الفصل الأول

الثلاثة × واحد

فرويد العالم النفسي الأشهر أقام على أسطورة أوديب سرَّ عقدة نفسية تأسيسية هي عقدة أوديب، التي تُعد العماد الأول والأعظم للنظرية الفرويدية في التحليل النفسي، ومن جانبٍ آخَر كان فرويد من المهتمين بالفرعون إخناتون، وكان إخناتون عمدة كتابه «موسى والتوحيد»، ومع ذلك أبدًا — رغم عبقريته الفذة — لم يربط بين الشخصين: أوديب وإخناتون، وهو الدرس الذي وعاه فليكوفسكي بقدرةٍ عالية الجودة، ونعاه في الوقت ذاته على فرويد، ووجَّه له بهذه المناسبة تقريعًا شديدًا لعدم إدراكه أن الشخصين (أوديب وإخناتون) إنما كانا شخصًا واحدًا، وربما كان سر التقريع هو أن فرويد سلب موسى اكتشافه لعقيدة التوحيد ونسبها لإخناتون، بل جعل من موسى مصريًّا وليس إسرائيليًّا، ثم جعله لا يرقى أبدًا إلى عظمة أستاذه إخناتون، بينما كان هَمُّ فليكوفسكي هو العثور على كل ما يؤيد العقيدة اليهودية وكتابها المقدَّس، في وثائق التاريخ القديم على أصنافه وفروعه المتعددة والمعقدة. ويبدو أن لقيته الكبرى كانت في اكتشافه المذهل، والمدعم بشكل كافٍ أن أوديبوس اليوناني، ليس سوى نسخة يونانية صِيغت في تراجيديات مسرحية، عن أصل حقيقي في حقل أحداث واقعي تم في مصر، أيام حكم أسرة الملوك الكفرة في زمن العمارنة. ويبدو أنه قد قنع من ذلك بأن إخناتون لا يستحق المرتبة التي ينزله فيها الباحثون بإجلال وتقديس مفرط، فهو شخص مطعون في نسَبه، وفي نسب أولاده، ابن رجل شاذ ملعون، جلب اللعنة على بيته وبلاده، ارتكب أعظم جرم بزواجه من أمه وبناته، وربما كان مجنونًا مخرفًا بسبب مرضه. وهكذا قدَّر الرجل فيما اكتشفه إعادة الاعتبار لموسى التوراتي، بتهميش إخناتون المصري واستبعاده، اعتمادًا على أحكام حس خلقي يختلف اليوم عن حس تلك الأزمان.

لكن هناك كشف آخر ينطلق من ذات فكرة فرويد، نجده عند أحمد عثمان، وهو أن موسى كان بالجنس والميلاد مصريًّا، لكنه لا يربط بين أوديب وإخناتون، لكن بين موسى وإخناتون، ويوعز لنا عن بُعدٍ أن موسى كان هو ذات شخص إخناتون بعد سقوطه عن عرشه. وحتى يُوصل ذلك للقارئ — دون مؤاخذات من رجال الدين المتشددين — يعمد إلى التلميح لا التصريح، فهو مثلًا يسرِّب لنا أخبارًا تاريخية عن النبي موسى، تلتقي مع ما حدث من أحداث للفرعون إخناتون، وذلك مثل قوله: «وتقول قصة التلمود — وهو كتاب تفسير عند اليهود — أن موسى بعد أن قتل المصري، وقبل أن يذهب إلى سيناء، أصبح قائدًا للجيوش المصرية، وقاد المعارك منتصرًا ضد أعداء مصر، ثم أصبح بعد ذلك ملكًا في منطقة في جنوب مصر، ووضع التاج على رأسه، وحكم موسى بالعدل والقسطاس، لكن أهل البلاد تآمروا عليه بعد ذلك، فاضطر إلى التنازل عن العرش لابن الملكة، وهرب هو إلى أرض مديان التي في سيناء. ونحن نعرف أن قبائل مديان كانت تسكن حول خليج العقبة، سواء داخل سيناء أو خارجها في شمال الحجاز. ولكن المنطقة المقصودة هنا هي التي تقع بالقرب من جبل سيناء عند دير سانت كاترين الحالي، وكان المصريون يسمون سكان سيناء شاسو، وعاش موسى سنواتٍ عدة في منفاه مع أهل مديان، الذين صاهرهم قبل أن يحين موعد عودته.»١

ومعلومٌ أن قائد الجيوش عادة ما يكون أحد أعضاء الأسر المصرية المالكة، وغالبًا ما كان هو الفرعون بنفسه إلا في حالاتٍ نادرة، وما يؤكد أنه من الأسرة المصرية المالكة، أنه قد أصبح ملكًا في جنوب مصر، وجنوب مصر حيث مركز الحكم هو طيبة، عاصمة الإمبراطورية المصرية. وأوردت القصة التلمودية أنه تزوج من ملكة تُسمى آدونيت، وعلينا هنا أن نلحظ أن آدونيت مؤنث آدون، فهي مثله البعلة أو السيدة أو الربَّة، وهو ما يعني أن الآدون الذكر كان هو موسى بنفسه — وبفرض عثمان — هو إخناتون أيضًا بنفسه، ونحن نتذكر أن إخناتون كان يطلب التوجه إليه هو شخصيًّا مباشرة بالعبادة، وما تلا ذلك من تآمُر أهل البلد عليه وإجباره على التنازل عن عرشه، يلتقي مع ما حدث لإخناتون من تآمُر كهنة آمون والعسكر ضده وعزله، أما فكرة إجبار إخناتون للتنازل عن عرشه، فهي فكرة أحمد عثمان الذي يرى أنها تلتقي مع خبر التلمود، فخبر التلمود يملأ لنا الفراغ في القصة التاريخية، التي لم نعثر عليها حول مصير إخناتون، الذي اختفى من على صفحات التاريخ فجأة، دون أي دليل يشير إلى ذلك المصير.

وهكذا يفسر عثمان بالتلمود السبب وراء هروب موسى إلى مديان، في قصة التوراة. وسبق لنا القول بأن إخناتون قد رُبي عند أهل ميتاني/مديان أخواله، حتى عاد إلى مصر يافعًا ليتسلم عرشه.

لكن القول بخروج الإسرائيليين زمن إخناتون وبقيادته باعتباره موسى النبي، سيتضارب مع حقيقة أكدتها التوراة وأكدها التاريخ، وهي أن الإسرائيليين قد استُعبدوا في بناء مدينة باسم رمسيس، والمؤكد أنها لا بد تنتسب إلى أحد الرعامسة، بعد زمن إخناتون بزمن، وقد تم اختيار رمسيس الثاني ليكون سيدًا لهذه المدينة وصاحبًا لها تحمل اسمه، باعتبار لوح ابنه مرنبتاح الذي يقول أنه دمر بذرة إسرائيل، واحتسب رمسيس الثاني هو فرعون الاضطهاد وابنه مرنبتاح فرعون الخروج؛ لذلك حلَّ عثمان المشكلة بقوله بقِدَم تلك المدينة، وقِدَم اسمها رمسيس عن زمن الرعامسة، وأنها لم تكتسب اسم رمسيس من نسبتها للفرعون رمسيس الثاني، إنما لأنها كانت زمن إخناتون تحت إمرة قائد جيش إخناتون، الذي يحمل اسم رمسيس أيضًا، وهو الذي أصبح رمسيس الأول مؤسس الأسرة التاسعة عشرة، وقد أنشأ بهذه المدينة زمن آمنحتب الثالث والد إخناتون قصرًا صيفيًّا للعائلة المالكة، وأنها لا بد تقع قرب مدينة الحدود المصرية «زارو» أو «شارو» أو «شور»، التي يظن أحمد عثمان أنها مدينة القنطرة الحالية، حسبما وضعها المؤرخون على الخرائط الظنية.

figure
شكل رقم «٢١٨»: مومياء رمسيس الثاني.
figure
شكل رقم «٢١٩»: مومياء الفرعون مرنبتاح ابن رمسيس الثاني.
وحتى يستكمل عثمان بناءه الافتراضي، يعود إلى مانيتو المصري، ويكتب: «مانيتو … جعل أتباع موسى مصريين وليسوا أجانب. وهو يقول: «إن الملك المصري جمع عددًا من المصريين، من أتباع أوزرسيف الذي غير اسمه بعد ذلك وجعله موسى، ووضعهم في المحاجر حيث أُوكل إليهم القيام، بأعمال تكسير الحجارة الشاقة عقابًا لهم. وبلغ عدد هؤلاء ٨٠ ألفًا من بينهم أناس من المتعلمين، ومن الكهنة من الذين أسماهم موبوئين؛ لأنهم ما كانوا يحترمون الحيوانات التي يقدسها باقي المصريين، بل كانوا يذبحونها ويأكلونها، ثم جمع كل هؤلاء ووضعهم في نفس المدينة أواريس، التي كانت عاصمة الهكسوس من قبل، وهناك انضم إليهم عددٌ من الآسيويين، وأصبحوا يهددون أمن البلاد إلى أن تم طردهم.»٢

هذه في رأينا أهم الإفصاحات الخجولة لأحمد عثمان الحذِر فيما وصلنا من أعماله، وفيها يهجس الرجل بأن موسى كان هو إخناتون بشحمه ولحمه، بعد سقوطه عن العرش ونفيه — حسب نظريته — إلى سرابيط الخادم قرب كاترين بسيناء، حيث سيصبح هو موسى عندما يعود لمواجهة الحاكم الفرعون، الذي لا بد أن يكون في تلك الحال حور محب بعد أن أصبح فرعونًا، كما أن إخناتون/موسى هو ذات أوزرسيف الذي تحدث عنه يوسفيوس، نقلًا عن المصري مانيتو، وأن الخارجين من مصر بقيادة موسى؛ كان فريق كبير منهم مصريًّا، وفريق آخَر إسرائيليًّا من بقايا الهكسوس الأسرى، وأن الخروج لم يحدث زمن مرنبتاح ابن رمسيس الثاني، أو زمن والده رمسيس الثاني، إنما حدث زمن حور محب تحديدًا. وكان قائد هذا الخروج هو إخناتون نفسه، بعد سقوطه عن العرش.

الرجل شديد الحصافة يترك لقارئٍ أريب الوصولَ إلى ما يريد أن يقول، ربما خوف التحريمات الدينية في بلادنا بهذا الشأن، ومن جانبنا كنا قد وصلنا إلى أن موسى ربما كان إخناتون نفسه قبل سنوات طويلة من الآن، منذ بدأنا جمع المادة العلمية لبحثنا. وقد أعلنا عن هذا الظن في أكثر من منتدًى ثقافي مفتوح، لكن ذلك لا يعني سوى أن عثمان قد وضع يده على الظن ذاته، وأقام له السيناريو اللازم والنظرية، وأنه سبق إلى إعلانه منشورًا في كتاب، هنا فقط نقطة اللقاء، لكن نقطة البداية للوصول إلى هذه الفكرة المركزية تختلف تمامًا، فكل ما كتبنا حتى الآن كان محطات ممهِّدة للوصول إلى هذه الفكرة المركزية، ثم بعد هذه النقطة المركزية أتباعد حثيثًا عن عثمان، لأعود لاستكمال أطروحتي.

من بعد تلك النقطة المركزية يختلف الأمر اختلافًا كليًّا عن تصورات عثمان بهذا الشأن كما سيرى قارئنا الآن، لكن إذا كان ظننا كذلك، فإنه يعني أن أوديب هو إخناتون هو موسى النبي التوراتي، شخص واحد في ثلاث روايات مختلفة، شخص مصري معلوم الشأن هو إخناتون في روايةٍ مصرية حقيقية، وشخص يوناني هو أوديب في تراجيديا يونانية، وشخص إسرائيلي هو موسى في روايةٍ عبرية مقدسة.

إن فليكوفسكي الذي نعى على فرويد عدم الْتِقاطه لأوديب باعتباره إخناتون، لم يلتقط بدوره، ورغم اهتمامه بالشخصيات الثلاث، أن من الممكن أن يكون إخناتون هو موسى أيضًا، ولم يلتقط أحمد عثمان بدوره أنه من الممكن أن يكون إخناتون هو ذات أوديب.

لقد كان قائد الخروج من مصر هو الفرعون «إخناتون» بذاته، وهو مَن عرفت اليونان قصته باسم «أوديب»، وهو ذاته ما دونت التوراة في قصتها الكبرى اسمه «موسى». وهذا ما سنحاول أن نقيم عليه الأدلة من الآن وحتى نهاية هذا البحث، ومهَّدنا له بكل الجهد السالف عبر سنوات من المشقَّة والعنت.

لكن هنا سيطفر السؤال المستغرب: كيف وصلت قصة الفرعون المارق إلى بلاد اليونان بهذا التدقيق المدهش؟ لقد قال فليكوفسكي إجابته، لكن لنا هنا إجابة أخرى.

للإجابة نبحث وننقب، فنعثر على أول العلامات الشاهدة على معرفة بلاد اليونان بقصة الخروج الإسرائيلي من مصر، بل الشاهدة على علاقات أوثَق وأمتَن من مجرد السَّمع بالقصة بين اليونان وبين الخارجين من مصر. هو رسالة الملك اليوناني آريوس ملك لاكيدايمونيا إلى كبير أحبار اليهود في زمانه آريوس أونياس، تؤكد أن هناك أصلًا جنسيًّا مشتركًا لبعض أمم الإغريق والإسرائيليين، وقد جاءت هذه الرسالة عند المؤرخ اليهودي «يوسفيوس»، قال إنها دُوِّنت في صفحةٍ مربَّعة الشكل، وتحمل خاتمًا يصوِّر نسرًا يصارع ثعبانًا، وهي كما ذكرها بالنص كالآتي:

من ملك الإسبرطيين (أهل لاكيدايمونيا) إلى أريوس إويناس: تحية وسلامًا

حدث أن وجدت في بعض النقوش أن اليهود وأهل لاكيدايمونيا ينتمون إلى جنسٍ واحد، وأن الأخيرين ليسوا بغرباء على نسل إبراهام (إبراهيم الخليل)؛ لذلك فمن الأوفَق ما دمنا إخوة أن تُطلعونا على كل ما ترغبون فيه، ونحن من جانبنا سنفعل الشيء ذاته، ولسوف نعتبر شئونكم مثل شئوننا سواء بسواء، وبالمثل سوف تكون بيننا وبينكم علاقات مشتركة، وإن ديموتيليس الذي يحمل هذه الرسالة، هو الذي سيقوم بحمل رسائلنا.

ويزعم العالم الجليل «دي بوا إيميه»، رفيق علماء الحملة الفرنسية الأشهر، أنه زمن خروج بني إسرائيل من مصر ظهرت فجأة في بلاد اليونان، مستعمرات جديدة تمامًا على بلاد الإغريق، ثم يستنتج من جانبه استنتاجًا تفرَّد به يقول باحتمال أن يكون مؤسسي تلك المدن الجديدة في بلاد اليونان، كانوا من الهكسوس وبقية أحلافهم الرعاة القدماء الذين خرجوا من مصر، وكانت لهؤلاء الجدد باليونان عادات ومعتقدات، تتشابه إلى حدٍّ بعيد مع عادات ومعتقدات خليط من المصرية والفينيقية.٣
ثم لا شك سنتذكر هنا على الفور عبارة بلليني السريعة الشاردة التي تقول:
إن المعينيين كما يتضح من اسمهم يرجعون إلى مينوس ملك كريت.٤

وهي الإشارة التي سبق واستنتجنا منها أن المينويين الذين أسَّسوا الحضارة المعروفة باسمهم في الجزر اليونانية كانوا معينيين من مركز البدو التجاري في وادي غرية، نقلوا حضارة منطقتهم إلى بلاد اليونان، وأن ذلك قد حدث ربما زمن الهكسوس، الذين كانوا ينقلون نخبًا من شعوب تحت ظِل حكمهم الإمبراطوري إلى مواضع أخرى بعيدة على التبادل، ونحن نعلم أن المعينيين أو المعانيين كانوا فريقًا ضمن الأخلامو في بلاد آدوم.

وهنا حان موعد الاحتمال الثاني لتفسير علاقة الحضارة المينوية بالمعينية، وهو انفصال فريق من الخارجين من مصر اتَّجه إلى بلاد اليونان، ليستقر وينشئ حضارة خاصة هناك. واحتمال الانفصال نتيجة انشقاق بين الخارجين أصبح أمرًا مؤكدًا، حيث حدث خلاف عقائدي عند جبل الله حوريب بسيناء، بين عبدة الأدون أو السيد أو الله ممثلًا في ثور الخصب، وبين عبدته باعتباره الأدون أو السيد الأعلى فوق جميع الأرباب، وهو الانشقاق الذي سيأتي الحديث عنه تفصيلًا في موضعه من هذا البحث، والذي أدى إلى معارك دموية بين فصائل الخارجين وبين حُلفائهم الذين سبق خروجهم مطرودين أو الهكسوس، انتهت إلى انقسامهم فرقًا، منهم مَن اتجه نحو بلاد الحجاز ومنهم من اتجه نحو بلاد اليونان، ومنهم الذين انتصروا في الصراع وفرضوا عقيدتهم، وهم مَن استمروا في اتجاههم نحو فلسطين، ليعبروا الأردن ويقيموا شمالي فلسطين، بينما كان الفرع اليهوذي الهكسوسي قد احتلَّ جنوبها منذ قرنين من الزمان.

ومع أولئك الذين اتجهوا نحو اليونان، انتقلت قصة الفرعون المارق الذي تزوَّج أمه وسقط عن عرشه، لكن باسم أوديب، بينما نقل المنتصرون ذات القصة إلى فلسطين، لكن بطلها حمل اسمًا آخَر هو «موسى».

ويعتمد عبقري الحملة الفرنسية «دي بوا إيميه» في مصادره التاريخية فقط على مصدرين؛ الكتاب المقدس، وتاريخ يوسفيوس؛ لأن الرجل كان يخوض تلك المناطق الشائكة المعقَّدة قبل فك رموز الهيروغليفية، فلم تتوفر له المصادر التاريخية الأركيولوجية التي توفَّرَت لنا الآن، فيعود إلى قصة يوسفيوس التي نقلها عن المؤرخ المصري مانيتون، التي تتحدث عن فتنة كاهن عين شمس المصري «أوزرسيف»، وكيف استعان هذا الكاهن وبعض أتباعه، الذين يصفهم التاريخ المصري بالمصريين الفاسدين، بالإسرائيليين الموجودين بمصر، وبفلول الرُّعاة الهكسوس المطرودين من مصر، والذين تمركزوا بعد طردهم حول أورشليم بفلسطين، وكان ذلك زمن فرعون باسم أمنوفيس أي آمنحتب.

وبدلًا من أن يقوم الفرعون وجيشه بصد الهجمة الهكسوسية الثانية وتأديب أوزرسيف، رحل برجاله جنوبًا إلى إثيوبيا بعد أن تراءت له بعض المخاوف الأسطورية؛ لأنه كان لا يؤمن بالحروب بين الناس، بعد أن سمح لهؤلاء المارقين باحتلال إقليم جاسان على الحدود بين دلتا مصر وسيناء.

ويقول دي بوا إيميه: إن أوزرسيف قد أعطى هذه الألوف من المنشقِّين المصريين ومن القوم الرعاة ديانةً خاصة، كانت خليطًا بين ديانتي الشعبين بالضرورة. وينقل عنه الباحث غطاس الخشبة قوله: «وأمر أوزرسيف هؤلاء ألا يتصاهروا إلا فيما بينهم، ولكي يَحُول دون أي صلح بين هؤلاء وبين المصريين، أوعز لهم بهَدْم وتشويه تماثيل الآلهة المصرية. وكانت النتيجة للاضطهادات الدينية والحروب والثورات أن عددًا كبيرًا من العائلات أخذت تبحث لنفسها ومعها آلهتها عن موطنٍ جديد. ويبدو أن هذا الوقت هو الفترة التي يحتمل فيها أن مستعمرات عديدة نشأت خلالها في بلاد الإغريق. فإنْ رأى البعض أن هذه الديانة ليست هي تمامًا الديانة المصرية القديمة، فإننا نضطر هنا إلى الظن بأن مؤسسيها كانوا من هؤلاء الرعاة القدماء، الذين لم يعتنقوا جميعًا معتقدات أوزرسيف، بل كانت لهم بالضرورة في عاداتهم أوجُه شبه مع الفينيقيين والمصريين، وإذا لم يكُن كتاب آريوس ملك لاكيدا يمونيا إلى أويناس كبير أحبار اليهود مزيفًا؛ فإنه يأتي كي يدعم هذا الرأي الذي يُعطي للعبرانيين وبعض أمم الإغريق أصلًا مشتركًا. وأخيرًا فإن علينا أن نجعل مولد موسى يتم في عهد أمينوفيس (آمنحتب) هذا، وأن نضع فيه أول الاضطهادات التي لحقت بالعبرانيين كما تشير إليه التوراة.»٥
ويذكرنا هنا «أنتا ديوب» بروايات اليونانيين عن «كادموس»، الذي جاء إلى جزر اليونان وافدًا، وكيف أدخل الكتابة والأبجدية إلى بلاد اليونان، وأنه ربما كان من أصولٍ فينيقية، وأنه وفقًا لذات الروايات اليونانية، نجد «كيركروبس» يأتي من الشرق ليستقر في أتيكه، ويأتي «داناوس» أخو «إيجوبتوس/أي المصري»، ليستقر في أرجوليس حيث علم الإغريق الزراعة والتعدين عمومًا، وتعدين الحديد خصوصًا. والذكريات اليونانية في هذه المرحلة، تحدثنا عن ثقافةٍ مصرية فينيقية تصل بلاد اليونان، وتقيم هناك أصولها الحضارية، ثم لا ينسى «أنتاديوب» أن يذكرنا أن أصول الأبطال الفينيقيين التاريخية، الذين هبطوا على بلاد اليونان، كان مهدهم الأصلي يقع «على الحدود مع مصر»، حسبما قررت نصوص أوغاريت. وبالتحديد فإن هؤلاء «الأبطال الوطنيين والأسلاف كانوا مستقرين، فيما بين البحر الأبيض والبحر الأحمر»،٦ يبدو أن نظريتنا لا تني تكسب الشواهد والقرائن، فهذه هي المساحة التي حددناها لسُكنى الحوريين الآدوميين المديانيين، إن مثل تلك الذكريات اليونانية، تحفظ في طياتها أصول الأمر كله موجزًا مكثفًا، كما تزيدنا تأكيدًا حول تشرذُم الخارجين من مصر في سيناء، وانشقاق مجموعة منهم اتجهت لبلاد اليونان، أو تؤكد الاحتمال الأسبق، وهو أنهم عناصر من سكان المنطقة تم نقلهم من مواطنهم زمن الهيمنة الهكسوسية، أو أن هذا التشرذم قد حدث بعد طرد الهكسوس من مصر، ومطاردة فراعنة التحرير لهم في مساحة شرقي المتوسط، وتشتيت الحلف الأول، ليتجه البعض نحو الحجاز، والبعض يعود إلى مواطنه التاريخية في يمن؛ سبأ وحمير. ويوجه البعض الآخَر نحو بلاد اليونان، هناك هجرة قد تمَّت بواحدٍ من الأشكال السالفة، وإن كنا نرجحها إبان الخروج الإسرائيلي من مصر، حاملين معهم قصة اللعنة التي حلَّت على بيت آمنحتب الثالث، أو بيت الملك لايوس حسب الرواية اليونانية. ومن جانبه يحتفظ المأثور العربي بذكرياتٍ باهتة عن هجرة مشرقية إلى دول أوروبا الجنوبية الواقعة على سواحل المتوسط، بل ويحدد لنا ذلك المأثور جنس هؤلاء المهاجرين ومواطنهم الأصلية، فيقول ابن قتيبة الدينوري:

كان عيصو (عيسو) رجلًا أحمر شعر الجسد، عليه خواتيم من شعر، صاحب صيد، وهو أبو الروم (الأوروبيين الجنوبيين)، وكان الروم رجلًا جلدًا أحمر، أصفر في بياضٍ شديد الصفرة، فمن أجل ذلك سميت الروم بني الأصفر.

وتزوج عيصو ابنة عمه إسماعيل بن إبراهيم، فولدت الروم بن عيصو وخمسة آخرين، فكل مَن بأرض الروم اليوم هم من نسل هؤلاء الرهط، وبعض الناس يزعمون أن الإسبان من ولده.٧
ومن علامات ذلك التشظِّي الذي حدث للخارجين من مصر نتيجة انقسامهم، أو نتيجة خروجهم ومهاجمتهم البلاد الفلسطينية، الذي أدَّى بدوره إلى هجراتٍ واضحة، ما أوردته صحائف تشامبرز Chamber’s papers: «إن اسم يشوع بن نون وُجد منقوشًا على حجرٍ عند نوميديا بشمال أفريقيا، حيث أقام الفينيقيون مستعمرتهم قارة حداشة، التي عُرفت فيما بعد باسم قرطاجة، وعلى ذلك الحجر الذي كُشف سنة ٥٤٠م كتابة بالفينيقية يقول كاتبوها: إننا خرجنا من ديارنا؛ لننجو بأنفسنا من قاطع الطريق يشوع بن نون.»٨ ومعروف أن يشوع بن نون كان هو قائد الخارجين من مصر بعد موت موسى.

الدلائل جميعًا تشير إلى حراكٍ مهاجر ومتشظٍّ سبق الخروج وعاصره ونتج عنه، وكلها وسائل يمكن أن تكون قد حملت قصة الفرعون المارق إلى بلاد اليونان، ولكن باسم أوديب.

وإذا كان «فليكوفسكي» قد تمكن ببراعةٍ واقتدار، إثبات مصرية الأسطورة الأوديبية؛ فإن الأمر الذي يجب التأكيد عليه كعنصرٍ أساسي لهذه الرؤية، هو أن المصري وحده وبالذات بين العناصر البشرية للشرق القديم، هو الذي كان يعطي عظيم اهتمامه للحياة من بعد الموت؛ لذلك كان إعلان كرايون النسخة النهائية من آي في تل العمارنة، أن عقاب بولينكيس ابن أوديب لاستقدامه أعداء البلاد والاستعانة بهم، هو عدم دفنه، وعقاب من يدفنه عقابًا هائلًا. ومع ذلك أصرَّت أخته أنتيجوني على دفنه وتحمل ذلك العقاب، ثم لا بد من الوقوف الدهش مع هايمون ابن كرايون/آي، وهو يقول لأبيه: «يا أبتاه كفَى عنادًا، إنك لا تعلم ماذا يقول الناس عنك … إن كل مواطن يستحسن عمل آنتيجوني، ويعتبره من أعمال البطولة التي تستحق التمجيد السرمدي.»٩ وفي اليونان كان المستحب حرق الجثمان وليس دفنه، دون كل تلك الحفاوة بعالم الموت، هذا بينما أعلن تيرياس النسخة اليونانية للحكيم آمنحتب بن حابو، أن عدم دفن الجثة مخالفٌ لقوانين السماء، وسيجلب على البلاد اللعنة الإلهية، وهو كلام ونُظم لا تعرفها بلاد اليونان بالمرة، ثم يهتف في كرايون آي قائلًا: «فأي مجد هناك في قتل المقتول؟!» وهذه العبارة تحديدًا تعبر أشد التعبير عن عقيدة المصري وحده دون العالمين؛ فقد كان يعتقد أن الميت يمكن أن يموت موتًا نهائيًّا، دون بعث وحياة أخرى إذا مُحي اسمه بعد موته، أو إذا لم يتم دفنه حسب الأصول المرعية. ثم لا يني تيرياس يتفوَّه بتعابير وأفكار مصرية خالصة. انظره يقول لكرايون: «إنك ترتكب جريمةً مزدوجة بحرمانك العالم السُّفْلي من حقوقه، وحرمانك العالم العلوي من الروح، التي يجب أن تحيا في ضوء النهار.»١٠ لقد كان المصري يعتقد أن الميت يذهب بعد الموت إلى العالم السفلي عالم الموتى، حيث يعيش تحت حكم الإله أوزيريس، لكنه في ذات الوقت كان يؤكد أن ذلك العالم كان نهارًا ساطعًا بالشمس؛ لأن الإله الشمس رع كان يسلك رحلته بعد الغروب في العالم السفلي، حيث يشرق هناك ويحيل الليل نهارًا، أما التعبير «تحيا في ضوء النهار»، فهو تعبير مصري قُح مائة بالمائة، يرد أكثر من مرة في كتاب الموتى، أما المصري القديم فكان يسمى كتاب الموتى «بر ت أم هرو» أي الخروج إلى ضوء النهار.

وحتى نتيقَّن مما نقول نعود إلى القصص الثلاث، محاولين إلقاء الضوء على المساحات المشتركة بينها.

أبدًا لم نعثر على نصٍّ واضح صريح، يؤكد استبعاد إخناتون إلى بلاط أخواله الميتانيين/المديانيين، وأن ذلك قد تم تهربًا من قدَر قدرته عليه نبوءة أبي الهول الطيبي، لكن ما جمعناه من قرائن كافٍ تمامًا للبرهنة على ما حدث، وأنه قد استُبعد صغيرًا من بلاده، ومن بيت أبيه ليربو في بلاط المديانيين، حتى يتم استدعاؤه لتسنُّم عرش أجداده في طيبة المصرية.

لكن تلك القرائن تتحوَّل إلى سجل دلالي حقيقي للنبوءة وتفاصيلها، عندما يتم تدوين الأحداث في بلاد اليونان، بعدما حملت القصة أسماء يونانية، وأصبح بطلها هو أوديب بديلًا للاسم المصري إخناتون، وإن كان الاسم اليوناني قد حُفظ في ملفوظه اللساني اسم الملك المصري؛ فقد كان الاسم الأصلي للملك المصري هو «آمن – حُتيب/الرابع»، وأوديب تلتقي تمامًا مع «حوتيب»، حيث تتبادل الحاء مع الألف والتاء مع الدال. وتقول الصياغة اليونانية إن الآلهة قد قررت عقاب الملك لايوس؛ لأنه أول من أدخل العشق المثلي (اللواط) إلى بلاد اليونان، فقدرت على بيته وأسرته اللعنة والشقاء، وقررت ما أفصحت عنه نبوءة دلفي، أن الولد الذي ستلده الملكة يوكاستا زوجة لايوس، سيقتل أباه ويتزوج أمه. وحتى يحول الملك لايوس دون تحقق النبوءة، قرر التخلص من الطفل بتركه في العراء، لتفترسه الوحوش أو يموت جوعًا ومرضًا؛ ولهذا قام بتسليمه إلى أحد موظفي البلاط المخلصين سرًّا؛ لتنفيذ الرغبة الملكية، لكن الموظف المخلص كان أشد إخلاصًا لإنسانيته، ولم تمكنه رقَّة قلبه من القضاء على طفلٍ رضيع، فسلَّمه إلى أحد الرعاة على الحدود بين طيبة وبين كورنثة، في موضعٍ وُصف بأنه صحراء قاحلة، ويتصادف أن يعجب بالطفل ملك كورنثة بوليبوس Polybus وزوجته ميروبي Merope، فيأخذا الطفل ويتبنياه ويطلقا عليه اسم أوديب.
أما التوراة فقد صاغت قصتها بقدرٍ من الاختلاف، لكن مع الاحتفاظ بالعنصر التأسيسي، وهو فكرة استبعاد بطل الملحمة ونشأته في بلادٍ غير بلاده، ومَرْباه في قصر ملكي ثم عودته إلى أهله بعد ذلك، كما عاد كلٌّ من أوديب وإخناتون، وهكذا تقول التوراة: إن مولد موسى قد توافق مع ذروة الاضطهاد المصري للإسرائيليين المأسورين بمصر، والذي وصل إلى حد قتل الأطفال الذكور من بني إسرائيل، لأسبابٍ تبررها نصوص المقدس بقولها:

ثم قام ملكٌ جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، فقال لشعبه: هوذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا، هلم نحتال لهم لئلَّا ينموا، فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض، فجعلوا عليهم رؤساء تسخير؛ لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس، ولكن بحسبما أذلوهم هكذا نموا وامتدوا، فاختشوا من بني إسرائيل، فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنفٍ، ومرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل الحقل، كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفًا، وكلم ملك مصر قابلتي العبرانيات اللتين اسم إحداهما شفرة واسم الأخرى فوعة، وقال: حينما تولدان العبرانيات وتنظرانهن على الكراسي، إن كان ابنًا فاقتلاه وإن كان بنتًا فتحيا، ولكن القابلتين خافتا الله، ولم تفعلا كما كلمهما ملك مصر، بل استحيت الأولاد، فدعا ملك مصر القابلتين وقال لهما: لماذا فعلتما هذا الأمر واستحييتما الأولاد؟ فقالت القابلتان لفرعون: إن النساء العبرانيات لسن كالمصريات؛ فإنهن قويات يلدن قبل أن تأتيهن القابلة، فأحسن الله إلى القابلتين ونما الشعب وكثر جدًّا، وكان إذ خافت القابلتان الله أنه صنع لهما بيوتًا، ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلًا: كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها.

وذهب رجلٌ من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي، فحبلت المرأة وولدت ابنًا، ولما رأته أنه حسن خبأته ثلاثة أشهر، ولما لم يمكنها أن تخبئه بعدُ، أخذت له سفطًا من البردي وطلته بالحمر والزفت، ووضعت الولد فيه، ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر، ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يُفعل به.

فنزلت ابنة فرعون إلى النهر لتغتسل، وكانت جواريها ماشيات على جانب النهر، فرأت السفط بين الحلفاء، فأرسلت أمَتَها وأخذته، ولما فتحت رأت الولد، وإذا هو صبي يبكي فرقَّت له، وقالت: هذا من أولاد العبرانيين، فقالت أخته لابنة فرعون: هل أذهب وأدعو لك امرأة مرضعة من العبرانيات، لترضع لك الولد؟ فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي، فذهبت الفتاة ودعت أم الولد، فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي، وأنا أعطيك أجرتك، فأخذت المرأة الولد وأرضعته، ولما كبر الولد جاءت به إلى ابنة فرعون، فصار لها ابنًا ودعت اسمه موسى، وقالت: إني انتشلته من الماء.

(خروج، ١: ٨–٢٢ و٢: ١–١٠)

وفي هذا النص أكثر من إشارة تستحق التوقف معها، أولها: قوله إن الإسرائيليين في مصر قد أصبحوا أكثر وأعظم من المصريين، وهو كلام يجافي العقل تمامًا؛ فمن المستحيل أن يعيش سبعون إسرائيليًّا دخلوا مصر مع يوسف لمدة أربعة أجيال، فقط فيصبحوا أكثر وأعظم من المصريين، وكان هذا هو السبب الذي ارتآه المحرر التوراتي لقتل ذكور بني إسرائيل؛ لأن الفرعون قد تخوَّف من هذا العدد الهائل، أن ينضم إلى أعداء مصر ويحاربوا المصريين.

وهكذا يخفي المحرر التوراتي عن عمدٍ الأسباب الحقيقية لاستبعاد موسى في سفطه السابح بنيل مصر، ويلفق بدلًا منها أسبابًا لا يمكن لعقلٍ صاحٍ قبولها، وبعد قليل سنعلم السر في هذا التلفيق العمدي. أما أن الفرعون قد خشي أن ينضم الإسرائيليون إلى أعداء مصر، فهو تسجيل حقيقي لوقائع حدثت، كان المحرر التوراتي يعلمها جيدًا، لكنه وهو يعبث بتسجيل الأحداث فلتت منه هذه الواقعة، إلا أنه وضعها قبل موضعها من الزمن، الذي حدثت فيه من بعد، كما لو كانت مجرد تنبؤ وتخوف من الفرعون مما قد يحدث، ولم تسجل التوراة أن الإسرائيليين قد تحالفوا مع أعداء مصر عند الدخول وعند الخروج، لكن وثائق التاريخ — حسب تفسيرنا ونظريتنا — لم تهمل تدوين هذا الحدث كما سيأتي بيانه في حينه.

ثم شاردة أخرى بالنص، تؤكد معرفة الإسرائيليين بالمصريين، وعاداتهم معرفة وثيقة، ونقصد بتلك الشاردة قول الفرعون للقابلتين: حينما تُولِّدان العبرانيات وتنظرانهن على الكراسي، فما هو معنى «حينما تُولِّدان العبرانيات وتنظرانهن على الكراسي»؟ لقد أوضحت الكشوف أن المصريين قد تميزوا من بين الشعوب، بما يُعرف بكرسي الولادة، كأسلوبٍ علمي متقدم يساعد في تسهيل عمليات الولادة، وقد أخذ العبرانيون بذلك الأسلوب بعد معيشتهم في مصر كما هو واضح بالنص.

وهكذا تم استبعاد موسى إلى قصر الفرعون، ثم عاد إلى أمه وبيت أبيه لترضعه، لكنه ما إنْ بلغ فطامه حتى تمَّت إعادته إلى قصر الفرعون مرة أخرى.

ويقول لنا الباحثون في الأساطير والملاحم الشعبية إن هناك عناصر مشتركة في الملاحم الشعبية، تتسم بها تلك الملاحم جميعًا، على التفاوت في بعض العناصر أو التبادل بينها، ويرصد لنا «شكري عياد» أهم تلك السمات في نقاطٍ أساسية، هي العناصر المكونة للملحمة الأسطورية كالتالي:
  • (١)

    أم البطل ليس شرطًا أن تكون ملكة، لكنها من أصلٍ ملكي.

  • (٢)

    وأبوه ملك.

  • (٣)

    كثيرًا ما يكون الأب من الأقارب الأدنيين للأم.

  • (٤)

    يولد في ظروف غير عادية.

  • (٥)

    يقال إنه ابن إله.

  • (٦)

    عند مولده يُراد قتله، وعادةً ما يكون صاحب الرغبة في قتله هو أباه أو جده لأمه.

  • (٧)

    تتم تربيته في بلادٍ غير بلاده بواسطة أبوين بالتبني.

  • (٨)

    لا نسمع عنه شيئًا طَوال مرحلة طفولته منذ استبعاده، حتى عودته إلى الظهور مرة أخرى شابًّا يافعًا.

  • (٩)

    حين يبلغ مبلغ الرجال يعود إلى بلاده.

  • (١٠)

    ينتصر على ملك البلاد، أو على عملاقٍ، أو وحش.

  • (١١)

    يتزوج أميرة البلاد التي عادةً ما تكون ابنة سلفه، أو زوجته ويصبح ملكًا.

  • (١٢)

    يحكم فترةً من الزمن بدون أحداث تذكر.

  • (١٣)

    يسن للبلاد قوانين جديدة وأعرافًا من نوعٍ خاص.

  • (١٤)

    نتيجةً ذلك يتعرض لسخط الآلهة والرعية.

  • (١٥)

    يتم إقصاؤه عن العرش ونفيه من مقرِّ حكمه وبلاده.

  • (١٦)

    يموت بعد ذلك ميتةً غامضة.

  • (١٧)

    لا يخلفه أبناؤه على العرش عادة.

  • (١٨)

    لا يُدفن جثمانه، ولا يُعرف له مكان يقيني.

  • (١٩)
    ومع ذلك تتعدد القبور والأضرحة التي تصبح مقدسة لهذا البطل.١١
ويكرر «عبد الحميد يونس» ما وجده من عناصر أسطورية مشتركة في قصص البطل الملحمي، فيقول: «إن البطل الملحمي أو بعبارةٍ أدق البطل الشعبي، يولد ويتعرض للأخطار في طفولته، لكنه ينجو ويشب عن الطوق، ويتفوَّق على الآخَرين في الطعان، ويتحصن ضد الإصابات القاتلة، ويحارب التنين أو ما يماثله من وحش خرافي، ويُطلب إليه أن يأتي بالمستحيل، ويُنفى عن موطنه، ويصارع أباه، ويحمي مجتمعه، ويفوز دون غيره من نظرائه بأجمل فتاة في محيطه وعالمه، وتتحقق بذلك النبوءة … ثم يعبر إلى العالم الآخَر بعد كفاحٍ عنيف.»١٢
هذا بينما يعلمنا «علي زيعور» بوصفه متخصصًا في الدراسة السيكولوجية للمأثور الشعبي والتراث، فيقول: «تتميز أيضًا حداثة البطل بجمالٍ خارق وشجاعة … وعدم لَهْو، ويفضل الطفل التأمل والنظر إلى السماء والعزلة أو الصمت. وقد يكون ذا صفاتٍ خارقة وعلم لدني … ويعيش البطل مُهددًا بالخطر طيلة السنوات الأولى من العمر، فقد يُخبأ أو يُرمى أو يُترك في القفر … وينقطع متخليًا عن المباهج مُفضلًا الانعزال.»١٣
ويزيدنا زيعور تفصيلًا فيقول: «يتخيَّل الناس بطلهم إنسانًا مولودًا على غير المألوف، وأبويه غير مألوفين؛ أم غير عادية وأب يأمر بقتل المولود الذي سينجو، ثم فيما بعد يَقتل الوحش الذي يُخيف الجماعة فينقذها ويحررها، يتصل بالمُطلَق ويسبح في السماوات وفي الأرضين.»١٤
ثم يقرأ «زيعور» مجموعة أساطير العالم عن البطل المخفق المنفي، ليلحظ وجود عناصر أخرى مشتركة هامة تمامًا، أهمها خروج البطل على مألوف العادة وكسره للتحريمات المقدسة، بل ربما تسبب في إباحيةٍ جنسية، وأنه ربما تحول إلى إلهٍ معبود، رغم إسقاطه للمحرمات، ورفضه للشرائع والتكاليف، والسعي لهدم الدين السائد، واتسامه بالحقد والرغبة في الانتقام المروع، الذي يُرضي الحس الشعبي الذي يطلب دومًا الثأر من ظلم الأوضاع الاجتماعية، فهو انتقامٌ نظري اجتماعي عبر صورة البطل.١٥
وينبهنا «شكري عياد» إلى أن تلك السمات والعناصر المشتركة، جمعها «راجلان» الذي سبق لنا إيراد رأيه، واعتبرها النموذج القياسي لجميع أساطير البطولة، لكن «عياد» من جانبه يرى أن هذا النموذج لا يكاد يتحقَّق كاملًا في غير أوديب، ثم يشرح موقفه مُوضحًا: «ولعلنا لو اقتصرنا على عناصر ثلاثة رئيسية، وهي: النشأة الغامضة للبطل، وإن قيل إنه من أصلٍ ملكي أو إلهي، وتوليه الملك أو الزعامة بعد عملٍ يدل على أنه محبوٌّ بقوةٍ خارقة، وقد يكون هذا العمل هو القضاء على الملك الشيخ، وانتهاء ملكه بتخلِّي هذه النبوءة الخارقة عنه، وانقلاب أحبابه عليه بحيث يموت مقتولًا، لا بيدِ أحد هؤلاء الأحباب، أو من جهةٍ لم يكن يتوقع أن يأتيَه منها الموت. لعلنا لو اقتصرنا على هذه العناصر الثلاثة لوجدناها متحققة في قصصٍ كثير من أبطال الأساطير كتحققها في قصة أوديب.»١٦
ولدينا هنا نموذجٌ آخر للبطل الملحمي، يتعلق بموضوعنا تمامًا بطلها البطل الأسطوري اليوناني هرقل، الذي دارت أحداث أسطورته في طيبة، وفي بلاط كرايون نفسه بعد مقتل لايوس، تكررت في أحداثها الأسطورية عناصر تأسيسية من قصة أوديب/إخناتون/موسى، فتقول الأسطورة إن هرقل قد وُلد من أبوين هما أمفتريون وألكمينا، وأن ألكمينا كانت بنت ملك ميسيني، لكنه لم يولد في ميسينا بل في طيبة، ثم تفاجئنا الأسطورة باكتشافٍ أن البطل لم يكن من أبٍ بشري، بل هو ابن كبير الآلهة زيوس نفسه، الذي عاشر ألكمينا بنت ملك ميسيني، التي تعيش في طيبة لا في ميسيني إبَّان غيبة زوجها، ورباه امفتريون وهو لا يعلم أنه ابن الإله، وظنه ولده من صلبه. لكن فجأة تدخل على القصة عناصر غريبة تخل بتناسقها، فيقتل هرقل رجلًا في ساعة غضب، مما يثير ضده أباه أمفتريون، الذي يعاقبه بأن يخرجه من بيت العز ليرعى الغنم، ثم لا يكتفي بهذا العقاب، بل يأمره بمواجهة أسد كثيابرين، الذي كان يعيث فسادًا في المنطقة. ويتغلب هرقل على الأسد ويعود إلى طيبة، مكللًا بالنصر العظيم الذي أحرزه، ثم نفهم أن هرقل كان شديدَ الألم من خضوع طيبة للمينويين، فقام بتسليح أهل طيبة ودربهم على القتال وقادهم إلى الحرية، فكان أنْ كافأه كرايون ملك طيبة، بأنْ زوَّجه من ابنته، وجعله حاميًا للمدينة.١٧
والآن …

إذا كانت تلك النماذج المشتركة للأساطير الملحمية، تتطابق تمامًا مع أسطورة أوديب، فهل بالإمكان أن نعثر في حياة الملك إخناتون التي كان حقيقة لا أسطورة، وفي قصة موسى على ذات النماذج؟

الملحمة التقليدية تؤكد أن البطل وريث ملكي حقيقي؛ لأن أباه ملك، بينما أمه من أصلٍ ملكي، وهو ما يعني أن الأب ملك بالتأكيد والقطع، لكن أمه ربما تعود إلى أصلٍ ملكي عن قرابةٍ بعيدة، أو أنها من أصلٍ ملكي لدولةٍ أخرى، لكنها ليست ملكة وطنية بالقطع. ونحن نعلم أن إخناتون هو ابن الفرعون المصري الأشهر آمنحتب الثالث، الذي حكم على أعظم إمبراطوريات ذلك الزمان في أزهى عصورها، لكنَّا نعلم في الوقت نفسه أن زوجته «تي» أم إخناتون، يشوب أمرها شكٌّ كبير، فهي عند بعض المؤرخين من عامة الشعب، وعند البعض الآخر أنها من البلاط الميتاني/المدياني.

وإن تتابع متغيِّرات الأحداث السريعة في المنطقة في تلك الحقبة، يمكنها أن تلقي ببعض الأضواء على ما حدث. كان البلاط الميتاني/المدياني في زمن الأسرة الثامنة عشرة، التي حكم إبَّانها الملك آمنحتب الثالث، الصديق الصدوق للبلاط المصري، لكن في زمن تحتمس الرابع والد آمنحتب الثالث، بدأت هذه العلاقات تتبدل، بعد سقوط حليف مصر الملك الميتاني شورتانا، ونظنه كان «ثور-آتون»، بعد الانقلاب الذي قاده «توعي»، واستولى به على عرش مديان/ميتان، وتحول إلى العداء الشديد للبلاط المصري، لكن في عهد آمنحتب الثالث وفي منتصفه تقريبًا، عاد الود بين الأصدقاء مرةً أخرى، بثورةٍ قادها حليف مصر الوريث الشرعي للعرش الميتاني «دوشراتا/ذو الشرى» ابن شورتانا، ضد «توعي» وتمكن من هزيمته والاستيلاء على الحكم، وقام بالعودة السريعة إلى الحلف مع مصر، ولا نظن مصر كانت بريئة تمامًا من ثورة دوشراتا ضد توعي، بل ربما شاركت مشاركة مباشرة عسكرية لإعادة العرش لأنصار مصر في ميتاني. وهذا الفرض من جانبنا تدعمه أخبار المعارك العسكرية المنسوبة لزمن آمنحتب الثالث بالوثائق المصرية، ويكذبها المؤرخون ويرون أنه لم يكن فرعونًا مقاتلًا، ويفسر لنا أيضًا الإشارات المتكررة في زمن آمنحتب عن غنائم وصلت بلاده من آسيا. كما نعلم أن الملك «آمنحتب الثالث» قد تزوج من الأميرة الميتانية «جيلوخيبا» أو «يلوهيبا»؛ فهل كانت يلوهيبا هي ذات الملكة «تي»؟ ربما نعم، وربما لا، لكننا نعلم بالقطع أن الملكة تي كانت ميتانية. ويترتب على ذلك أن يكون والدها يويا هو «شورتانا»، الملك الميتاني الذي لجأ إلى البلاط المصري، بعد أن خلعه «توعي» وتولَّى مكانه، وهو ما يفسر لنا عدة أمور؛ هي سر العداء المفاجئ الذي طبع سياسة ميتاني تجاه مصر بعد لجوء «شورتانا» لمصر، حيث لجأ الملك المخلوع ورجاله وربما حاشية واسعة من بلاطه إلى مصر، كالعادة التي نراها في حلفاء مصر المخلوعين في ممالك بلاد آدوم، وهو ما حدث بعد ذلك مع الملك هدد/حداد، الذي أسلفنا الحديث عنه، بل ونمد الخيط على استقامته، فنفترض أن شورتانا أو «ثور-آتن» هو ذات الشخص، الذي جاء ذكره بالكتاب المقدس باسم «يثرون» كاهن مديان حمى موسى، وقد سبق لنا في كتابنا «قصة الخلق» أن ناقشنا هذا الاسم، وانتهينا إلى أنه أحد الأسماء القديمة، التي تفخر بالانتساب إلى الثور كرمزٍ إلهي وملكي.

وهذا الفرض يفسر لنا ما حازه يويا من ألقاب، فهو الذي «أغناه ملك مصر»، وكان يكفي في اللقب القول: «أغناه الفرعون» أو «أغناه الملك»، لكن الإلحاق التشديدي «ملك مصر»، يعني المقابلة بغير المصري، فهو غير مصري أغناه ملك مصر، كما حاز هذا الرجل الأجنبي على شرف مركز عسكريٍّ عظيم، فقد كان قائد سلاح الفرسان «وكيل الملك للعجلات»، وهو منصب يليق به بحسبانه من البلاد، التي جاءت معها العجلات والخيول فهو الخبير بشئونها. والمعلوم أن العجلات والخيول ظلت في مصر شيئًا ابتدائيًّا لا يشكل سلاحًا، منذ خروج الهكسوس حتى زمن آمنحتب الثالث، الذي قرر أن يكون لديه ما يكفي من عرباتٍ وخيول، لإنشاء سلاح جديد في قواته المسلحة، وكان يويا أول قائد عسكري مؤسس لسلاح العجلات في الجيش المصري.

ثم يفسر لنا كيف يكون البطل ابن ملك باليقين لكن أمه «من أصل ملكي»، حيث نحتسب أن قصة إخناتون كانت النموذج الأصلي لأساطير الأبطال بعد ذلك، ثم يفسر لنا ثالثًا كيف أمر آمنحتب الثالث بدفن يويا وتويا في وادي الملوك في طيبة، وهو القاصر على أصحاب الدم الملكي فقط، ودون غيرهم من البشر، بكل ما لهؤلاء الملوك من قداسةٍ، وكان مدعاةً للاستغراب والدهشة من جانب الباحثين المحدَثين، الذين رأوا في يويا شخصًا من عامة الشعب، ثم رابعًا يفسر لنا وجهة نظر الطب التشريحي، التي أكدت أن يويا إطلاقًا لا ينتمي في تركيب جمجمته للشعب المصري، وأنه كان ساميًا بالقطع واليقين، بل وبالتحديد من تلك الفئة ذات الألف الببغائي المقوس.

ثم نعلم أيضًا أن البلاط المصري قد استقبل أميرة ميتانية أخرى، هي «تادوهيبا» أو «تادوخيبا» أو «تادوكيبا»، فليس من المؤكد إطلاقًا النطق الصحيح تمامًا، ويعتقد جاردنر وجلة محترمة من المؤرخين أنها ليست سوى الجميلة نفرتيتي التي تزوَّجها الفرعون آمنحتب الرابع/إخناتون ابن آمنحتب الثالث،١٨ وربما يعضِّد هذا اسمها نفسه؛ لأن نفرتيتي اسم له معنًى هو: الجميلة قد أتت أو أقبلت، وعليه تكون نفرتيتي شقيقةً للملكة تي، ويكون إخناتون قد تزوج بذلك من خالته الصغيرة.

ثم ننتقل إلى العنصر الثالث من عناصر الملحمة، والذي يؤكد أن أبا البطل عادة ما يكون من أقارب الأم. ومعلومٌ أن آمنحتب الثالث كان ابنًا لميتانية بدوره هي «موت أم أويا»، مما يؤكد قرابة آمنحتب الثالث والد بطل قصتنا إخناتون من زوجته «تي» الميتانية، التي لا شك كانت هي و«موت أم أويا» من البلاط الميتاني.

أما العنصر الرابع فهو ولادة البطل في ظروفٍ غير اعتيادية بالمرة، وقد وُلد إخناتون في البيت المالك المصري في زمنٍ كانت فيه مصر أعظم إمبراطوريات زمانها، لكنها من الداخل كانت قد بدأت تعاني خللًا واضحًا؛ فقد انتشرت في مصر خاصة في بيوتات الأرستقراطيين العادات والثقافات الميتانية، نتيجة وجود عنصر نسائي واضح قلَّد به الأغنياء سيدهم الملك، كما كان بلاط العرش نفسه يموج بالأجانب وبخاصة العنصر الميتاني. وعندما ولد إخناتون كان الصراع قد بلغ مَدَاه بين آمنحتب الثالث والكهنة؛ مما دفعه إلى رشوة القابل للارتشاء من كبراء كهنة آمون؛ لأن الصراع الخلافي كان حول شرعيته ذاتها كملك؛ لأن أمه ليست مصرية وليست من الدم الملكي، مما يعني مخالفة واضحة للقوانين المقدسة. وضمن تلك الرشاوى المعبد العظيم الذي أقامه بطيبة للإله آمون، حتى أمكن تلافي ذلك العيب الشرعي، بقول بعض الكهنة إن الإله آمون هو الذي أنجبه من أمه، بعد أن تمثل لها بشرًا سويًّا. لكن المشكلة تفاقمت بزواجه من أميرة ميتانية، رغم وجود الوريثة الشرعية (سيت آمون)، وجعل من تي الزوجة الرئيسية أو الملكة، ولم يضعها في مكانها الطبيعي بين الزوجات الثانويات أو المحظيات؛ لذلك كان ميلاد ولده إخناتون هو المخالفة الصارخة لكل قوانين السماء.

ورواية مانيتون التي نقَلَها إلينا يوسفيوس عن فتنة أوزرسيف، كانت تتحدث عن ملك مصر حينذاك باسم آمنحتب/آمنوفيس، فإن ذلك يضيف رصيدًا من الظروف غير الاعتيادية، التي ولد فيها البطل الملحمي المفترض أنه إخناتون، فقد ولد وبلاده في أزمةٍ طاحنة.

وعن فتنة أوزرسيف ينقل يوسفيوس عن مانيتون القول: إنه بعد طرد الهكسوس من مصر، بقي بعضهم ممن لم يستطع الفرار، فوقعوا أسرى بيد المصريين حيث سيموا العذاب الطويل، وفرضت عليهم السخرة بالعمل في المحاجر زمنًا طويلًا، حتى طلبوا من الملك أن يخصص لهم مدينة حواريس عاصمة الهكسوس القديمة، بعد أن خوت على عروشها. فاستجاب الملك لرغبتهم فلما أقاموا بها، وجدوا المكان حصينًا وصالحًا للتمرد، وأقاموا على أنفسهم قائدًا من كهنة عين شمس اسمه أوزرسيف، سن لهم شرائع جديدة تعادي العبادات المصرية، وحرم عليهم الانضمام لغير رابطتهم، وأمرهم بالاستعداد لقتال الملك آمنحتب. وأرسل السفراء إلى الرعاة الهكسوس في أورشليم، وطلب منهم مساعدته مع وعد منه بإعادتهم إلى مدينتهم التي طردوا منها (حواريس)، وأنه سيُموِّن جيوشهم بالغذاء الوفير، وأن في ميسوره إخضاع البلاد لسلطانهم مرةً أخرى. وقد استجاب له الرعاة وخفوا على وجه السرعة إلى مصر في عدد ٢٠٠٫٠٠٠ مقاتل، وهو ما أمكن تسميته بالغزوة الهكسوسية الثانية. ويفسر لنا قول التوراة بلسان الفرعون عن عبيده الإسرائيليين: «فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا، ويحاربوننا ويصعدون من الأرض»، وقد سبق هذا النص أحداث الخروج ليتضمن في صيغةٍ مضمرة ما حدث بالفعل، من تحالفٍ بين هؤلاء المستبعدين، وبين ملوك الهكسوس المطرودين من مصر إلى أورشليم، حسب رواية مانيتون.

ومما يؤكد أن آمنحتب المقصود هنا هو آمنحتب الثالث أو الرابع إخناتون، أن القصة تقول: إن الفرعون آمنحتب تذكر ما سبق وتنبأ به الحكيم آمنحتب بن حابو. ونحن نعلم أن آمنحتب بن حابو قد عاش زمن آمنحتب الثالث والرابع. فأرسل آمنحتب ولده الذي جاءنا له ثلاثة أسماء هي سيتوس ورمسيس وهارامبيس، إلى صديقٍ له في بلاد مجاورة لتأمينه من مؤامرات أنصار الشرعية الربانية والكهنة الآمونيين تحديدًا.

وقد علمنا مما سلف أن المصريين قد أسقطوا أسرة العمارنة تمامًا من التدوين، بحيث بدا أن ابن آمنحتب الثالث المباشر هو حور محب مؤسس الأسرة التاسعة عشرة، الذي سجله اليونان «هارامبيس» والذي يليه «رمسيس الأول» ثم «سيتي الأول». وواضح أن هذه المنطقة الزمنية قد أُصيبت بالخلل لدى مؤرخنا الجليل مانيتون، فافترض أن أحد هؤلاء كان ابنًا مباشرًا لآمنحتب الثالث؛ ولأنه لم يكن يعلم بوجود مسافة تفصلهم عن زمن آمنحتب الثالث، ولم يعلم أن ابن آمنحتب الثالث كان هو آمنحتب الرابع إخناتون، وليس حور محب ولا رمسيس ولا سيتي، لكنه يسوق لنا معلومةً هامة تواترت حتى وصلَته، وهي أن آمنحتب الثالث أرسل ابنه وكان غلامًا صغيرًا في الخامسة من عمره إلى صديقٍ للبلاط المصري، وهو ما يفصح عن استبعاد إخناتون صغيرًا إلى المكان، الذي اخترناه لمسرح أحداثنا عند أخواله في مديان.

ويؤكد لنا ذلك ما قرأناه في نسخةٍ من خطاب آمنحتب الثالث إلى عبدي خيبا/عبد هفا، صديقه وتابعه المخلص على مدينة «قيله»، التي ربما كانت «أيله» أو «قينه» المعلومة في شرقي سيناء الآن. وحرفا اللام والنون من الحروف السقف حلقية سهلة التبادل.

ويقول لنا «ماكلستر»: «وقد كان فرعون يثق به فقد تلقى خيبا منه أمرًا لم تكشف لنا الرسائل ماهيته، ولكنه وعد بتنفيذه بأمانةٍ وإخلاص»،١٩ وهذا الأمر السري هو ما نظنه يتعلق بإخناتون، ثم نتذكر الآن لوحة الكرنك التي يقف فيها آمنحتب الثالث على سفينةٍ، يودع فيها ابنه الذي تم محو اسمه واستبدل بحور محب. وما يعنينا هو أن الأحداث الآن قد أمست واضحة، وأجابت على سؤالنا الذي سبق وطرحناه وراء السر في ظهور الأب والابن على سطح سفينةٍ بحرية، ثم يختفي بعدها ذكر هذا الابن تمامًا مع كل المدونات والنقوش والرسوم، ليظهر فجأة صبيًّا ملكًا بعد موت أبيه.

ولا ريب أن طريق البحر كان هو الأكثر أمنًا، إزاء توتر الموقف على الحدود البرية مع سيناء، ومن هنا نعتقد أن السفينة الملكية التي كانت تحمل ولي العهد، قد اتخذت ذات خط سير بعثة حتشبسوت إلى بونت/آدوم/مديان، وهو الترجيح الأفضل من تهريبه من القصر الصيفي في زارو، كما ذهب أحمد عثمان، حيث وضعته تي وهربته إلى أهلها خشيةً عليه عبر صحراء سيناء، إبان فتنة كبرى. وكان آمنحتب — في رواية مانيتون ويوسفيوس — فرعونًا من نوعٍ خاص، كان يعتقد أن الحرب عمل ضد الآلهة؛ لذلك ذهب برجاله إلى ملك إثيوبيا حليفه، ليحل ضيفًا عليه لمدة ثلاث عشرة سنة، يقول «إن القدر كان قد قضى بها سنوات منفى لآمنحتب وولده.» وهو ما يشير إلى تقديرٍ سماوي يفرغ صداه في نبوءة أبي الهول.

وبعد انقضاء المدة التي حددها القدر، عاد آمنحتب بجيوشه لطرد الرعاة من حواريس، وجاء ابنه بجيشٍ آخر؛ مما يعني أن هذا الابن كان يعيش لدى دولة أخرى لها جيوشها وقوامها السياسي والعسكري، واشتركا في قتال الرعاة وهزموهم وطاردوهم حتى سوريا.٢٠

وهكذا كان ميلاد بطلنا في ظروفٍ غير اعتيادية إطلاقًا، مما يؤكد العنصر الرابع من عناصر الملحمة الأسطورية. أما العنصر الخامس فهو القول أن البطل ابن إله، وقد علمنا أن آمنحتب الرابع/إخناتون كان ابن إله مرتين، الأولى لأن والده آمنحتب الثالث قد نصب نفسه إلهًا، وعبده الناس باعتباره الابن المباشر لإله آمون، وعندما عاد إخناتون إلى مصر حاقدًا على أبيه، الذي استبعده بسبب نبوءة أبي الهول الطيبي الآموني، وقام بمحو اسم أبيه أينما عثر عليه في قتل أبدي متعمد، أعلن نفسه ابنًا مباشرًا للإله الجديد آتون. والعنصر السادس من عناصر الملحمة الأسطورية يقول إن الطفل البطل تعرض عند ولادته لمحاولة اغتيال، وإن هذا الاغتيال تم بتدبيرٍ من أبيه أو جده لأمه، فهو ما يلتقي بمؤامرات الكهنة والعسكر، لإقرار القواعد الإلهية بالتخلص من الأطفال الذكور للأسرة الملكية. ويبدو أن الفرعون نفسه كان ضليعًا في الأمر وفضل نفي ولده بدلًا من قتله، أو أرسله سرًّا إلى حلفائه وأنسبائه الميتانيين بينما أعلن عن موته. وهكذا يتحقق العنصر السابع الملحمي فتتم تربية البطل في بلادٍ غير بلاده بواسطة أبوين بالتبني. وبالفعل يختفي ذكر أي ابن لآمنحتب الثالث من جميع الآثار تمامًا، ليتحقق العنصر الثامن وهو أننا لا نسمع عن البطل أي شيء، طوال مرحلة طفولته منذ استبعاده حتى عودته. والطريف في الأمر أننا لو أخذنا بحسابات مانيتو، في أن الطفل استبعد وعمره خمسة أعوام، وعاد ليحارب الرعاة بعد ثلاثة عشر عامًا، بالاتفاق مع أبيه وجيوش مصر؛ فهو بذلك يعطينا بدقةٍ زمن ظهور الابن في مصر ملكًا عمره ثمانية عشر عامًا، وهو عمر إخناتون عندما اعتلى عرش مصر بالتمام والكمال، ويتحقق بذلك العنصر التاسع فالبطل حين يبلغ مبلغ الرجال يعود إلى بلاده.

أما العنصر العاشر فهو أنه عند عودته إلى بلاده، يتغلب أولًا على ملك البلاد أو على وحش عملاق، وقد تحقق الأمران مع أوديب كما علمنا، عندما قدم حلًّا للغز السفنكس وقتل أباه لايوس وهو لا يعرفه، ثم أنه قبل ذلك قد تحقق كلا الأمرين مع إخناتون، فقد بادر عند عودته إلى هدم نبوءة أبي الهول الطيبي الآموني، وأمر بإلقاء تماثيل أبي الهول من على الجبل، ثم قام بمحو اسم أبيه ليقتله بذلك قتلًا أبديًّا لا حياة بعده.

ويحقق أوديب العنصر الحادي عشر، فيتزوج أميرة البلاد التي هي أمه يوكاستا، بينما يتزوج إخناتون من أمه تي، وهو الأمر الذي يجب الوقوف معه قليلًا، قبل استمرار المقارنة بين العناصر الملحمية، وبين واقع الأحداث في بلاد النيل.

١  أحمد عثمان، تاريخ … سبق ذكره، ج١، ص٥٣، ٥٤.
٢  نفسه، ج١، ص٧٩، ٨٠.
٣  دي يوا يميه … سبق ذكره، ص٣٣٦، ٣٣٧.
٤  مظفر نادوثي، التاريخ الجغرافي … سبق ذكره ص٢١١.
٥  الخشبة، رحلة … سبق ذكره، ص٢٢٦.
٦  أنتاديوب، الأصول الزنجية … سبق ذكره، ص١٣٣، ١٣٤.
٧  ابن قتيبة، المعارف … سبق ذكره، ص٣٨، ٣٩.
٨  العقاد … سبق ذكره، ص١٠٧.
٩  أمين سلامة، في مقدمته لسوفوكليس في الملك أوديبوس، أو ديبوس في كولونوس، أنتيجوني، دار الفكر العربي، القاهرة، د.ت، ص٦١.
١٠  نفسه، ص٦٢.
١١  شكري عياد، البطل في الأدب والأساطير، دار المعرفة، القاهرة، ط٢، ١٩٧١م، ص١٢٠، ١٢١.
١٢  عبد الحميد يونس، الفولكلور والميثولوجيا، عالم الفكر، الكويت، مجلد ٣، عدد ١، ص٤٦.
١٣  د. علي زيعور، قطاع البطولة والنرجسية في الذات العربية، دار الطليعة، بيروت، ١٩٨٢م، ص١٠٥، ١٠٦.
١٤  نفسه، ص٣٤.
١٥  نفسه، ص٤١.
١٦  شكري عياد، البطل … سبق ذكره، ص١٢٢، ١٢٣.
١٧  نفسه، ص١٢٤.
١٨  جاردنر، مصر الفراعنة … سبق ذكره، ص٢٣٩.
١٩  ماكلستر، الأقوام الجدد … سبق ذكره، ص١٠١.
٢٠  لويس عوض، مقدمة … سبق ذكره، ص١٤، ١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤