الفصل الثالث

نهاية موسى

فرويد في كتابه موسى والتوحيد يسجل سيناريو الأحداث الذي تصوره لنهاية ذلك الشخص العظيم «موسى»، وفي رسم ذلك السيناريو استند إلى ما وصل إليه «سيللين» في كتابه «موسى وأهميته في التاريخ اليهودي لبني إسرائيل». وكان «سيللين» قد كشف عن نهايةٍ فاجعة لهذا القائد الفذ، وذلك من خلال قراءته لسفر يشوع؛ إذ قال إن الشعب البدوي المشاكس العنيد الإسرائيلي، لم يتمكن من الالتزام بالقوانين الصارمة والراقية للعقيدة الآتونية التي فرضها عليهم الأمير المصري موسى تلميذ إخناتون فيما يرى، فثاروا عليه في تمردٍ عظيم، وتم قتله إبان ذلك التمرد. وعلى الفور نكص الخارجون من مصر عن الدين الذي أعطاه لهم تلميذ إخناتون، وقد ساعد على هذه الثورة ونجاحها في شبه جزيرة سيناء المديانيون أنسباء الإسرائيليين، حيث اعتنق الخارجون جميعًا ديانة يهوه المصبوغة بالبداوة القاسية، التي تمثلت ربها في صورة الوحش السينائي الدموي البركاني، وتم هجر ديانة آتون الراقية والعظيمة. ويرى فرويد أنه عند هذه اللحظة المفصلية من التاريخ، يختفي موسى المصري سليل أسرة الملوك المصريين بالموت قتلًا، لكن التوراة تستأنف قصَّتها بموسى آخر وهمي، تزعم أنه كان طفل بني إسرائيل الذي رُبي بقصر الفرعون بالتبنِّي، وقامت تنسب إلى موسى الوهمي كل الخرافات التوراتية، وقسوة البدو وربهم الشيطاني المارد البركاني. وهنا تحديدًا وعند هذه النقطة الفاصلة يبدأ الحديث عن الأسرة الوهمية لموسى، ويتم لأول مرة نسبة موسى المصري إلى بيت إسرائيل.

ويتمسك فرودي بل يصر على هذا التمسك، بأن الفريق الذي بقي مؤمنًا بموسى المصري وبعقيدة آتون الواحد، هم أولئك الذين وُصفوا بعد ذلك باعتبارهم سبطًا من بيت إسرائيل، ووضعوا في سلسالهم بوصفهم كذلك، وكانوا أهم الأسباط من بعد، وهم سبط «لاوي» المنطوق عبريًّا «ليفي». وكان اللاويون في رأي سيجموند فرويد هم الحاشية الملكية المصرية، التي فضلت الخروج مع النبيل المصري موسى، بعد سقوط إخناتون وموته (كما يظن فرويد)؛ لذلك أصروا بعد مقتل موسى في سيناء على التمسك بذكرى مصر، وركزوا على قصة الخروج لهذا السبب تحديدًا، حتى أمست لحظة الخروج عصب الديانة اليهودية وبداية التاريخ الإسرائيلي. كما أصر هؤلاء الخارجون على استمرار عادة الختان المصرية؛ لأنه ما كان بإمكانهم وهم مصريون أن يتخلوا عن عادة باتت طقسًا مقدسًا بطول تاريخ مصر، وأصبح الختان عند هؤلاء الخارجين شرطًا أساسيًّا للمؤمن؛ كي يكون يهوديًّا من أتباع موسى. كذلك أصروا على التمسك بموسى وبمصريته، بينما كان الفريق البدوي يخترع موسى آخر، موسى إسرائيلي مدياني منسوبًا للبطاركة هؤلاء باعتبارها سُنة إسرائيلية من البدء، والحقيقة غير ذلك بالمرة؛ فقد كانت من فجرها مصرية.

وهكذا كانت فتنة عبادة العجل الذهبي رمزًا لنهاية ديانة آتون، والعودة إلى عبادة العجول البعول، كما كانت قصة تحطيم موسى لألواح الشريعة رمزًا لانتهاء ديانته وشريعته التي أسسها إخناتون، ثم مقتله في الخلاف المذهبي العظيم، الذي أدى إلى ارتداد هؤلاء عن ديانة آتون.

وسبق وأثبتنا أن هناك التقاءً قد حدث في أحد تلك المراحل بين الحمار «سيت» وبين «آتون»؛ حيث نجد الاسم آتون بعد ذلك لقبًا ليهوه في الديانة اليهودية بمعنى السيد الرب، من الجذر «تون» أو «دون». ومنها دون كي Donkey، و«أتان» في العربية. كذلك يلتقي مع تقديس الفُرس الأقدمين واليهود لجذوة نار مشتعلة داخل المعبد، لا ينبغي أن تنطفئ أبدًا هي الأتون الناري، وتحمل في طياتها الأتون الأعظم الشمسي، تشبيهًا بالبركان الذي يقذف الحُمم المشتعلة.

وفي قادش حيث استقر الخارجون من مصر حوالي ثمانية وثلاثين عامًا، ثم عقد اجتماع مصالحة بين كافة الفُرقاء، تحزب فيه اللاويون لسيدهم القتيل. ومن هنا ظل اسم موسى وقصة تربيته بالبلاط المصري، بديلًا عن نبله الوراثي المنسوب لإسرائيل. كما تم الاحتفاظ باسم الإله آتون كلقب ليهوه، فأصبح هو الأدون السيد. كما تمت الإشارة في هذا الاجتماع إلى اختيار إخناتون/موسى للإسرائيليين، في رمزية اختيار الرب يهوه لهذا الشعب، بعكس كل الشعوب التي تختار آلهتها. لذلك لم يفتأ الكتاب المقدس يردد نفيه الشديد، أن يكون يهوه إلهًا أجنبيًّا على إسرائيل، بينما نعلم أن إله إسرائيل كان إيل السامي، وأن يهوه كان إلهًا من أصولٍ كنعانية سيناوية، مدمجًا في سيت تيفون وبعل حداد صافون.

كما حافظ اللاويون في هذا الاجتماع على مجموعة التفاصيل، التي استخدمها بعد ذلك أنبياء اليهود للعودة إلى مفهوم الرب الجلالي الواحد، الذي أسَّسه موسى المصري، لكن بعد موته بقرونٍ طوال.

ومن جانبنا نذكر هنا أن سبط أو بيت لاوي، يرتبط عندنا بالاسم في صيغته اليونانية «لايوس»، وهو بيت آمنحتب الثالث، أو بيت العمارنة في أخت آتون حسب نظريتنا.

ثم نقرأ بالمقدس التوراتي قصة اللحظة الأولى، لتحرك ركب الخارجين من مصر بقيادة موسى، فنجده يقول:

فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سكوت (سكوت أول محطة في طريق الخروج بعد رعمسيس باتجاه سيناء، وقد سبق وحددناها بالقنطرة غرب اليوم/المؤلف)، نحو ستمائة ألف ماشٍ من الرجال عدا الأولاد، وصعد معهم لفيفٌ كثير أيضًا مع غنمٍ وبقر، ومواشٍ وافرة جدًّا، وخبزوا العجين الذي أخرجوه من مصر خبز ملة فطيرًا؛ إذ كان لم يختمر؛ لأنهم طُردوا من مصر ولم يقدروا أن يتأخروا، فلم يصنعوا لأنفسهم زادًا. وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر، فكانت أربعمائة وثلاثين سنة، وكان عند نهاية أربعمائة وثلاثين سنة، في ذلك اليوم عينه، أن جميع أجناد الرب خرجت من أرض مصر.

(خروج، ١٢: ٣٧–٤١)

وأبدًا لا يمكن أن يعقل — كما أسلفنا القول — أن ينجب أربعة أجيال هذا العدد الهائل من الخارجين ٦٠٠٠٠٠ رجل عدا الأولاد. ويلاحظ هنا أنه لم يذكر نساءً، مما يشير إلى ندرة النساء مع الخارجين إلى حد إسقاطهم من تعدادات الخارجين، وهو الأمر الذي لا يفسره سوى الغزوة الهكسوسية الثانية، التي جاءت مصر حلفًا مع ملكها المخلوع وولده، ومن الطبيعي أن يكونوا من الرجال، مع القلة الإسرائيلية وبيوتهم وأولادهم، مع تلك الإشارة غير المفهومة إلى آخرين خرجوا مع الإسرائيليين، مر عليهم المحرر التوراتي سريعًا في فلاشٍ خاطف، في جملةٍ واحدة غامضة، لم تتكرر أبدًا بعد ذلك تقول: «وصعد معهم لفيفٌ كثير أيضًا!»

فمن كان هؤلاء اللفيف؟ وهي الكلمة التي تحمل ذات المعنى، بذات التصويت في العربية والعبرية معًا.

نزعم هنا وننفرد بالقول إن هذا اللفيف كان إخناتون وأتباعه من كهنةٍ وحاشية مصرية، وأنهم هم من صاروا بعد ذلك كهنة إسرائيل اللاويين حسبما نبهنا فرويد. وقد عمد المحرر التوراتي هنا إلى وضع الحقيقة الساطعة في لغةٍ بلاغية تقلِّل من شأن هؤلاء، فهم مجرد لفيف انتهز الفرصة فخرج مع الخارجين. لكن الصيغة البلاغية هنا تضيء الموقف في حملها لأكثر من معنًى؛ لأن «لفيف» هي من «ليفي» أو «لاوي»، في العبرية كما هي في العربية.

وننقب بالكتاب المقدس عن أي إشاراتٍ أخرى تدعم هذه الرؤية، عن أي إشاراتٍ ولو ضمنية لوجود مصري مع الخارجين من البدو الآسيويين الهكسوس، فنقف مع تلك الوفرة في الأغنام والبقر والمواشي مع الخارجين، التي تتناقض تناقضًا صارخًا مع الجوع الذي عاناه هؤلاء، إبان رحلة الخروج حتى أكلوا المنَّ والسلوى. وهو الأمر الذي لا يفسره إلا قائد قد حرَّم على أتباعه أكل الأغنام والبقر، أو أمرهم بصيامٍ عن اللحوم طويل الأمد. وهو أمرٌ كان معلومًا في ديانات المصريين الذين كانوا لا يأكلونها إلا في مناسباتٍ طقسية بعينها، وكانوا يفضلون الطيور على لحوم السوائم في صيام طقسي طويل. ويبدو أنه كان أحد الجوانب الطقسية المصرية، التي أخذها إخناتون ودمجها بعقيدته الجديدة المزيج بين عقائد مصر القحة، وبين عقائد مديان بسيناء المصرية. وهو ما وصل إلى علم محرري المقدس التوراتي، عندما كان المحرر يروي مناظرات موسى مع الفرعون، حيث كان موسى يوهم الفرعون أنهم سيخرجون فقط لمدة ثلاثة أيام، ليذبحوا ذبائح لعيد ديني لهم بعيدًا عن المصريين، الذين يقدسون تلك الحيوانات، أو بالنص:

فدعا فرعون موسى وهارون وقال: اذهبوا اذبحوا لإلهكم في هذه الأرض، فقال موسى: لا يصلح أن نفعل هكذا؛ لأننا إنما نذبح رجس المصريين للرب إلهنا. إن ذبحنا رجس المصريين أمام عيونهم أفلا يرجموننا؟ نذهب سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا كما يقول لنا.

(خروج، ٨: ٢٥–٢٧)
ونستمر في التنقيب نبحث عن إشاراتٍ أشد إفصاحًا، حتى نجد نصًّا واضحًا فصيحًا، يقول الرب فيه لشعبه:

لا تكره مصريًّا؛ لأنك كنت نزيلًا في أرضه، الأولاد الذين يولدون لهم في الجيل الثالث، يدخلون منهم في جماعة الرب.

(تثنية، ٢٣: ٧-٨)

إنها الإشارة الصريحة الوحيدة واليتيمة، التي تشير إلى وجود مصريين مع الخارجين، رغم أنهم كانوا القادة وأصحاب الفكر والكهنة، بل وأصحاب الديانة. وتتأكد بذلك رؤية فرويد النفاذة التي ألقاها على عجلٍ دون مؤيدات، يقول فيها: إن أتباع ديانة آتون كانوا هم مؤسسي ديانة إسرائيل وكهنتها، الذين عرفوا باسم اللاويين أو الليفيين، وتم إدراجهم بين أسباط إسرائيل، باعتبارهم البيت الذي أنجب عمران/العمارنة، ومنهم كان موسى قائد الخروج.

ويزداد الفرض رسوخًا عندما نقرأ المقدس، فنعلم أن هؤلاء اللفيف الذين أشار إليهم المقدس تلك الإشارة العابرة، كانوا كثرةً عددية أكثر من مجرد تعبير «لفيف كثير»؛ لأن اللاويين كما قرر المقدس نفسه، كانوا اثنين وعشرين ألفًا (انظر سفر العدد، ٣–٣٩). وقد تم هذا التحديد بعد عملية التعداد، التي أمر بها موسى للخارجين في سيناء، لكنه عدَّهم وحدهم دون بني إسرائيل، بناءً على ما زعمه المحرر التوراتي أمرًا إلهيًّا يقول:

أما سبط لاوي؛ فلا تحسبه ولا تعده بين بني إسرائيل.

(عدد، ١: ٤٩)
وهو ما يعني أن اللاويين الكهنة وأصحاب الفكرة والديانة، لم يكونوا أبدًا إسرائيليين، وبكل الدأب تملَّكَتنا الرغبة في الحصول على مزيدٍ مما يؤيد رأينا، فوجدنا أن المحرر التوراتي كان يعلم أصل هؤلاء يقينًا، فكان يحذر دومًا قائلًا:

واللاوي الذي في أبوابكم ليس له قسم ولا نصيب معكم.

(تثنية، ١٢: ١٢)
وتعبير [الذي في أبوابكم] يفصح عن أكثر من معنًى، فهو يشير إلى تماس اللاوي مع الإسرائيليين من خارج، كما يحمل أيضًا معنى القيادة؛ فباب المنزل هو سيده، وعتبة المنزل هي سيدته. ثم نتابعه فنسمع الرب يحذر شعبه من كهنته (؟!)، نعم يحذر شعبه من اللاويين ويقول لشعبه المختار:

احترز من أن تترك اللاوي كل أيامك على أرضك.

(تثنية، ١٢–١٩)

لا يكون للكهنة اللاويين — كل سبط لاوي — قسم ولا نصيب مع إسرائيل، يأكلون وقائد الرب ونصيبه [يعني الكهانة فقط/المؤلف]؛ فلا يكون له نصيبٌ في وسط إخوته، الرب هو نصيبه كما قال له.

(تثنية، ١٨: ١-٢)
ويبدو لنا أن وجود هذا العدد من المصريين، الذين كانوا لا شك حاشية إخناتون المصرية ورجال عسكره، وسبق وعلمنا أنه كان قد جعل من مدينته أخت آتون ثكنة عسكرية كبرى، وأنهم خرجوا معه مؤمنين به وبدعوته. إن هؤلاء مع قائدهم كانوا وراء تحريم ذبح البقر. وهو ما لم يحتمله أهل البداوة والرعي ومعتمدهم في الطعام على اللحم، وهو ما يفسر لنا فتنة العجل الذهبي بسيناء، التي كانت في رأينا ترميزًا دالًّا على انتهاء الآتونية، والعودة إلى عبادة العجول وأكلها بذبحها طقسيًّا، بل على موت صاحب الدعوة ذاته قتيلًا، كما ذهب سيللين وفرويد. ويبدو أن ذبح البقرة في المقدس الإسرائيلي كان ترميزًا لكيانٍ قدسي، ترميزًا لقتل موسى. وتبدأ الفتنة مع غياب موسى عن شعبه على جبل الشريعة، حيث صعد ليأتي لهم بألواح الشريعة من الله الذي:

أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء … لوحي حجر مكتوبين بإصبع الله.

(خروج،٣١–١٨)
وقد بدأت الفتنة فيما تروي التوراة، عند تلك اللحظة عند الجبل المقدس، فهي تقول:

ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهةً تسير أمامنا؛ لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر، لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون. فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالأزميل وصنعه عجلًا مسبوكًا. فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر … وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب … فانصرف موسى ونزل من الجبل … وسمع يشوع صوت الشعب في هتافه، فقال لموسى: صوت قتال في المحلَّة، فقال … بل صوت غناء أنا سامع، وكان عندما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص، فحمي غضب موسى وطرح اللوحين من يديه، وكسرهما أسفل الجبل … ولما رأى موسى الشعب أنه معرًّى … وقف موسى في باب المحلة وقال: من للرب فإليَّ، فاجتمع إليه جميع بني لاوي، فقال لهم: هكذا قال الرب إله إسرائيل: ضعوا كل واحد سيفه على فخذه، ومروا وارجعوا من بابٍ إلى باب في المحلة، واقتلوا كل واحد أخاه، وكل واحد صاحبه، وكل واحد قريبه … وقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل … فضرب الرب الشعب؛ لأنهم عبدوا العجل الذي صنعه هارون.

(خروج، ٣٢ من ٣٥: ١)

أول ملحوظة هنا هي التحدث عن موسى، كما لو كان شخصًا لا علاقة لهم به، يعرفونه وليس منهم، بل يبدو كما لو كان على غير علاقةٍ قرابية بهارون المفترض أنه أخوه، «لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من مصر»، ثم عودة هارون بهم بدعوةٍ منه إلى العودة لعبادة الثور. ثم كيف نادى موسى رجاله الموثوقين «اللاويين» تحديدًا، دون كل هذا الحشد من الخارجين، وتحزب مع اللاويين وبدأت معركة طاحنة بين الطرفين «واقتلوا كل واحد أخاه».

والتوراة تؤكد أن موسى ظل على قيادة بني إسرائيل، إلى أن وصلوا إلى شرقيِّ الأردن، وصعدوا إلى جبل نبو، ومن هناك رأى أريحا في غربي الأردن وبقية الأرض الموعودة، وأنه قد مات هناك.

وفي موت موسى تروي التوراة، أنه عندما وصل بالخارجين إلى شرقي الأردن:

كلم الرب موسى في نفس ذلك اليوم قائلًا: اصعد إلى جبل عباريم، هذا جبل نبو الذي في أرض موآب الذي قبالة أريحا، وانظر أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ملكًا، ومت في الجبل الذي تصعد إليه، وانضم إلى قومك كما مات هارون أخوك في جبل هور وضم إلى قومه؛ لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل، عند ماء مريبة قادش في برية صين؛ إذ لم تقدساني في وسط بني إسرائيل، فإنك تنظر الأرض من قبالتها، ولكنك لا تدخل إلى هناك، إلى الأرض التي أنا أعطيها إلى بني إسرائيل.

(تثنية، ٣٢: ٤٨–٥٢)
وخلف موسى على قيادة بني إسرائيل تلميذه يشوع بأمرٍ من موسى ومن ربه:

ويشوع بن نون كان قد امتلأ روح حكمة؛ إذ وضع موسى عليه يديه، فسمع له بنو إسرائيل، وعملوا كما أوصى الرب موسى.

(تثنية، ٣٤–٩)
ومن ثم أصبح يشوع هو قائد الخروج والعبور من الأردن إلى أريحا وأرض الميعاد.

وكان بعد موت موسى عبد الرب، أن الرب كلم يشوع بن نون خادم موسى قائلًا: موسى عبدي قد مات، فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض، التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل، كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى.

(يشوع، ١: ١–٣)

هذا ما روته التوراة عن موت موسى، لكننا من جانبنا قد جمعنا من القرائن ما يكفي، للتدليل على أن موسى المصري أبدًا لم يغادر سيناء، وأنه قتل عند جبل الإله حور المقدس (حوريب/جبل سيناء/جبل الشريعة) إبَّان فتنة العجل الذهبي، وأنه بموته هناك انتهى إخناتون وانتهت ديانته الآتوينة، وتم وصم موسى من قبل يهوه بخيانته له، وبدأت قصة موسى الوهمي التوراتي كمرحلةٍ جديدة، هي التي شكلت فيما بعدُ الديانة اليهودية، وهو الأمر الذي سندلل عليه الآن.

لا يغيب على فطن كقرينةٍ أولى تحطُّم ألواح الشريعة عند سفح جبل الإله حور، كرمز لنهاية العقيدة الآتونية ونهاية صاحبها. وعبثًا نحاول البحث عن تلك الخيانة التي قام بها موسى وهارون لربهما، والتي أدت إلى اتخاذ قرار قتلهما. والطريف أن التوراة تؤكد أن الله هو الذي أمات موسى بنفسه، وقام بدفنه في جبل نبو بنفسه، والموت الطبيعي لا حاجة أبدًا لتبريره، لكن عندما تصر التوراة على التبرير، فعلينا البحث عن سببٍ خفي، وهو ما يبدو في إخفائها اسم القاتل الحقيقي ونسبته إلى الله.

وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل نبو إلى رأس الفسجة الذي قبالة أريحا، فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان، وجميع نفتالي وأرض إفرايم ومنسى وجميع أرض يهوذا إلى البحر الغربي، والجنوب والدائرة بقعة أريحا مدينة النخل إلى صوغر. وقال له الرب هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحق ويعقوب قائلًا لنسلك أعطيها، قد أريتك إياها بعينيك ولكنك إلى هناك لا تعبر، فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب، ودفنه في الجواء في أرض موآب.

(تثنية، ٣٤: ١–٦)

والحالة الوحيدة التي غاب فيها موسى عن بني إسرائيل برفقة شخص يحتمل أنه كان القاتل، هي حالة جبل حوريب بسيناء، عندما صعد بزعم إحضار ألواح الشريعة، وكان رفيقه يشوع ابن نون وهو شخصية دموية، تفصح بدمويتها كل أسفار التوراة أينما ذكرته.

وأبدًا لم يكن إخناتون رجل حروب ودمار رغم ترسانته العسكرية، وما دخلها مرة إلا مكرهًا؛ المرة الأولى لاستعادة عرشه له ولابنه سمنخ كا رع أو بولينكيس، واستعان فيها بأحلاف الهكسوس، وكانت عاصمتهم حينذاك أورشليم حسبما أخبرنا يوسفيوس. والمرة الثانية عند خروج موسى مع رجاله إلى سيناء، عندما هاجمه فرع عماليقي في رفيديم، فلم يشترك في القتال حسب رواية التوراة، إنما صعد إلى تلٍّ عالٍ يشرف على المعركة، يطلب معونة ربه برفع يده نحو السماء؛ لذلك كان غريبًا أن يأمر اللاويين بقتال أصحاب فتنة العجل الذهبي. لقد حدثت الفتنة عبر شخصين، الأول هارون الذي صنع العجل، والثاني يشوع الذي صعِد مع موسى إلى الجبل، وبينما هارون يعلن خلع موسى وآتون بين الأتباع أسفل الجبل، كان يشوع يقتل موسى فوق الجبل، وكان محالًا أن يقوم اللاويون المنبوذون حسب نصوص المقدس، بعملية قتل للشق الهكسوسي العظيم العدد، بل يبدو أن ما حدث كان على العكس تمامًا، فما إن عاد يشوع من الجبل، حتى تمت إبادة أكبر عدد ممكن من المصريين، على يد الهكسوس اليهوذيين عند سفوح جبل حور المقدس.

والمعلوم أن عادة الختان عادة مصرية أصيلة قديمة أخذها عنهم الإسرائيليون والساميون عمومًا، ونسبها الإسرائيليون إلى آبائهم الأوائل زمن إبراهيم ١٧٠٠ق.م. تقريبًا، بينما مصر تعرفها من فجر تاريخها قبل ثلاثة آلاف عام أو أكثر قبل الميلاد. وتشير التوراة إلى أن الخارجين من مصر كانوا مختونين جميعًا، لكن التوراة تفاجئنا عند استلام يشوع القيادة بعد موت موسى، أن من معه جميعًا كانوا غلفًا غير مختونين، ووجد يشوع أن ذلك قد يؤدي إلى هزيمتهم عند الهجوم على أرض فلسطين. فأمر جميع أتباعه بالختان على الطريقة المصرية بالصوان، أو بالنص «في ذلك الوقت قال الرب ليشوع اصنع لنفسك سكاكين من صوان، وعد فاختن بني إسرائيل ثانية، فصنع يشوع سكاكين صوان، وختن بني إسرائيل في تل القلف.» وهذا هو سبب ختن يشوع إياهم: إن جميع الشعب الخارجين من مصر الذكور، جميع رجال الحرب ماتوا في البرية على الطريق بخروجه من مصر؛ لأن جميع الشعب الذين خرجوا كانوا مختونين، وأما جميع الشعب الذين وُلدوا في القفر على الطريق بخروجهم من مصر فلم يختنوا؛ لأن بني إسرائيل ساروا أربعين سنة في القفر، حتى فني جميع الشعب رجال الحرب الخارجين من مصر، الذين لم يسمعوا لقول الرب الذين حلف الرب لهم، أنه لا يريهم الأرض التي حلف الرب لآبائهم أن يعطينا إياها، الأرض التي تفيض لبنًا وعسلًا، أما بنوهم فأقامهم مكانهم فإياهم ختن يشوع؛ لأنهم كانوا قلفًا؛ إذ لم يختنوهم في الطريق» (يشوع، ٥: ٢–٧).

ولا معنى لهذا الكلام سوى إبادة جماعية، تمت للمصريين مع زعيمهم في فتنة العجل الذهبي، للتخلص من تلك السيادة المصرية، وهو ما يؤكده استكمال قراءة ذلك الإصحاح في سفر يشوع، إذ يقول:

وقال الرب ليشوع: اليوم قد دحرجت عنكم عار مصر.

(يشوع، ٥: ٩)

ألا يعني ذلك التخلص من كل ما أمكن التخلص منه من أثرٍ فكري مصري، ومن الأشخاص أصحاب هذا الفكر؟

وعند هذه النقطة يظهر دون سبب واضح ولا هدف، الأمر بصناعة تابوت يحمله الخارجون معهم، بزعم أن الرب سيستلقي بداخله ليحملوه معهم في ترحالهم (؟!) قرر رب الجبل الهائم المدموم أن يترك مقره السينائي العظيم، ليثوي في تابوتٍ يحمله الإسرائيليون في رحلتهم. لقد أمموه وأخذوه من سيناء معهم، لكن لماذا اختيار تابوت بالذات، ونحن نعلم أن التابوت شيء خاص بالموتى لا بالأحياء، فما بالك بإله؟ ثم لماذا يطلب الإله في هذه اللحظة تابوتًا، بينما كان يسير أمام شعبه، وخلفهم يحرسهم في شكل أعمدة من سحابٍ وأعمدة من نار، وينزل سخطه على أعدائهم في شكلٍ كلي القدرة، هائل الرغبة في سفك الدماء. لماذا فجأة وفي تلك اللحظة تحديدًا، وفي ذلك المكان تحديدًا، يطلب هذا الإله صناعة تابوت له، ينام فيه ليحملوه معهم، فيكون معهم حيثما حلوا وارتحلوا؟ وبطول الإصحاح الخامس والعشرين من سفر الخروج، توضع مواصفات هذا التابوت التي تفاجئك بصيغتها المصرية، لتوابيت الملوك الفراعنة تحديدًا وبالذات، مع ملاحظة أنه ليس كتوابيت أفراد الشعب المصري المعروفة، بل تابوتٌ ملكيٌّ كامل المواصفات، يشكل معدن الذهب فيه الجانب الأعظم:

فيصنعون تابوتًا من خشب السنط طوله ذراعان ونصف، وعرضه ذراع ونصف وارتفاعه ذراع ونصف، وتغشيه بذهب نقي، من داخل ومن خارج تغشيه، وتضع عليه إكليلًا من ذهب حواليه، وتسبك له أربع حلقات من ذهب وتجعلها على قوائمه الأربعة … وتصنع عصوين من خشب السنط وتغشيهما بذهبٍ، وتدخل العصوين في الحلقات على جانبي التابوت ليحمل التابوت بهما … وتصنع غطاء من ذهبٍ نقي طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف، وتصنع كروبين من ذهب صنعة خراطة، تصنعهما على طرفي الغطاء، فاصنع كروبًا واحدًا على الطرف من هناك، وكروبًا على الطرف من هناك … ويكون الكروبان باسطين أجنحتهما إلى فوق مظللين بأجنحتهما على الغطاء.

(خروج، ٢٥: ١–٢٠)
وفي أسطورة أوديب، يتحوَّل الملك أوديب من ملكٍ خاطئ مخلوع إلى رجلٍ مبارك (نبيا)، ويتسابق الملوك لدعوته إلى ممالكهم، لكنه يصر على البقاء في كولونس في جبل كيثابرون، الذي طابقناه بجبل كاترين، وهو الاسم الحديث لجبل الله حور أو حوريب. وتجمع الروايات على أنه كان يجلس يومًا في هذا الجبل، فسمع صوتًا يناديه من السماء، ارتفع على إثره نحو السماء واختفى عن الأنظار، وقيل إن ربات الرحمة رفعته إلى السماء، لتعوضه عما لاقاه من عذابٍ في الأرض، وكانت تلك هي رواية سوفوكليس في أوديب ملكًا. لكن هوميرس يذكر من جانبه نهاية مختلفة لحياته، وهي «أنه قتل في معركة وانتهت حياته بالعنف، ودُفن جثمانه بعد أن وُسِّد في تابوت، وتُليت عليه المراسم الجنازية.»١
ومن جانبه يطرح أحمد عثمان٢ ذات التساؤلات المستريبة، فيقول: «وليس من الواضح لماذا غضب الرب على موسى؟! وكانت النتيجة أن الرب منع موسى من دخول أرض كنعان مع بني إسرائيل وأماتَه … وبعد أن أعطى موسى بركته إلى بني إسرائيل، صعد الجبل ونظر عبر الأردن إلى كنعان، ثم مات هناك ودفنه الرب في قبرٍ ليس له علامة … ويحتوي التلمود على روايةٍ تختلف عن ذلك بخصوص الطريقة التي مات بها موسى، فهي تقول إن موسى تصارع مع خصمه فوق الجبل قبل أن يموت، وهي تسمي هذا الخصم ملاك الموت. وهذا هو الذي جعل باحث التوراة الألماني إرنست سيللين يقول: إن موسى مات مقتولًا.»

وفي الرواية الإسلامية تقول الآيات:

وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ، وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (الأعراف: ١٤٨).

figure
شكل رقم «٢٣٩»: ما زالت قبائل البدو تحمل فوق جملها القائد سر القبيلة، أو رمز سلفها في شكل هودج يسمونه مركب إسماعيل، وهنا نموذج قائد قطيع قبيلة الروالة.
ويعقب ابن كثير في شروحه: «لكن لم يقبل الله توبة عابدي العجل إلا بالقتل، كما قال تعالى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ،٣ ولم ينف القرآن الكريم موضوع التابوت، بل أكده قائلًا: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (البقرة: ٢٤٨)»، كذلك وافقت الروايات الإسلامية قصة صراع موسى مع خصمه قبل قتله، لكنها كالتلمود قالت إن القاتل كان الملاك عزرائيل ملك الموت. ويحكي ابن كثير روايةً عن ذكرى باهتة لقلع العيون، لكنه قال إن العيون المقلوعة كانت لعزرائيل ملاك الموت، وإن من قلعها كان موسى إبَّان صراعه معه قبل موته،٤ بل ويشير إلى اتهام يشوع بذلك القتل بشكلٍ سافر ومباشر، وذلك في قوله: «ثم إن موسى عليه السلام بينما هو يمشي ويوشع فتاه، إذ أقبلت ريح سوداء، فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة، فالتزم موسى وقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبي الله، فاستل موسى عليه السلام من تحت القميص وترك القميص في يدي يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص آخذته بني إسرائيل، وقالوا: قتلت نبي الله؟ فقال لا والله ما قتلته، لكنه استُل مني.»٥

وفي رواياتٍ يونانية أخرى نجدها تشير إلى أن أوديب ظل بعد موته روحًا هائمة تنتقل مرتحلة من مكانٍ إلى مكان، وهو ما نظنه قد حدث بتوسيد موسى/أوديب/إخناتون في التابوت بعد مقتله، وحمله معه في شكل قيادةٍ رمزية عبر ارتحالاتِ طويلة، انتهت بالوصول إلى جبل نبو على مشارف كنعان الشرقية.

لقد كانت فتنة العجل الذهبي النهائية المنطقية والعاجلة لتحالف مؤقت بين فُرقاء متناقضين، إخناتون وعقيدته الآتونية وأتباعه من مصريين، والبدو الأسرى في حواريس وهم من عُرفوا باسم بني إسرائيل، وعلى الطرف الآخر يهوذيين هكسوس طردوا من مصر وسكنوا أورشليم، وعادوا إليها في غزوةٍ ثانية تحالفًا مع ملكها المخلوع. كانت الأطراف شديدة التناقض بين فرعون يمجد ربًّا واحدًا هو الشمس آتون، وبين مجموعاتٍ بدوية دموية همجية تعبد عددًا من الآلهة تتمثل في تجلياتٍ مختلفة، أظهرها كان دومًا العجل أو الثور. أما رمزه فهو القرون أو الهلال، فكانوا قمريين لا شمسيين. ولا مفر من الاعتراف بردة بعض المصريين من الخارجين في قسوة الصحراء، وحاجتهم إلى البروتين الحيواني، أو استسلامًا لسيادة العدد الغفير والقوي. وربما كان ذلك العجل قد اتفق عليه من قبل البدو عباد البعل العجل، وبين هؤلاء المصريين الذين كانوا يعبدون قبل آتون تجليات إلهية أبرزها عجل أبيس، ولكن عجل أبيس كان يضع بين قرنيه الشمس، إلا أن إيريك هورنونج يعيد الأمر إلى نصابه، ويقول عن هذا القرص إنه «قد فسر مؤخرًا على أنه قرص قمري».٦
ثم يؤكد أن العجل الذهبي كان بدوره طقسًا مصريًّا، ما وجدناه عند سليم حسن وهو يقول: إن الإله أتوم، كان يتم تمثيله في هيئة عجلٍ من الذهب الخالص.٧
ولم يبقَ من تأثيرات الآتونية في صلب العقائد اليهودية، إلا ما كان لهم في بلاد مديان، من عقائد متمثلة في إنكار البعث والخلود، حيث أبدًا لم يقُل إخناتون بعالم خالد فيه بعث وحساب وعقاب وخالف جميع المصريين، وقد قلنا إنه جاء بها من مديان المصرية، وجلُّ ما كان يدعو به العابد ربه آتون: فلتضمن لي حياةً طويلة وسعيدة.٨

وهو ذات المبدأ التوراتي نصًّا ومعنى، الذي ظل سائدًا حتى العهود المتأخرة، لتظهر تدريجيًّا مع أنبياء العهد الأخير، قبل الميلاد بقرنٍ أو قرنين من الزمان، فكرة عالم آخر هو عالم الخلود.

ويؤكد لنا عبد المنعم أبو بكر أن إخناتون نجح في تحريم ديانة أوزيريس، التي تقول بالبعث والحساب والخلود: «وهكذا نجح إخناتون في تحريم ديانة أوزيريس، بل لم يحدث أن ذكر اسمه في نقشٍ من النقوش، التي وردت على جدران مقابر العمارنة، بل لم تعد الصلوات الجنازية توجه إلى آلهة العالم السفلي … لكنها كانت ترفع إلى إخناتون رأسًا.»٩
«ويستفاد مما ذكره استرابو عن الأنباط، أنهم كانوا لا يحفلون شيئًا بأمر الموتى؛ إذ يقول في هذا الصدد: ونظرتهم إلى الموتى كنظرتهم إلى الروث؛ لهذا فإنهم يدفنون الموتى حتى الملوك منهم إلى جانب أكوام القمامة.»١٠

ثم أبدًا لا نجد تفسيرًا لذلك العداء الهائل والعظيم، الذي تموج به التوراة ضد العماليق، سوى أنه أثر مصري بقي صداه ذكرى، تردد كراهية المصريين للهكسوس، وليس كراهية الإسرائيليين للعمالقة. وقد ظل أمر التشدد التوراتي في كراهية العماليق، مثار دهشة شديدة لدى الباحثين حتى الآن؛ لعدم وجود مبرر واضح له، لكنه لو كان كراهية مصرية من المصريين الخارجين للمحتلين البرابرة، فإن الأمر يصبح واضحًا ومنطقيًّا.

ولا نجد تفسيرًا للقول بخيانة موسى للرب، سوى أنها وجهة نظر المنتصر في الصراع الذي نشب عند جبل حور المقدس، التي أرادت أن تجد تبريرًا لقتل موسى/إخناتون، ونهاية المصرية وبداية اليهودية المستترة، وفيما بعد سنجد الإسرائيليون ينسون تمامًا جبل حور المقدس في سيناء، حيث كان الأتون المصري، ويبدءُون في تقديس موضع آخر، هو عاصمة الهكسوس/الخابيرو/يهوذا (أورشليم)، وعلى جبل صهيون يقيمون هيكلهم ويضعون فيه تابوتًا لا أشك أنه كان يحمل رفات الفرعون إخناتون، وحيث يعتقد أنه المكمن الأزلي ليهوه.

نحن إذن نقول بوضوحٍ: إن الكامن في التابوت بوصفه الرب يهوه (الكائن الذي لا اسم له)، كان هو إخناتون بذاته بعد موته، وفي حياته كان إخناتون في نظر أتباعه إلهًا ونبيًّا في آنٍ معًا. وإذا كان ليهوه اسم خفي لا يمكن معرفته، فكذلك كان إخناتون، فبعد سقوطه عن العرش أصبح لا اسم له، أصبح كائنًا دون اسم حسب الشرعة المصرية.١١ أصبح فعل كينونة فقط To be، وهو ذات اسم يهوه. وعلينا أن نلاحظ أن أم موسى في التوراة، عندما ولدته لم تعطِه اسمًا، واسمه فقط هو وصف لحالته التي وجدته عليها ابنة الفرعون (ابن الماء/موسى). أما كمال الصليبي فقد اكتشف من جانبه، أن موسى كان مرة نبيًّا ومرة إلهًا، وهو ما كانه إخناتون.

وانتصر سيت/يهوه، واختفى آتون ولم يبقَ له من ظلٍ سوى لقب يطلق على يهوه، يخاطبه به اليهود العابدي «آدوناي»: يا ربي أو يا سيدي.

ويخبرنا أحمد عثمان عن وجود دلالاتٍ واضحة في منطقة سرابيط الخادم بسيناء، تؤكد استمرار عبادة الإله آتون زمنًا بعد انتهائها في وادي النيل.١٢ وغنيٌّ عن التذكير أن إخناتون وأوديب، نُسبت لهما مُدَّتا حُكم مختلفة ١٦ سنة و٢٠ سنة. وبينهما فارق ٤ سنوات أضافته الأسطورة اليونانية لمدة حكم إخناتون وهو ١٦ سنة. وهي عندنا السنوات الأربع التي قضاها إخناتون ملكًا منفيًّا في حواريس، حتى وقت الخروج النهائي من مصر، بعد المعركة التي قَتل فيها الصبيان سمنخ كا رع وتوت عنخ آمون، وهزمت الغزوة الهكسوسية الثانية. ونلحظ بالكتاب المقدس اختفاء ذكر ألعازر وجرشوم، ابني موسى تمامًا بعد عبور جبل سيناء، دون أي توضيح من جانب التوراة لسر هذا الاختفاء الذي أوضحته لنا أسطورة أوديب فيما حفظته من ذكرياتٍ عما وقع من أحداث، حيث أكدت مقتل الملكين الصبيين.
ومن جانبه يحيطنا المصرولوجيست هنري بروغش، أن جماعات كانت تعيش في شرقي دلتا مصر زمن الخروج، واحتسبهم جماعات فينيقية، قرأ الاسم الدال عليهم «الخالو»،١٣ والتي نراها بالقراءة السليمة «أخلامو» أي الأحلاف، وأن هؤلاء الخالوا في رأي بروغش، خرجوا مع الخارجين تحت عنوان «اللفيف» الوارد بالتوراة. وهم برأينا كانوا الهجمة الهكسوسية الثانية. أما اللفيف فكان إخناتون وحاشيته المصرية والمديانية.
figure
شكل رقم «٢٤٠»: الموكب الجنائزي في قاعة دفن توت عنخ آمون (الكهنة يسحبون التابوت).

ويقول سيجموند فرويد: إن دخول بني إسرائيل إلى مصر لم يشملهم جميعًا، فهناك قسم من الأسباط دخل مصر، وقسم منهم لم يدخلها وبقي في مواضعه التاريخية بفلسطين، ويرى أن من بقي مقيمًا بفلسطين، ولم يدخل مصر، أولئك الذين استقروا شمالي فلسطين، وهم من استقلوا بعد ذلك عن المملكة الموحدة بعد موت سليمان، وأقاموا هناك دولة إسرائيل الشمالية. أما الذين دخلوا مصر وخرجوا منها فقد استقروا جنوبي فلسطين، وهم من شكلوا عند انقسام دولة سليمان، دولة يهوذا الجنوبية، والمعنى أن الذين لم يدخلوا مصر أبدًا، هم من شكلوا دولة إسرائيل الشمالية، بينما شكل الخارجون من مصر دولة يهوذا الجنوبية.

وهنا نختلف مع فرويد اختلافًا تامًّا، وعلى العكس تمامًا مما قال، وذلك في ضوء سيناريو الأحداث الذي رسمناه حتى الآن، لأسبابٍ عديدة ستقودنا إلى محاولة رسم طريق الخروج من مصر إلى فلسطين.

figure
شكل رقم «٢٤١»: الإلهات الحامية للتوابيت المصرية، والتي اقتبسها التابوت اليهودي، وأطلق عليها الاسم (كروبيين).

السبب الأول والأوضح أن النصف الشمالي أو مملكة إسرائيل كانت تموج بعباداتٍ خصيبة عديدة، تلتقي تمامًا مع العبادات المصرية؛ مما يشير إلى تأثرٍ شديد بمصر، خاصة عبادة العجل أبيس ومراكب الشمس، وغيرها من ظواهر العبادة الخصيبة، التي استمرت حتى أيام المسيح، وكان تأثيرها في المسيحية شديد الوضوح، حتى كادت المسيحية تكون نسخة أخرى معدَّلة تعديلًا طفيفًا لعقائد الخصب المصرية، المرتبطة بالإله أو وزير رب الخضرة والخصب. بينما كان النصف الجنوبي (مملكة يهوذا) أقرب إلى البداوة، وقامت به عدة حركات إصلاحية للتخلص من الآثار المصرية على التوالي. والسبب الثاني أننا نعرف من مانيتون ويوسفيوس أن الهكسوس، عندما طردوا من مصر أمام جيوش أحمس قائد التحرير، قد اتخذوا طريق حورس الحربي الشمالي المحاذي للبحر المتوسط حتى وصلوا شاروهين، وحاصر أحمس شاروهين ثلاث سنوات، وانتهى الأمر بخروجهم من شاروهين إلى جنوبي فلسطين، أو ما يشكل المملكة الجنوبية التي عُرفت بعد ذلك باسم يهوذا، وأنهم هم من أقام هناك مدينة أورشليم. بينما يشير الكتاب المقدس إلى أن الخروج الإسرائيلي قد اتخذ طريقًا آخر، اندفع نحو جنوب سيناء، نحو الجبل المقدس حوريب/كاثرين، ثم اتخذ ساحل العقبة الغربي، وعبَر من شماله عند إيلات وعصيون جابر جنوبي آدوم، ليقوم بالتفافة كبرى عبر البادية الأردنية الآن، لينتهي عند رأس البحر الميت شرقي نهر الأردن. ومن هناك تم غزو الشمال الفلسطيني بعد عبور الأردن عند أريحا من شرقه إلى غربه.

وهكذا نجد أن الذين خرجوا من مصر متأثرين بثقافتها هم من استقروا شمالًا. أما يهوذا أو العبيرو أو الهكسوس هم من استقرُّوا جنوبًا، وبعد موت سليمان أقام الشماليون مملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة، وأقام الجنوبيون مملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم.

١  الشعراوي، أساطير … سبق ذكره، ص٢٦.
٢  أحمد عثمان، تاريخ … سبق ذكره، ج١.
٣  ابن كثير، البداية … سبق ذكره، ج١، ص٢٦٩.
٤  نفسه، ص٢٩٥، ٢٩٦.
٥  نفسه، ص٢٩٧.
٦  إريك هورنونج، ديانة … سبق ذكره، ص٢٧٥.
٧  سليم حسن، مصر القديمة … سبق ذكره، ج١، ص١٩٨، ١٩٩.
٨  أبو بكر، إخناتون … سبق ذكره، ص٩١.
٩  نفسه، ص٩٠، ٩١.
١٠  إحسان عباس، تاريخ … سبق ذكره، ص١٢٣.
١١  جريفث، الانقلاب الديني … سبق ذكره، ص٤٢.
١٢  أحمد عثمان، تاريخ … سبق ذكره، ج٢، ص٦٠.
١٣  الخشبة، رحلة … سبق ذكره، ص٢٢٨، ٢٤٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤