الفصل الثاني

بقرة بني إسرائيل وثورها

في القرآن الكريم حكاية غريبة يمكن تسميتها: حكاية بقرة بني إسرائيل، والحكاية تروي أحداثًا يفترض أنها قد حدثت، إبان رحلة الخروج الإسرائيلي من مصر إلى فلسطين، وأن مكان الحدث كان شبه جزيرة سيناء، وتتناول الحكاية قصة تبدو ناتئة تمامًا بين بقية الأحداث، لا رابط لها بأول تلك الأحداث ولا بآخرها، بحيث إن استبعادها لا يخل بقصة الخروج مطلقًا. لكن لأن القرآن الكريم كان يسجل أحداثًا وقصصًا كانت متواترة زمن الدعوة، وقبل زمن الدعوة بأزمانٍ عديدة، فقد احتسبنا قصة البقرة لها أهميتها الشديدة، التي أدَّت بها أن تظل في ذاكرة الأجيال، حتى يدونها القرآن الكريم، ليضع بين أيادينا مفاتيح لفهم بعض الأسرار الأولى، التي اكتنفت تكوُّنَ الديانة الإسرائيلية في مناشئها الابتدائية، خاصة أنه على تلك القصة العابرة، سُميت أطول سور القرآن الكريم (سورة البقرة)، التي تحكي لنا عن حادثة قتل، حدثت إبان خروج بني إسرائيل من مصر، ولم يتم التعرف على القاتل، وهنا نستمع إلى الآيات تقول:

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (البقرة: ٦٧–٧٣).

ويجمع «علي عبد الواحد وافي» ملخصًا لما قدمه المفسرون، بشأن تلك الآيات فيقول: «وأشهر تفسير من تفاسير هذه الآيات جميعًا وأصحها، أنه وقعت في عهد موسى عليه السلام حادثة قتل لم يعلم فاعلها، فطلب بنو إسرائيل إلى موسى أن يدعو ربه، أن ينبئهم بمن ارتكب هذا الجرم؟ فقال لهم موسى إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فعجبوا من ذلك؛ إذ لم تظهر لهم علاقة بين ذبح البقرة وبين الكشف عن القاتل، وظنوا أن موسى يهزأ بهم. ولكن موسى بيَّن لهم أن هذا هو ما أمر به الله، لإظهار الحق في هذا الحادث، فأخذوا يستفسرون منه، عن سن البقرة التي ينبغي أن يذبحوها، وعن لونها وعن عملها، فلما شرح لهم كل ذلك بوحيٍ من الله، بحثوا حتى وجدوا بقرةً تتوافر فيها الصفات جميعًا، فذبحوها وأوحى الله إلى موسى أن يضربوا جثة القتيل بجزءٍ من هذه البقرة، فضربوه فأحياه الله تعالى وذكر لهم اسم قاتله ثم مات ثانيًا. فكان في ذلك معجزة لموسى من جهة، وبيان حسي من جهة أخرى، لقدرة الله على إحياء الموتى … لذلك يختتم الله هذه القصة بقوله: كذلك يحيي الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون. وفيه كذلك إشارة إلى أن بعث الله تعالى الحياة مرةً أخرى، لا يتوقف على سببٍ من الأسباب التي تدركها عقولهم، وإنما أمر الله إذا أراد ذلك أن يقول له كن فيكون، فيحدث بدون سببٍ ما، أو يجيء عقب أمر، لا يتصور العقل أن يكون سببًا له كما في هذه الحادثة؛ إذ لا يتصور العقل أن ضرب جثة الميت بجزءٍ من جثة حيوان ميت، يمكن أن تكون سببًا لبعث الحياة فيه. وأوصاف البقرة التي ذكرها الله في هذه المعجزة، تتفق في جملتها مع أوصاف العجلة التي ذكرها سفر التثنية في إجراءات القسامة.»١

وموضوع القسامة الوارد في سفر التثنية بالتوراة، يحكي أيضًا عن بقرةٍ لكن في حكايةٍ مختلفة تمامًا، فالمقدس التوراتي لا يبحث هنا عن قاتل قتل قتيلًا؛ لأن التوراة تغص طول الوقت بأخبار آلاف القتلى بل مئات الآلاف، وإهدار الدم فيها طبيعي غير مستنكر حتى نبحث عن فاعل. بل إن الله نفسه في تلك التوراة، يأمر موسى أن يأمرهم بذبح بعضهم بعضًا، دون جرم واضح يبرر كل تلك الدماء المسفوكة، ولم تتم في مرة محاولة البحث عن قاتل؛ لأن القتل كان جماعيًّا ومتواترًا. أما القسامة وقصة البقرة في التوراة، فهي لون من التشريع البدائي، لقومٍ يتحولون إلى ائتلافٍ مركزي كتشريع قضائي للقصاص، فهي حالة العثور المفاجئ على قتيل دون حرب بينهم أدت لذلك. فهي ليست قصة قتيل بعينه، المسألة أن رب التوراة يشرع لهم شرائع، عندما يستقرون في أرضهم الموعودة لتنظيم المجتمع. والتشريع يقول: إنه إذا وجدت جثة قتيل في العراء أو وسط حقل، ولم يتم التعرف على القاتل، فعلى كبراء إسرائيل الاجتماع، وقياس المسافة بين الجثة وبين القرى المحيطة بها. وعندما يتم تحديد أقرب هذه البلاد إلى مكان الجثة، يطلبون من كبراء تلك القرية إحضار بقرة، لم تستخدم في العمل بعد، ويذبحونها في جدول ماء، ويغسل أهل القرية أيديهم في الماء المدمم، ويقسمون أن أيديهم لم تُرِق دم القتيل، وأن أعينهم لم تره، وبذلك لا يتحملون وزر دمه (انظر: سفر التثنية، ٢١: ١–٩).

ويعقِّب «علي عبد الواحد وافي» على هذا الإجراء التوراتي التشريعي، ناقدًا بقوله: «ولكننا نجد في سفر التثنية … إجراءً غريبًا قد أقحم على إجراءات القسامة … لأن غسل أيديهم في جدول ماء ملوث، بدماء البقرة التي نحروها بأيديهم وصب الماء فوقها، كل ذلك لا يصلح رمزيًّا أن يكون رمزًا لبراءتهم من جريمة القتل، بل إنه لخليق أن يكون رمزًا لاقترافهم إياها.»٢
من جانبٍ آخر يخبرنا المؤرخ اليوناني «بلوتارخوس»، أنه كان لكل إقليمٍ في مصر حيوانه المقدس، دون أن يكون لهذا الحيوان بالضرورة تقديم في إقليم آخر (فقرة: ٧٤)، وغير سكان هذا الإقليم لا يأبهون بهذا الحيوان ولا يقدسونه، مما كان سببًا في احتكاك خطر بين الأقاليم المصرية في عهود مصر المتأخرة، وصل أحيانًا إلى حد الاقتتال، ومن ثم نجد حيوانات يحرم ذبحها في إقليمٍ دون آخر، إلا وقت طقوس محددة، وفي أيامٍ يتم تعيينا كأيام عيد مقدس،٣ إلا أن هناك عبادة واحدة على الأقل قد شملت مصر جميعًا، بطقوسها وحلالها وحرامها، وهي عبادة الإلهة إيزيس وأسرتها الإلهية، وأنها فرضت احترامها وتحريماتها على جميع الأقاليم.
ويروي المؤرخ اليوناني «هيرودوت» أن المصريين قدَّسوا للإله أوزيريس زوج إيزيس ثيرانًا، أطلق عليها الهلينيون «العجل أبيس»، وكان يعتقد أن الثور أبيس هو روح أوزيريس ولون أرض مصر الخصبة، ويجب أن تكون بجبهة الثور علامة بيضاء أقرب إلى شكل المثلث، وعلى ظهره رسم يشبه نسرًا أو صقرًا صغيرًا، وشعر ذيله مزدوج، وتحت لسانه عقدة تشبه الجعران، وأحيانًا يكون على إحدى جنبيه رسم يشبه الهلال.٤

وقد حدد الكهنة هذه السمات للتعرف على ثور أبيس؛ لأنها السمات التي تؤكد أنه تكرار الولادة الإعجازية بملامسةٍ جسدية، التي حدثت لأول مرة في قصة أوزيريس (أوزير)، الذي التقى بالإلهة إيزيس «إيزي» من بعد موته، لينجب منها الإله حورس حور. وكان حور تجسيدًا للإله الأب أوزير، فهو أب وابن في أقنومٍ واحد، وتبع ذلك اعتقاد بعودة أوزير إلى الأرض بذات الأسلوب، عندما تدلهمُّ المحن والخطوب بالناس، ليقر العدل ويقيم السلام، ومع عقيدة التسامح كان بإمكان روح أوزير، أن تحل في الحيوان الذي يرمز له، ويعرف باسم «عجل أبيس».

ويقول «عبد المحسن الخشاب»: «إن العجل أبيس يولد من بقرةٍ، لا يخصبها ثور أرضي، إنما يخصبها القمر بشعاعه، ولم تزل عقيدة التخصيب بالقمر حتى لإناث البشر، تنتشر بين الطبقات الشعبية لدى عدد كبير من الشعوب، فيعتقد أنه إذا نامت الفتاة عارية تمامًا، على مرتفعٍ في ضوء القمر، فإنها تحمل منه بوليدٍ مقدس، فالعجل أبيس يولد من بقرةٍ، يخصبها شعاع من أشعة القمر المخصب، وهي في حالة استعداد للحمل … ويروي إيلياتوس أن شعاعًا هبط من السماء على بقرةٍ، وهي في حالة استعداد للخصب، فولدت عجل أبيس الذي يسميه اليونانيون إيبافوس Epaphos، وعندهم أن أم هذا العجل هي أيو … وبليني Plinius … في كلامه عن العلامات التي تزين أبيس، يذكر أن أول ما يتميز به الثور أبيس هذا، بقعة بيضاء في شكل هلالٍ قمري على جانبه الأيمن … وكان المصريون يعتقدون في خصب القمر، حتى إنهم رمزوا إلى ابتداء الربيع، بقمر شهر فامينوث Phamenouth الجديد في هذه المناسبة، بعيدٍ أسموه: أوزيريس في القمر، وهذا يعني أن أوزيريس هو المخصب كالربيع، وهو الذي يخصب البقرة أم أبيس بشعاعٍ من القمر، ثم يذكر بلوتارخوس أن المصريين، كانوا يركزون قوة إخصاب أوزيريس في القمر؛ ولذا فمن الكهنة من يقول بأن إيزيس ليست سوى القمر، فتماثيلها التي تمثلها بالقرنين المتوجين لرأسها، ما هما إلا محاكاة لشكل الإله القمري … وقد أكد إيودوكسوس Eudoxos أن إيزيس هي الإلهة، التي يحتكم إليها الناس في شئون حياتهم الجنسية، فالناس يناجون القمر في الحب وأحواله.»٥

وقد سبق وعالجنا رمزية القمر الأسطورية في العقائد في كتابنا «الأسطورة والتراث»، وشرحنا فيه السر وراء ارتباط القمر بآلهة الخصب الذكور؛ إذ إن تقديس الخصب قد تمثل في الحيوانات ذات الفحولة الجنسية كالثور والتيس؛ ولأن الهلال يأخذ شكل القرنين، فقد احتسب أحيانًا ثورًا وأحيانًا تيسًا، باحتساب الهلال هو قرني الفحل السماوي المختفي. ونظرًا لما جاء من إشاراتٍ عدة إلى علاقة القمر بالأنثى، وتناغم تحولاته — من محاقٍ إلى هلالٍ إلى تربيعٍ إلى بدرٍ، حتى يعود محاقًا مرة أخرى — مع دورة الدم الشهري النسوي، فقد احتسبه بعض دارسي الأساطير رمزًا للأنثى في العقائد القديمة. لكنا — في كتابنا المذكور — رأيناه الرب الذي ينجب أبناءه بمعجزات، والزوج السماوي للإلهات في الإناث، الموكلات بالخصب والزرع والميلاد، وهو ما يفسر لنا هنا قصة حمل البقرة «أبو» بشعاع القمر المخصب، لتعيد إنتاج أوزير/الخصب/الزرع، مرة أخرى، ويتحول من أبٍ إلى ابن في هيئة الثور أبيس. ومن هنا كان لا بد من تمثيل إيزيس في بقرةٍ أحيانًا، وفي هيئة امرأة تحمل على رأسها قرنين أحيانًا، لكن الواضح أن أوزير رب الخصب المرتبط بمواسم الزراعة، ويصبح ربًّا للقمر أو هو نفسه القمر «تحوت/ضحوت/الضحاك».

ويؤكد ذلك ما وُجد على توابيت الدفن الفاخرة للثور أبيس، من نقوشٍ لمنازل القمر وأوجهه المختلفة،٦ ويبدو أن الأسطورة قد دمجت أوزيريس بإله القمر ضحوت، ونسبت لكلٍ منهما صفات الآخر على التبادل، وأصبحت ألقاب الإله القمري هي ذات ألقاب أوزير: العارف، المتمرس في المعرفة، سيد السحر، مخترع الكتابة وواضع القوانين والناموس. أما اللقب الأهم الذي يعني هذه الدراسة، فهو أنه كان «سيد البلاد الأجنبية»، وهو لقبٌ قديم كان يشير إلى القمر، باعتباره ربًّا للصحارى والبداوة، فاحتسبوه دومًا ربًّا للساميين الرعاة، الذين يسكنون سيناء وبوادي الشام،٧ لقد أصبح أوزيريس باعتباره قمرًا «سيدًا للبلاد الأجنبية»، وربًّا للساميين من وجهة نظر مصرية؛ لذلك نجد الشهر المُشار إليه يونانيًّا باسم «فامينوث»، هو ذاته الذي أطلق عليه المصريون شهر ضحوت، الذي خفف نطقه إلى طوط أو توت، ولم يزل باسمه هذا في الروزنامة القبطية، فهو شهر القمر المرتبط بخصب الأرض وبداية الربيع.
ويرى «هيرودت» أن المصريين أبدًا، لم يبيحوا نحر الأبقار الإناث؛ لأنها مقدسة للإلهة الجليلة إيزيس، وهو ما يلتقي مع الحاجة الاقتصادية للأبقار الإناث والحفاظ عليها؛ لأنها المصنع الإنتاجي للمواليد، وإيزيس هي التي أسماها اليونان باسم «أيو Jo» ابنة «إناخوس Inakhos»، وكان الإغريق يصورونها في هيئة امرأة، يزينون رأسها بقرني بقرة.٨
وفي ترجمات أوراق البردي الأرامية الخاصة بالمجتمع اليهودي، الذي عاش في أسوان بمصر عند Elephantine زمن الإمبراطورية المصرية، إشارات واضحة إلى أن اليهود الذين انفصلوا عن شعبهم وعاشوا هناك، ولم يعرفوا التطور الذي شهدته ديانتهم، بعد الخروج من مصر إلى فلسطين، حفظوا لنا مرحلةً قديمة من اليهودية، حيث وجد لدى تلك الجالية عبادة الإله اليهودي المعروف «يهوه»، لكن إلى جواره إلهة أنثى هي زوجته باسم «إناث ياهو»، أو الأنثى يهوه أو يهوه المؤنث،٩ وهو الأمر الذي يلتقي بوضوحٍ مع تسمية إيزيس باسم «إيو»، التي هي «ياهو» بدون مشاكلٍ لغوية.
وبقراءة التوراة تعلم أن موسى عندما أراد الخروج ببني إسرائيل المستعبدين في مصر، ساق حجةً للفرعون يقول فيها إن دينهم يلزمهم بذبح ذبيحة لله في يومٍ بعينه، وإن تلك الذبيحة يحرم ذبحها عند المصريين؛ لذلك هم بحاجةٍ إلى الخروج من عاصمة الملك إلى الصحراء ليقيموا عيدهم، وهنا رد عليهم الفرعون بقوله:

اذهبوا فاذبحوا لإلهكم في هذه الأرض، فقال موسى: لا يصح أن نفعل هكذا؛ لأننا إنما نذبح رجس المصريين للرب إلهنا، وإن ذبحنا رجس المصريين أمام أعينهم أفلا يرجموننا؟ نذهب سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا كما يقول لنا.

(سفر الخروج، ٨: ٢٥–٢٧)

وهكذا كانت الحجة أو لحظة الخروج من العاصمة مسيرة ثلاثة أيام، ليذبحوا حيوانًا مُحرمًا عند المصريين منعًا للفتن، لكن ليكون ذلك سبيلهم إلى الهرب من مصر، بعد أن يبتعدوا عن العاصمة بمسافةٍ تجعلهم بمأمنٍ من المطاردة عندما تبدأ. لكنا لا نجد بعد ذلك أية تفاصيلٍ لأي ذبح، اللهم إلا ذبح الخراف على عتبات أبواب بيوتهم بمصر، ليلة الخروج وهو ليس الذبح المقصود، ثم لا تأتينا بعد ذلك قصة ذبح أي حيوان إبان رحلة الخروج، اللهم إلا في قصة عبادة الثور الذهبي، ولا نجد حديثًا آخر عن الذبح حدث في سيناء غير تشريع القسامة، وهو ما لا علاقة له بالأصول التعبدية بالقرابين الحيوانية.

هنا تأتي القصة القرآنية فتسد الفجوة المفقودة، وتروي لنا ذكريات قديمة عن ذبحٍ مقدس، قد حدث فعلًا بعد الخروج من مصر إلى سيناء، وتعطينا وصفًا دقيقًا لهذا الذبح المقدس، فهو ذبح لبقرةٍ ذات سمات خاصة جدًّا، فهي صغيرة مدللة لم تحمل نير المحراث، ولونها أصفر فاقعٌ تمامًا دون شائبة.

وهنا نعرف من المؤرخ اليوناني «بلوتارخوس» أن المصريين كانوا يبيحون ذبح الثيران الصفراء؛ لأنها مغراء حمراء أي بلون رب الشر ست،١٠ ثم يخبرنا «ديودور الصقلي» أن ذبح الثيران الصفراء أو الحمراء كان مباحًا في العقيدة الأوزيرية، فلماذا موسى من المصريين عند قراره ذبح ذبيحة صفراء لإلهه؟ يبدو أن السر وراء ذلك هو أن الذبيحة لم تكن ثورًا إنما بقرة أنثى. لقد كان ذبحًا لإيزيس العدو الإلهي للرب سيت، حسب الأسطورة المصرية القديمة.
ويردد «هيرودت» حكايةً يقول إنها حدثت في زمانه، وتتلخص في أن أهل مدينتي ماريا وأبيس على أطراف مصر الغربية، أرسلوا إلى كهنة آمون يقولون إنهم ليسوا مصريين بل ليبيون؛ لذلك يطلبون السماح لهم بأكل لحم البقرة الإناث، لكن جاء الرد من وحي معبد آمون في سيوة برفض هذا الطلب بحزم،١١ مما يشير إلى تحريم صارم لذبح إناث البقر، ويعقب «الخشاب» بقوله: «فالمصريون يعتقدون بأن إله الشر المصري لونه أحمر أصهب؛ لذلك خصصوا للأضاحي من بين مواشيهم تلك التي يكون لونها أشقر تمامًا، إذ إنهم كانوا يعتقدون أن أوزيريس أسمر، فكان اللون الأسود عندهم مُقدسًا.»١٢ ويضيف هيرودت أنه بعد تقديم الذبيحة، كانت أحشاؤها ودهونها جميعًا، تُحرق على مذبح الإله،١٣ وهو ذات الأسلوب الذي أقرته التوراة بعد ذلك في تقدماتها لربها يهوه، ومعها تكرر العبارة «وقود رائحة سرور للرب».
ثم نقرأ في تاريخ مصر كلامًا غير واضح وملتبسًا، عن اعتقاد المصري القديم فيما يُسمى بالجلد الشافي، ذلك الذي نراه مُعلقًا على عصا في كثيرٍ من لوحات مصر القديمة، ولونه أصفر فاقع.١٤ ويبدو أنه كان رمزًا للإله ست نفسه، بعد ذبحه مُمثلًا في ثورٍ أصفر. وكان المُعتقد دومًا عند الشعوب القديمة، أنه بعد إنزال العقاب بمرتكب الإثم، يتحول إلى كائنٍ مقدس يمكنه شفاء المرضى، ولا تطأ قدماه أرضًا إلا أصبحت أرضًا مباركة، وهو ما يمكنه تفسير مسألة الجلد الشافي الذي تحول بصاحبه «ست» من اللعنة إلى النعمة، ونجد لذلك أمثلةً كثيرة لدى أساطير الشعوب القديمة، أقصد التحول من الحالة الشرية إلى الخيرية بعد إنزال العقاب الملائم بالشرير. ومنها مثلًا قصة أوديب اليونانية، التي ارتكب فيها أوديب أفظع جرم، لكنه بعدما لاقاه من عقابٍ هائل تحوَّل من إنسانٍ مبارك يشفي من يلمسه. ثم يقول «عبد المحسن الخشاب»: فكان للون الأصفر عند بني إسرائيل شأن خاص ومغزًى هام؛ ولذا فقد صنعوا الثور الذي ارتدوا إلى عبادته في سيناء من الذهب، لا من معدنٍ آخر غير الذهب الأصيل … دليلًا على ما في قلوبهم من إيمانٍ شديد بالتقليد المصري الذي كانوا يتبعونه في مصر، من عبادة إلههم ست الذي كان البقر الأصفر الذي لا شِيَة فيه بلون معبودهم، وشدة تمسكهم برمزه الأصفر الخالص. إن الثور كان معبودًا في الشرق الأوسط بكامله … وكان ذكره واردًا في ألقاب وصفات الممتازين من الحكام والقادة، وظلت هذه الألقاب الدالة على انتماء هذه الشخصيات البارزة الرفيعة القدر … وقد وردت هذه الألقاب كقولٍ في النصوص الإنجيلية، بلغتها الأولى العبرية بعد العصر الوثني، ثم أبعدت الترجمات الأخرى بما يوافق روح المسيحية … فقط ورد في (التكوين، ٢٢ / ٢٤) إشارة إلى ذلك بعد أن انمحت صفة يوسف: الثور الصغير … وأُبعِد تعبير «ثور يعقوب»، وبدل إلى عزيز يعقوب … لذا فقد علق كونراد على هذا التصحيح بقوله: «إن ذلك كان تناسيًا للأساس التاريخي للعبادة في الشرق القديم … ويوسف كان في زمرة الهكسوس الذين عبدوا ست الإله المصري، ووصفه بالثور الصغير تكريم له كحاكم … ثم إن ترجمة الإنجيل اللاتينية المسماة يشوع Volgate — كما يذكر كونراد — تذكر أن موسى كان بقرني ثور، ولا تقول هذه الترجمة: على رأسه هالة. وهما تعبيران بمعنًى عبري واحد. وذهب بعض المفسرين إلى أن الهالة نشأت أصلًا من تتويج الرأس بقرني ثور.»١٥ ويضيف «أن يشوع Jushua الذي قاد اليهود إلى كنعان، كان من قبيلة إفرايم Ephraim، وهو اسمٌ مشتق من اسم الثور.»١٦
أما نحن فقد ألمحنا في كتابنا «قصة الخلق: منابع سفر التكوين» إلى أن اسم الإله اليهودي «يهوه» أو «جوفاه»، ليست في وجوب نطقها السليم سوى صوت خوار الثور بكل دقة، حيث ينبهنا «لودز» إلى صحيح نطقه الذي يجب أن يُبدأ بفتح ثم سجول طويل.١٧
ومن جانبه أشار «شتاده» أن معنى اسم يهوه: المسقط، أي الذي يسقط البروق على الأعداء؛ لأن «هوى» بمعنى «سقط»،١٨ إلا أن «فلهاوزن» يرى الاسم يهوه من «هوى» في العربية بمعنى الهواء؛ فهو الذي يهب أو هو رب العاصمة.١٩

والقمر في نظر الأقدمين كان جرمًا عظيمًا كالشمس، لكنه بالنسبة لها غير مستقر الأحوال، فسلوكه «هوائي»، وحتى اليوم نصف الشخص متقلب المزاج بأنه «هوائي».

إذن كان الذبح الذي يتعلل به موسى، للخروج من مدينة الفرعون إلى الصحراء، حتى لا يستفز مشاعر المصريين، كان ذبحًا لإلهٍ يرمز طوطميًّا للعشاء الرباني، الذي مارسته شعوب عديدة، فكانت تأكل ربها في يومٍ معلوم يكون عيدهم السنوي، وكان لونه الأشقر دلالة واضحة تشير إلى الإله المصري «سيت»، لكنه كان بقرة أنثى. وهنا يطفر السؤال: هل كان ذبح البقرة التي ترمز لإيزيس، وتحمل أيضًا اسم ايو أو يهو الأنثى لمجرد استفزاز مشاعر المصريين؟ لو كان ذلك كذلك لذبحوها داخل العاصمة المرية، فلماذا ذهبوا بعيدًا عن أعين المصريين ليذبحوها؟

نفهم من هيرودت وغيره من المؤرخين الكلاسيك، أن المصريين بدورهم كانوا يذبحون البقرة الأنثى الصفراء الفاقعة اللون المدللة، لكن في يومٍ احتفالي بعينه معلوم الشأن، هو يوم الاحتفال بعيد القيامة المجيد للإله الشهيد أوزير، لكن ليس لدينا أية إفادة من المصادر المصرية، تفيد السر وراء ذلك التناقض الشديد، بين تحريم ذبح إناث البقر، وبين ذبح بقرة أنثى صفراء، في ذلك اليوم الديني الاحتفالي.

هنا تفسر لنا القصة القرآنية ما حدث …

في لوحةٍ وقعنا عليها بكتاب الموتى المصري القديم، تضيف مزيدًا من الوضوح على التفسير.

اللوحة تمثل الإله أوزير ميتًا شهيدًا داخل تابوته، ممثلًا في هيئة أقنوم الابن «الصقر سوكر»، أي تجليه الجديد في هيئة ابن ميت. وكان الاعتقاد أن أوزير يعود حيًّا من بعد موته بأيامٍ ثلاثة، يحتفل فيها المصري بعيد قيامة أوزير المجيدة. وفي اللوحة تقف أنثى فرس النهر «ميهورت» أمام الإله الميت. وتنطق «ميهورت» أيضًا «ماروت»، وهي إلهة الولادة المصرية، وراعية الأجنة في بطون الأمهات، تمسك أداة تعقب عليها شروح الباحثة «إيفلين روزيتر»، بأنها أداة غير معروفة على وجه التحديد.

The exact nature of the object held by Hathor in her right hand is uncertain.

وتضرب «ميهورت» أو ماروت الإله الميت بتلك الأداة، لكل الواضح لنا. وفي اللوحة أمام القارئ أن تلك الأداة ذيل بقرة، هذا بينما تظل البقرة الإلهية إيزيس في شكل أحد تجلياتها المعروفة باسم «حتحور». وجاءت في الترجمة باسم «هاروت»، في يمين الصورة في شكلٍ شديد التدلُّل مع الزينة والماكياج واللطافة.

إن اللوحة تذكرنا بكون إيزيس هي التي أحيت أوزيريس، بسحرها من الموت في أسطورتها التي جمعها لنا بلوتارخوس، لكننا أبدًا لم نعلم في أي مصدر كان، كيف أحيت إيزيس أوزير من الموت، أي ماذا كانت مظاهر ذلك السحر وأدواته. هنا والآن فقط عرفنا، لقد مارست الإلهة هذا الطقس السحري. أما ربة الولادة في اللوحة «ماروت»، فترمز لعودة ولادة الإله من جديد في أقنوم الابن، لكنه كي يقوم من الموت؛ فإن إلهة الولادة تضربه بذيل البقرة إيزيس (والصفرة واضحة في لونه)، ترميزًا لدورها في عودة الإله إلى الحياة. ولأننا نفقد تمامًا أي مادة أركيولوجية مفيدة هنا، أو حتى اجتهادية من المؤرخين، فإننا وفق ذلك جميعه يمكننا افتراض أنه كان هناك شعيرة، يصحو فيها أوزيريس وينطق فيها باسم قاتله وهو الشرير «سيت»، ويساعد على مزيدٍ من الفهم وعلى تأكيد الفهم، أنه كان في مصر القديمة طقس معلوم، يمارس مع الإله في محرابه، أو بالأحرى مع تمثاله، كما كان يمارس مع الميت بعد تحنيطه، لمساعدته على الكلام والإجابة عما سيوجه له من أسئلة، في قاعدة الحساب الأوزيرية بعد البعث، وهو الطقس المعروف باسم «فتح الفم».

ويقول «ياروسلاف»: «كان طقس فتح الفم يتكون من عدة أفعال، يحتل فيها الفم نقطة مركزية … ثم يذبح بعد ذلك ثور وتقطع أطرافه وينزع منه القلب … وكانت الأطراف الأمامية والقلب تقدم إلى التمثال، ويلمس الفم بالقدم الأمامية … ثم يقدم الماء، وهذه المراسم كان يفترض أنها تؤدي إلى فتح فم وأعين التمثال، وتهبها قدرات وملكات الشخص الحي.»٢٠

لقد كان ذبح البقرة «أيو» تكرارًا لمشهد قيامة أوزيريس ليس أكثر، ليقوم أوزيريس من الموت وينطق باسم قاتله، وهو في الوقت ذاته استحضار لعدو المصريين سيت، عبر النطق باسمه بلسان أوزير الميت الحي؛ لأنه كان يحرم نطق البشر العاديين باسمه، وكان النطق وحده هو ما يسمى بالنطق الخلاق، أو النطق المجسد.

كانت قصة بقرة بني إسرائيل استحضارًا سحريًّا للإله ست رب الهكسوس ورب إسرائيل باسم «يهوه»، ليقود بنفسه جموع الخارجين من مصر عبر سيناء إلى فلسطين، منطوقًا بلسان الإله الشهيد أوزير، بفعلٍ سحري ذُبحت بموجبه إيزيس البقرة الصفراء، حتى يمكن إتمام النطق المتجسد في الإله قائد جموع الخارجين الإله «سيت».

وهكذا فإن يهود ألفتين الذين أقاموا لهم جالية بأسوان، قد احتفظوا من عبادتهم بأصولٍ قديمة، لم تعرف التطور الذي حدث لها في فلسطين، فعبدوا ربًّا باسم يهوه ومعه زوجة باسم إناث يهو، ثم نعلم من الأساطير المرية أن إيزيس كانت باسم «إيو» المؤنث من «يهوه».

 [انظر الشكل رقم «٢٢٠»]

وكان معظم الخارجين من مصر من أتباع التقليد الأوزيري، الذين حافظوا عليه فلم ينطقوا أبدًا باسم ربهم، وأسموه الكائن احترامًا وتقديسًا، وهو ما كان يفعله المصريون إزاء أوزيريس. ومع تطورٍ آخر أصبح أوزيريس ربًّا للقمر، فاندمج بالإله القمر ضحوت، كي يتمكن من تخصيب البقرة «ايو/إيزيس». ويبدو أن هذا التطوير قد تم على يد أجانب كانوا يعيشون في مصر، بدليل أن ضحوت المندمج بأوزير القمر، قد حمل لقب «سيد البلاد الأجنبية».

والمهم هنا أن موعد ذبح إيزيس البقرة الصفراء في الوليمة الطموطية في العيد المصري القديم لقيامة أوزير من الموت، هو ذات موعد خروج الإسرائيليين من مصر ليذبحوا ذبحهم، وهو المسمى بيوم عيد الفسح، يوم كيبور/الغفران.

وبمرور الوقت وللتغطية على الأصول الأسطورية المصرية، تم تبديل اسم يعقوب من «ثور يعقوب»، الذي يعني يعقوب الثور أو الأبيسي نسبةً للثور أبيس، إلى «عزيز يعقوب»، وهو يعقوب العزيزي الذي حمل بدوره أصولًا أسطورية؛ لأن عزيز مذكر للمؤنث عزيزة، وعزيزة هي إيزي زوجة أوزير. أما المدهش فهو أن يتحول اسم يعقوب — بعد صراعه مع ربه في نص بالكتاب المقدس — إلى اسم إسرائيل، لكنه يظل يحمل في طياته أصوله الصادقة؛ لأننا هنا نستبعد كل التخريجات التي قيلت في تفسير كلمة إسرائيل، لنقول تخريجًا جديدًا هو أن الاسم يتكون من ملصقين هما: «إزر» و«إيل» فهو «إزرئيل»، والشق «إزر» هو الاسم المنطوق مصريًّا بكل سلامة لاسم الإله أوزيريس. وهكذا يعني الاسم إسرائيل معنًى جديدًا هو «أوزير إله». ويمكن أن يتطابق هذا التخريج أيضًا مع جبال «سراه» (سر-إيل/اسم إسرائيل بالعبرية).

[انظر حكاية البقرة مرسومة بكتاب الموتى المصري: شكل رقم «٢٢١»] 
١  علي عبد الواحد وافي، اليهودية واليهود، دار نهضة مصر، القاهرة، د.ت، ص٦١: ٦٣.
٢  نفسه، ص٦١.
٣  عبد المحسن الخشاب، تاريخ اليهود … سبق ذكره، ص١٢.
٤  نفسه، ص٩٧.
٥  نفسه، ص١١٢، ١١٤.
٦  سليم حسن، مصر القديمة … سبق ذكره، ص١٩٦.
٧  ياروسلاف تشيرني، الديانة المصرية … سبق ذكره، ص٧٩، ٨٠.
٨  هيرودت في مصر، … سبق ذكره، ١١٣١.
٩  كمال الصليبي، التوراة جاءت … سبق ذكره، ص٥٥؛ انظر أيضًا سيجموند فرويد، موسى، … سبق ذكره، ص٧٩.
١٠  عبد المحسين الخشاب، تاريخ اليهود … سبق ذكره، ص١٢.
١١  هيرودت في مصر … سبق ذكره، ص٩٣، ٩٤.
١٢  الخشاب، تاريخ اليهود … سبق ذكره، ص٩٦.
١٣  هيرودت في مصر … سبق ذكره، ص١٣١.
١٤  فرانسوا دوماس، آلهة مصر … سبق ذكره، ص٧٤، ٧٥.
١٥  الخشاب، تاريخ اليهود … سبق ذكره، ص١٠٠، ١٠١.
١٦  نفسه، ص١٠٥.
١٧  Lods, A, Israel from its beginnings to the middle of Eighth Century, London, 1963, pp. 321-322.
١٨  Stade, B., Lehrbuch der hebräischen Grammatik, Libzig, 1949, p. 429.
١٩  Wallhausen, J. Die Bibllichen ater tu mer, Calw and Stuttgart.
٢٠  ياروسلاف تشيرني، الديانة المصرية … سبق ذكره، ص١٤٧، ١٤٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤