجراء لم يحدث من قبل في تاريخ مصر، وهو أن القرارات الملكية كانت تصدر باسم الملك وزوجته معه. بل إن الملكة تي رفعت أبويها إلى مكانة مرموقة بالبلاط، وتم دفنهما في وادي الملوك مع الملوك، وكان اكتشاف مقبرة والديها يويا وتويا في وادي الملوك بين الملوك، اكتشافًا فريدًا من نوعه بين مقابر مصر الملكية.

ويقول فليكوفسكي نصيًّا: «وقد حملت تي عدة مرات، وولدت ابنًا، ولكننا لا نعرف عنه شيئًا، فلم ترسم له صورة ولم يرد له ذكر، إلى أن يأتي عند موت أبيه ويطالب بالعرش. ولكن هناك ثلاث بنات لآمنحتب وتي، عشن مع أبويهن وظهرن في صور العائلة.»

ولأن «تي» أظهرت استياءها من كهنة آمون؛ لأنهم لم يطلبوا منها القيام بدور الإلهة موت زوجة آمون، في احتفالٍ تمثيلي يُقام على سطح بحيرة المعبد المقدسة، أمر الملك بتشغيل مائة ألف رجل ليل نهار، فحفروا بحيرةً صناعية في غضون أربعة عشر يومًا فقط. تم ملؤها بالماء وزرعوا فيها السوسن، ونُقلت إليها الأسماك وأحاطوها بالحدائق، والتي زعمناها بحيرة التمساح على الحدود السينائية المصرية، وهكذا أصبحت تي تفوق آلهة الكهنة في مظاهر البذخ والسحر الملكي؛ حيث كانت مصر في أوج الرخاء، بعد أن تدفَّقَت عليها ثروات العالم المفتوح لمصر آنذاك.

وكلما تقدم السن بالملك آمنحتب الثالث، أصبحت شخصيته أكثر اهتزازًا، ففي نوبة من نوبات انغماسه في الملذات، تزوَّج إحدى بناته، كما أفصح عن بعض النزعات الشاذة، فهو الفرعون الوحيد الذي سمح لنفسه بأن يُرسم وهو يرتدي ملابس امرأة.

figure
شكل رقم «٢١٠»: صاحب النبوءة أبو هول الجيزة أو أبو الهول الأكبر/السفنكس المصري وخلفه الهرم الأوسط (خفرع).
figure
شكل رقم «٢١١»: واحد من أبي هولات مصر (من معبد بتاح أبو هول آمنحتب الثاني).
figure
شكل رقم «٢١٢»: طريق أبي الهول بالأقصر/طيبة المصرية/حيث نبوءة تنافس نبوءة الجيزة.

وبالمقارنة، فإن ما ارتكبه الملك لايوس في طيبة اليونانية من جرم اللواط لا يبدو غريبًا على اليونان، فبينما كانت بلاد الشرق القديم تنظر للواط على أنه عادةٌ قبيحة وممقوتة، لم يكُن الحال كذلك عند اليونان، ففي عصر إسخيليوس وسوفوكليس ويوربيدس كُتَّاب ملحمة أوديب، كان حب الأولاد أمرًا شائعًا هناك وليس بغيضًا؛ حيث امتلأت الآداب بحب الأولاد المحترم جدًّا. وكانت العلاقة الجنسية بين رجلين شائعة، ولم تكُن خزيًا أو عارًا، بل إن الحكيم صولون أشار لحب الغلمان على أنه امتياز يتمتَّع به الرجل الحر؟! بل إن الآلهة نفسها كانت تمارسه. إذَن أين الجرم الذي ارتكبه لايوس؟ لقد صورت التراجيديا عمل لايوس، على أنه خطيئة جلبت على بيته وعلى بلده اللعنة، وأنه لا بد من التكفير بصرامة، وهو ما يشير إلى أن موطن الأسطورة الأصلي لم يكُن بلاد اليونان بالقطع واليقين.

وفجأةً يموت الملك آمنحتب الثالث، ثم نجد الملكة تي هي السيد الحاكم وحدها، وفجأةً أيضًا يظهر للملك ابنٌ بِاسم آمنحتب الرابع، الذي لم يَرِد اسمه قطُّ في نقوش أبيه، ولم يُذكَر كوليٍّ للعرش، بل ولم يُشَر إليه مجرَّد إشارة، رغم تكرار اللوحات لصور شقيقاته البنات ولأسمائهن. ويتسلم المجهول آمنحتب الرابع الذي عُرف بعد ذلك باسم إخناتون عرش مصر العظيم.

وفي أرشيف رسائل تل العمارنة، توجد رسالة من «رِب عدِّي» أمير بيبلوس، وهو أمير فلسطيني منوب من قِبل الفرعون، والرسالة توضِّح أنه كان يعرف إخناتون من مقابلة تمَّت بينهما من زمنٍ بعيد، فهو يقول في خطابه:
ألا تذكر؟ فالآلهة والشمس وبعلات جوبلا Baalat Gubla، قد قرروا أن تتربَّع أنت على عرش أبيك، وفي أرض وطنك.٢
وفي ذات الزمن يكتب دوشراتا ملك الميتاني لإخناتون يقول:
عندما مات أخي نموريا (اسم العرش للملك آمنحتب الثالث)، أعلنوا هم نبأ وفاته، وعندما أعلنوه وصل إلى مسمعي أنا أيضًا. لقد رحل عن الدنيا … وبكيت أنا في ذلك اليوم؛ إذ كان الحزن يغمرني، ولكن عندما كتب لي نافوريا (اسم العرش للملك إخناتون) الابن العظيم لنموريا من زوجته العظيمة تي، يقول: سوف أبدأ فترة حكمي، قلت: إن نموريا لم يمُت؛ فقد احتل الآن نافوريا ابنه العظيم من تي زوجته العظيمة مكانه، ولن يغير من الأوضاع شيئًا عما كانت عليه من قبل، فإن أمه تي التي كانت زوجة لنموريا المحبوب على قيد الحياة، وسوف تخبر هي نافوريا ابن نموريا زوجها، أنه كانت بيننا علاقات طيبة وصداقة حق.٣
وقد كتب «دوشراتا» الملك الميتاني إلى إخناتون رسالةً أخرى تقول:

وكل كلمة تبادلتها مع أبيك تعلمها أمك تي، ولا يعلمها إنسان سواها، ولكن لك أن تسأل أمك تي عنها، دعها تخبرك كيف كان أبوك على علاقة طيبة بي.

وهو ما يعني أن دوشراثا كان يعرف الأب ويعرف الابن، لكنه لم يحظَ الابن بمعرفته بالأب قبل هذا الخطاب، ويعني أيضًا أن إخناتون كان يجهل علاقة أبيه مع الحكام الأجانب، كما كان يجهل العلاقة الخاصة مع ملك الميتانيين، بينما كانت الملكة تي تعرفها حق المعرفة، وهو ما يعني أن إخناتون لم يكُن في طيبة خلال السنوات التي سبقت موت أبيه، وكذلك أوديب أمضى طفولته وصباه بعيدًا عن وطنه، وعندما مات أبوه تولَّت يوكاستا أمه العرش، حتى أتى أوديب وتولى العرش.

وفي الأسطورة اليونانية نجد كلمة أوديب، تعني ذا القدم المتورمة. وبالنظر إلى الوسيلة الغريبة التي عالج بها الفنان جسم إخناتون، نجد رأسًا مستطيلًا عجيبًا ورقبةً نحيفة وبطنًا متدليًا. أما أكثر التشوهات فكانت في الفخذين، لقد كانتا متورمتين منتفختين، مع ملاحظة أن رءوس أطفال إخناتون كانت مستطيلة بدورها، لكن تورم الفخذين كان خاصًّا بإخناتون وحده.

وفي عام ١٩٢٠م نشر طبيبان فرنسيان في مجلة Revue Neurologique، هما (إم. أميلين، وب. كويرس) بحثًا بعنوان «آمنحتب الرابع وعقليته»، وافترضا أنه كان يُعاني من نقص المواد الدهنية، أما «إليوت سميث» أستاذ التشريح بجامعة لندن، والمتخصص في المومياوات المصرية، فقد علَّق على البحث الفرنسي بقوله: إن الحالة المفترضة هي نقص مستمر في المواد الدهنية في القسم العلوي من الجسم، مع تزايد شديد في أسفل الخصر، وقد قدم باراكوي عام ١٩٠٧م نموذجًا حيًّا لهذا المرض النادر. لكن الملك اعتبر هذا التشوُّه النادر خاصية نادرة ومميزة وعلاقة قداسة اختارها القدر، ففاخر به، وطلب من الفنانين رسمه كما هو دون أي تجميل. وإذا كانت أفخاذ إخناتون هي المتورمة وليس القدمين، فإن كلمة pous اليونانية القديمة في أوديبوس، تعني القدم والساق، كذلك الكلمة المصرية «رد» تعني كليهما. لكنَّا لم نعثر على مومياء لإخناتون على الإطلاق، وكان التشخيص يتم دائمًا قياسًا على التماثيل والنقوش واللوحات.

وكثيرًا ما تساءل الباحثون عن السر وراء القسوة التي لحقت بأوديب طفلًا، وثقب قدمَيه دون مبرِّر، بينما كان «جاردنر» يتساءل بدوره عن النعت المستديم المفضل في كل نصوص إخناتون: «ذلك الذي تخلف ليعيش طويلًا»، ليتعجَّب قائلًا: «ألم يكُن من المتوقع أن يعيش إخناتون طويلًا وهو في عز الشباب؟» والإجابة في أسطورة أوديب، حيث حُكم عليه بالموت وهو طفل.

ويفترض «فليكوفسكي» أن آمنحتب الثالث قد استشار نبوءة آمون إبَّان حمل تي بإخناتون. ولا ريب أن تربية إخناتون بعيدًا عن وطنه كان لها علاقة بتلك النبوءة، وأنه ربما تم إيداعه لدى أقرباء آمنحتب الثالث في بلاد ميتاني، وربما كل ذلك كان وراء عداء إخناتون لكهنة طيبة، وتدميره لنبوءة طيبة، بينما أحاط نفسه بكهنة نبوءة أون/عين شمس.

ثم إنه قد عُثر على بقايا تماثيل محطمة لأبي الهول عند سفح تل قرب معبد حتشبسوت، تم إلقاؤها من على التل، بينما محيت تماثيل أبي الهول بانتظامٍ من على النقوش السالفة لعصر إخناتون، وبقيت خطوط باهتة تشير إليها. كما دمرت صور الملك آمنحتب الثالث نفسه، ولا ريب أن كل هذا قد حدث إبَّان حكم إخناتون، وأن إلقاء تماثيل السفنكس من على التل، وجد صداه في إلقاء سفنكس اليونان نفسه من على التل، دون أي مبرِّر واضح لذلك. فالوحوش لا تنتحر لإصابتها بخيبة أمل من لغز تم حله، ولا تلقي بنفسها من فوق التل عن طيب خاطر.

إن «فليكوفسكي» يريد القول إن أسطورة أوديب ما هي إلا ترديد لقصةٍ حقيقية عرفتها دول الشرق، وإنها حدثت في مصر، وإن أوديب هذا لم يكُن شخصًا آخَر سوى الفرعون «إخناتون» بلحمه ودمه.

مشكلة بكتاتن

لقب «ذلك الذي تخلَّف ليعيش طويلًا»، لم يكُن اللقب الوحيد المميز للفرعون إخناتون، فهناك لقبٌ آخَر أينما نجده نعرف أنه يخص إخناتون، حتى لو لم نجد اسم إخناتون هو لقب «ذلك الذي يعيش في الحقيقة»، وعلى عكس ما يُشاع عن إخناتون فإنه تحوَّل عن عبادة آمون، باعتباره تجلِّيًا للشمس إلى عبادة قرص الشمس ذاته. فالإله الأوحد الذي عبده إخناتون هو «آتون»، وآتون اسم الشمس المادية ذاتها وكان يبدو داعية سلام. فلوحات العمارنة صورت فقط الطبيعة الهادئة، وليس بينها لوحة تصوِّر إخناتون وهو يصطاد الحيوانات، أو ينفِّذ حكم الإعدام أو يرمي الأعداء بقوسه. ثم إنه حرَّر طيبة المصرية من الذبائح البشرية، تلك العادة الدينية الغليظة التي دخلتها غريبة عليها، وظهرت خلال حكم آمنحتب الثاني وتحتمس الرابع وآمنحتب الثالث. وفي الوقت ذاته لم نسمع عنه أنه شنَّ حروبًا، بل لم يُبالِ بهجوم الخابيرو على ممتلكات مصر في آسيا، منصرفًا إلى نظم شعره والسعادة مع مباهجه العائلية. ويلاحظ أن إخناتون أزال اسم الإله آمون وأبيه آمنحتب الثالث أينما وجدهما، فكان ناقمًا على أبيه، وعلى رب النبوءة. وقد غير الفرعون اسمه من آمنحتب الرابع إلى إخناتون، نقمةً على آمون وعلى اسم آمنحتب. لكنه لم يمحُ اسم آمون من اسمه الذي سبق تدوينه مرات عدة، بعد أن تحول في منتصف العام الخامس من حُكمه إلى عبادة آتون، إنما محاه من اسم أبيه بالذات. وكان بالإمكان قَتْل أي إنسان في هذه الحياة، لكن القتل الحقيقي والأبدي عند المصري القديم هو إزالة اسم شخص متوفى، فهذا يعني هيام روحه إلى الأبد؛ لأن القرين «كا» لن تجد اسم المتوفي لتحل فيه يوم البعث والدنيوية، كما نلحظ أنه لم يعُد يذكر أنه ابن آمنحتب الثالث، بل ابن الإله آتون نفسه.

وفي نقش لإخناتون وُجِد على لوحة تأسيس مدينته الجديدة «أخت آتون»، نجده يقول:

طالما أبي حور آتن يعيش، فما أكثر شرًّا من تلك الأخبار التي سمعتها في السنة الرابعة، وما أكثر شرًّا من هذه الأخبار التي سمعتها هذا العام، وما أكثر شرًّا من هذه الأشياء التي وصلت مسمع الملك.

وهو ما يشير إلى صدامٍ مع كهنة آمون، الذين ربما أدلوا بحديثٍ لا يرضي الملك، وبالفعل أعلن إخناتون قطعه لكل العلاقات مع كهنة آمون في العام الرابع من حكمه. وفي هذا العام دمر لوحة أبيه التذكارية ومحاها بوحشيةٍ سافرة، وهو ما يعني قتلًا أبديًّا، فالميت يسترد حياته في حدائق النعيم بعد الموت، أمَّا إنْ قُتل وهو بهذه الحدائق بمحو اسمه، فلن يكون له وجود على الإطلاق. وربما كان هذا التصرف سببًا في احتجاج كهان النبوءة، الذين اعتبروه قاتلًا لأبيه، وعندما تأزمت الأمور هجر الفرعون طيبة عاصمة مصر الكبرى، ليبني له عاصمةً جديدة إلى الشمال، ويسميها أخت آتون.

والغريب أن إخناتون كان يصف نفسه دومًا أنه ابن تي، لكنه لم يذكر أبدًا أنه ابن آمنحتب الثالث. ولولا رسائل تل العمارنة ما كنا عرفنا أنه ابن آمنحتب الثالث. وكما لقب إخناتون نفسه بأنه ابن آتون الشمس، فإن أوديب بدوره قد عُرف بأنه ابن الشمس.

وقد تم العثور في تل العمارنة على أكوام من الفخار الميسيني اليوناني، حتى أطلق علماء الآثار على أحد شوارعها اسم الشارع الميسيني لكثرة السلع اليونانية به. ومن هنا تم تحديد زمن إخناتون باعتباره كان معاصرًا للعصر الميسيني في بلاد الإغريق.

والواضح أن الفرعون كان محبًّا للفنون بشدة، فلم يعثر في مكانٍ آخَر على هذا العدد الهائل من النحوت والنقوش، وعادة ما كانت تصويرًا له ولعائلته. والوحيد الذي يظهر بهذا الجسد الشاذ وسط بقية البشر الذين تم تصويرهم معه، هو إخناتون وحده. وقد أخذت بناته عنه استطالة الرأس البالغة، والرقاب النحيلة دون بقية جسده.

وبين مقابر تل العمارنة المهداة للنبلاء، عثر على مقبرةٍ أُعِدَّت لرجل يُدعى «بارنفر» من أصلٍ غير نبيل. وكما تظهر لوحاتها؛ فقد أغدق الملك على هذا الرجل امتنانًا عظيمًا. وقد عقَّب عالم المصريات الألماني فرانكفورت وزميله بندلبري على ذلك بقوله:
يبدو أن الأفضال قد أُغدقت عليه لوجود علاقة قديمة بينه وبين الملك، فقد قام هذا الرجل بأداء خدمة للملك عندما كان هذا الملك طفلًا، ويتضح جليًّا أن هذا الرجل كان خادمًا بسيطًا. وقد رُفع هذا الرجل الذي كان خادمًا بسيطًا، (ويكرر) وقد رُفع هذا الخادم ذو الأيدي النظيفة إلى مصاف أعرق النبلاء في بلدة العمارنة.٤

وربما كانت هذه الإشارة الوحيدة لطفولة إخناتون، لكنها الإشارة التي تذكِّرنا بالخادم المخلص، الذي حمل الأمير الطفل إلى الموت في أرضٍ مهجورة في أسطورة أوديب، لكنه لم ينفذ الأوامر بدقة، فأعطاه لراعٍ وزوجته يرعيانه.

وقد حمل «آي» — أقوى رجال الدولة نفوذًا — ألقابًا عدة، رغم أنه لم يكُن من أصلٍ ملكي. ومن هذه الألقاب التي حملها، وهو في خدمة إخناتون في بلدته أخت آتون: أبو الإله أو الأب المقدس، كما أن زوجته تاي قد حصلت على لقب المربية العظيمة للملكة. وآي في رأي فليكوفسكي هو النموذج المصري الأصلي لشخصية كرايون اليوناني؛ فقد تمتَّع كرايون بعد موت لايوس بمركزٍ مرموق، وكان هو الذي وهب أخته الملكة يوكاستا إلى أوديب، وهو ما يشير إلى مكانة رفيعة في البلاط، لكنه كان هو نفسه مَن أجبر أوديب على التخلي عن العرش، مع تحريض ولديه ضده. وهو نفسه من حكم البلاد بعد موت ولدَي أوديب وهم صبية بعدُ. وهذا ما يجعلنا نستنتج في الصورة المصرية أن آي كان أخًا للملكة تي وخالًا لإخناتون. وقد برهن سيرل آلدريد على أن آي كان ابن يويا وتويا وشقيقًا للملكة تي، وكان والدًا للملكة نفرتيتي، باعتباره قد حمل لقب «أبو الإله» أي «أبو الفرعون» الذي يعني «حمو الملك».٥
figure
شكل رقم «٢١٣»: الحلوى والمشروبات المنعشة بعد تناول الطعام (من جمعية الاستكشافات الأثرية المصرية).
ومن داخل مقبرة «حويا»٦ يبدأ فليكوفسكي في اكتشاف المأساة التي استغرقت زمنًا من حياة الأسرة الملكية، حيث تختلف رسوم تلك المقبرة التي بُنيت في العام الثاني عشر من حكم إخناتون عن مثيلاتها في مقابر أخرى، فالنحوت هنا تُصوِّر الملكة الأم تي، وقد رُسمت بصورة متكررة، وهي تؤدي دور المسيطر الفعلي، وعند ذكر مهام حويا وألقابه نجد بينها دائمًا: «المشرف على حريم تي أم الملك والزوجة الملكية العظمى».
والغريب هنا أن تحتفظ تي بحريم لزوجها آمنحتب الثالث، بعد موت هذا الزوج باثنتي عشر عامًا (!) ولماذا يمنحه إخناتون لقب المشرف على حريم تي والملكة أرملة (؟) أم إن هذا الحريم كان حريم إخناتون نفسه؟ لأن مركز هذا الحريم كان مع تي في تل العمارنة، وكان زوجها آمنحتب الثالث قد مات قبل أن تُبنى. ولا بد أن إخناتون هو مَن ألف لها هذا الحريم. وفي نقش بمقبرة حويا نقرأ وصفًا للملكة تي ومديحًا يقول:

المديح والثناء لزوجك يا سيدة الأرضين. يا مَن جعلت الأرضين تتألَّق بجمالك، أيتها الأم الملكية والملكة العظمى تي، ولتحل عليها البركة بالسرور والبهجة كل يوم.

وهناك رسمان بالمقبرة يصوِّران وليمة بالقصر، وفي كليهما يجلس إخناتون مواجهًا للملكة تي، بينما تجلس نفرتيتي خلفه، وتجلس أميرتان صغيرتان بجوار نفرتيتي، على حين تجلس أميرة صغيرة هي بكتاتن، صغرى بنات إخناتون، بجوار الملكة تي.

وكانت كبرى بنات الملك هي مريت آتون، التي تزوجت من بعدُ من سمنخ كا رع. لكن في لوحة الوليمة كانت لم تبلغ من العمر أكثر من السابعة. أما شقيقتها التي تظهر إلى جوارها في اللوحة فقد ماتت صغيرة.

وتظهر ابنتان أخريان في لوحات أخرى منهما «عنخ. إس. إن. با. آتن»، التي تزوَّجَت فيما بعدُ توت عنخ آمون، الشقيق الأصغر لسمنخ كا رع. وعداها لا نعرف أسماءً، لكن بكتاتن تحديدًا لم تُرسم إلا في مقبرة حويا في لوحة الوليمة ورسوم أخرى. وهو ما أدى إلى استنتاج أنها كانت صغرى بنات إخناتون. وقد عقَّب فلندر بتري على ذلك بقوله: «عادة ما كان ترتيب الأميرة بكتاتن هو السابعة، وأصغر بنات إخناتون. ومع ذلك فهي تظهر في مقبرة بُنيت في عامه الثاني عشر، أي بعد ميلاد الابنة الثانية بست سنوات. وقد حلَّ بتري المشكلة باستنتاجه أن «بكتاتن» لم تكُن صغرى بنات نفرتيتي، بل ابنة تي، فهي ترتبط بها دائمًا وتجلس بجوارها. وهي الوحيدة التي تتبع تي في موكبٍ ديني لا يظهر فيه أطفال آخَرون، وهي الوحيدة التي أُطلق عليها ابنة الملك، بينما كان يُطلق على الأميرات الأخريات: بنات نفرتيتي.»٧
figure
شكل رقم «٢١٤»: لوحة الوليمة (لاحظ عري تي التحتي الكامل وخلفها بكتاتن، بينما جلست نفرتيتي وبناتها خلف إخناتون الذي كان يواجه أمه العارية، وأمه بالتاج، ولا تاج لنفرتيتي).
هذا بينما استنتج آخرون أن بكتاتن هي أصغر بنات نفرتيتي؛ لأن أول ظهور لها في اللوحات كان في العام الثاني عشر من حكم إخناتون. وجسمها أصغر من جسم إنخستياتن (منخ. إس. إن. با. آتن) الابنة الثالثة للزوجين الملكيين. والمقطع «آتن» في اسمها هو اسم الإله آتن الداخل في تركيب أسماء شقيقاتها. لكن دي جاريس ديفيز اتفق مع بتري على أن بكتاتن لم تكُن بنت نفرتيتي، بل ابنة تي وزوجها الراحل آمنحتب الثالث. لكن وجه المشكلة هنا أن بكتاتن كانت طفلةً لا تتجاوز الأربع سنوات في العام الثاني عشر لحكم إخناتون، وكان آمنحتب الثالث قد مات منذ اثنتي عشر عامًا. والمشكلة الثانية: كيف حملت اسم آتن في اسمها قبل ظهور ذلك الإله في الأسماء قبل عهد إخناتون، بعد أن غير الملك اسمه من آمنحتب إلى إخناتون، وكذلك بقية أفراد أسرته، وفي لوحات الوليمة توصف «تي» بأنها:

الأميرة الوريثة، كريمة في هباتها، سيدة الرشاقة، خلَّابة برِقَّة حُبها، تملأ جوانب القصر بجمالها، سيدة الشمال والجنوب، زوجة الملك العظمى التي يحبها ويقدِّسها، سيدة الأرضين تي.

وبجوار بكتاتن كتب:

بكتاتن ابنة الملك من جسده، المحببة من نفسه.

لهذا جميعه رأى ديفيز أن اللوحة اليمنى بالمقبرة، لا تصور إخناتون بل أباه آمنحتب الثالث. أما اليسرى بالمقبرة فتصور إخناتون وزوجته وأطفاله. وكانت اللوحتان وراء بزوغ فكرة تقول: إن الملك آمنحتب الثالث وولده قد قضَيا فترة حكم مشترك، وأن اللوحتان صدًى لفترة الحكم المشترك تلك، وهو ما أصرَّ على إثباته سيرل آلدريد. لكن يبقى الاعتراض: أنه إذا كان إخناتون قد شارك والده الحكم؛ فهو ما يتناقض مع جهل إخناتون بشئون الدولة، وأن يأتيه نُصح ملك أجنبي يحدثه عن العلاقات بين الدولتين إبان حياة أبيه. ولا ننسى محو إخناتون لاسم أبيه مما يَستبعد فرض الحكم المشترك، إضافةً إلى أن بكتاتن تظهر كأصغر البنات في السنة الثانية عشرة لحكم إخناتون. وبفرض صدق مسألة المشاركة في الحكم، فإن آمنحتب الثالث ما كان بإمكانه أن يُرزَق بطفلة بعد وفاته بحوالي ست سنوات!

كما أن اللوحة اليمنى بالمقبرة التي يُفترض أنها لآمنحتب الثالث وزوجته تي والطفلة بكتاتن، تحمل سماتٍ تؤكد أنها كانت لإخناتون وأمه تي وطفلته بكتاتن؛ فقد رُسم تحت أشعة آتون التي ابتدعها إخناتون وليس أباه. كذلك التكوين الجسدي هو تكوين إخناتون لا أبيه.

وفي نقوش اللوحة اليمنى يترجم ماسبيرو:

الأميرة الوريثة، أكثر مَن يناله المديح، سيدة رشيقة، عذبة في حُبها، تلك التي تملأ جوانب القصر بجمالها، الحاكمة، سيدة الشمال والجنوب، زوجة الملك العظمى التي تحبه، سيدة الأرضين تي.

وقد عبر «ماسبيرو» عن دهشته للتغزُّل في الملكة تي، بمثل هذه الأوصاف، فقال: «كما لو كان زوجها لا يزال على قيد الحياة.»٨

وهنا يقول فليكوفسكي: إنه لا مفر لحل اللغز من الانتهاء إلى أن الملك الذي أنجب بكتاتن ابنة الملك من جسده، هو إخناتون نفسه. وعلى الحائط الشرقي بذات المقبرة لوحة لإخناتون يقود «تي» إلى المعبد تتبعهما بكتاتن، مع كتابة تقول: «يقود الملكة العظمى والأم الملكية تي لترى ظلها في الشمس.» ويرتدي إخناتون ثوبًا شفَّافًا يسمح برؤية تفاصيله الداخلية. أما تي فتكاد تكون عارية، وإخناتون يمسك بيدها كما لو كانا عاشقين. ويقول أوديب عن يوكاستا «أمي التي هي زوجتي.» وعن أنتيجوني «ابنتي التي هي أختي.»

١  فليكوفسكي، أوديب وإخناتون، ترجمة فاروق فريد، وزارة الثقافة بالمشاركة مع دار الكاتب العربي، القاهرة، د.ت، ص٦.
٢  الخطاب رقم «١١٦».
Mercer, S.A.B., The Tell-El Amarna Tablets, 1939.
٣  نفسه، الخطاب رقم ٢٩.
٤  Frankfort and Pendlebury, The City of Akhenaten, part II, 1933, p. 44.
٥  Aldred, C, The End of El Amarna Period, Journal of Egyptian Archaeology (J. E. A.), 1957, pp. 30–41.
٦  جوليا سامسون: حويا وربما «حوي» المشرف العام للملكة تي بعد حضورها لمدينة أخت آتون في السنة الثانية عشرة من حكم إخناتون. ولم تستخدم مقبرته للدفن. كتابها نفرتيتي، ص١٨١.
٧  Flinders Petrie, A History of Egypt, 7th ed., 1924, II, 209.
٨  Maspero, G., In the Odore; Davies, M., The Tombo of Queen Tiyi, 1910, PXX.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤