بقرة بني إسرائيل وثورها
في القرآن الكريم حكاية غريبة يمكن تسميتها: حكاية بقرة بني إسرائيل، والحكاية تروي أحداثًا يفترض أنها قد حدثت، إبان رحلة الخروج الإسرائيلي من مصر إلى فلسطين، وأن مكان الحدث كان شبه جزيرة سيناء، وتتناول الحكاية قصة تبدو ناتئة تمامًا بين بقية الأحداث، لا رابط لها بأول تلك الأحداث ولا بآخرها، بحيث إن استبعادها لا يخل بقصة الخروج مطلقًا. لكن لأن القرآن الكريم كان يسجل أحداثًا وقصصًا كانت متواترة زمن الدعوة، وقبل زمن الدعوة بأزمانٍ عديدة، فقد احتسبنا قصة البقرة لها أهميتها الشديدة، التي أدَّت بها أن تظل في ذاكرة الأجيال، حتى يدونها القرآن الكريم، ليضع بين أيادينا مفاتيح لفهم بعض الأسرار الأولى، التي اكتنفت تكوُّنَ الديانة الإسرائيلية في مناشئها الابتدائية، خاصة أنه على تلك القصة العابرة، سُميت أطول سور القرآن الكريم (سورة البقرة)، التي تحكي لنا عن حادثة قتل، حدثت إبان خروج بني إسرائيل من مصر، ولم يتم التعرف على القاتل، وهنا نستمع إلى الآيات تقول:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (البقرة: ٦٧–٧٣).
وموضوع القسامة الوارد في سفر التثنية بالتوراة، يحكي أيضًا عن بقرةٍ لكن في حكايةٍ مختلفة تمامًا، فالمقدس التوراتي لا يبحث هنا عن قاتل قتل قتيلًا؛ لأن التوراة تغص طول الوقت بأخبار آلاف القتلى بل مئات الآلاف، وإهدار الدم فيها طبيعي غير مستنكر حتى نبحث عن فاعل. بل إن الله نفسه في تلك التوراة، يأمر موسى أن يأمرهم بذبح بعضهم بعضًا، دون جرم واضح يبرر كل تلك الدماء المسفوكة، ولم تتم في مرة محاولة البحث عن قاتل؛ لأن القتل كان جماعيًّا ومتواترًا. أما القسامة وقصة البقرة في التوراة، فهي لون من التشريع البدائي، لقومٍ يتحولون إلى ائتلافٍ مركزي كتشريع قضائي للقصاص، فهي حالة العثور المفاجئ على قتيل دون حرب بينهم أدت لذلك. فهي ليست قصة قتيل بعينه، المسألة أن رب التوراة يشرع لهم شرائع، عندما يستقرون في أرضهم الموعودة لتنظيم المجتمع. والتشريع يقول: إنه إذا وجدت جثة قتيل في العراء أو وسط حقل، ولم يتم التعرف على القاتل، فعلى كبراء إسرائيل الاجتماع، وقياس المسافة بين الجثة وبين القرى المحيطة بها. وعندما يتم تحديد أقرب هذه البلاد إلى مكان الجثة، يطلبون من كبراء تلك القرية إحضار بقرة، لم تستخدم في العمل بعد، ويذبحونها في جدول ماء، ويغسل أهل القرية أيديهم في الماء المدمم، ويقسمون أن أيديهم لم تُرِق دم القتيل، وأن أعينهم لم تره، وبذلك لا يتحملون وزر دمه (انظر: سفر التثنية، ٢١: ١–٩).
وقد حدد الكهنة هذه السمات للتعرف على ثور أبيس؛ لأنها السمات التي تؤكد أنه تكرار الولادة الإعجازية بملامسةٍ جسدية، التي حدثت لأول مرة في قصة أوزيريس (أوزير)، الذي التقى بالإلهة إيزيس «إيزي» من بعد موته، لينجب منها الإله حورس حور. وكان حور تجسيدًا للإله الأب أوزير، فهو أب وابن في أقنومٍ واحد، وتبع ذلك اعتقاد بعودة أوزير إلى الأرض بذات الأسلوب، عندما تدلهمُّ المحن والخطوب بالناس، ليقر العدل ويقيم السلام، ومع عقيدة التسامح كان بإمكان روح أوزير، أن تحل في الحيوان الذي يرمز له، ويعرف باسم «عجل أبيس».
وقد سبق وعالجنا رمزية القمر الأسطورية في العقائد في كتابنا «الأسطورة والتراث»، وشرحنا فيه السر وراء ارتباط القمر بآلهة الخصب الذكور؛ إذ إن تقديس الخصب قد تمثل في الحيوانات ذات الفحولة الجنسية كالثور والتيس؛ ولأن الهلال يأخذ شكل القرنين، فقد احتسب أحيانًا ثورًا وأحيانًا تيسًا، باحتساب الهلال هو قرني الفحل السماوي المختفي. ونظرًا لما جاء من إشاراتٍ عدة إلى علاقة القمر بالأنثى، وتناغم تحولاته — من محاقٍ إلى هلالٍ إلى تربيعٍ إلى بدرٍ، حتى يعود محاقًا مرة أخرى — مع دورة الدم الشهري النسوي، فقد احتسبه بعض دارسي الأساطير رمزًا للأنثى في العقائد القديمة. لكنا — في كتابنا المذكور — رأيناه الرب الذي ينجب أبناءه بمعجزات، والزوج السماوي للإلهات في الإناث، الموكلات بالخصب والزرع والميلاد، وهو ما يفسر لنا هنا قصة حمل البقرة «أبو» بشعاع القمر المخصب، لتعيد إنتاج أوزير/الخصب/الزرع، مرة أخرى، ويتحول من أبٍ إلى ابن في هيئة الثور أبيس. ومن هنا كان لا بد من تمثيل إيزيس في بقرةٍ أحيانًا، وفي هيئة امرأة تحمل على رأسها قرنين أحيانًا، لكن الواضح أن أوزير رب الخصب المرتبط بمواسم الزراعة، ويصبح ربًّا للقمر أو هو نفسه القمر «تحوت/ضحوت/الضحاك».
اذهبوا فاذبحوا لإلهكم في هذه الأرض، فقال موسى: لا يصح أن نفعل هكذا؛ لأننا إنما نذبح رجس المصريين للرب إلهنا، وإن ذبحنا رجس المصريين أمام أعينهم أفلا يرجموننا؟ نذهب سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا كما يقول لنا.
وهكذا كانت الحجة أو لحظة الخروج من العاصمة مسيرة ثلاثة أيام، ليذبحوا حيوانًا مُحرمًا عند المصريين منعًا للفتن، لكن ليكون ذلك سبيلهم إلى الهرب من مصر، بعد أن يبتعدوا عن العاصمة بمسافةٍ تجعلهم بمأمنٍ من المطاردة عندما تبدأ. لكنا لا نجد بعد ذلك أية تفاصيلٍ لأي ذبح، اللهم إلا ذبح الخراف على عتبات أبواب بيوتهم بمصر، ليلة الخروج وهو ليس الذبح المقصود، ثم لا تأتينا بعد ذلك قصة ذبح أي حيوان إبان رحلة الخروج، اللهم إلا في قصة عبادة الثور الذهبي، ولا نجد حديثًا آخر عن الذبح حدث في سيناء غير تشريع القسامة، وهو ما لا علاقة له بالأصول التعبدية بالقرابين الحيوانية.
هنا تأتي القصة القرآنية فتسد الفجوة المفقودة، وتروي لنا ذكريات قديمة عن ذبحٍ مقدس، قد حدث فعلًا بعد الخروج من مصر إلى سيناء، وتعطينا وصفًا دقيقًا لهذا الذبح المقدس، فهو ذبح لبقرةٍ ذات سمات خاصة جدًّا، فهي صغيرة مدللة لم تحمل نير المحراث، ولونها أصفر فاقعٌ تمامًا دون شائبة.
والقمر في نظر الأقدمين كان جرمًا عظيمًا كالشمس، لكنه بالنسبة لها غير مستقر الأحوال، فسلوكه «هوائي»، وحتى اليوم نصف الشخص متقلب المزاج بأنه «هوائي».
إذن كان الذبح الذي يتعلل به موسى، للخروج من مدينة الفرعون إلى الصحراء، حتى لا يستفز مشاعر المصريين، كان ذبحًا لإلهٍ يرمز طوطميًّا للعشاء الرباني، الذي مارسته شعوب عديدة، فكانت تأكل ربها في يومٍ معلوم يكون عيدهم السنوي، وكان لونه الأشقر دلالة واضحة تشير إلى الإله المصري «سيت»، لكنه كان بقرة أنثى. وهنا يطفر السؤال: هل كان ذبح البقرة التي ترمز لإيزيس، وتحمل أيضًا اسم ايو أو يهو الأنثى لمجرد استفزاز مشاعر المصريين؟ لو كان ذلك كذلك لذبحوها داخل العاصمة المرية، فلماذا ذهبوا بعيدًا عن أعين المصريين ليذبحوها؟
نفهم من هيرودت وغيره من المؤرخين الكلاسيك، أن المصريين بدورهم كانوا يذبحون البقرة الأنثى الصفراء الفاقعة اللون المدللة، لكن في يومٍ احتفالي بعينه معلوم الشأن، هو يوم الاحتفال بعيد القيامة المجيد للإله الشهيد أوزير، لكن ليس لدينا أية إفادة من المصادر المصرية، تفيد السر وراء ذلك التناقض الشديد، بين تحريم ذبح إناث البقر، وبين ذبح بقرة أنثى صفراء، في ذلك اليوم الديني الاحتفالي.
هنا تفسر لنا القصة القرآنية ما حدث …
في لوحةٍ وقعنا عليها بكتاب الموتى المصري القديم، تضيف مزيدًا من الوضوح على التفسير.
اللوحة تمثل الإله أوزير ميتًا شهيدًا داخل تابوته، ممثلًا في هيئة أقنوم الابن «الصقر سوكر»، أي تجليه الجديد في هيئة ابن ميت. وكان الاعتقاد أن أوزير يعود حيًّا من بعد موته بأيامٍ ثلاثة، يحتفل فيها المصري بعيد قيامة أوزير المجيدة. وفي اللوحة تقف أنثى فرس النهر «ميهورت» أمام الإله الميت. وتنطق «ميهورت» أيضًا «ماروت»، وهي إلهة الولادة المصرية، وراعية الأجنة في بطون الأمهات، تمسك أداة تعقب عليها شروح الباحثة «إيفلين روزيتر»، بأنها أداة غير معروفة على وجه التحديد.
وتضرب «ميهورت» أو ماروت الإله الميت بتلك الأداة، لكل الواضح لنا. وفي اللوحة أمام القارئ أن تلك الأداة ذيل بقرة، هذا بينما تظل البقرة الإلهية إيزيس في شكل أحد تجلياتها المعروفة باسم «حتحور». وجاءت في الترجمة باسم «هاروت»، في يمين الصورة في شكلٍ شديد التدلُّل مع الزينة والماكياج واللطافة.
إن اللوحة تذكرنا بكون إيزيس هي التي أحيت أوزيريس، بسحرها من الموت في أسطورتها التي جمعها لنا بلوتارخوس، لكننا أبدًا لم نعلم في أي مصدر كان، كيف أحيت إيزيس أوزير من الموت، أي ماذا كانت مظاهر ذلك السحر وأدواته. هنا والآن فقط عرفنا، لقد مارست الإلهة هذا الطقس السحري. أما ربة الولادة في اللوحة «ماروت»، فترمز لعودة ولادة الإله من جديد في أقنوم الابن، لكنه كي يقوم من الموت؛ فإن إلهة الولادة تضربه بذيل البقرة إيزيس (والصفرة واضحة في لونه)، ترميزًا لدورها في عودة الإله إلى الحياة. ولأننا نفقد تمامًا أي مادة أركيولوجية مفيدة هنا، أو حتى اجتهادية من المؤرخين، فإننا وفق ذلك جميعه يمكننا افتراض أنه كان هناك شعيرة، يصحو فيها أوزيريس وينطق فيها باسم قاتله وهو الشرير «سيت»، ويساعد على مزيدٍ من الفهم وعلى تأكيد الفهم، أنه كان في مصر القديمة طقس معلوم، يمارس مع الإله في محرابه، أو بالأحرى مع تمثاله، كما كان يمارس مع الميت بعد تحنيطه، لمساعدته على الكلام والإجابة عما سيوجه له من أسئلة، في قاعدة الحساب الأوزيرية بعد البعث، وهو الطقس المعروف باسم «فتح الفم».
لقد كان ذبح البقرة «أيو» تكرارًا لمشهد قيامة أوزيريس ليس أكثر، ليقوم أوزيريس من الموت وينطق باسم قاتله، وهو في الوقت ذاته استحضار لعدو المصريين سيت، عبر النطق باسمه بلسان أوزير الميت الحي؛ لأنه كان يحرم نطق البشر العاديين باسمه، وكان النطق وحده هو ما يسمى بالنطق الخلاق، أو النطق المجسد.
كانت قصة بقرة بني إسرائيل استحضارًا سحريًّا للإله ست رب الهكسوس ورب إسرائيل باسم «يهوه»، ليقود بنفسه جموع الخارجين من مصر عبر سيناء إلى فلسطين، منطوقًا بلسان الإله الشهيد أوزير، بفعلٍ سحري ذُبحت بموجبه إيزيس البقرة الصفراء، حتى يمكن إتمام النطق المتجسد في الإله قائد جموع الخارجين الإله «سيت».
وهكذا فإن يهود ألفتين الذين أقاموا لهم جالية بأسوان، قد احتفظوا من عبادتهم بأصولٍ قديمة، لم تعرف التطور الذي حدث لها في فلسطين، فعبدوا ربًّا باسم يهوه ومعه زوجة باسم إناث يهو، ثم نعلم من الأساطير المرية أن إيزيس كانت باسم «إيو» المؤنث من «يهوه».
وكان معظم الخارجين من مصر من أتباع التقليد الأوزيري، الذين حافظوا عليه فلم ينطقوا أبدًا باسم ربهم، وأسموه الكائن احترامًا وتقديسًا، وهو ما كان يفعله المصريون إزاء أوزيريس. ومع تطورٍ آخر أصبح أوزيريس ربًّا للقمر، فاندمج بالإله القمر ضحوت، كي يتمكن من تخصيب البقرة «ايو/إيزيس». ويبدو أن هذا التطوير قد تم على يد أجانب كانوا يعيشون في مصر، بدليل أن ضحوت المندمج بأوزير القمر، قد حمل لقب «سيد البلاد الأجنبية».
والمهم هنا أن موعد ذبح إيزيس البقرة الصفراء في الوليمة الطموطية في العيد المصري القديم لقيامة أوزير من الموت، هو ذات موعد خروج الإسرائيليين من مصر ليذبحوا ذبحهم، وهو المسمى بيوم عيد الفسح، يوم كيبور/الغفران.
وبمرور الوقت وللتغطية على الأصول الأسطورية المصرية، تم تبديل اسم يعقوب من «ثور يعقوب»، الذي يعني يعقوب الثور أو الأبيسي نسبةً للثور أبيس، إلى «عزيز يعقوب»، وهو يعقوب العزيزي الذي حمل بدوره أصولًا أسطورية؛ لأن عزيز مذكر للمؤنث عزيزة، وعزيزة هي إيزي زوجة أوزير. أما المدهش فهو أن يتحول اسم يعقوب — بعد صراعه مع ربه في نص بالكتاب المقدس — إلى اسم إسرائيل، لكنه يظل يحمل في طياته أصوله الصادقة؛ لأننا هنا نستبعد كل التخريجات التي قيلت في تفسير كلمة إسرائيل، لنقول تخريجًا جديدًا هو أن الاسم يتكون من ملصقين هما: «إزر» و«إيل» فهو «إزرئيل»، والشق «إزر» هو الاسم المنطوق مصريًّا بكل سلامة لاسم الإله أوزيريس. وهكذا يعني الاسم إسرائيل معنًى جديدًا هو «أوزير إله». ويمكن أن يتطابق هذا التخريج أيضًا مع جبال «سراه» (سر-إيل/اسم إسرائيل بالعبرية).