الفصل الثاني

سفاح القربى

معلومٌ الآن أن العرش المصري في الأسرة الثامنة عشرة لا يرثه الابن نظريًّا أو مجازيًّا، بل ترثه الابنة. أما الابن فبزواجه من الوريثة، أخته الشقيقة أو غير الشقيقة، يصبح مؤهلًا لتولي العرش. وفي اللغة المصرية القديمة غالبًا ما كانت كلمة أخت تُستخدم بدلًا من كلمة زوجة. وحتى اليوم تنادي المصرية زوجها بأخي، وكذلك في بقية بقاع الشرق الأوسط القديم. ومع ذلك كانت العلاقة الجنسية بين الأم والابن أمرًا بغيضًا في مصر والعالم القديم والمجتمع البدائي والحديث على السواء. ومثل هذه العلاقات رغم بغضها كانت تحدُث، ومنها ما سجَّلها لنا التاريخ لشهرة أصحابها مثل «نيرون» وأمه «أجريبا»، التي أقرَّها الإمبراطور نفسه وأكدها «سويتو نيوس». وهي الحالة التي تشبه حالة إخناتون وأمه تي من وجهة نظر فليكوفسكي؛ فقد كان يعرف أنها أمه وتعرف أنه ولدها، وأن العلاقة كانت علَنية. فجعل أمه شريكته على العرش والفراش وأنجب منها بكتاتن. وربما بدأت العلاقة سرية ثم انقشعت تلك السرية بسرعة.

ومن تلك الفترة يأتينا خطاب من ملك «كاردونياش/بابل» المعروف باسم «بارنابورياش»، تجرأ فيه على الفرعون كما لو كان يخاطب شخصًا أدنى منه ويقول:

لقد أرسلت عشرين خاتمًا فقط من حجر اللازاورد إلى سيدة قصرك؛ لأنها لم تنفذ مطلبًا من مطالبي، ولم ترفع معنوياتي عندما كنت حزينًا.

وكانت تي هي المذكورة بالخطاب وليس نفرتيتي. وعبارة «سيدة قصرك» تُفصح عن ازدراء واضح، نتج عن الأخبار التي وصلت الأقطار الأجنبية.

figure
شكل رقم «٢١٥»: هذا ما بقي من أحد معابد البتراء في بلاد آدوم المديانية، يحمل اسمًا له دلالة لدينا تؤكد علاقة هذه البلاد بما كان يدور من أحداثٍ في مصر حول نبوءة أبي الهول التي استبعدت الطفل الملكي إلى بلاد مديان، وكان أبو الهول في قصة أوديب مجنَّحًا.

وكانت هناك صِلات عائلية بين البلاط المصري والبلاط الميتاني، وهو ما أفصحت عنه رسائل العمارنة. فأم آمنحتب الثالث «موت أم ويا» زوجة تحتمس الرابع كانت أميرة ميتانية. وفي العام العاشر من حكم آمنحتب الثالث، جاءت إلى طيبة أميرة ميتانية تُدعى «يلوهيبا»، بصحبة حاشية كبيرة ودوطة كبيرة، لتصبح زوجةً ثانوية للفرعون. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن أحد والدَي تي كان ميتانيًّا. وقبل نهاية حكم آمنحتب الثالث أرسل له ملك الميتانيين أميرة أخرى تُسمى «تادوهيبا»، لكنها وصلت بعد موته فانضمَّت لحريم ولده إخناتون. وهي العلاقات التي ترجح أن غياب إخناتون منذ ميلاده حتى توليه العرش؛ فقد تم استبعاده صغيرًا لاجئًا عند أخواله الميتانيين، استجابةً لتحذير النبوءة المفجعة.

وهنا يقول هاستنج:
نحن لا نعرف بصورةٍ إيجابية موقع مملكة الميتانيين، ولكن في ضوء الاتصال الوثيق بين عائلات الميتانيين والمصريين المالكة، يحدد المؤرخون عادةً موطنَ الميتانيين في شمال سورية، وهي الأراضي المتاخمة لبلدة قرقميش التي على نهر الفرات. وعلى الرغم من أن هذا الإقليم كما نعلم علم اليقين كان ضمن مملكة آشور، فإن شعوب الأراميين والحوريين والحيثيين، كانت تحتل مساحة واسعة من هذه المنطقة الآهلة. وهناك ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا التحديد الجغرافي خاطئ في كون الميتانيين كانوا يقطنون شمالي العراق؛ إذ يصف هيرودت في القرن الخامس قبل الميلاد شعب الميتاني قائلًا: إن هذه المستعمرة الفارسية كانت بالقرب من جبل أرارات. وإذا كان الموقع الجغرافي لشعب الميتانيين موضع جدل وخلاف فإن معتقدات هذا الشعب معروفة لدينا بصورةٍ مؤكدة، إذا كان ملوك هذا الشعب يصلون ويقسمون بأسماء ميترا وفارونا وأندرا وآلهة هندو إيرانية أخرى … والإيرانيون الفرس كانت لهم نظرة تجاه العلاقات الجنسية المحرمة، تختلف تمامًا عن نظرة شعوب العالم القديم الأخرى، فقد اعتنقوا مذهبًا دينيًّا أخلاقيًّا وزاولوه، يُسمى كسفتوكداس أو كسفاينفاداثا … يعني زواج الآباء بأولادهم والإخوة بأخواتهم في الرحم … ومن الواضح أنَّ مَن زاول هذه العلاقات الجنسية لم يكُن العائلة المالكة فقط، بل كل الفرس بمختلف درجاتهم ومراتبهم.١

إن اسم هذا المعبد هو «معبد أبي الهول المجنَّح»، وهناك تم العثور على تمثال هذا المجنَّح (العنقاء)، وسبق عرض شكله في باب الفينينق.

ويذكر لنا فليكوفسكي أمثلة منها خبر كوينتوس رفيوس عن سيسمثريس حاكم بكتريا الذي تزوَّج أمه، وقد ذكر كلٌّ من ديوجنيس اللائرتي، وسترابون وبلوتارخ علاقات زواج الأم والابنة والأخت بكل اشمئزاز. كذلك تحدَّث عن هذه العلاقات التعبدية التي ترقى بممارسها إلى مراتب عُليا في القرب من الآلهة، كليمنت السكندري والقديس هيرونوموس والقديس جيرونوم. وقد كتب فيلون السكندري يقول: إن الأطفال الذين يُولَدون من زواج الأم بالابن عند هؤلاء يُعدون أكثر الأطفال شرعية، وقال كاتوللوس إن كاهن مازدا الذي يُلقب بالماجوسي، لا بدَّ أن يكون ثمرة مضاجعة الابن لأمه.

ويجمع فليكوفسكي من المقدس المجوسي، ويكتبه أيضًا الهاجوسي، ما ورثه عن عقائد إيران القديمة ما نصه:

إن مراعاة هذه العادة تُعتبر أجلَّ علامات التقوى في أيام الشر المقبلة؛ فهي تعوض الخطيئة الدنيوية، وتقيم الحاجز الوحيد الذي لا يمكن تخطِّيه أمام هجمات آشوم إله الغضب (تكتب آدوم/المؤلف)، كما تقف في وجه الشياطين وتسلبهم قوتهم. وهي الواجب الثاني من واجبات الدين السبعة، وإهمالها هو الخطيئة الرابعة من الخطايا الثلاثين الكريهة. وهي الوسيلة التاسعة من الوسائل الثلاث والثلاثين لاكتساب مملكة السماء، بل وحتى يقال إن زرادشت أوصى بها على أنها الوصية الثامنة من وصاياه العشر للإنسان.

وهل الهاجوس شيءٌ آخر سوى الساجوسي أو السجاز قاطع الرقاب؟ خاصة إذا علمنا أن الهاء كانت أداة التعريف في السامية الشمالية، إن الهاجوس بهذا المعنى هم الأراميون الإسكيث.

ويحتوي كتاب «دنكارت» مناظرةً تمَّت بين زرادشتي (الزرادشتية تطوير واستمرار لديانة مزدا القديمة، قام بها زرادشت حوالي ق.أ.ق.م.) وبين يهودي حول هذه العادة. فكان رد الزرادشتي: «إن هذا الرباط بين الأب والابنة والابن وأمه والأخ وأخته، لهو أكثر الزيجات اكتمالًا في اعتباري.»٢

وكان ملوك الميتانيين الذين يأخذون بهذه العادة، والتي أخذها من بعدُ الزرادشتيون، على صِلات وثيقة بالملكة تي وآمنحتب الثالث وإخناتون، وكانت بينهما علاقات نسب ومصاهرة. والاحتمال القوي أن إخناتون عندما استُبعد صغيرًا، قد رُبي في البلاط الميتاني، وهو ما يمكن أن يُفسِّر رباط الزوجية بين الملكة تي وولدها إخناتون.

وقد لاحظ عالم المصريات والاس بدج أن أناشيد إخناتون تطابق أناشيد الفيدا، وأن أذرع آتون، التي تمتد بعلامة الحياة، هي ذات أيدي إله الشمس الفيدي (سوريا).٣

كذلك ﻫ. ر. هول الذي أكد أنه بين الميتانيين كان هناك فرع هندو إيراني، يعبد الأشعة ذات الأيدي، أما إخناتون فلم يجعل علاقته بأمه سرًّا؛ إذ تفاخر بأنه «ذلك الذي يعيش في الحقيقة». وهو الأمر الذي أدَّى إلى سخطٍ وثورة مصرية آتية في الأفق على وشك الفوران.

ومن المتفق عليه أن الملكة «تي» قد تخلَّفَت في طيبة بضعة سنوات، قبل أن تلحق بولدها في مدينته الجديدة (أخت آتون)، إلا أن آثار المدينة تؤكد أن مأساة حياة إخناتون العائلية قد اكتملت حلقاتها في العام الثاني عشر من حكمه. لقد أصبح له أسرتان، سُجلت التفاصيل بشأنهما في نقوش الوليمة والشراعة. وبموجبها طالبت الأم الملكية، التي أصبحت زوجة ملكية، بمركزٍ رسمي ومكانة ممتازة لها ولابنتها «بكتاتن». وكان على إحدى الزوجتين أن تترك مكانها للأخرى. وبعد ذلك، ولمدة خمس سنوات يختفي ذكر نفرتيتي، حتى يقول آرثر ويجال في كتابه The Life and Times of Akhenaten: «لا يكشف لنا التاريخ ما آلَ إليه مصير نفرتيتي. ويبدو أن نهايتها كانت محزنة تمامًا.»

وعلى لوحة الشراعة، فوق لوحة الوليمة، نطالع موكب نصر يصوِّر تي ذاهبة مع إخناتون وابنتها بكتاتن إلى معبد أخت آتون، حيث أعدَّت ثلاثة مذابح لهم، واحد للملك وثانٍ للملكة تي وثالث لبكتاتن، ولا شيء من أجل نفرتيتي وبناتها. وهو تقرير واضح عما حقَّقَته تي من نصر؛ فهذا إنما يعني اعترافًا وفق الطقوس بأنها زوجة شرعية له، وبالطفلة ابنة ملكية منه.

ويقول «إريك بيت» في كتابه Akhenaten, Ty, Nefertiti, and Mutneymet: إنه «بعد مرور العام الثاني عشر بفترةٍ قصيرة، سقطت على رأس إخناتون أقوى الضربات وأقساها؛ فقد هجرته زوجته نفرتيتي، هذا إذا لم نكُن قد أخطأنا في تفسير الشواهد.» هذا بينما نجد «جلانفيل» في كتابه Amenophis III and his Succerors, in the XVIII Dynasty يقول: «وأما عن اختفاء نفرتيتي؛ فمن المتفق عليه عامةً أنه كان نتيجة لإلحاق الخزي والعار بها بعد العام الثاني عشر بقليل.» حيث أُزيل اسمها من على النقوش في بعض المباني التذكارية، على حين تُرك اسم إخناتون المنقوش عليها دون مساس. أما «فرانكفورت» فقد اعتقد أن التغيرات الكبرى التي حدثت في العام الثاني عشر من حكم إخناتون في تل العمارنة، كان نتيجةً لوصول الملكة تي إلى مدينة الملك، وما ناله شخصها من تقدير فائق الاحترام، وأن ذلك كان له علاقة أكيدة باختفاء نفرتيتي. هذا بينما اعتقد «ج. دس بندلبري» أن نفرتيتي قد رحلت بعيدًا عن إخناتون وقصره الملكي؛ لكي تستقر في شمال أطراف مدينة الملك.

ويؤكد لنا فليكوفسكي أن كل الدلائل تشير إلى صراع حزبين في البلاط أخذَا في الصراع على السلطة. الحزب الأول هو حزب إخناتون وتي، والحزب الثاني هو حزب نفرتيتي وانضم إليها والدها آي، وتزعَّم هو الصراع ضد أخته وابنها. وفي إحدى روايات أسطورة أوديب يطرد أوديب زوجته الشابة أوريكانيا، بعد أن ألحقَ بها العار وهي أم لأربعة أطفال.

المهم يستمر إخناتون يتربع على العرش طوال أربع سنوات أو خمس سنوات، بعد هجران نفرتيتي له أو إلحاق العار بها. وإبان ذلك يتسع نفوذ آي؛ فقد كان هو وزير خزانة الدولة. ومن المتفق عليه بين المؤرخين أن تي قد اختفت من الوجود بعد فترة قصيرة، وأن نهايتها غامضة تمامًا؛ إذ لم تُدفَن بوصفها ملكة عظمى لإمبراطورية عظيمة.

أما مصير نفرتيتي فيمكن قراءته مع «بندلبري» في كتابه تل العمارنة حيث يقول: «لم نعثر في المقبرة الملكية على أدواتٍ تؤكد أنها من مدفن نفرتيتي. وما نمتلكه دليلٌ وحيد، هو أنه في العقد الثامن من القرن الماضي، شُوهد مجموعة رجال يسيرون جنوبي الصحراء ومعهم كفن ذهبي، وخلفهم بمسافةٍ قصيرة ظهرت أدوات ذهبية تحمل اسم نفرتيتي.»٤

وهنا يفترض فليكوفسكي أن ما تخلَّف عن نفرتيتي ليس مومياء، بل تماثيلها المنحوتة.

وفي السنوات الأخيرة لحكم إخناتون، نجده يحتضن الأمير سمنخ كا رع، الذي يظهر كشابٍّ في العقد الثاني من العمر، وأشركه معه في الحكم حوالي عام، وقد عُثر على تمثال لإخناتون، وهو يقبل سمنخ كا رع الجالس على ركبتيه. ويقول «جلانفيل» بهذا الخصوص: «لقد ثبت نهائيًّا وجود حكم مشترك بين إخناتون وسمنخ كا رع، ولكن تكمن في تلك اللوحة لمحات لعلاقة أخرى أكثر وثوقًا، فهناك لوحة في متحف برلين كان من المُعتقَد إلى وقتٍ قريب أنها تمثل إخناتون ونفرتيتي، ولكن وضح أنها دلالة على تعبير الملك عن شعوره تجاه شريكه في الحكم الصغير السن.»

فإذا كان علم التشريح قد أثبت بعد فحص مومياء سمنخ كا رع وتوت عنخ آمون أنهما أبناء إخناتون؛ فإن هذه الحقيقة ستفسر العواطف الأبوية في اللوحات من إخناتون تجاه سمنخ كا رع.

ويتابع فليكوفسكي موضحًا أن سمنخ كا رع الابن الأكبر كان شابًّا أنيقًا، تزوج مريت آتون كبرى بنات نفرتيتي، وهو في سنٍّ صغيرة، ولما كان سمنخ كا رع قد تزوَّج الوريثة الشرعية، فقد أصبح من حقه وراثة العرش. أما الابنة الثانية مكتاتن فقد ماتت صغيرة، ودُفنت في مقبرة أخت آتون الملكية، والابنة الثالثة عنخ إس إن با آتون تزوجت أخاها توت عنخ آمون، لكن لم يتم هذا الزواج إلا بعد أن قام أبوها إخناتون بزيارتها في غرفة زفافها، وكانت ثمرة هذه الزيارة فتاة ماتت بعد ولادتها مباشرة، وقد أوقف هذا الاكتشاف عن إخناتون سيل المديح الذي تدفَّق عليه، باعتباره الموحِّد الأول، المفترض أن يكون راعيًا للأخلاق والقيم.

وقبل زمن إخناتون بجيلٍ واحد تزوج والده آمنحتب الثالث إحدى بناته عرَضًا، وقد حذا إخناتون حذوه، وربما كان تأثير عادات الميتانيين في العلاقات الزوجية هو المسئول عن هذه النزعات المتحررة التي لم يعرفها المصريون في الأجيال السابقة، قبل علاقات البلاط المصري الحميمة بالميتانيين. كذلك نزعة العري في رسوم نفرتيتي وبناتها، والتي تكشف دومًا عن الفَرْج، كما لو كان مقصودًا عن عمد؛ ربما تقديسًا للفَرْج رمز الخصب، وعادةً ما اشتملت عقائد عبادة الفَرْج على طقوسٍ جنسية غير مألوفة، كزواج الابن من أمه أو الأب من بنته، فيما يعرف بالطقس السري، ويطلق على العقائد التي تمارس ذلك عمومًا «الديانات السرية»، وما زال منهم طوائف موجودة في منطقتنا إلى اليوم، كما في السماعلة في بوادي الشام.

وقد يكون اتصال إخناتون جنسيًّا بابنته، هو أصل الأسطورة اليونانية القديمة، التي تقول إن أوديب تزوَّج أيضًا عذراء تسمى استيمدوسا، بالإضافة إلى يوكاستا أمه وزوجته، إضافةً إلى زوجته الشابة أوريكانيا التي رزق منها أطفالًا عديدين، ثم أبعدها بعد أن ألحق بها العار؛ لذا يقف دارسو الأساطير مشدوهين أمام كل هذا التشابُك والتفاصيل، وذكر منمنمات صغيرة مع التعقيد الذي بلا معنًى واضح في أسطورة أوديب.

وبمرور الوقت أخذت الإمبراطورية العظمى تترنح زمن إخناتون، وقد أرسل أحد الولاة من فلسطين إلى فرعون يقول: «أصغِ إليَّ … لماذا ركنت إلى الانعزال على حين أنهم يأخذون أرضك؟ لا تدَع مثل هذه الأقاويل تُقال عنك في المستقبل، وهي أنك لم تكن قادرًا على إنقاذ ممتلكاتك.»

وضاعت الأقاليم الآسيوية، التي أخضعتها حملات أسلاف إخناتون العظام، وبدأت تظهر دلالات أخرى تكشف عن تفكُّك الدولة، فُسرت على أنها غضب من الآلهة، وهو ما جعل النبلاء والكهنة وضباط الجيش في حالة استفزاز ضد الفرعون؛ لأن ضياع الإمبراطورية كان يعني جفاف الدخل الذي ملأ مصر ذهبًا وكنوزًا، ولا بد أن الكهنة قد أشاعوا بين العامة والنبلاء، أن هناك خطيئة قد حدثت تستوجب القصاص قبل دمار البلاد، وربما على ذلك تم تفسير انتشار جائحة أو كارثة من نوعٍ ما ربما كانت مرضًا وبائيًّا.

وتحكي لنا أسطورة أوديب عن طاعون أو مجاعة، أو كارثة ما غير محددة بالضبط حلَّت بالمملكة؛ ولذا قرروا سؤال النبوءة عن سبب غضب الآلهة حتى يعالجوا الأمر. وبالمثل في آخر حكم إخناتون حلت بالأرض كارثة يصفها «توت عنخ آمون» وريث «إخناتون» الملكي بقوله: «لقد كانت الأرض مريضة، وأدارت الآلهة ظهرها لهذه الأرض.» ويبدو أن «آي» كان الزعيم وراء تحريك النقمة على بلاط إخناتون، وهو المقابل المصري لشخصية كرايون في أسطورة أوديب، فقد تزعَّم كرايون شقيق الملكة يوكاستا الثورة ضد الملك، طمعًا في الاستيلاء على الملك، وهو ما حدث في مصر؛ إذ تحالف آي مع كهنة آمون، وأصبح بالفعل في النهاية ملكًا، وعمل على دعم آمون وكهنته، وترك مدفنه في أخت آتون قبل أن يكتمل، ذلك المدفن الذي يزين جدرانه نشيد آتون البديع، لكن صاحب المدفن قرر تركه لينضم إلى جانب آمون.

ولعزل ملك مصري في زمن كان يحاط بقدسية الآلهة، كان لا بد أن يستعين المصريون بشتى القوى السماوية الأرضية، أما في طيبة اليونانية التي في إقليم بيوتيا، فقد ساهم العرَّاف الأعمى «تيرياس» في إسقاط الملك، فقد كان له دور أساسي في قصة أوديب، وقد قدمته الأسطورة بحسبانه الحكيم، والعرَّاف المقدس الذي يعرف الماضي والمستقبل، وعاش زمن الملك لايوس، ثم عاش في بلاط ولده أوديب كهلًا، ثم فارق الحياة في الجيل الذي جاء بعده، وهو جيل حرب طروادة.

وعندما حل وباء الطاعون بمدينة طيبة اليونانية، طلب أوديب من العراف الأعمى أن يكشف عن السبب في غضب الآلهة، وكان العراف «تيرياس» يعرف الحقيقة، فالسبب أن في المدينة رجلًا قتل أباه وتزوج أمه، وفي البداية رفض «تيرياس» الكشف عما يعلم، لكن أوديب اتهمه بالتآمر بالتضامن مع كرايون، فاضطر للكشف عن بعض ما يعلم، وإبان صراع ورثة أوديب على العرش، أدان العراف تيرياس الملك كرايون لرفضه دفن الأمير المقتول، وقد لجأ أهل طيبة أيضًا إلى نبوءة معبد دلفي، لتكشف لهم عن سبب الكارثة، وفي طيبة المصرية نجد العراف المقابل لتيرياس هو «آمنحتب بن حابو»، الذي عاش زمن آمنحتب الثالث وزمن ولده إخناتون، وقد قدسه الناس من بعد موته إلى حد عبادته، ولم يحدث في تاريخ مصر أن إله المصريين شخصٌ لا ينتمي لأصلٍ ملكي، سوى هذا العراف «آمنحتب بن حابو»، وسميه الأسبق المهندس «إيمحتب» مصمم وباني هرم «زوس»، وأبو الطب المصري الذي شبهه اليونانيون الإغريق بإله الطب عندهم «إسكليبوس».

وقد كان تيرياس عليمًا بظروف ميلاد أوديب والتخلص منه طفلًا، وبين المفردات الغامضة التي تركها لنا «آمنحتب بن حابو» في مذكراته وَصْف يصف فيه نفسه بأنه «عالم وثيق بأسرار تربية الأطفال الملكيين».٥

وبين اللوحات التي تصور العراف المصري، لوحة تصوره وهو صغير السن ذو شَعر طويل مصفف مثل نساء عصره، وهي صورة شديدة الغرابة، لكنها تفسر لنا حدثًا جاء بالأسطورة اليونانية، حيث تقول الأسطورة فجأة ودون علاقة ببقية الأحداث التي ترويها، أن تيرياس قتل ذات مرة حية، فتحوَّل إلى امرأة لفترةٍ من الوقت عقابًا له، وعندما استوفى مدة العقوبة عاد رجلًا مرة أخرى، واشتبك الإله زيوس مع الإلهة «هيرا» في نقاشٍ حول أي منهما أشد تمتعًا بالاتصال الجنسي: الذكر أم الأنثى؟ لجأ المتحاوران الإلهيان إلى تيرياس بوصفه صاحب الخبرتين، فأجاب: إن المرأة أشد استمتاعًا، فغضبت «هيرا» وأَعْمَته عقابًا له، لكن زيوس كافأه بأن قرَّر منحه عمرًا مديدًا حتى يرى الجيل السابع من أحفاده، ثم أسبغ عليه نعمة القداسة. أما في مصر فقد أصبح آمنحتب بن حابو راعيًا للعميان؛ لأنه كان أعمى، وقد عاش طويلًا حتى إنه في العام الرابع والثلاثين من عمر الملك آمنحتب الثالث، بلغ من عمره الثمانين، ولكي يعيش هذا العراف حتى نهاية حكم إخناتون، فلا بد أنه قد أتم من عمره قرنًا من الزمان بنيفٍ أو يزيد.

figure
شكل رقم «٢١٦».
figure
شكل رقم «٢١٧»: آمنحتب بن حابو، مهندس عراف رُفع إلى مرتبة القداسة بشَعرٍ مصفف على طريقة النساء.

وفي وسط معابد ملوك طيبة الفراعنة، أقيم لهذا العراف معبد جنازي، وقد تم العثور على صندوق تابوته بوادي الملوك، وكلاهما المعبد والمقبرة كانتا من ميزات الملوك، لكن الملاحظ أنه لم تُبنَ له مقبرة في تل العمارنة، مما يشير إلى أنه لم يغادر طيبة مع إخناتون، ويبدو أنه انحاز إلى جانب آي وكهنة طيبة ضد إخناتون، كما انحاز تيرياس إلى جانب كرايون في مسرحية سوفكليس (أوديب ملكًا).

وفي مصر نجد عقاب السماء واضحًا في وصف توت عنخ آمون لزمن إخناتون في قوله: «عندما كنا نرسل الجنود إلى سواحل فينيقيا كانت الحملات تفشل بسبب غضب الآلهة.» وفي قوله: «لقد أدارت الآلهة ظهرها لهذه الأرض.» ويطابق ذلك عبارة لتيرياس حول رفض الآلهة للقرابين؛ بسبب جريمة شنيعة قد حدثت «أن الآلهة قد باتت لا تقبل الصلوات والقرابين من أيدينا»، وهو ما جاء في مسرحية «أنتيجوني»، وفي مصر انضم الأمير الأكبر سمنخ كا رع إلى آي وكهنة طيبة، وسافر إلى طيبة بالفعل إبان حكم والده إخناتون، وبعد فترةٍ نجده يتربع على العرش بعد اختفاء إخناتون، والمعلوم أن إخناتون قد اختفى، وهناك احتمال كبير أنه قد تم عزله ثم نفيه، أو تحديد إقامته في منطقةٍ نائية، بدون ثورةٍ أو انقلاب.

وعند الكشف عن مدينة أخت آتون في تل العمارنة، كانت تعيش هناك جماعات بدوية قبلية تحمل اسم «العمارنة»، تم استئجارهم للعمل في الحفائر، كان هؤلاء يحكون لعلماء المصريات المشرفين على الحفائر، عن أنهم ذوو أصلٍ عريض، وأن جدهم البعيد كان أميرًا وأنه كان مدفونًا هنا، وكان حظه تعيسًا، وأن أباه أراد إنقاذه من مصير تنبأ به القدر عند ولادته.

وطبقًا لرواية «يوربيدس» عن الأسطورة، أنه بعد عزل أوديب عن العرش، عاش أعمى في سجنٍ بقصرٍ منعزل، أما وفقًا لرواية «سوفكليس»، فقد اقتلع أوديب عينيه بعدما عرف الحقيقة، وعاش أعمى في قصره لبعض الوقت، حتى نفاه أبناؤه من طيبة، أثناء حكم ولده الأكبر، ومن ثم تتفق الروايات على عمى الملك.

وهنا يعتمد فليكوفسكي على ما ورد عند «هيرودت» في تاريخه عن مصر، أنه كان بين الفراعنة ملك أعمى جلس على العرش يدعى «أنيسيس»، عاش في مدينة تحمل نفس اسمه، وقد تعرضت البلاد إبان حكمه لهجومٍ إثيوبي فهرب إلى المستنقعات، لكنه استُدعي بعد خمسين عامًا من منفاه ليتربع على العرش مرةً أخرى، بعد طرد الغزاة، وفي مقبرة «توت عنخ آمون» نرى الملك توت مرسومًا وهو يحارب الإثيوبيين، ومن ثَم نجد أن قيام حرب ضد الإثيوبيين أيام خلفاء إخناتون حقيقة تاريخية، كما نذكر أن إخناتون أطلق على مدينته ذات اسمه فأسماها «أخت آتون»، لكن هيرودت دوَّن الاسم «أنيسيس».

وفي الرواية اليونانية كان المكان الذي نُفي إليه أوديب جزيرة كلها كثبان رملية، وهو ما لا يختلف كثيرًا عن أرض المستنقعات التي نُفي إليها الملك الأعمى في شرقي الدلتا، أما البليغ؛ فهو أن الملك أنيسيس عند هيرودت قد حكم مصر في نهاية الأسرة الثامنة عشرة.

وفي كلماتٍ كتبها أمير فلسطيني مُوالٍ لمصر إلى إخناتون، نجده يقول: «مع أن الإنسان يرى الحقائق، فإن عيني الملك مولاي لا تريان.»٦

وفي نشيد مديح آتون، وهو يصف عجائب الدنيا عن سطوع آتون الشمس، نلمس احتفاءً فياضًا بقدرة الرؤية، وحمدًا جليلًا على نعمة النظر، «فالعيون ترى الجمال حتى تغرب أنت». وبعد اختفاء إخناتون وعودة الآمونية، كان تلاميذ المدارس يتدربون على نسخ نشيد، ظهر زمن توت عنخ آمون وآي، يقول:

يا آمون،
إن شمس ذلك الذي لم يقدرك قد غابت،
لكن الذي يعلم قدرك يتألق.
إن فناء الذي هاجمك يسبح في ظلامٍ دامس،
على حين يسبح العالم كله في ضوء النهار.
إن من يضعك في قلبه،
يا لبشراه! تشرق شمسه.٧
وقد دونت الكلمة التي ترجمها إرمان في هذا النشيد إلى «فناء»، برسم عين، وتنطق «ويبا»؛ ولأن إرمان لم يكن يعلم أن إخناتون قد فقد بصره، فقد ترجمها بكلمة فناء، وعلق عليها بأنها «أبنية الكافر الديني وخاصة في العمارنة»، لكن المؤكد أن كلمة الرؤية هي المقصودة عند كتابتها بشكل عين بشرية، أما جرابو فقد ترجم كلمة «ويبا-ما»، في مؤلفه عن الطب المصري بكلمة «ما = يفتح + ويبا = العين»، كما كتب لفيفر في مقاله Essai sur La medicine Egyptienne de L’epoque pharaonique, 1956 يقول: «هناك مجموعة كاملة لوسائل العلاج، لا يزال يُشار إليها بوصفها من أجل فتح العين — ويباما — أو بالأحرى علاج العين.» أما الأستاذ «أبل» في ترجمته لبردية «إبريس» عام ١٩٣٩م فيترجمها: «تحسين حالة النظر».

لقد ارتقى «إخناتون» عرش مصر وهو مُبصر، لكنه فقد بصره بعد ذلك، ربما نتيجة لأعراض المرض وتجمع أعراض تشوهه العضوي، وعندما شيد مدينته «أخت آتون»، قطع على نفسه عهدًا ألا يتركها حتى نهاية حياته، وطلب دفنه فيها مع زوجته وأولاده، لكن الشخصية الوحيدة التي نعلم أنها دفنت بالعمارنة، هي ابنته الثانية مكتاتن، وباستثنائها لا تحوي المقابر على بقايا جنازية، ولقد تم العثور على تابوت إخناتون الضخم المرمري، وعلى أركانه النسور الحامية، لكن التابوت لم يستعمل على الإطلاق، ويخلو من أي أثر لمواد التحنيط. إن إخناتون لم يُدفن بالعمارنة إنما ذهب إلى منفاه أعمى، وحُذف اسمه وكل أسماء أسرة العمارنة من التاريخ المصري، كما لو كان نجسًا يجب اجتنابه، وقرر المصريون نسيانه تمامًا، وإذا حتمت الظروف ذكره كان يحل محل اسمه التعبير «مجرم أخت آتون هذا»، ولم يُشَر إليه من بعدُ باسمه، أما «أخت آتون» نفسها، فتشي بأنها قد هُجرت فجأة وبسرعة، ورحل عنها الجميع ليتركوها بلقعًا، في لحظةٍ واحدة.

وفي عام ١٩٠٧م اكتشف تيودور ديفز بوادي الملوك بمدينة طيبة المصرية عددًا من المقابر، أهمها كانت مقبرة يويا وتويا والدي الملكة تي، وكانت المقبرة سليمة لم تمتدَّ لها يد إنسان، ولم يعبث بها لصوص المقابر، ثم مقبرة أخرى لها بابان من الخشب ذوا مقابض نحاسية، وعلى الجانب الآخر من البابين ألواح ذهبية، نقش عليها اسم وألقاب الملكة تي، لكن المفاجأة أن نجد مقبرة ملكة عظيمة، قد نُحتت في الصخر بلا نظام ولا تنسيق، ومحتوياتها مبعثرة وفي حالة فوضى شاملة، وبين المحتويات كانت أواني الأحشاء الكانوبية المصنوعة من المرمر، لكن اسم صاحبها أُزيل من النقوش بدقة لم تسمح بقراءة الاسم. وكما وجدنا بالمقبرة ألواحًا خشبية على الأرض، مغطَّاة بالذهب منقوشًا عليها اسم الملكة تي، ويبدو أنها كانت جوانب الصندوق الذي وضع به التابوت، وعلى إطارٍ واحد من هذه الألواح حفرت صورة الملكة، وهي ترتدي ثوبًا شفافًا لا يخفي جسدها، وأمامها إخناتون، لكن صورته أزيلت بعنفٍ من على اللوح الذهبي، أما التابوت فكان مصنوعًا بدوره من الخشب، يبدو أنه قد أُلقي في الحفرة إلقاءً، فقد انفصلت جوانبه، وخرجت منه رأس المومياء ورقبتها، وبإخراج المومياء وضح أنها كانت لإنسانٍ صغير برأسٍ صغير ويدين رقيقتين، ملفوفة في نسيج فاخر، وتحت اللفافات كان الجسد مغطًّى جميعه بألواح الذهب الخالص.

وكان وجود الجواهر والألواح الذهبية برهانًا قاطعًا على عدم تسلل اللصوص إلى المقبرة، رغم الفوضى الشاملة في المقبرة، بل إن بعض خدم الملكة «تي» حصلوا على مقابر أجمل من مقبرتها بزينات ورسوم وتخطيط هندسي، أما قبر «تي» فكان مجرد كهف وعر، عارٍ عن الجمال منعزل عن بقية المقابر الملكية، مع العجلة الواضحة في دفن الجسد وعدم الاحتياط الذي أدى لكسر التابوت، هذا إذا لم يكن قد ألقي ألقاءً عن عمد، وبالفحص الطبي برهنت عظام الحوض أن المومياء كانت لامرأة، ولا شك أنها كانت الملكة العظمى «تي»، لكن بمراجعة الطبيب إليوت سميث أعلن أنها مومياء ذكر، وأن ما خدع الأطباء السابقين هو أن عظام الحوض كانت غير طبيعية، لكن جاستون ماسبيرو عالم المصريات المعروف أكَّد أن التابوت كان للملكة تي، خاصة أن الألقاب بجوار اسمها كانت ذات ألقاب تي في حياتها في أخت آتون «أم الملك وزوجة الملك العظمى»، أما المفاجأة الأكبر؛ فهي اكتشاف أن التابوت كان مخصصًا أصلًا للملك إخناتون، حيث أزيل اسمه من على الألواح الذهبية التي تغطي الجسد، لكن ألقابه الملكية لم تُمَس، خاصة عبارة «ذلك الذي يعيش في الحقيقة»، وعقَّب ماسبيرو بقوله:

علينا أولًا وقبل كل شيء، أن نضع في أذهاننا، أن القبو الذي اكتشفه ديفز ليس بمقبرةٍ حقيقية، بل هو مجرد كهف وعر حفر في الحجر، وقد استخدم هذا الكهف كمخبأ سري لدفن عضو من أعضاء الأسرة المسماة بأسرة الملوك الكفرة، وذلك عندما ارتد الناس إلى عبادة آمون، وقد دبَّر بعضهم نقل المومياء من مدفنها الأصلي في طيبة أو العمارنة، هذا لكي ينقذ المومياء من انتقام الطائفة المنتصرة وبطشها.

ورجح «ماسبيرو» أن من رسم خطة الدفن السري تلك إما توت عنخ آمون أو آي، وأن وجود اسم إخناتون وتي بمحتويات المقبرة، يشير إلى أن المومياء هي مومياء الملك المهرطق إخناتون نفسه، وأنه دُفن في تابوت ومقبرة تي سرًّا، حتى لا يتعرض الجسد لإيذاء الغضب الشعبي. لكن المشكلة التي تواجه ترجيح ماسبيرو هي تقرير الطبيب إليوت سميث الذي أكَّد أن الجثمان لرجلٍ مات، وعمره لا يزيد على ستة وعشرين سنة، نعم لم يكن تكوين الهيكل طبيعيًّا، فالجمجمة مستطيلة بشكلٍ واضح، لكن هذه الاستطالة كانت واضحة أيضًا في نسل إخناتون، حتى بناته تم تصويرهن حليقات الرءوس، والرءوس مستطيلة من الخلف.

وبين محتويات المقبرة عُثر على ختمٍ ملكي باسم توت عنخ آمون، وقوالب طوب نُقش عليها اسم إخناتون، مع لوح ذهبي وُجد عند قدمي المومياء، يحمل صلواتٍ ونشيد حب أو كلمات وداع تقول:

إني أستنشق الهواء العذب الخارج من فمك،
وأتأمل كل يوم في جمالك،
وأمنيتي هي أن أسمع صوتك الحبيب،
الذي يشبه حفيف ريح الشمال.
إن الحب سيعيد الشباب إلى أطرافي.
أعطني يدك التي تمسك بروحك،
وسوف أحتضنها وأعيش.
نادِني باسمي مرَّة أخرى وإلى الأبد!
لن يصدر نداؤك أبدًا بلا إجابة.

وكما هو واضح، فالكلمات أغنية وداع وحب، كتبها شخص حي للشخص الميت، وهو ما زاد في غموض المقبرة اللُّغز، التي يمكن أن تلتمس التفسير في مقبرةٍ أخرى، كانت إلى الجوار منها، هي مقبرة توت عنخ آمون، التي كان لكَشْفها دوي عالَمي لم يحدث لأي كشفٍ تاريخي آخر في تاريخ العالم. وتساءلت الدنيا: لقد تم الكشف عن مقابر ملكيَّة عديدة لم تمسَسها يدٌ، لكنها أبدًا لم تكن بفخامة مقبرة الفرعون توت، فما معنى كل هذا العرض المذهل للثروة وللفن والجمال؟ ولماذا دُفنت كل هذه الثروة الهائلة في مخبأٍ، بعيدًا عن الأنظار في هذه المقبرة المنعزلة؟ ولماذا توارت أجمل المنتجات الفنية في العالم في هذا المدفن الغريب؟

وأرسلت المومياء إلى الطبيب «د. أ. دري»، وقدَّر هذا الجراح عمر توت عنخ آمون عند وفاته، بما لا يزيد على ثمانية عشر عامًا، لكن الجديد أن جمجمة توت تميزت بذات السُّمك غير العادي في عظام مؤخرة الرأس، مما أدى بالطبيب الجراح إلى نتيجةٍ مفادها أن توت كان ابنًا لإخناتون. وهنا تم فحص مومياء المقبرة اللغز المجاورة مرة أخرى على يد الطبيب «إنجلباخ»، الذي انتهى إلى أنها تشابه إلى حدٍّ بعيد مومياء الملك توت، وأنها ليست سوى مومياء سمنخ كا رع شقيق توت، وليست أبدًا للملكة تي أو للفرعون إخناتون. وقد أيد وجهة نظر إنجلباخ تكرار عبارة «المحبوب من إخناتون»، على الألواح الذهبية التي غطت المومياء، وهي العبارة التي ذُكرت في مواضع أخرى في الآثار، لتشير إلى سمنخ كا رع تحديدًا، وقد قرر الدكتور «دري» أن سمنخ كا رع كان شقيقًا للملك توت، وكلاهما كان ابنًا للملك إخناتون، وأنه بعد تواري إخناتون تولى العرش لفترة قصيرة ولده الأكبر سمنخ كا رع الذي تولاه بعده أخوه توت، بينما كانت القوة المحركة وراء حكم الصبية هذا كانت الكاهن الأعظم خالهما آي، وكان هو المسئول عن احتفال دفن الملك توت، فقد رُسم على حوائط مقبرة توت، وهو يشرف على طقوس الجنازة. والغريب أن آي بعد موت توت كان هو الملك، ولم يحدث أن قام ملك مصري بتنظيم جنازة الملك السابق، فما سِرُّ كل هذا الاهتمام؟ ولماذا كل هذا التبجيل والتكريم لسَلَفه الصبي، خاصة وأن توت عنخ آمون كان ملكًا لا أهمية له على الإطلاق؟ لكن رسوم مقبرته تصوره يضرب بسهامه صفوفًا من الأعداء، كذلك يضرب أسرى الحرب، مما يشير إلى وقائع عسكرية حدثت في عهده، وأنه ربما مات في تلك الحرب، ولا شك إذن أنه كان محاربًا وطنيًّا يستحق التكريم، بعد أن مات وهو ملك في ساحة الشرف. لكن علينا أن نلحظ الفرق الهائل بين مقبرتي الأخوين سمنخ كا رع وتوت. أما الملحوظة الجانبية في مقبرة سمنخ كا رع، أن ذلك المحب الولْهَان صاحب نشيد الوداع، قد ترك بجوار الجثة نباتات محترقة وبخورًا خامدًا وبعض زهور تحوَّلت إلى تراب.

وفي الأسطورة اليونانية، في مسرحية سبعة ضد طيبة، قصة صراع الأخوين على العرش، يتخلَّى أوديب عن العرش بضغطٍ من كرايون، ويتم الاتفاق على تبادُل العرش بين الصبيين سنويًّا، فحكم بولينكس أكبر الأخوين لمدَّة عام، وتنازل عن العرش لأخيه أتيوكليس، وترك المملكة ثم عاد إلى طيبة اليونانية، بعد عامٍ حسب الاتفاق، لكنَّ أخاه الأصغر، وبتحريضٍ من كرايون، رفض التنازل عن العرش. وهنا استعان الابن الأكبر بولينكيس بأعداء البلاد ليستعيد عرشه، وهي القصة النموذج للأخوين سمنخ كا رع وتوت، حيث حكم سمنخ كا رع أولًا، ورسم وهو يرتدي الزي الملكي في حياة أبيه، لكنه بعد موت أبيه لم يحكم سوى سنة واحدة في طيبة، ثم فجأة يظهر توت ملكًا على طيبة، بينما نجد آي الحاكم الفعلي.

أما الحرب المجهولة التي مات فيها توت/أتيوكليس اليوناني، فلا شك أنها بالمقارنة مع الرواية اليونانية، كانت دفاعًا عن البلاد ضد الأجانب الذين استجلبهم أخوه الأكبر سمنخ كا رع/بولينكيس اليوناني، ومن ثَم قُتل كلاهما في تلك الحرب. [وهنا بالتحديد يمكننا أن نضع توقيت الهجمة الهكسوسية الثانية، التي نقلها يوسفيوس عن مانيتون، وتم كسرها على الحدود بقيادة رئيس الجند حور محب/المؤلف].

وفي الأسطورة اليونانية أصدر كرايون أمرًا، بدفن الأمير الأصغر أتيوكليس بكل تبجيلٍ وقداسة، وحرم دفن الأمير الأكبر الذي استعان على أخيه وبلاده بأعداء البلاد. ولإظهار الفارق أمام الدنيا في إعلان واضح، أقيمت طقوس جنازية عظمى ببذخ طائل للملك الصغير، بعكس الأمير الكبير الذي حُكم على جثته بأن تُترك في العَرَاء تأكلها طيور السماء وهوامُّ الأرض، بعد خيانته لبلاده وقومه. وقد أشرف كرايون بنفسه على تجهيز جنازة أتيوكليس الفخيمة، لكن أنتيجوني شقيقة أتيوكليس تجاهلَتْ أمر الملك الجديد كرايون؛ لأنه يتضارب مع قوانين السماء، وقامت بدفن أخيها بولينكيس، وهي تعلم أنها ستدفع حياتها ثمنًا لمجازفتها. وبالفعل أصدر كرايون قرارًا بدفنها حيَّة في كهفٍ صخري ليكون مقبرتها، ومعها زاد يكفي لإمدادها بالحياة، لتحيا ميتةً في مقبرتها، إلى جوار مقبرة أخيها الذي دفنته، أو أمرت بدفنه مع بعض خلصائها.

هنا نلجأ إلى آخر فقرات التقرير الذي كتبه ديفيز عن المقبرة الغامضة، والتي أخذت الرقم ٥٥ بوادي الملوك التي اكتشف في النهاية أنها كانت مقبرة سمنخ كا رع، يقول ديفيز إنه بالقرب من تلك المقبرة عَثر على كهفٍ صغير هو مقبرة، به أوانٍ بيضاء كثيرة، ومعها أكواب صغيرة حمراء، ولم يُحِطْنا ديفيز علمًا بوجود جثَّةٍ من عدمه، لكن لو لم تكنْ هناك جثة ما أسماها مقبرة، بل اكتفى بكلمة «كهف» أو «مخزن»، حيث قيل إن المكان ربما كان مخزنًا لرجلٍ فقير.

وعليه يرى فليكوفسكي أن هذا الكهف كان هو مدفن أنتيجوني الأسطورية، لقُربه من مدفن الأخ المغضوب عليه، ولوجود أوانٍ وأكوابٍ كانت تحتوي على أطعمةٍ تكفي عدَّة أشهر.

إن «تيودور ديفيز» يصف باختصارٍ بالغ اكتشافَ المقبرة المخزن في أقل من صفحةٍ أضافها إلى كتابه «مقبرة الملكة تي»، وهو النشر الذي استاء له «جاردنر» بعد مرور أكثر من نصف قرن حيث يقول: «إن تاريخ الحَفْريات في مصر يصوِّر — بالإضافة إلى العمل الجليل — حلقاتٍ متصلةً من الكوارث والمصائب، وأفدح هذه المصائب تحل عندما تختفي النتائج ولا تُنشر إطلاقًا، لكنَّ من الفادح أيضًا أن يكون النشر ناقصًا غير كامل أو غير دقيق، وهذا لسوء الحظ ما حدث في مجلد تيودور م. ديفيز.»٨

وفي عام ١٩٤١م نشر «ﻫ. أ. وينلوك» مقالًا في سلسلة أبحاث متحف متروبوليتان بنيويورك، دوَّن فيه ملاحظاته عندما كان موجودًا في طيبة المصرية عام ١٩٠٨م عند اكتشاف المقبرة المخزن، وقد شرَح وينلوك وجهة نظره في القدور والأواني والثياب التي اكتُشفت هناك، فقال إنها بقايا وَجْبة اشترَك فيها بعض الناس، وإن من اشتركوا في تلك الوجبة هم مَن قاموا على دفن الملك توت.

والملابس التيلية التي وُجدت في الكهف تحمل ختمين لتاريخ يشير إلى آخر عام في حكم الملك توت. وهناك قطعة نسيج جذبت انتباه وينلوك طولها ٢٫٤٤م وعرضها ٦١سم، وقد انتُزع من كِلا جانبيها شريط طويل، والغريب أنها كانت من أفخر أنوع النسيج، لكنها كانت ملطخة ومتآكلة، وعليها علامة نُسجت تطريزًا باليد ترجمتها «ليحي الملك الطيب نوفر»، ونوفر هو الاسم الذي حمله «سمنخ كا رع».

وبين كومة الخرق البالية ثلاثة مناديل من مناديل الرأس النسائية، وضح أنها استعملت كثيرًا وغُسلت عدة مرات، وعليها بقع بفعل زيوت الجبهة، بينما استُعمل أحد هذه المناديل، ولونه أزرق، كخِرقة للتنظيف، حتى أنها تآكلت من كلِّ اتجاه من وسطها.

وكان بالكهف قدور كثيرة وأوانٍ وكئوس للشرب، وكلها صغيرة تمامًا ولا تستخدم إلا لوجبةٍ واحدة ولشخص واحد، كما كان هناك خمسة وستون كوبًا متشابهة، وآنية نبيذ وأوراق للشراب توضع بها المياه.

ويبدو أن هذه الأواني قد رشحت المياه بغزارة، فقد تركت المياه شريطًا رفيعًا من الطين على كلٍّ منها، كما عُثر بين الأدوات على أربع شقافات لقنينةٍ ملوَّنة، وستين طبقًا مختلفة التصاميم والأحجام، وقد تحطَّم كثير من الأطباق، وأُلقي في قدرٍ كبير الحجم، ومن هنا رأى وينلوك أنها بقايا مأدبة، خاصة مع ما وجده في القدر الكبير الذي استخدم كصفيحة قمامة من عِظام حيوانات، ووجد بين العظام كتِف بقرة مقطوع بسكين، كذلك وجد أربعة ضلوع لغنمٍ أو ماعز، مع هياكل لحوالي تسع بطات، وأربع إوزات، ولم يعثر على سكينٍ أو أي آلة حادة للتقطيع، كما عثر على ست كرونات/تيجان ورود، فهل كان يرتديها حضورُ المأدُبة؟

وهناك مكنستان استُعملتا لكنس الرمل، عُثر عليهما داخل الأواني، وكانتا حزمًا من أفرع الشجر، رُبطت من وسطها بحبل، وقد رأى وينلوك أنهما كانتا لإزالة آثار الأقدام الأخيرة لضيوف المأدبة العجيبة، لكن الإشكال أنه وضح الاستخدام الكثير والمتتالي للمكنستين؛ حيث عثر عليهما مستهلكتَين تمامًا.

وبين المحتويات كانت هناك أغطية فخارية صغيرة للأكواب بها شريط أحمر، استخدمت كمصابيح، فقد كان مجوفها الداخلي مغطًّى بطبقةٍ سميكة من السناج الأسود، وبقايا جافة لزيت المصابيح، هذا إضافة لقناع صغير لامرأة صغيرة مصنوع من الجبس الملون. ومعلومٌ أن هذه الأقنعة كانت تُصنع للشخص أثناء حياته، وكانت خاصة بعلية القوم، وتوضع مع صاحبها عند دفنه.

وهنا يدلي فليكوفسكي بتفسيره فيقول: إن هذا المكان، وهو صومعة مساحتها ٧ × ٧ أقدام، وارتفاعها ستة أقدام، منحوتة في القشرة الصخرية بوادي الملوك. هذا المكان كان يحتله سجين زُج به فيه، وكانت المؤن واللوازم الضرورية الأخرى تصِلُه بصفةٍ مستمرة، وتشهد المناديل على أن السجين كان امرأة تنحدر من أصلٍ نبيل، كما يتضح من نوع التيل؛ فقد كان أرقى بكثيرٍ من ذلك الذي استُخدم في تحنيط الملك توت، وقد أمضت السجينة في هذا الكهف عدة أشهر، فقد تآكلت المناديل التي كانت تغطِّي الشعر والجبهة، وغُسلت بصفةٍ مستمرة، وقد استخدم أحدها لتنظيف المكان.

كما عُثر على زيت النطرون، ويُحتمل أن الطعام والمياه اللازمة للشرب والغسيل، كانت تتدلَّى من أعلى بفتحةٍ في السقف، وعندما كانت الأواني تخلو من الطعام لم تكُن تُنقل إلى مكانٍ آخَر، بل كان يرِدُ غيرها، بينما تُرمى الأطباق المستعملة في الإناء الكبير، كما أن المكانس استخدمت حتى هلكت تمامًا، كما استخدمت أغطية الأكواب كمصابيح، لتمده بضوءٍ خافت في ظلمة الليل، هذا ناهيك عن قناع يدل على أصل نبيل لصاحبة المقبرة. أما كرونات/تيجان الزهور؛ فيحتمل أنها كانت تدلى لها من الخارج، بواسطة شخص يحبها ويهمه أمرها. وتحكي الأسطورة اليونانية أن «هايمون» ابن «كرايون»، قد أحبَّ «أنتيجوني» حبًّا جارفًا، غير أنه لم يقوَ على إنقاذها. مَن كانت إذَن هذه السجينة التي سُجنت على مسيرة دقيقة واحدة من قبر الملك توت، ومسافة نصف دقيقة من قبر الملك سمنخ كا رع؟ مَن تلك التي طرَّزت بيدها على النسيج البالي: «ليعيش الملك الجميل نوفر/سمنخ كا رع»؟ لقد كان نوفر هو المطالب بالعرش، كان الأخ الأكبر الذي قُتل في معركةٍ حاول فيها استرداد عرشه، مستعينًا بجيش من خارج البلاد.

وبعد مرور خمسين سنة على اكتشاف مقبرة «تي»، حيث توارى جثمان الملك سمنخ كا رع، كتب السير جاردنر في ديسمبر ١٩٥٧م، يؤكد أن أغنية الحب المتوارية عند قدمي الميت، قد كتبَتْها أخت هذا الميت، أو زوجته التي أشارت إليه بوصفه أخاها، واعتقد «جاردنر» في البداية أن النشيد كتبته نفرتيتي تُناجي حبيبها إخناتون، لكنه غيَّر رأيه بعد ذلك، لقد خوطب سمنخ كا رع بأنشودة حب من امرأة نادته بلفظ أخ، ومع ذلك كان التابوت تابوت إخناتون، والصندوق صندوق الملكة تي والمومياء لسمنخ كا رع.

وحاول «جنثر رويدر» البحث عن تفسير للفوضى والبعثرة في مقبرة الملك سمنخ كا رع، بشكلٍ لا يجعلها أبدًا جديرة بملك، أما «سيريل آلدريد» فركَّز اهتمامه على شخصية رسمت صورتها على أواني الأحشاء الموجودة في مقبرة سمنخ كا رع، ودرس لذلك أنماط تصفيف الشعر في مصر القديمة، وتعرَّف على أن الطريقة المرسومة في الصورة، هي تصفيف نسائي لبنتٍ من بنات إخناتون، وأنها هي مريت آتون كبرى بنات إخناتون، وزوجة سمنخ كا رع، ومن ثَم نستنتج أن كاتبة النشيد الملتاع عن قدمي سمنخ كا رع، هي عينها مريت آتون زوجته، وأنها هي التي وهبته أواني الأحشاء الخاصة بها، والتي صُنعت من أجلها، وقد أزيل اسمها من عليها بعناية، ومن ثَم تكون هي مَن أعَدَّ هذا المدفن السري لسمنخ كا رع. لقد كانت مريت آتون هي أنتيجوني الأسطورية التي نظَمَت أبيات الاشتياق، وغسلت جثة حبيبها وألبسته ثيابه، وكرَّمته بسكب قربان الشراب في مقبرته، لكن دخلاء عرفوا سرَّ المقبرة، وأزالوا النقوش بقسوة وإهمال، وكسروا الصندوق بإلقائه أرضًا. هؤلاء الدخلاء كانوا جنود الملك الجديد آي، فاستخدموا ذات الختم الذي ظهر على مقبرة الملك توت، وعلى الكهف المنحوت في الصخر؛ ليكون سجنًا لشخصية من نساء القصر.

وفي مسرحية أنتيجوني التي كتبها سوفوكليس، نجد كرايون يُوفد رجاله إلى مقبرة بولينكيس، وعندما قبض على أنتيجوني وهي بجوار جثته صرخت صرخةً عالية. لقد وقعت عيناها على الجثة، وقد انتزعوا ملابسها بعد أن كانت ألبستها وكرَّمتها، وخرَّبوا ما أعدته في المقبرة، وعندما قبض عليها أصدر كرايون حكمًا عليها، بأن تحيا بقية حياتها مدفونة في كهفٍ هو مقبرتها.

وعندما نقرأ يوربيدس لا نندهش مع المندهشين من شخصية أنتيجوني، التي تحمل بجوار مشاعر الأخوة لأخيها القتيل مشاعر الحب العاشق والفائق. انظر تأوهها: «آه يا محبوبي … دعني أطبع قبلة واحدة على شفتيك.» ومن هنا اتُّهمت أنتيجوني في تعليقٍ قديم على هذا النص اليوناني، أنها كانت تمارس مع أخيها علاقات سرية قوية؛ لأن اليونان كانوا لا يتزوجون أخواتهم.

وعندما حكم كرايون على أنتيجوني بالموت البطيء، وأصرَّ على تدنيس جثة المتوفي بعدم دفنه. كان تصرُّفه وحشية استدعتْ تدخُّل العراف «تيرياس» ليقول:

لقد ألقيت بأبناء الشمس والضوء في الظلام وعالم الأشباح، إذ دفنت بوقاحة روحًا حية في قبرها، على حين تُلقي على وجه الأرض، جثة تخص آلهة العالم السفلي، جثة لم تُدفن أو تُكرم، بل نال منها الدنَس والمهانة.

ثم حذَّره أن ذلك خرق لقوانين الآلهة، ويجلب الشقاء على الدولة، فيُهين كرايون العراف العجوز، ويتَّهمه بالارتشاء للعمل ضدَّه، لكن قول تيرياس أزعج كرايون فعلًا، وجعله يخشى غضب الآلهة أو الناس، فقام يأمر بدفن الميت وإطلاق سراح الفتاة من غرفتها الصخرية. لكن القرار جاء متأخرًا؛ إذ شَنقت الفتاة نفسها بحبلٍ من التيل الفاخر، وهنا ينبهنا فليكوفسكي كي نتذكر شرائط التيل الغالي الطويلة، التي مُزِّقت من جانبي قطعة القماش الفاخرة في المقبرة الكهفية في طيبة المصرية.

وفي العام الثاني عشر من حكم إخناتون، بلغت تي أوج نفوذها وسلطانها، وفجأةً تختفي تي ولا نعثر لها على مومياء، ونجد ابنها سمنخ كا رع في تابوتها، في قبرٍ قريب من قبر أبويها يويا وتويا، لكنه قبر حقير لا يليق أصلًا بملكة، فلماذا تَلقى ملكة عظيمة مثل تلك المعاملة الخسيسة؟ وكل ما عثرنا عليه هو خصلة من شَعرها، مع ملحوظة تشير إلى أن هذه الخصلة تخصُّها، وقد وُجدت في مقبرة توت عنخ آمون وليس في مقبرتها.

أما الأسطورة الإغريقية فتؤكد أن يوكاستا أنهت حياتها بيدها، والانتحار لدى كل الشعوب يحرم المنتحر من التكريم الذي يستحقه الموتى، عدا الموت فداءً لقضية كبرى تخص الأمة، وربما ذلك ما حدث للملكة تي، فلم تُمنَح قبرًا بل أُخفِيت جثتها، بعد أن ارتكبت في نظر المصريين خطيئة لا تُغتفر، بعد أن انتزعت حياتها بيدها، وبعد أن عاشت في علاقة جسدية محرَّمة مع ولدها، فأزيل اسم ابنها الذي هو زوجها مع صورته عن الألواح الذهبية، وكُتب مكانه اسم زوجها الأول بالحبر، ولم يتم دفنها إلى جوار زوجها آمنحتب الثالث لهذا السبب، إنما دفنت في المقبرة الحقيرة التي أُعدَّت لها، وبعد عودة سيادة آمون انتزعوا تي من الصندوق، وحملوه إلى مدفن مجهول.

المفترض أن يكون هذا هو سيناريو الأحداث، إذا أخذنا التفسير من الأسطورة اليونانية، لكن يوكاستا انتحرت؛ لأنها فوجئت بمعرفة أن زوجها هو ولدها أوديب، فلماذا تنتحر تي وهي من الأصل تعلم يقينًا أن زوجها هو ولدها إخناتون؟ هناك وجهة نظر أخرى جاءت عن يوربيدس، فهو يجعل يوكاستا تعيش حتى تشهد الحرب بين ولديها، ثم تنتحر عندما تقع عيناها على جسدَيْهما القتيلين.

والغريب في عادات الشعوب أن ما يتخلف عن المنتحر من ممتلكاتٍ يُعدُّ مجلبة للحظ، وهو ما يفسر لنا وجود خصلة من شعرها في مقبرة الملك توت، ويوربيدس يجعل يوكاستا تقص شعرها وهي تقول: «إني أقص خصلات شعري الفضية، وأتركها تسقط مع الدمع الغزير، لأظهر حزني ومرارتي.»

أما أوديب فقد تم نفيه أعمى، وصَحِبته لترعاه ابنته أنتيجوني، وفي الأحداث المصرية يمكن أن تكون التي صحبت أباها إخناتون في منفاه هي بكتاتن، فشاركته أيضًا مذلَّته وهوانه؛ لأنها ثمرة زواجه بأمه، لأنه محال — في رأي فليكوفسكي — أن تكون نفس الأميرة التي دفنت أخيها فدفنت بعده حيَّة، هي ذات الأميرة التي صاحبت أباها في منفاه؛ إذ لا بد أن الدورين اللذين قامت بهما أنتيجوني في الأسطورة، قد قامت بهما ابنتان مختلفتان لإخناتون، وكان إسناد العملين الجليلين في مسرحيات سوفكليس إلى أنتيجوني وحدها سببًا في تعقيد فكرة المسرحية وصعوبة فهمها، هذا بينما تحول أوديب بعد توبته العظمى وفَقْء عينيه ندمًا إلى شخصٍ مبارك، يبارك أي موضع يطؤه؛ لذلك يهب رُفاته لشعب بلدة «كولونا»؛ لتحل عليهم البركات الإلهية، وبذلك بارك كل أراضي إقليم «أتيكا» قرب أثينا.

وسوفوكليس تحديدًا هو مَن تحدث عن أوديب الذي أصبح كهلًا عجوزًا هائمًا على وجهه، تبارك خطواته كل أرض يطؤها، حتى يلجأ إلى محراب الإلهة ديمتر ليموت هناك، لكن ليستمر جوَّالًا جوَّابًا حتى بعد مماته في روح هائمة مباركة، وقد نُسب إلى كلٍّ من إخناتون وأوديب نفس مدتي الحكم المختلفتين، فهناك تقدير بحكم استمرَّ ستة عشر عامًا، وتقدير آخَر بحكم استمرَّ بعد ذلك أربعة أعوام أخرى، أي حكم عشرين عامًا، ويحتمل أن التقدير الثاني أخذ باعتباره المدة التي قضاها إخناتون أو أوديب في بلاده كملِكٍ مخلوع، وإذا كان «كارتر» و«دردير» والجراح «دري» قد ذهبا إلى أن سمنخ كا رع وتوت عنخ آمون، هما ولدا إخناتون وليسا أشقاءَه من أبيه آمنحتب الثالث، فمحتمل أن يكونا ولدَين للملكة تي، وشقيقين للأميرة بكتاتن.

المهم أن «آي» تخلَّص من الصبيين الملكيين وتربع على عرش مصر، وكي يتربع على هذا العرش كان لا بد أن يتزوَّج أميرة من البيت المالك، فتزوج من أرملة توت ابنة إخناتون (عنخ إس إن با آتون)، التي تحول اسمها إلى «عنخ إس إن با آمن»، وفي يوربيدس نجد كرايون يجلس على العرش، ليس بوصفه شقيقًا لزوجة الملك، إنما بوصفه زوجًا لبنت أوديب، وهو ليس تقليدًا يونانيًّا بل مصريًّا، ويبدو أن العنف الذي مارسه ضد ميريتاتن، كان بهدف الحيلولة دون ظهور أي منافس على العرش.

ويرى فليكوفسكي أن آي هو والد نفرتيتي، وأنه قد أنجب نفرتيتي من زيجةٍ مبكرة، وقد ماتت زوجته الأولى هذه، كما أوضح آلدريد وغيره، ثم تربت نفرتيتي وترعرعت تحت إشراف تاي زوجته الثانية، ومن ثَم أغدق على تاي لقب «مربية الملكة».٩

وقد رُسمت تاي زوجة آي في المقبرة الناقصة في أخت آتون، تقف بجوار زوجها آي أمام الزوجين الملكيين، وتصفها النقوش باللقب «مربية الملكة»، وكان اسم تاي زوجة آي الثانية هو نفس اسم تي شقيقته الملكة، ويُكتب في اللغات الحديثة بفارقٍ بسيط للتفرقة بينهما ليس إلا.

ويوربيدس يجعل هايمون ابن كرايون يقول لأبيه: سوف أذهب إلى أختك يوكاستا، فقد أرضعتني من ثدييها عندما حُرمت عناية أمي، وتركت طفلًا يتيمًا وحيدًا. ويخبرنا التاريخ أن الزوجة الأولى لكرايون/آي، قد ماتت صغيرة، فتزوج آي امرأة أخرى تحمل اسم شقيقته الملكة، قامت على تربية أطفاله اليتامى، أما في الأسطورة اليونانية فكانت الملكة نفسها هي مَن ربَّت أبناء أخيها اليتامى، والغريب في الأسطورة أن تقوم ملكة على خدمة أبناء ليسوا أبناءها، غير أن هذه الغرابة تتبدد بظهور الحقيقة التاريخية، وهو أن الملكة تي زوجة آي = الملكة تي وزوجة آي، المعروفة باسم تاي، كانتا تحملان الاسم ذاته، فحدث هذا الخلط بين الشخصيتين في الرواية اليونانية.

ونحن نعلم أن المقبرة التي دُفن فيها توت عنخ آمون، كانت في الأصل مبنية من أجل آي بأمر زوج شقيقته تي، الفرعون آمنحتب الثالث، وانتوى آي أن يجعل هذا المدفن الزاخر بالثراء مثواه الأخير، لكنه كان من نصيب الملك توت، إلا أن الملك آي لم يمُت في سلام، فقد عمَّت الفوضى البلاد، وبعد موته استمتع بعضهم بتدمير مقبرة آي التي دفن فيها بالفعل تدميرًا عنيفًا، ومحو النقوش واللوحات من على الحوائط بعنفٍ، يشير إلى رغبةٍ في الانتقام، وبذلك تحقَّقت نبوءة العراف الأعمى، ففي مسرحية أنتيجوني يتنبأ تيرياس بأن كرايون، سيلحقه العار والتدنيس بعد مماته، بعدما فعله بابن أوديب، ويرى فليكوفسكي أن هؤلاء الذين دمروا مقبرة آي، كانوا غزاة أغراب، فالأسطورة اليونانية تقول إنه بعد انهزام الأبطال السبعة أمام أبواب طيبة، جاءت سلالتهم (الأبيجوني) ليزحفوا على طيبة مرة أخرى ليدمروها، وهم من جاء بهم «في حقل الأحداث المصري» سمنخ كا رع، ليساعدوه على استرداد عرشه.

إن الأصل المصري للأسطورة اليونانية يتضح من تركيز الأسطورة على مشكلة دفن الجثة، التي تحتل المكانة الأولى في فكرة المسرحية، وهذا الانشغال الدائم بالمثوى الأخير ظاهرة مصرية لا يونانية، فموضوع مسرحية أوديب في كولونا ومسرحية أنتيجوني ومسرحية سبعة ضد طيبة، كلها تدور حول دفن الموتى. وفي رواية سوفوكليس يصر أوديب على أن تتوارى مقبرته عن الأعين، وتظل سرًّا لا يعرفه سوى ملك أرض أتيكا، وهو تصرف الملوك المصريين لإخفاء مقابرهم، كما أن كهف أنتيجوني المحفور في الصخر ليس يونانيًّا؛ لأن اليونان كانوا يحرقون موتاهم في الغالب، أو يدفنوهم في الأرض، لكنهم لا يحفرون لهم مقابر صخرية.

وقبل نشوب حرب طروادة، كانت هناك حركة نشيطة وتبادل تجاري بين مصر والجزر اليونانية، فقد تم العثور على كمياتٍ هائلة من الفخار الميسيني في طيبة المصرية إبَّان حكم آمنحتب الثالث، كذلك في تل العمارنة، وفي ميسينا تم الكشف عن بضائع مصرية من زمن آمنحتب الثالث، ومنها جعران باسم الملكة تي، بل وتم تقليد نقوش المقابر المصرية في مقابر ميسيسنا وأوركومينوس. وعثر في بيوتيا على جعران يحمل صورة أبي هول مجنَّح، كذلك وجدت آثار مصرية كثيرة في أثينا في إقليم أتيكا، ومعلوم أن اليونان هم مَن أطلق على مدينة «واست/الأقصر» اسم طيبة، ويحتمل أن كادموس مؤسس مدينة سهل بيوتيا (طيبة اليونانية)، الذي وفد إليها قادمًا من فينيقيا، كان معاصرًا لتلك الأحداث.

وربما كان هو نكميد ملك أوجاريت، الذي عاش زمن مراسلات العمارنة، والأساطير تقول إنه قد أحضر معه إلى البلاد اليونانية زوجةً تُدعى سفنكس كانت أميرة مصرية، وكانت طيبة المصرية أيام نكميد أعظم مدن العالم، ولا شك أن المأساة التي حدثت في بلاطها لم تكُن سرًّا، ويحتمل أن يكون الذين طردوا مع نكميد وأسسوا طيبة اليونانية، كانوا أول مَن سرد تلك الأحداث الفاجعة.

ونلحظ أن مسرحية يوربيدس عن العائلة الملكية في طيبة اليونانية حملت اسم «الفينيقيات»؛ لأن الجوقة كانت تتكوَّن من نساءٍ فينيقيات يتكلمن ويبُحن بالسر لأبطال المسرحية والمشاهدين؛ فلماذا تظهر جوقة فينيقيات في تراجيديا يونانية؟

وسوفوكليس تندُّ عنه عبارة تفصح عن معرفته للمكان الأصلي للأحداث، فبينما أوديب يتكلم عن ولديه بولينكيس وأتيوكليس يصرخ قائلًا: «يا إلهي إنهما يظهران صورة صادقة لوسائل مصر وطباعها في روحهما وحياتهما» (عن مسرحية أوديب في كولونا)، ثم يشير سوفولكيس مرتين إلى طيبة اليونانية باعتبارها «المدينة الزاخرة بالعربات الحربية»، وهي صفة تنطبق أكثر على طيبة المصرية التي ذكَرَها هوميروس على لسان إسخيليوس، وهو يقول: إنها ذات مائة باب، أمام كل باب تقف على استعدادٍ مائتا عربة حربية، وفي عالم هوميروس السفلي في الكتاب الحادي عشر من الأوديسا، صورة مصرية تمامًا، فهو عالم تحت أرضي تحتله شعوب شرقية، وبعضها من أصولٍ فينيقية، بينما كان الاعتقاد اليوناني فيما بعد الموت أن الأرواح تهيم على وجهها كظلالٍ وأشباح بدون مصير واضح، وهو ما نجده في حال موتى الحرب الطروادية مثلًا.

ولا ينسى فليكوفسكي أن يحط من قدر «فرويد»، لتجرُّئه على شخص موسى وعلى شعب الله المختار، وتبجيله إخناتون تبجيلًا عظيمًا، ليقول بالنص عن كتاب فرويد:

هذا الكتاب ليس سوى إنقاص لقدر موسى والحط من شأنه، فقد حطَّ فرويد من شأن موسى عندما أنكر أصالته (أي أصالة انتسابه لبني إسرائيل/المؤلف)، وحرمه إياها، كما هاجم شعب اليهود عندما حرمهم زعيمًا يقود جنسهم؛ إذ جعل موسى مصريًّا، وفي النهاية قلَّل من شأن إله اليهود، عندما جعل من يهوه معبودًا محليًّا، أو مجرد روح شريرة تسكن جبل سيناء. لقد كان فرويد وهو على أهبة الرحيل من حياة طال أمَدُها، يريد أن يلعن إله اليهود ويحط من شأن نبيه، على حين يمجد مرتدًّا مصريًّا معتبرًا إياه مؤسسًا لدينٍ عظيم الشأن.

هذا بينما يرى فليكوفسكي، وهو يقلب التاريخ رأسًا على عقب في بقية أعماله، أن موسى كان سابقًا على إخناتون بزمنٍ طويل، أما إخناتون نفسه فليس بمستحق لكل ما لاقاه من احترام، فهو لم يكُن سوى الأصل لقصة أوديب الفاجعة، بل كان أسوأ شأنًا من أوديب، عندما ارتكب جريمته وهو يعلم ماذا يفعل.١٠
١  Article, Marrige Iranian, on Vol VIII of Encyclopaedia of Religion and Ethics, ed. J. Hastings.
٢  Dinkart, III, 195, E. W. Wesk, pp. 399 ff.
٣  Budge, E. A. W., Tut ankh amen, Amenism, Atenism and Egyptian Monotheism, 1923.
٤  Pendlebury, Tell El-Amarna, pp. 169-170.
٥  Graves, R, The Greek Myths, 1955, II, ii, Apollodorus, III, 71-72.
٦  El Amarna Tablets, 288.
٧  Erman, The Literatura of the Ancient Egyptions, 1927, pp. 309-310.
٨  Gardiner, J.E.A., XLXXX, 1958, p. 10..
٩  Weigall, The Life and Times of Akhenaten, Aldred, J.E.A., XLIII, 1957.
١٠  هذا موجز لما قدمه إيمانويل فليكوفسكي في كتابه: إخناتون وأوديب … سبق ذكره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤