إلى فلسطين الأرض المقدسة
كنا في القنطرة السادسة مساء وعبرنا قناة السويس في سابحة بخارية صغيرة أعدتها الشركة ليعبر الناس عليها القناة إلى أرض طور سيناء، وفي القنطرة الشرقية أقلَّنا القطار في منتصف الليل وأوغل بنا في الصحراء، وفي باكورة الصباح تفتَّحت عيوننا على:
غزة
مولد الإمام الشافعي، وهي بلدة صغيرة قامت حولها بعض المزارع الفقيرة، ثم أخذ الزرع يتزايد في بقع متناثرة في الصحراء، حيث تكثر العيون، وخصوصًا على المنحدرات التي كان يكسوها شجر الفاكهة في صفوف منسقة بديعة تمر خلالها مجاري الأسمنت للري، وقد كانت كثرة الشجر خير مؤيد لما نعرفه من شهرة المكان بالفاكهة، ثم وصلنا محطة:
اللد
وكان الشجر حولها وفيرًا، وهنا غيَّرنا القطار الذي قام بنا صوب القدس، فأخذنا نوغل في وديان ملتوية معقدة، آخرها بالغ الامتداد غير ذي زرع، وكان القطار يجد صاعدًا خلال كل أولئك في جهد كبير، وقد زُوِّد بقاطرتين معًا، وفي منتصف العاشرة دخلنا:
بيت المقدس
فآويت إلى نزل «أوليفيت» الجميل يديره صاحبه الوطني الذي شراه من الإنجليز، ويقوم عليه خير قيام، أما القدس فبلد كأنه أقيم على مجموعة تلال في ارتفاع ٢٤٠٠ قدم، طرقه تسير في ليات عجيبة وتهوي آنًا وتصعد آنًا في منحدر وعر، وقد يرتقي الواحد من طريق إلى آخر بدرج مرتفع يناهز الخمسين سلمًا، والمدينة جد نظيفة وساعد على ذلك أن تربتها صخرية مجدبة لا تكاد تجد أثرًا للتراب في أرضها، وبيوتها من صخر الجير يبدو في ألوان طبيعية: أبيض، وأحمر، وأخضر، وللقوم مهارة خاصة في نحته وإقامته، بحيث يبدو فخمًا جذَّابًا رغم أنه لا يغشاه في ظاهره ملاط، وغالب المساكن من طابقين إلا بعض المنشآت الحديثة، وكم كان يدهشني اختلاف الأزياء والأجناس بكثرة لم أعهدها في أي بلد آخر، مما أيَّد أن ذاك المكان المقدس أضحى بلدًا عالميًّا، فالناس من مذاهب شتى وديانات مختلفة ولكل زيه الخاص، فالعربي القح يلبس الصوف وعلى رأسه العقال، وسواد الناس يلبسون الطربوش وسراويل تُحبَك حول الساق وتنتفخ حول العجز، والبعض يلبس القفطان وعليه الحزام المعوج الجذَّاب نساءً ورجالًا، ولعل أعجب الأزياء تبدو في طائفة من اليهود الرجعيين، فتراهم يرسلون لحاهم وشعر رءوسهم، ويدلون منه ذؤابتين طويلتين أمام الأذنين في شكل يسترعي الأنظار، والنساء يخرجن وعلى وجوههن قناع أسود ثقيل، ومن أخص ما ترى فتيانهم الذين يحملون وراء ظهورهم سلالًا كبيرة تكاد تخفي قامة الغلام منهم، ويسيرون على غير هدًى علهم يجدون مرتزقًا في حمل متاع الغير في تلك السلال، ونغمة الحديث عجيبة قد تثير الضحك إذ يميلون الحروف ويمدونها ويتصرفون في حروف الجر تصرفًا مدهشًا وبخاصة «الباء» فيقولون: إن فلانًا نزل بيافا وسمعت أحدهم يقول لرجل زلت قدماه أمام حانوته: «ليش بتوقع بيمكن العمى بيصيبك» في مد عجيب فتقبَّلها المخطئ ومضى في سبيله لا يني، لاحظ أنهم لا يميلون إلى النزاع والمشاكسة وهم كرام النفوس وديعون مؤدبون، فما سألت أحدهم شيئًا إلا وحاول أن يهديني في رغبة وبشاشة، فإن قلت: «متشكر» أسرع قائلًا: «أستغفر الله» وهم يودون المصريين ويذكرونهم بخفة الروح، حتى سمعت أحدهم يقول لجاره: «أين خفة الدم المصري يجتمع إليه الجمال الشامي؟»
نبذة تاريخية
في القرن التاسع عشر قبل الميلاد هاجر إبراهيم من كالديا أو العراق موطنه إلى أرض كنعان كما روى التوراة، ولكي يحسم النزاع الذي شجر بين آله وبين قوم لوط خيَّر لوطًا أن ينتقي لقومه البقعة التي يريد، فاختار أرض الأردن الخصبة، فهاجمه أهل البلاد وأسروه فسارع إبراهيم إليه ونجَّاه، ولما عاد إلى معسكره قدم له حليفه الكنعاني ملك سالم «أو أوروسالم أو جيروسالم» الخبز والنبيذ، وقد ورد ذكر أوروسالم في القرن الخامس عشر قبل الميلاد في ألواح خطت بالبابلية عثرنا عليها في تل العمارنة، وفي سنة ١٢٥٠ق.م. احتل بنو إسرائيل القسم الأكبر من أرض الميعاد أو «الأرض الموعودة» وفي ١٠٥٠ق.م. اغتصب القدس داود من الكنعانيين وهم أجداد السوريين الحاليين، واتخذها عاصمته، ومحا اسمها الكنعاني وأسماها مدينة داود، وقد زاد في تجميلها سليمان وبنى فيها معبدًا فاخرًا بمساعدة صديقه «حرام» ملك «صور»، وغزاها شيشاق فرعون مصر سنة ٩٧٠ق.م. ثم تتالت الغزوات وحُملت كنوز المعبد إلى بابل وأُسر ملك القدس، وفي ٧٢٢ق.م. دُمِّر ملك بني إسرائيل هناك وفي ٥٨٦ق.م. حوصرت القدس ودُمِّر المعبد وأُخذ اليهود أسرى إلى بابل بأمر بختنصر، وبذلك انتهى ملك يهوذا.
ولما هزم كورش الفارسي بابل أعاد لليهود أملاكهم سنة ٥٣٨ق.م. وبعد هزيمة دارا أمام الإسكندر الأكبر اجتاح جيش مقدونيا سوريا، وكتب الإسكندر لقساوسة القدس يدعوهم إلى تقديم الطاعة، فرفضوا، لكنه لما تحرَّك نحو القدس لاقاه شيخ القسس فيها محتفلًا مرحبًا، فدخلها فاتحًا، وبعد موت الإسكندر ظلت الثقافة الإغريقية هي السائدة زمنًا، وحلت اللغة الآرامية وهي لغة السوريين الأقدمين محل العبرية، وما لبث ملك سوريا أن باغت المدينة سنة ١٦٨ق.م. ودمرها ودنس المعبد؛ لأنه ألزم اليهود أن يذبحوا الخنزير في المذبح المقدس فأهاجت تلك الإهانة اليهود وحفَّزتهم أن يثوروا على سادتهم ملوك سوريا، وكان قائدهم يهوذا الذي هزم جيوش سوريا سنة ١٦٤ق.م.
عاود السوريون الحصار بعد ذلك، ولما جاء يوليوس قيصر في طريقه إلى مصر أقام من قِبله ملكًا عربيًّا على أرض يهوذا فقُتل، ثم أعقبه ابنه (هيرود) ففتح القدس بمعاونة الروم، واشتهر بمبانيه العظيمة، وبخاصة لما أعاد بناء المعبد، وفي عهده بلغت القدس أوج عظمتها لذلك سمي (هيرود الأعظم)، وبينا كانت القدس تتيه فخارًا تحت ملكها العربي وضعت مريم المسيح بمعجزة في فندق حقير من بيت لحم، وكان ذلك سنة ٤ق.م. وكان ذلك في الثالثة والثلاثين من حكم هيرود الأعظم، ولما ذهب عقلاء القوم يقدمون خضوعهم لذاك المولود غضب هيرود، وأمر بجميع الأطفال أن يذبحوا ليتخلَّص من المسيح، فأُوحي إلى يوسف أن يهرب بالطفل وأمه إلى مصر، فظلوا بها حتى مات هيرود، وفي سنة ٣٠م حوكم المسيح أمام خليفة هيرود الذي قضى عليه بالصلب.
لبث الروم يقاتلون القدس مرارًا ليقمعوا ثورة اليهود بها، وكان أشد حصار وقع زمن تيتوس، حتى قيل: إن الحاجة دفعت بالأمهات أن يأكلن أطفالهن، ولما دخلها تيتوس دمر المعبد أولًا والمدينة كلها تدميرًا تامًّا، فحقت كلمة المسيح فيها: «لن يستقر حجر على حجر في القديس الخبيثة.» وفي ٣٣٠م لما أن أصبحت النصرانية الدين الرسمي لروما بنى قسطنطين كنيسة في مكان كنيسة القيامة، وأخرى في مكان الصلب، وثالثة في بيت لحم، وبعد ذلك حاول اليهود إعادة معبدهم، لكنهم فشلوا وأصبحت القدس مزارًا لحجاج من المسيحيين، وفي سنة ٦١٤ فتحها كسرى وذبح تسعين ألف مسيحي، لكنه هُزم ووقع في الأسر، وما لبث أن داهمها الإسلام في واقعة اليرموك، وأمَّن عمر النصارى وبنى مسجد الصخرة وسمى البلدة بيت المقدس، وفي عهد عبد الملك بن مروان أقيم المسجد بشكله الحالي (سنة ٦٩١) لينقص من نفوذ مزاحمه عبد الله خليفة مكة، ولا يزال المسجد يحمل اسم عمر، أعقب ذلك نفوذ الفواطم الذين قسوا على المسيحيين، ثم جاء بعدهم السلاجقة ثم العباسيون، وفي ١٠٩٣ عاد الفواطم واستبدوا بالنصارى، فكان ذلك سببًا في بدء الحروب الصليبية.
ولما انتصر النصارى في الحرب الأولى اقتسموا الغنائم، وكان أفخرها كنوز المسجد والصليب الأول، وفي الثانية تغلب بطل الإسلام صلاح الدين وأسر النصارى بشهامته وحسن معاملته، وفي الثالثة هلك من خيرة شبان أوروبا وملوكها وأمرائها نحو نصف المليون أمام المسلمين، ولم يستطيعوا انتزاع القدس من صلاح الدين، ولعل أغرب الحروب الصليبية حرب الأطفال، وفيها شحن الأوروبيون سبع سفن كبيرة بالأطفال، أقلعت من مرسليا سنة ١٢١٢ إلى الأراضي المقدسة، لكن خمسًا منها رست على الإسكندرية فأُخذ الأطفال أسرى، واثنتان كسرتا وغرق من فيها.
وفي الحرب السابعة كانت خسارة النصارى بالغة، إذ أُسر ملك فرنسا نفسه في مصر.
وفي ١٥١٧ خضعت بلاد الشام ومصر لسليم الأول سلطان تركيا، وظلت القدس ملكًا للأتراك إلى سنة ١٩١٨ حين فتحها لورد اللنبي، فأضحت إنجليزية، فكأن الحكم الإسلامي ساد البلاد بين ٦٣٦، ١٩١٨.
وفلسطين اليوم قسمان: شرق الأردن وعاصمته عمان، وهي فيلدلفيا القديمة ويحكمها الأمير عبد الله، وفلسطين ويحكمها مندوب سامٍ وعاصمتها القدس التي يبلغ سكانها نحو الخمسة والستين ألفًا، ومجموع سكان البلاد كلها دون المليون، منهم ٦٧٠ ألفًا من المسلمين و١٧٥ ألفًا من اليهود و٩٠ ألفًا من المسيحيين، أما سكان شرق الأردن فدون ثلث المليون، رغم أن مساحتها ضعف مساحة فلسطين، وأغلبيتهم الساحقة من المسلمين.
في القدس
بدأت زيارتي بباب الخليل وهو أجمل أبواب أسوار القدس، وسمِّي كذلك لأن الطريق إلى الخليل يبدأ منه، وقد كتب على مدخله «لا إله إلا الله إبراهيم خليل الله»، وكان يسمى قديمًا باب المحراب، أي محراب داود، ويعتقد الكثير أن المسيح الدجال سينهزم ويذبح تحت هذا الباب، وبعد أن جزت الباب سرت في درب حجري منحدر كثير الليات يسمونه «سوق البازار»، ويحكي أسواق الغورية عندنا إلا في أرضه الحجرية المدرجة ومنه عرجنا على:
طريق الآلام
وفيه حمل المسيح الصليب الكبير وقطع به الطريق كله وقد أعياه ثقله، فوقف اثنتي عشرة مرة متوجعًا، وقد عرف القوم تلك النقط ووضعوا علامات تميزها، وفي الموقف الرابع قابلت العذراء ابنها المسيح وهو يسير إلى القتل، وفيها أقام الأرمن كنيسة، وفي المحطة السادسة تقدمت القديسة فيرنوشيا فمسحت عرق المسيح وفازت بطابع وجهه المقدس على منديلها، وفي الثامنة خاطب المسيح بنات القدس قائلًا: لا تبكوا عليَّ بل ابكوا ضحايا القدس من الشباب، وفي الحادية عشرة أُمر المسيح أن يخلع ثيابه قبل الصلب، ثم وُثِّق إلى الصليب ودُقَّت فيه أطرافه، وفي الثانية عشرة رفع الصليب وثبت في الحائط بثقوب رأيناها واضحة وإلى يسارها شق طويل مليء بالنحاس ويقولون: إنه من أثر الزلزال الذي هز العالم عند ذاك، وفي الثالثة عشرة أُنزل الصليب وتسلمت مريم جثة ابنها، وآخر النقط وهي الرابعة عشرة في قلب كنيسة القيامة، حيث دفن المسيح، ومدخلها ناعم زلق من كثرة ما لمسها من أرجل الحجاج على كر السنين، وحارس الأبواب مسلم بيده مفاتيحها ليحسم النزاع بين الطوائف المسيحية المختلفة التي تنازعت الأمر طويلًا، وقد شاهدنا داخل الكنيسة الصخر المقدس الذي غُسلت عليه جثة المسيح، وفي مقصورة إلى جواره يضيئها خمسة عشر مصباحًا من فضة حجر الرخام الذي كان يغطي القبر، فدفعته الملائكة إلى مكانه هذا وإلى اليمين المقبرة يغطيها حجر يستخدم الآن مذبحًا للقرابين، وثَم هيكل النشور الذي تجلى فيه المسيح لأمه، ومما راعنا منظر مغارة غائرة يسمونها سجن المسيح قيل: إنه سجن فيها وأجلس فوق صخرة بها ثقبان أُدخل الفخذان منهما ووُثِّقا، ثم شُحذ الذراعان إلى ثقبين رأيناهما وراء ذلك، وبعد تلك المغارة مغارات عدة سُجن فيها أتباعه، وكلها مرطوبة مظلمة رهيبة، وهناك هيكل السخرية، سخر الجند عنده من المسيح وتوجوه بتاج من شوك تهكمًا وتقريعًا، ويزين المدينة:
الحرم الشريف
أو مسجد عمر أقيم على أنقاض معبد سليمان فوق تل زيون الشهير وفوق أطلال قصر هيرود الأكبر، والمسجد في متسع ذرعه ١٤٥ ألف متر مربع على جبل «مورياه» الذي كان ملكًا لأروانا، ومنه شراه داود وهنا شرع إبراهيم في ذبح ابنه ضحية على الصخرة الموجودة هناك، وقد بنى الهيكل داود بأمر سليمان وإرشاده حوالي سنة ٩٦٦ق.م. واستحضر له المهندسين والأخشاب من لبنان، وتم بناؤه في سبع سنوات ونصف، وقيل: إنه كلف خمسين مليون جنيه، وفي سنة ٥٨٨ق.م. خرَّبه بختنصر لكن اليهود أعادوه لما أن عاد لهم الأمر سنة ٥٢٠ق.م. ثم حوله جستنيان إلى كنيسة وأقام المسلمون عليه بعد ذلك المسجد الأقصى، ولما دخل عمر القدس كان موضع المعبد أطلالًا مطمورة، فأزاحها وأقام مسجدًا مؤقتًا للعبادة أعقبه مسجد الصخرة، وللحرم الشريف سور يطوقه (١٦٠١ قدم في ١٥٣٠ في ١٠٢٤ في ٩٢٢) وفي داخله رأينا ثلاثة أبنية رئيسية: قبة الصخرة وقبة السلسلة والمسجد الأقصى، وهناك كثير من الأسبلة والمصاطب والمحاريب والقباب منثورة في غير نظام.
قبة الصخرة
تقام على مثمن قطره ١٧٧ قدمًا ولها سبعة أبواب تولي شطر الجهات الأربع، والغربي منها يسمى باب الجنة، ويصلى على الأموات فيه عادةً، بناها مروان خليفة دمشق ليظهر على خلفاء مكة منافسيه سنة ٦٩١، وقيل: إنها كلفته سبعة أضعاف خراج مصر، أما صفحات ذلك المثمن من الخارج فيكسى نصفها الأسفل بالرخام المجزَّع والنصف الأعلى بالقيشاني في ألوان عدة، أظهرها الأزرق والأخضر في إبداعٍ دونه كل وصف، وتزين الأعلى آيات الذكر الحكيم بالخط الكبير وبخاصة سورة «يس»، وقد جمَّل ذاك القيشاني سليمان القانوني، وأقام القبة نفسها الحاكم بأمر الله سنة ١٠٢٢ من خشب مرصَّع علوه ٩٦ قدمًا وقطره ٧٥، وتكسى من خارجها بالرصاص، وترفعها من داخلها أعمدة تيجانها ورءوسها بيزنطية ونوافذها مخرمة في أشكال هندسية جذابة يغشاها الزجاج بألوان تبهر النظر تتجلى من الظلام الرهيب الذي يسود داخلها، وفي جانب منها كُتب بالخط الكوفي أن مؤسسها هو هارون الرشيد سنة ٧٢ هجرية مع أنه حكم بين سنتي ١٩٧ و٢١٨، ولذلك ظُنَّ أنه محا اسم مروان بانيها الأصلي ونقش اسمه وغفل عن التاريخ.
والصخرة المقدسة ذات شكل غير منتظم طولها ٥٨ قدمًا وعرضها ٤٤، ويقال: إن النبي لما عرج إلى السماء على البراق من فوق تلك الصخرة التصقت بحوافر جواده وأخذت تصعد معه حتى جاء جبريل ودفعها إلى الوراء، وقد أشار الدليل إلى موضع أصبع جبريل واضحًا هناك، وإلى جوارها صخرة عليها طابع قدم الرسول وفوقها شعرتان من لحيته وبجوار ذلك سيفه وعلمه وعلم من أعلام عمر، نزلنا تلك الصخرة فبدا جوفها كأنه مغارة مظلمة في تجويف وسط الصخر يرن عاليًا إذا ضرب باليد، ويخال القوم أن ذاك المكان ملتقى الأرواح بعد الموت؛ ومن ثَم أسموه بئر الأرواح.
وبناء قبة الصخرة فوق مرتفع من الصخر تعلوه بدرج محيط بها من جميع نواحيها، وفي أعلى كل درج أقواس الموازين، ويقولون: إنه في اليوم الآخر ستعلق الموازين فيها لتزن أعمال الناس جميعًا، فمن رجحت موازينه فهو في عيشة راضية.
أما قبلة السلسلة فتجاور قبة الصخرة، بناها مروان كأنموذج للقبة الكبرى، وهي تقوم على سبعة عشر عمودًا رتبت في دائرتين متحدتَي المركز بحيث يمكن أن ترى كل الأعمدة في وقت واحد، ويقولون: إن سليمان الحكيم علق في هذا المكان سلسلة لكشف شهود الزور الكاذبين؛ فالصادق يستطيع أن يمسك بها، أما المزوِّر فلم يكن يمكنه ذلك؛ ومن ثَم سميت قبة السلسلة.
وذاك النجد الذي أقيمت فوقه القبتان لا شك كان موضع ضرب الغلال «لاروانا»، وفوقها أقام داود مذبحه وأعقبه سليمان، وهي مقدسة عند اليهود والمسيحيين والمسلمين معًا، وقد شراها داود بخمسين «شكلًا» من فضة من أروانا الجبوسيتية، والجبوسيت أول قوم حلوا القدس، وقد بنى داود مذبحه فوقها شكرًا لله الذي دفع عنهم شر طاعون كاد يودي ببني إسرائيل، وقد أرسل سليمان إلى حيرام ملك صور، فأمده بمهندسين من فينيقيا وزوَّده بالأحجار وخشب الأرز، وأقام أول معبد ثابت لليهود، كان آيةً في الفخامة يمثل حقًّا عظمة سليمان، وظل حتى كانت سنة ٥٨٦ق.م. حين أغار على القدس ملك بابل بختنصر فأحرقها ودمر المعبد عن آخره ونقل نفائسه غنيمة إلى بابل، وممن أسر من أنبياء بني إسرائيل «عزقل أو ذو الكفل»، وبعد خمسمائة سنة سمح كورش لليهود أن يعودوا إلى القدس ويحملوا نفائس معبدهم القديم ويقيموه من جديد ففعلوا، وفي ٤٠ق.م. جاء هيرود ملكًا على أرض يهوذا من قِبل أنطونيوس وأقام المعبد ثانية إرضاء لليهود، واستغرق إتمامه ثمانين عامًا، وفي ٦٦م قامت ثورة هائلة في القدس، وفي سنة ٧٠ أُحرق المعبد ودُمِّر عن آخره في نفس اليوم الذي دُمِّر فيه معبد سليمان من قبل.
المسجد الأقصى
إلى جنوب قبة الصخرة زرنا قبة أخرى دخلناها في بهو من أعمدة عظيمة الامتداد أدى بنا إلى قبة فاخرة مزركشة، تحتها محراب هو آية فنية ويسمونها المسجد الأقصى؛ لأنه أقصى مكان وصله الرسول بالبراق، وصعد إلى السماء وافدًا من مكة إلى الأراضي المقدسة ليلًا، وذاك المحراب مطعَّم بالعاج ترصعه اللآلئ أقامه السلطان نور الدين سنة ١١٦٨ وجمَّله صلاح الدين، وإلى جانب من المنبر قبلتان واحدة للمسيح ويظهر فيها أثر قدمه والثانية لموسى، عليهما السلام، وعلى كل جانب من مدخل المنبر عمودان قريبان كان يعتقد الناس أن من يمر بينهما يدخل الجنة، وإلا فهو من أهل الجحيم، وحدث مرة أن جاء رجل بَدِن كبير الجثة وحاول المرور من بين العمودين فحُشر ومات؛ ومن ثَم سد ما بين الأعمدة ليمتنع وقوع ذلك.
وإلى جوار الأسوار في الجنوب الشرقي إسطبل سليمان نزلناه بدرج تحت أرض الحرم، وإذا به مجموعة من أبهاء وأقبية تقوم على أعمدة كان سليمان يربط خيله فيها، وقد قلده الصليبيون ففعلوا ذلك فيما بعد، ويخال البعض أن البناء من عهد هيرود الأكبر وفي غرفة مجاورة مهد المسيح، قيل: إن مريم عرضت ابنها في المعبد عليه وإلى جانب الإصطبل فيما جاور قبة الصخرة الباب الذهبي أو محبس الجن كان يحبس سليمان فيه الجن متى شاء، ويظن أنه أقيم في مكان باب شوشان الذي بناه هيرود ولقد سده المسلمون؛ لأن هناك خرافة تقول بأن: النصارى سيغزون الحرم يومًا ويدخلون من ذاك الباب، ويجاور ذلك عرش سليمان الذي كان يجلس عليه وقبالته من الخلف جبل الزيتون الذي كان يأوي إليه المسيح للتعبد بين أشجار الزيتون، ويقول الناس: إن السراط سيمتد يوم القيامة بين هذا المكان وبين قبة الصعود قبالته فوق جبل الزيتون، وسيمسك النبي بطرف الصراط من فوق صخرة رأيناها بارزة على سور الحرم والطرف الثاني للصراط سيمسكه المسيح، ثم يمر الناس جميعًا من فوقه فمن جازه نجا، وإلا فالويل لمن هوى.
مبكى اليهود
ويسمونه أحيانًا البراق، حائط هائل خارج الباب الأوسط للحرم الشريف أقيم من كتل الصخر الكبيرة، ينبت العشب خلال شقوقها وهو الحائط الوحيد الذي بقي من معبد داود القديم؛ لذلك يتخذه اليهود مبكى لهم يأوون إليه وبخاصة يوم السبت والجمعة عند الغروب، وكذلك في أعيادهم ويقف الرجال في ركن والنساء في الآخر وهم يبكون ويرتلون ويندبون ملكهم القديم الزائل ويسألون الله أن يعيده إلى مجده السالف ومنظرهم وهم خشوع رهيب، ويزيدهم رهبة أن غالب القوم يلبسون قبعات من وبر أسود فاحم كأنها حلقات غليظة، وتتدلى شعورهم من رءوسهم ولحاهم في جدائل تسترعي النظر، ويقف جندي البوليس هناك ولا يبرح المكان لا ليلًا ولا نهارًا لأن الحائط مبعث نزاع متواصل بين المسلمين واليهود، إذ كل فريق يدعيه لمذهبه ويقدسه.
بيت لحم
قمت إليها في سيارة لأرى قرية المسيح التي ولد فيها هو وسيدنا داود، أهلها جلهم من النصارى الذين يفاخرون بأنهم يمتون بصلة القرابة إلى المسيح نفسه، وبيت لحم قرية صغيرة وسط الجبال تقوم بيوتها من حجارة بعضها فوق بعض، وأقدس مكان بها كنيسة مريم أقدم كنائس الدنيا، مدخلها وطيء لا يكاد يسمح بالدخول إلا في انحناء شديد؛ وذلك اتقاء هجمات العرب والأتراك الذين طالما دخلوها بخيلهم ودوابهم، وفي قلبها مغارة تجانبها صخرة مثقوبة في شكل نجم كبير وتضيء من فوقها المصابيح أبدًا، وهو مكان ميلاد المسيح عليه السلام، ويراقب هذا الموضع حارس مسلم ليمنع تعدي الطوائف المسيحية بعضها على بعض إذ كثيرًا ما يشجر النزاع بينهم، هنا عطرنا القسيس بماء الورد المقدس الذي تبرَّكنا به، وأنعشنا في ذلك الحر اللافح، وإلى جانب المكان بئر كانت تستقي منها العائلة المقدسة، ويقولون: إن النجم الذي هدى مريم إلى هذا المكان هوى إلى تلك البئر، وإلى اليمين رأينا درجًا نزلناه إلى هيكل الأبرياء، حيث ذبح هيرود أطفال بيت لحم جميعًا، وإلى اليسار الغرفة التي تلقى فيها يوسف الوحي ليهرب بالمسيح إلى ديار مصر.
وفي طريقنا إلى بيت لحم زرنا مقبرة راحيل أم سيدنا يوسف الصديق التي شراها اليهود من المسلمين، وهي المكان المقدس الوحيد الذي ظل في أيدي اليهود إلى اليوم.
وعلى بعد عشرين كيلومترًا من بيت لحم بلدة الخليل وفيها مدفن إبراهيم الخليل وزوجه وأولاده ويوسف الصديق وكثير غيرهم من الأطهار، على أن البلدة ألفيناها قذرة متربة ومدفن إبراهيم داخل المسجد الذي لم يكن يدخله غير المسلمين إلى أمد قريب، لكنهم اليوم أباحوا للنصارى الدخول مقابل رسم يدفعه الزائر قدره نصف جنيه، أما اليهود فممنوعون من دخوله رغم أن البلدة كلها من بلدانهم المقدسة.
جبل الزيتون
أحد الجبال التي تحيط بالقدس، ويقع شرقها، ويبلغ علوه ٢٦٨٠ قدمًا، كان المسيح يتريض فيه ويخلو بنفسه ليتعبد ويناجي ربه، ومنه دخل المقدس يمتطي حماره فانتصر وتوج ملكًا، وفي حدائق الجبل خرج عليه تابعه «يهوذا» ودل اليهود على المسيح سيده، ومن ذروة هذا الجبل صعد المسيح إلى السماء. سرنا إلى ذاك الجبل المقدس صعدًا على أقدامنا، وفي طريقنا إليه زرنا مقبرة مريم أم المسيح في مغارة سحيقة نزلنا إليها بدرجٍ عظيم رهيب، وقد أقيمت فوقها كنيسة وقد شربنا هناك من مياه بئر مريم الطاهرة، ثم مررنا بعد بمقابر لثلاثة آلاف جندي بريطاني ماتوا في الحرب الكبرى، وبعدها زرنا كنيسة ألمانية فاخرة حديثة البنيان، وفي ذروة الجبل وصلنا إلى مسجد صغير إلى جواره قبة تحتها موطئ قدم المسيح يوم صعد إلى السماء من هذا المكان، وتصف خارج القبة مذابح متعددة للطوائف المسيحية المختلفة يتسلم مفاتيحها حراس مسلمون خشية النزاع الطائفي، وفي هذا المكان يقيم النصارى شعائر «تقديسهم» وينصبون خيامهم في الموسم ويقيمون فيها حول القبة أيامًا، ولن أنسى مشهد مدينة القدس كلها من خارج تلك القبة ومن قمة مئذنة المسجد، إذ تجلت في رواء وروعة دونها كل وصف، وفي أسفل القبة على منحدر الجبل بستان ناجى فيه المسيح ربه وتعبد بينما كان صحبه نيامًا، وهنا قبض عليه اليهود وتكاد تكسو الجبل غابة من شجر الزيتون العتيق المتفرق وقد وقفنا تحت شجرة منه يقولون عنها: إن عمرها يزيد على تسعمائة سنة، وتسمى شجرة الآلام، وفوق الجبل عدة كنائس فاخرة لم يتح لي الوقت زيارتها.
إلى البحر الميت
أو بحر لوط، أقلتنا إليه سيارة الأمنيبوس فأخذنا نسير في طرق ملتوية تعلو وتهبط في مهاوٍ مخيفة، وكانت تحوطنا الربى المجدبة إلى الآفاق وبعد أكثر من ساعة ونصف بدا البحر الميت على بعد تحده من شرقه جبال «مواب» المقدسة، تجلى في بساط أملس من الماء الأزرق القاتم، وكان الإغريق والرومان يسمونه بحر الأسفلت لكثرة ما أمدهم من تلك المادة، امتداده ٤٨ ميلًا وعرضه عشرة بحيث يعادل في مساحته بحيرة جنيف، ومستوى مائه دون مستوى البحر بمقدار ١٣٠٠ قدم، فهو بذلك أحط منخفضات العالم أجمع وأعماقه سحيقة تبلغ في بعض جهاته ٢٣١٠ قدم، ويصب فيه من جنوبه نهر الأردن ويسميه الناس «نهر الشريعة الكبرى»، ورغم أنه يغذيه بنحو ستة ملايين ونصف مليون طن من الماء في اليوم فإن أملاحه آخذة في الزيادة السريعة لشدة البخر حوله حتى بلغت نسبة الملح في مائه ٢٥٪، ومن هذه الأملاح ٣٤٪ من ملح الطعام و٦٪ كلورور البوتاسا و١٪ بروميد المغنزيوم، وقد حُسب مقدار ما يحوي من أملاح وقُدِّر بنحو ثلاثين ألف مليون طن، منها ١٥٠٠ مليون طن من البوتاسا؛ ومن ثَم عدت فلسطين من أغنى بقاع الدنيا بتلك المادة، ولما ذقت ماءه كنت وكأني وضعت في فمي حفنة من ملح وملمس الماء لبك، ولقد أخذت امتياز استغلاله شركة من يهود الإنجليز، وقد مهدت النقل إليه بالأوتوبيس، وأقامت هناك مقصفين ومسبحين، وهي تعد نزلًا فاخرًا.
نزلت البحر لأسبح قليلًا، فكان يضايقني ملح الماء جدًّا إذ كان كأنه مادة كاوية في العين والفم، وكلما حاولت الغوص لم أستطع، بل كان يدفعني الماء إلى سطحه، ولما شحذت جسدي لبثت طافيًا فوقه زمنًا طويلًا، وكلما حاولت السباحة مال رأسي إلى الغوص وظل الجسد طافيًا وهذا خطر السباحة فيه، ويحق لهم تسميته بالبحر الميت؛ لأن الحياة لا تكاد توجد به قط، فبمجرد دخول السمك من نهر الشريعة إليه يموت ويجده القوم طافيًا، ونهر الشريعة ينبع من جبال لبنان ويدخل في طريقه بحيرة جليلي، ثم يخرج منها ليصب في البحر الميت، وفي هذا النهر عمد يوحنا المعمدان المسيح عليه السلام، ويوحنا هذا هو المعروف عندنا باسم يحيى بن زكريا عليهما السلام.
وماؤه كدر اللون مبيض حتى بعد ترشيحه وطعمه لا بأس به، سقانا غلام المقصف منه ماءً مثلوجًا، وقد أقمت على ضفاف ذاك البحر وفي جوار نهر الشريعة نهارًا كاملًا استمتعت خلاله رغم شدة القيظ ووهج ضوء الشمس المحرقة حوله، فهو من أشد بقاع الدنيا حرارة في الصيف.
عدت إلى القدس وقد عرجت على مدفن داود في مقبرة غائرة تحت الأرض وسط مسجد داود الذي لا يدخله إلا المسلمون، ويقال: إن سليمان مدفون معه، وقد نُقشت حول القبر الآية الشريفة: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ.
ومن أعجب ما أذكره للقدس شح مائها وندرته، فأهم مستمد للماء هناك أحواض يُستقبل فيها مطر الشتاء لإمداد البلدة، فإذا ما أقبل الصيف نضبت تلك الأحواض فكان المستمد الوحيد «برك سليمان»، إلى جانب بيت لحم تطلق منها المياه مرتين في اليوم لتسير في أنابيب تؤدي إلى صنابير الطرق في القدس، وكنت أدهش لتزاحم القوم حولها قبل ميعاد فتحها بساعات وبيد كل منهم «تنكة» ينتظر ليملأها بثمن يكاد يفوق ثمن النبيذ الرخيص هنالك، وكثيرًا ما سمعتهم يقولون: إن النبيذ أرخص لديهم من الماء العذب، وفي كل بيت تجد موضعًا لادخار ماء المطر شتاءً، وفي البيوت الكبيرة يبتاعون الماء بسعر المتر المكعب ثمانية قروش؛ لذلك اعتاد القوم الشح الشديد في الماء وعدم الإسراف فيه حتى إن متوسطيهم لا يغتسلون إلا مرة في كل شهر مما جعل رائحة سوادهم منفرة.
إلى يافا
أقلني إليها الأوتوبيس في نحو ساعة ونصف أو يزيد، فسرنا في طرق معبدة جميلة تلتوي في صعود وهبوط لا يكاد يتصوره العقل، والطريق رغم طوله الهائل ولياته التي تكاد تكون معقوفة على بعضها في مواضع عدة كله بالأسفلت وجوانبه بالحجر وله حواجز بالبناء مما يشهد للإنجليز بالفضل الكبير والعناية الفائقة في تعبيد الطرق، فكأنهم الرومان في زمانهم حين عرفوا أن الطرق خير وسيلة ترتبط بها أطراف إمبراطوريتهم، وبخاصة في زماننا الذي سادت فيه السيارات، ولما أن قاربنا جانب يافا كثرت منابت الزيتون والفاكهة وبعض الغلال كالذرة والشعير الذي يرويه القوم من مياه الأمطار والينابيع، وكنا نشاهدهم يدرسون الغلال على الطريقة المألوفة عندنا، وكانوا أحيانًا يسوقون طائفة من البهائم تدور حول الجرن وهي تدوس السنابل بحوافرها.
واسترعت أنظارنا بلدة «الرملة» الكبيرة، اسمها القديم «أرام» ويقال: إنه مدفون بها ثلاثمائة من الأنبياء والصديقين، وبعدها غصت المزارع بأشجار البرتقال في كثرة هائلة أيدت شهرة يافا به، وأخيرًا دخلنا المدينة وإذا بها ربوة مشرفة على ميناء آمن لكن تعوزها النظافة والجمال، ورغم قدم البلدة لم يبقَ الزمن بها من أثر وهي في الأقاصيص المكان الذي ابتلع فيه الحوت سيدنا يونس، وهي التي وهبها أنطونيوس لكليوباترة دليلًا على حبه لها، وكان لها شأن مع صلاح الدين وقلب الأسد وكذلك مع نابليون بونابارت.
وجل سكانها من المسلمين وتجاورها ضاحية جديدة تسمى «تل أبيب» في فلات أنيقة وتؤدي طرقها في منحدر خفيف إلى البحر، حيث أقيمت الحمامات، وكل سكانها من اليهود، ولقد طنطنوا في وصفها فخلتها جنة نادرة المثال على أني ألفيتها عادية.
ولقد استرعت نظري حركة هجرة اليهود إلى أرض فلسطين ونشاطهم في إقامة مستعمرات في كل مكان هنالك حتى بلغ عددهم اليوم هناك مائة ألف نفس، مع أنهم منذ مائة سنة لم يزيدوا على ثمانية آلاف، ولقد نبتت فكرة الوطن القومي لديهم منذ ذاك الحين، فأخذت الهجرة تزيد إلى فلسطين من جميع الآفاق، وساعدهم كثير من مموليهم أمثال رتشلد على شراء متسعات من الأرض الزراعية حتى زادت مساحتها اليوم على مائة وعشرين ألف فدان في الريف، لكن لا يزال سوادهم في المدن الكبيرة، ففي القدس ٣٥ ألفًا، وفي يافا ٢٠ ألفًا، وكثير منهم في حيفا وطبرية وصفد والخليل، وفي تل أبيب وحدها أكثر من عشرة آلاف، على أن اليهود لا يكونون أغلبية إلا في القدس فقط، أما في سائر البلاد فهم أقلية بالنسبة للمسلمين، وإنجلترا اليوم جادة في خدمتهم ومعاونتهم على جعل البلاد وطنًا لهم، لكن ذلك دفع المسلمين والمسيحيين أن يتضامنوا لمقاومة ذلك، وكانت روح الكراهية والأهبة للقتال بادية لنا هناك، وقد تجلت لنا في معاكسة اليهود للمعرض العربي الذي أقيم هناك، وكانوا معتمدين على الحراب الإنجليزية؛ لذلك لم أعجب لما قرأته عن الانفجار الأخير الذي رج البلاد وهدد بمتابعة الثورة حتى توقف حركة اليهود، لكنها سياسة التفريق والتظاهر بمعاونة الأقلية هي التي تلعب دورها في الشرق الأدنى كله، خصوصًا وأن أمل إنجلترا معقود على المقام في فلسطين بعد أن بدا الضعف في مركزها بمصر والعراق، فقامت تشيد الحصون وتقيم المين للأساطيل، وبخاصة في حيفا، وتحرض اليهود على الهجرة إلى هنالك؛ لأنهم أطوع لها من الأعراب الذين أوتوا من العصبية وروح المقاومة شيئًا كثيرًا، ولقد اتبعت الحكومة خطة إجلاء الأعراب عن أملاكهم بالقوة وهم يبيعون أطيب الأراضي لليهود بثمن بخس، وكانت تلك المستعمرات تبدو في حدائقها ومزارعها اليانعة طيلة طريقنا إلى شمال فلسطين والحكومة تأتمن اليهود وتطمئن لهم في غالب الوظائف والشئون الحربية، وهي لا تتوانى في منحهم كثيرًا من الامتيازات المالية والتجارية، وساعدهم على ذلك كثرة أموال اليهود واستعدادهم لإنفاقها في هذا السبيل، لكن المسلمين والنصارى حانقون جد الحنق على ذلك والحكومة تحاول إغراء العرب أن يتوطنوا في شرق الأردن تلك الجهات المجدبة التي هي إلى البادية القاحلة أقرب.
إلى دمشق الشام
قمت إليها في سيارة قطعت بنا ٣١٥ كيلومترًا فأخذنا نسير في طرق معبدة جميلة وسط الربى اللانهائية، وقد وقفنا زمنًا في نابلس، تلك البلدة ذائعة الصيت في صناعة الزيوت والصابون بفضل كثرة أشجار الزيتون التي بدت لنا كالغابات حولها، وكذلك لأن تربتها غنية بالصودا وهي بلدة كبيرة تقوم مبانيها بالحجارة كسائر مباني فلسطين، والمدينة إسلامية بحتة إلا أن بها طائفة من اليهود هم:
السامريون
ويدعون أنهم من نسل يعقوب ولهم مذهب خاص ولغة عجيبة يؤدون بها صلواتهم فوق جبلهم المقدس «جريزيم» في جنوب نابلس، وهم يعتقدون أن سيدنا إبراهيم قدم ذبحه فوقه؛ ولذلك يقدمون الذبائح من سبعة حملان ذات لون أبيض، وعند سلخها ترش بالملح؛ لأن القرابين لا تقبل في زعمهم دون أن تكون مملحة، وتشوى شاة فوق البقعة التي قدَّم فيها إبراهيم الخليل ذبحه، وهم يحرمون الأنصاب والصور التحريم كله، والعجيب أن عددهم لا يزيد على مائة وخمسين، وقد لبثوا محافظين على شخصيتهم ومذهبهم من عهد سيادة مملكة بني إسرائيل منذ ٢٥٠٠ سنة، ولعلهم أقدم الفرق الدينية في العالم، وقد أبوا أن يختلطوا بالمصاهرة مع غيرهم من اليهود، فحفظوا سحنهم الخاصة التي رأيناها في شوارع نابلس، وكاد يؤدي بهم ذلك إلى الانقراض وهم يقولون بأن مدينة القدس هي نابلس، ولا يعرفون حرمة لبيت المقدس ولا يعظمونه، ولهم توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود، ويبطلون كل نبوة كانت في بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام وبعد يوشع عليه السلام، فيكذبون نبوة داود وسليمان مثلًا، ولا يقرون بالبعث البتة وهم لا يستحلون الخروج من الشام أبدًا، وهم يزعمون أن التوراة التي بأيدي سائر اليهود محرفة، أما تلك التي بأيديهم فأصلية، على أنهم لا يخرجونها للناس أبدًا ويقولون بأن الله أمر داود أن يبني بيت المقدس في جبل «غريم» أو جبل نابلس، وهو لديهم الطور الذي كلم الله فيه موسى فخالف داود الأمر، ويقولون بأن التورة نزلت بلغتهم وهي قريبة من العبرانية ثم نقلت إلى السريانية.
عرجنا بعد ذلك على الناصرة، وهي البلدة التي مضَّى فيها المسيح طفولته، لذلك كانت مقدسة عند المسيحيين وكثرت فيها الكنائس وكان سواد سكانها منهم، وبعدها أخذنا نتسلق ربًى كانت تشرف على البحر الجليلي العذب، وفيه يصب نهر الشريعة من جانب، ويخرج من الآخر وهو النهر الذي عمد فيه المسيح عليه السلام. هوينا إلى ذاك البحر، ويسميه بعضهم بحر طبرية، ودخلنا بلدة طبرية التاريخية التي تقع عليه، وهي مدينة رومانية أقيمت على تلك البحيرة وغالب مبانيها من الحجر الأسود الذي يكثر حولها، وكانت من الحواضر الرومانية، وبها قلعة قديمة رأيناها مشرفة، ولقد تناولنا الغداء على ضفاف ذاك البحر التاريخي المقدس. ثم قمنا مودِّعين أرض فلسطين تلك البلاد المقدسة التي لا يكاد يمضي أسبوع بدون أن تقام بها حفلة دينية للمسلمين أو المسيحيين أو اليهود، وبعض تلك الأعياد مشتركة، أذكر من بينها زيارة النبي موسى الذي يحج أهل جميع الأديان إليه فوق التلال شمال البحر الميت، حيث مات سيدنا موسى، والبلاد لا تكاد تخلو يومًا من الغرباء الذين يحجون إليها من كافة الأديان، حتى عاون ذلك كثيرًا على ماليتها الفقيرة، وأول ما عرف الإنسان تلك البلاد كانت تحمل اسم «بليشيت» في نطاق ضيق بين جبل الكرمل «غرب حيفا» والساحل وحدود مصر، وكان يقطنها شعب غير ساميٍّ اسمه فلشتم أو فلسطين، ثم أطلقت الكلمة على البلاد التي نزلها اليهود.
اجتزنا نهر الشريعة عند منطقة الحدود بين فلسطين وسوريا والنهر نحيل ماؤه ضحل جلسنا على ضفافه حتى فُتِّشت أمتعتنا وفُحصت جوازاتنا وبعدها كنا نسير في أرض سوريا شبه الصحراوية التي كانت تنتثر بالحصى الأسود ولا يكاد ينبت بها زرع؛ لذلك بدا الإقليم أكثر جدبًا من سابقه، وهنا أخذنا نجوز تلال حطين التاريخية ثم تلال:
الدروز
وتزيِّنها قراهم الفقيرة، وهم قوم شداد البأس غالبوا الفاتحين، وآخرهم الفرنسيون، ويقال: إنهم يعبدون الشمس ويعتقدون في تناسخ الأرواح وأن روح القتيل تدخل جسدًا غيره وهذا مشجعهم على لقاء الموت، وقد حدثني القوم أنهم كانوا يهاجمون المدافع ويمسكونها بأيديهم مستهينين بالموت، وهم لا يحزنون عند موت أحدهم لاعتقادهم في بقاء روحه، ويقول البعض: إنهم يعبدون الحاكم بأمر الله، ويرون أن الله خلق عددًا محدودًا من الأرواح الآدمية تحل بعد الموت أجساد المواليد الجديدة.
ولا يشربون إلا الماء واللبن، ولا يأكلون إلا ما ينتجونه من أرضهم وقطعانهم، ويلبسون من غزل أيديهم، وهم يتعبدون خفية فلا يراهم أحد، وينتشرون في قراهم الممدودة بين جبل الكرمل والبحر الجليلي.
بدا الطرف الجنوبي لجبال لبنان في ربًى جافة مغبرة وقد لمحنا بقعًا منثورة من الثلج الأبيض فوق الذرى، وهو الذي يغشى الجبال كلها في الشتاء، ومن مصهور الثلج لاقينا جدولًا نحيلًا كأنه الثعبان في لياته المعقوفة، وهنا بدأت الخضرة وعمت المزارع، ثم باغتنا منظر دمشق إلى شرق الجبل وكأنها غابة مغلقة في وهدة تقوم من حولها النجاد الجافة وبخاصة من الغرب.
دمشق
دخلنا الشام كما يسمونها وهي أقدم مدن الدنيا، إذ لا يعرف متى بدأت ويرى القوم أن عادًا أول من نزلها وأنها إرم ذات العماد، ومنهم قائل بأن منشئها نمروذ أو دمشاق بن كنعان، وبعضهم قال: إن أول من بناها دمشقس مولى الإسكندر، وبعضهم ينسبونها إلى الروم، وهذا يكذِّبه ورودها في التوراة على لسان موسى الكليم على أنها قديمة صحبت ملوك كنعان والروم وآل جفنة وبني أمية، وقد هدم أبو جعفر كل مخلفاتهم فيها فلم يبقَ إلا النادر.
وأول ما استرعى أنظارنا فيها كثرة المعسكرات الفرنسية التي تحوطها، هذا إلى كثرة أنواع الجند، وفضلًا عن أبناء البلاد رأينا جنود الفرنسيين والسنغاليين والمغاربة؛ مما يشعر بأن فرنسا لا تزال قلقة على مركزها في تلك البلاد المضطربة، يؤيد ذلك ما سمعناه مرارًا من أن فرنسا تفكر في التنحي عن الانتداب، لأن بقاءها يكلفها غاليًا، فأغلبية البلاد الساحقة تقاوم الانتداب ولا ترغب إلا في الاستقلال، ولقد انفجرت البلاد في سنة ١٩٢٢ محاولة طرد الفرنسيين، فأعمل الفرنسيون قنابلهم في البلاد وهدموا منها الكثير، وفي دمشق حي كامل متهدم يسمى «الميدان» كان مخبأ الدروز والمسلمين وقد اتفقوا على محاربة الفرنسيين، وظلوا يقاومونهم أربع سنين، كلفت فرنسا مائة ألف جندي ومبالغ طائلة من المال، وقد قص القوم عليَّ عجبًا في مقاومة الدروز لفرنسا. حدث مرة أن القائد الفرنسي قام بعشرين ألف جندي ليؤدب الدروز في جبالهم فلم يرجع من الحملة جندي ولا دابة، ولم تستطع فرنسا أن توغل في البلاد بعض الشيء إلا باستهواء طائفة من المارقين وجلهم من غير المسلمين، وأخذت تساعد على نشر الملاهي وتستميل القوم بالمال والنساء، ولقد حدثني شيخ عن مبلغ الفساد وانتشار الرشوة، وقال بأن صاحب الحاجة لا يقضي طلبته إلا بأحد أمرين، المال والنساء، وقد لاحظت كثرة المراقص ودور الملاهي الفرنسية في كل أرجاء البلاد.
والشبان مندفعون في تيارها وتلك طريقة لا شك تنال من الأخلاق كثيرًا وتنسيهم واجبهم القومي، ولقد بدا الفرق عظيمًا في تلك الناحية بين دمشق والقدس، ففي القدس لا يباح التبرج ولا البغاء مطلقًا، ودهشت مرة لما رأيت دلَّالًا في سوق البلدة يطوف «بفنوغراف» ليبيعه فاستوقفه رجل البوليس وخبَّره أن إدارته في الطريق أمر غير مباح في ذلك البلد المقدس.
حللت نزلًا وسط الميدان الرئيسي لدمشق يسمونه «ميدان مرجه» يتوسطه عمود تذكاري وإلى جانب منه نهر صغير يشق البلدة ويسمونه بَرَدَى أو «أبانا» ماؤه ضحل آسن ولا يلبث النهر أن يختفي بمائه الضئيل منسابًا تحت أرض المدينة وشوارعها مسافات طويلة، وقد رصفت جوانبه الظاهرة بالحجارة وأطلت عليه فخر المباني وبخاصة الحكومية، والميدان يعد مركز حركة النقل من ترام وغيره وإلى ورائه شارع النصر، وكان اسمه من قبل شارع جمال باشا، يتوسطه متنزه مزدوج تصف فيه المقاعد ويؤدي أحد طرفيه إلى سوق الحميدية ولعله أجمل نواحي المدينة وأكثرها حركة يحكي الموسكي عندنا، وسقفه مقبَّى في بوائك من حديد يكسوها الزنك وقد عرجت هناك على فرع بنك مصر لأصرف بعض النقود. والسوق ينتهي ببعض البوائك الأثرية في الهندسة البيزنطية التي أدت بنا إلى:
المسجد الأموي
دخلته فراعتني فخامته وفسيح أبهائه ودقيق نقوشه، فهو حقًّا مفخرة فنية إسلامية تتوسط فناءه الرئيسي نافورة أنيقة للوضوء، وفي جانب منه مدفن رأس الحسين تجاورها شعرتان من لحية الرسول، وخارج الحجرة طاقة من فضة مزركشة يسمونها خزانة يزيد بن معاوية، وما أن دخلت الليوان الرئيسي الداخلي حتى وقفت مبهوتًا من عظمة ما رأيت بوائك شاهقة تتوجها أقبية صغيرة كسيت بالقيشاني الأزرق البديع تمتد إلى قصارى مسارح النظر، وتزين الجدران نقوش يحار فيها اللب، أما المحاريب والمنبر فمن مقصوص الرخام المطعم في إسراف كبير. وفي وسط كل هذا مدفن سيدنا يحيى والمسجد أصله معبد روماني حوله المسيحيون كنيسة ماري حنا، ثم جاء المسلمون فأقاموه مسجدًا تزينه عدة منارات مختلفة الهندسة، وكان ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك كلفه ١٤٤ قنطارًا من الدنانير أي نحو عشرة ملايين دينار، وكان المتولي على النفقة عمر بن عبد العزيز قبل أن يلي الخلافة، وكان في ذلك المسجد ستمائة سلسلة من ذهب تعلق فيها المصابيح، وزينت جدرانه بالفصوص والذهب الخالص، وقد كُتب عليه بالذهب على اللازورد «ربنا الله لا نعبد إلا الله، أمر ببناء هذا المسجد وهدم الكنيسة التي كانت فيه عبد الله بن الوليد أمير المؤمنين في ذي الحجة سنة سبع وثمانين» ويقولون: إن الصلاة فيه بثلاثين ألف صلاة.
قبر صلاح الدين
في ناحية منزوية من الحي الذي بجانب المسجد الأموي قادني الغلام وسط أزقة حقيرة إلى قبة غير ذات بالٍ حولها مجموعة من شجر في غير تشذيب، لا تكاد تسترعي نظر المارة قط وقال هنا مقر صلاح الدين بجانبه قائده نور الدين، فوقفت خَجِلًا مبهوتًا، وقلت في نفسي أهذا الضريح يناسب مقام بطل الإسلام الذي اعترف له بالفضل حتى ألد أعدائه وضربوا المثل بعظمته وشهامته! إنها والله لوصمة عار في جبين الإسلام أن يكون جزاء حاميه هكذا. وممن يدفن في دمشق معاوية نفسه.
المتحف
وإلى جوار المسجد الأموي دار قديمة أقيم بها متحف الآثار وهو على صغره مقسَّمٌ إلى ثلاث غرف، الأولى للآثار العربية، وبها مجموعة قيِّمة من أسلحة وأحجار ولعل أجمل ما بها مجموعة النقود التي أهداها تيمور المصري، وتحوي نماذج من أغلب نقود الخلفاء كلهم، وقد استرعى أنظارنا دينار هارون الرشيد وصلاح الدين وعبد الملك بن مروان وأعجبها دينار فيصل الذي سكه يوم حكم سوريا وظن أن ملكه سيدوم، ولم يظهر من هذا الدينار سوى أحد عشر فقط، إذ لم يدم ملكه أكثر من ستة أشهر.
وفي الغرفة الثانية مجموعة من الآثار الإغريقية والرومانية. وفي الثالثة خليط من آثار بابل وأشور والكلدانيين وغيرهم، وأمام المتحف دار الكتب العربية، وبها مجموعة قيِّمة من المخطوطات رتبت في صنوف مختلفة من التفسير، والتوحيد، والحديث، والجغرافيا، والكيمياء، إلخ، وبها حجرات أعدت لمن أراد الاطلاع من الناس جميعًا.
وفي المدينة كثير من البيوت الأثرية القديمة على الطراز العربي والتركي أجملها دار العظم، فناؤها فسيح تتوسطه نافورة جميلة وتطل عليها حجرات وليوانات من رخام رصع في نقوش عربية ساحرة.
ومن الطرق التي تروق السائح كثيرًا الشارع المستقيم؛ سمي كذلك لأنه يمتد وسط البلدة القديمة كلها من باب الشرق وهو جزء من السور القديم إلى ما يجاور سوق الحميدية، ولكنك تدهش إذ تجده ملتويًا وفي غير استقامة، ويسميه الناس أحيانًا شارع مدحت باشا، ونصفه المجاور لسوق الحميدية شبيه بالسوق في تقوس سقفه وانتظام المتاجر حوله، أما باقيه فأزقة لا شأن لها، على أنه يروقك ما فيه من بيوت قديمة وصناعات يدوية دقيقة، وفي آخره زرنا مصنع النحاس «للنعسان»، وهو أشهر مكان في دمشق في أشغال النحاس المثقل بالفضة في نقوش ومخطوطات جميلة، وتلك شهرة لدمشق من قديم، وغالب طرق البلدة ترصف بالحجارة الصغيرة التي تؤلم الأقدام في السير، وهي حجارة من بازلت أسود عظيم الصلابة يكثر مستمده حول المدينة.
وفي دمشق خمسة خطوط للترام واحد يؤدي إلى الميدان وهو اليوم مكان خرب من أثر قنابل الفرنسيين، وآخر إلى ناحية يسمونها «دوما» على بعد خمسة عشر كيلومترًا نصفها الأخير بساتين يانعة ممدودة ثمارها دانية تتوسطها المقاهي، ولك أن تتناول من الفاكهة ما طاب لك بدون حساب أو رقيب، وكان شجر المشمس إذ ذاك مثقلًا بثمره في أنواع قد تفوق الاثني عشر في حلاوة ومذاق شهي، ولعل أجمل ناحية «المهاجرين» وهي على ربوة تشرف على دمشق كلها، فيبدو المنظر ساحرًا، هناك جلست على مقهى فأسرع الرجل إليَّ يقدم كوب ماء مثلوج وإلى جانبه كأس صغيرة «بيشة» في قرارها قطرات من القهوة «السادة»، وتلك من آدابهم في تحية القوم ثم طلبت الشاي الذي أنعشني وسط تلك الجنة الخلابة، والحي مسكن الطبقات الراقية، كله بيوت مشيدة من الأحجار في جمال وجدة والمارة يسيرون في وقار، والنساء محجبات بقناعٍ أسود ثقيل ويرتدين ملاءات على النظام المصري السابق والرجال مختلفو الأزياء المتقدمون في السن مطربشون يلبسون «القفاطين» عليها «الجاكتة» والشبان في حللهم الغربية بعضهم بالطرابيش والبعض بالقبعات، والعامة في سراويلهم الثقيلة المنتفخة والأحزمة العريضة والكل مؤدبون وهم أهل كرم وميل إلى اللهو، وخصوصًا يوم السبت والأحد، حيث لا يشتغلون إلا بالمجون والتهتك، وتلك سمعة البلدة من قديم حتى منذ عصرها الذهبي وهو العصر الأموي، فهي كانت عاصمتهم، ولما انغمس أولئك في ملاذها دالت دولتهم على يد الوليد بن يزيد.
وهم يحبون المصريين إلا أن في حديثهم شيئًا من الجفاء فمثلًا، سألت أحدهم عن ترام لجهة خاصة وكان قريبًا فنظر إليَّ مقطبًا وقال: هيك بتشوف الرقعة بتشوف الرقعة! في نغمة آلمتني.
ومظهر دمشق بل وبلاد الشام جميعًا إسلامي بحت، إذ أغلب القوم من المسلمين، وقد تجلَّى هذا المظهر ليلة مولد النبي، فلقد قصدت المسجد الأموي لصلاة العشاء، فكان غاصًّا بالناس على سعته، وبعد الدعاء خرج الجميع في مظاهرة يتقدمها الشباب يحملون السيوف والأعلام والعصي، وكان بعضهم يصيح بالأدعية الدينية والبعض بالنداءات الوطنية مثل: (ابن سوريا ما بيهان! الحرية والاستقلال!) وانتهوا إلى ميدان مرجة ووقفوا يهتفون طويلًا أمام دار الشرطة، ثم ساروا إلى دار مجلس الوزراء وهتفوا طويلًا، ولم يتدخل البوليس حتى انصرفت المظاهرة بسلام، وكانت تزين أضواء الكهرباء دور الحكومة كلها وتطوق أبواب المتاجر أقواس من أغصان الشجر وسطها الثريات، وتكسى الجدران كلها بالبسط «السجاد» في كثرة تسترعي النظر، وفي التاسعة مساء آويت إلى النزل، وإذا فيه مهرجان لقراءة قصة المولد، وكان يحضرها حفل حاشد، وتلك عادتهم في كل بيوتهم وغالب فنادقهم، فأعجبني ذاك المظهر الإسلامي وشدة محافظة القوم على تقاليدهم أكثر مما نراه عندنا، وفي آخر الحفلة طافوا علينا يرشون ماء الورد ويقدِّمون أكياس الحلوى.
والمعيشة في بلاد الشام رخيصة، ولعل الأجنبي يلاحظ ذلك أكثر من ابن البلاد لأن الجنيه الإنجليزي كان يساوي ٤٣٠ قرشًا سوريًّا أي نحو أربعة ليرات سورية وربع، ووجبة الطعام التي كنت أدفع فيها عشرة قروش مصرية من أفخر الأكلات الشهية، حدث مرة أني اشتهيت «الكباب» فدخلت أحد المطاعم، وجاء الغلام يقول: طلبك خيو. فقلت: كباب وكفتة ولعل الكفتة عندكم شهية؟ قال: أكتير شلبية! قلت: هات لي نصف رطل. فوقف الرجل دهشًا، فكررت عليه الطلب، فجاءني يكدِّس أمامي مقدارًا هائلًا من اللحم هو رطلان ونصف، فقلت: ما هذا كله؟ قال: نصف رطل. وعلمت أن الرطل السوري يقارب خمسة أرطال مصرية، فأكلت ما يقارب أوقية على حسابهم، وتركت الباقي وهو ثلاثة أرباع ما قُدِّم لي، ولم يكن ثمن كل هذا كبيرًا، إذ طلب مني اثني عشر قرشًا مصريًّا.
وفي مطعم آخر قرأت قائمة الأطعمة، فتخيرت الأسماء الغريبة التي لا أعرفها كي أجربها، فكان الصنف الأول «مألوبي شامي»، أي مقلوبة شامي، فجاءني الرجل بطبق من الرز أُغرق في لبن حامض وفي وسط ذلك نثير اللحم، فذقته وإذا به منفر، وكان الصنف الآخر «بقلى» وإذا بها الباقلة الحمقاء «الرجلة» التي أحبها فوليت صوب الحلوى، وطلبت صنفًا اسمه «بوظة شامي» فأسفرت عن «دندرمة» من الفستق والشمام والبطيخ مختلطة، فكانت منعشة نوعًا، ولو أني لا أشتهي «الدندرمة» كثيرًا، فقلت في نفسي كفاني فأنا اليوم غير موفق في الطعام، فلأطلب بعد اليوم من الأصناف ما أعرفها.
غادرت دمشق تلك البلدة التي تموج بنحو ربع المليون من السكان في أزيائهم المختلفة وسحنهم الجميلة، وإن أفسد هذا الجمال منطق منفر ممطوط وروح تعوزها الرشاقة والخفة، قمنا صوب:
بعلبك
مسيرة مائة وعشرين كيلومترًا بالسيارة سلكناها في طرق ملتوية واسترعى نظرنا في الطريق قبر «العظم» من قواد السوريين الذين قُتلوا في الحركة الوطنية في هذا المكان، هنا دخلنا حدود لبنان الكبير. وفرنسا تقسم إدارة البلاد قسمين: سوريا وهي جمهورية لها رئيس وطني تحت إشراف فرنسا، وتلك خطوة أُرغمت عليها فرنسا لما رأت من شدة مقاومتهم لحكمها، أما القسم الثاني فلبنان وعاصمته بيروت، وتلك ولاية فرنسية لم تُعطَ من المنح ما أخذته سوريا، وفي أكثر من نصف الطريق مررنا بزحلة إحدى المصايف الهامة، وكانت تكثر حولها المزارع الوفيرة الثمر، فأرجأنا زيارتها حتى نعود وأخيرًا دخلنا.
بعلبك
آخر الآثار العظيمة لروما الوثنية وعلى مقربة من نهر العاصي، وهي قرية قديمة ليست بذات بال، اتخذها الروم محلة لأن موقعها صحي إلى جانب نبع ماء كبير يتفجر من تحت شرفات الصخر في غزارة هائلة، فيتجمع في نقيعة ممدودة أقيمت عليها المطاعم التي تناولنا فيها الغداء الشهي، واستمتعنا بهوائها البارد المنعش العليل؛ لأن البلدة تعلو البحر بنحو ١١٢٠ مترًا تقريبًا، وأجلُّ ما يزوره المرء بها الآثار الرومانية التي أقاموها في هندسة خليط من الرومية والبيزنطية، ويقولون: إن الذي بنى المدينة في الأصل سليمان بن داود، ولما جاء الروم جدَّدوها، وكان «بعل» معبودًا فيها من الصابئة الذين بنوا هذا الهيكل ليدلُّوا على اقتدارهم وهو الذي يقول الله تعالى فيه: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ، ولما ظهرت المسيحية وأيَّدها الروم أخذوا في تخريبه مخافة أن يُفتَن الناس به لأنه كان أفخم من كنائسهم، رأيناه فراعتنا فخامته وبخاصة معبد «جبتر بعل» بقي من عمده الأربعة والخمسين ستة فقط تشمخ في الجو في علو ستين قدمًا ومحيط تيجانها ٢٢ قدمًا، وقد نُقلت صخورها من محاجر البلدة التي تبعد عن المكان بنحو كيلومتر، وهناك بعض أعمدة من رخام استُحضرت من مصر؛ مما أيد مبلغ جبروت القوم وتقديسهم لآلهتهم وكم قاست المعابد من مغيرين حاولوا تدميرها وزلازل أوشكت أن تدكَّها، لكن ما بقي من تلك الآثار يؤيد صمودها لمختلف الديانات التي تعاقبت عليها في أزمنة كانت العصبيات الدينية آخذة من الناس كل مأخذ، ولقد أشار قدماء المصريين والأشوريين إلى بعلبك في آثارهم، وأسموها «بلبيكي» مقر عبادة «بعل»، وجاء الإغريق وألفوا بين الإله بعل وإلهتهم «هيليوس» وأسموها «هليوبولس»، ولما تملَّكها الروم ألَّفوا بين «هيليوس» و«جوبتر»؛ ومن ثَم خصوا المعبد الرئيسي بجوبتر إله هليوبولس، وانتشرت عبادته حتى في إيطاليا نفسها، والذي شاد تلك المعابد التي أثارت إعجابنا هو «أنطونيوس بيوس بين ١٣٨، ١٦١م» ولقد أذكرتني تلك الآثار الشامخة بمخلفات أجدادنا التي نطاول بها الأمم، ففي جدران البناء رأينا صخورًا هائلة طول الواحد ٦٤ قدمًا، رفعت إلى علو ٢٣ قدمًا، فعجبنا كيف أمكنهم رفع هاتيك وفي المحاجر المجاورة للبلدة رأينا صخرًا قُدَّ في الجبل كأنه المسلة العظيمة، لكن لم يتم القوم استخراجه كالمسلة التي رأيناها في محاجر الجرانيت بأسوان، وطول هذا الصخر سبعون قدمًا وزنته ألف طن، ولما جاء العرب أقاموا بالمدينة عدة مساجد من الصخور والأعمدة التي انتزعوها من تلك المعابد، ولا يزال جانب من المسجد الكبير يُرَى ببوائكه وأعمدته إلى جوار تلك الآثار وفي قرية بجوارها اسمها «كرك نوح» قبر سيدنا يعقوب.
زحلة
مدينة أنيقة من أشهر مصايف لبنان تحل مأزقًا من وادي تحوطه الجبال وتتدلى منها سيول الماء في كل مكان وتقوم على المنحدرات الفلات البديعة بسقوفها الحمراء المنحدرة ويتوسطها النبع الرئيسي، وقد قُدَّت في الجبال طرق ملتوية بعضها يعلو البعض حتى يبلغ بنا الذرى، ويكاد الشجر والنبت يسد الوادي سدًّا، وأينما سرت أو جلست أطربك خرير الماء وراقك منظر هداراته، ومن النبت البري ما له زهور جذابة ورائحة عطرية، واسترعى نظري شجر الجوز الضخم عريض الورق، فكان يحكي شجر المطاط، وكان يحمل وسقًا ثقيلًا وإذا نضج أزاح القوم قشره الخارجي لتُتَّخذ منه الأصباغ، وما بقي هو الجوز الذي يباع في أسواقنا ولورقه رائحة عطرية هادئة تعطر اليد إذا لمسته وتعبق المكان إذا وضعت فيه، وقد نسق القوم جوانب الوادي وضفافه وأقاموا عليها الأنزال التي يبلغ عددها أربعة عشر والمطاعم والمقاهي التي لا يحصيها العد، وتفننوا في حبس الماء الدافق وتحويله إلى قنوات تسير يمنة ويسرة، فأينما جلست كانت المساقي تنساب تحت قدميك وطعم مائها لذيذ كأنه مثلوج وأنت تشرب منه المرة تلو الأخرى دون أن تشعر بامتلاء ويقولون: إنه مصلح للمعدة لما حوى من المركبات الجيرية المفيدة، وكم أعجبني نشاط القوم وعصبيتهم، فكل المشروعات في أيديهم، قاموا فحبسوا الماء في جهات عدة وأداروا به الهدارات المولدة للقوة، بعضها يستخدم لطحن الغلال والبعض للإضاءة الكهربائية والبعض لعمل الثلج والبعض للسقي، ولا تكاد ترى وسطهم أجنبيًّا وقد كان الوادي مهمَلًا، وهو من أملاك اليسوعيين شروه بجنيهات قليلة لكنهم اليوم يستغلونه استغلالًا مدهشًا، فإيجار الفندق الواحد قد يناهز ألف جنيه في العام، وغالب سكان البلدة من المسيحيين والتعليم في أيدي المبشرين. وجو البلدة منعش أميل إلى البرودة حتى كنت أشعر وكأني في شتاء مصر؛ لأن علو البلدة فوق تسعمائة متر والمعيشة فيها رخيصة، فلو أني أرغب في مقام هادئ لما آثرت على زحلة غيرها لما فيها من طبيعة غنية وهدوء شامل وجمال ساحر وهواء منعش وماء شافٍ سلسبيل. ولرواد الجبال هناك مجال عظيم، فللتسلق غرام لا يُقدِّره إلا هاويه، علمت بأن النبع الرئيسي للجدول (ويسمونه أم العين) يهوي في شلال علوه ٢٤٠ مترًا، فقصدته وإذا المرتقى إليه وعر يكاد يكون عموديًّا، لكن منظر الماء وهو يهوي ويتعثر على نواتئ الصخر في شلال هائل أغراني أن أصعد، وبعد لأي كنت في ذروته وإذا به يخرج من قلب الصخر السماوي في اندفاع مخيف.
إلى حلب
غادرنا زحلة بالقطار الساعة العاشرة صباحًا صوب حلب، فوصلناها في ثماني ساعات، وكانت الطريق أشبه بسهلٍ جافٍّ إلا في بقاع نادرة يزرع القوم فيها الغلال وبخاصة الشعير والقمح، وأكبر البلدان التي مررت بها: حمص: وهي مدينة كبيرة متحضرة بها مسجد عظيم بناه خالد بن الوليد، والسهل حولها خصب كثير المنابت وبجوارها قبر خالد بن الوليد، ثم تبعتها في الأهمية حما، وتقع على نهر العاصي الذي يصب في البحر الأبيض عند أنطاكية، وقد بدا جدولًا صغيرًا كان يتلوى أمامنا في ليات عجيبة، وقد أقيمت عليه النواعير التي تدور بدفع التيار لرفع المياه إلى الأراضي المجاورة، ويرجع بعضها إلى زمن الرومان وفي المساء دخلنا:
حلب
فجبت بعض أرجائها فبدت مدينة كبيرة صبغتها إسلامية بحتة بمساجدها المتعددة غالبها على الطراز التركي بمنائره الدقيقة وقبابه المتكررة.
وقد زرت من بينها المسجد الجامع ويعدونه المسجد الخامس في الشرق الأدنى، وهو عظيم الامتداد ترصف أرضه بألوان الرخام المنسقة، وتحوطه البوائك ويضم رفات سيدنا زكريا أبي يحيى عليهما السلام، وأعجب ما فيه مئذنته المربعة ويرجع عهده إلى بني أمية.
وبالمدينة قلعة قديمة تشرف من روبة شاهقة بنيت فوقها من أحجار ضخمة وحولها حفرة كأنها الخندق العظيم نجتازه بقنطرة، ويحتل القلعة جنود فرنسا. وفي أقاصيص العرب أنها أقيمت على ثمانية آلاف عمود، ولعل أعجب شيء في البلدة أسواقها، فهي واطئة مغلقة تحت قباب حجرية كأنها السراديب المشعبة، وهنا قلب المدينة النابض من الناحية التجارية إلا في بعض الحوانيت الحديثة التي صفت على جانبي الشارع الجديد وهو يصل المدينة بمحطة الشام، وهو أكبر الشوارع وأجملها، وكثير من الدور أقيم على النمط التركي كي يبدو كالمساجد وتطل منه المشربيات العديدة، ومياه حلب رديئة شحيحة غالبها من الآبار تباع بسعر قرش «للتنكة»، ويشق البلدة نهر جاف تقوم عليه القناطر العدة، وكان غامرًا بالماء إبان حكم الأتراك ثم قطعوه اليوم عن البلاد وحولوا ماءه إلى بلادهم، والمدينة غاصة بالمقاهي ودور الملاهي في قسمها الجديد، وغالب الملاهي مراقص بعضها عربي والبعض فرنسي، شهدتها فكان الرقص شائنًا تكشف الراقصة عن فخذيها وصدرها في شكل ينافي الآداب والشعب يهتز لتلك السخافات ويهتاج. ويظهر أن موارد البلاد محدودة لدرجة أن الحكومة توقفت قليلًا عن دفع المرتبات أول هذا الشهر (يوليو) على الرغم من أن أنواع الضرائب كثيرة متعددة، ومن أعجبها ضريبة المتعة، وهي ليرة وربع في العام على كل راشد بين ١٦ و٦٠ سنة، فقيرًا كان أو غنيًّا، وكذلك ضريبة النشر، فكل إعلان يخرج للناس يُلصق عليه طابع الضريبة، حتى إعلانات السينما ترى طابعًا بربع قرش سوري عليه، فانظر كيف يحصلون على الأموال ونحن في مصر لا نستطيع تحصيل شيء من الضرائب ونتساءل فيقال الامتيازات البغيضة، فهلا تكاتفنا على إلغائها فنوفر مبالغ طائلة ننفقها في رفع الأمية ونشر الثقافة في البلاد.
ويظهر أن العصبية الدينية شديدة هنالك فكل طائفة تحاول الإضرار بغيرها وهم متفرقون يكيدون لبعضهم، على أن العنصر الإسلامي هو السائد وفي البلاد حركة للتخلص من كل ما ليس سوريًّا في الوظائف والأعمال الحرة، والجرائد ناشطة في الكتابة تشجيعًا لتلك الناحية، ولو أفسدها اتهام كل حزب الآخر بالتعصب، وقدمًا كانت بلاد الشام نكدة الحظ رغم كثرة خيراتها؛ وذلك لأنها عرضة للغارات بين الشرق والغرب وهذا ما يقوض من عمرانها ويزيد تدهورها ما هم فيه أبدًا من شقاق وتحزب، فكأن ظهور المرسلين فيهم هو الذي دعا إلى هذا التحزب المقيت.
إلى الأناضول
قمت مبكرًا في قطار ٦٫٤٠ صباحًا إلى أنقرة، فسار بنا القطار وسط سهول ممدودة غالبها صخري شبه صحراوي مهمل، ولما دخلنا الحدود التركية بدأت الجبال والربى المعقدة، وأخذت تتلوى سكة الحديد ودخلنا أنفاقًا لا حصر لها، وكلما واصلنا السير أخذنا في الصعود لنغالب ليات الجبال وارتفاعها المتزايد، وأخذت تكسوها الشجيرات، ثم أوغلنا في تيه من الأنفاق بعضها كان القطار يستغرق في اختراقه ربع الساعة، وكانت المناظر حولنا ساحرة خصوصًا كلما فاجأتنا الوديان السحيقة تتلوى في قيعانها الغدران النحيلة. أما الأهلون فنادرون في تلك البقاع، فلا يكاد البصر يقع على القرى إلا الصغير النادر، وتلك هي مجموعة جبال طوروس بصخورها الجيرية، وبين آونة وأخرى كانت طيات الصخر تبدو في ألوان قاتمة أو براقة؛ مما يشعر بقدم الصخر، وكثرت رقائق الشيست؛ ولذلك لم نعجب لما سمعنا بكثرة المعادن هناك مثل: الحديد، والنحاس، والفضة، والكروم، والميكا.
وحوالي الرابعة مساء دخلنا سهولًا اختفت من حولها الجبال وزاد النبت وكثرت مسايل الماء، على أن ماءها كان ضحلًا شحيحًا، فكان المنظر شبيهًا بمصر المحبوبة وفي وسط هذا السهل وقفنا على:
أدنا
من كبريات مدن جنوب تركيا وبعدها عادت الجبال وأنفاقها ومناظرها الساحرة. والحق أن سكة الحديد هناك تدل على مبلغ جبروت القوم في مغالبة القوى الطبيعية الهائلة، ويفاخر الأتراك أن هذا الجزء المعقد كله أقيم بمجهود أبنائهم ولم يكن للأجانب فيه دخل قط، وسكة الحديد كلها بيد الحكومة التركية بعد أن كان جلها لشركة فرنسية، وقد شروا كل المشروعات الأجنبية في سائر بلاد الأناضول فأضحت تركية بحتة. ظل القطار في صعوده ولياته وأنفاقه حتى أقبل على سهل فسيح تتوسطه قونية: وكان وقوفنا بها الثانية صباحًا، فبدت مدينة ممدودة هائلة تحكي إحدى البنادر الرئيسية عندنا وكانت أضواؤها الكهربائية منثورة وضاءة، وقد علمت أن فيها مدفن أفلاطون الحكيم وقبر جلال الدين الرومي المعروف بمولانا وإليه تنسب طريقة «المولوية»، ولبثنا نسير في تلك السهول الغنية طويلًا وهي تزرع على المطر ويعوزها المران المصري الزراعي كي تغل أضعاف ذلك، فمشروعات الري تكاد تكون معدومة والأيدي العاملة نادرة وأدوات الزراعة عتيقة كالمحراث المصري يجره البقر والشادوف ينزل دلوه إلى الآبار الغائرة وينتشل منها باليد أو الدواب ومظهر البلاد كلها يبدو إسلاميًّا بحتًا، ففي كل القرى تبدو المآذن التركية الدقيقة، ولم نلمح كنيسة واحدة في كل تلك البلاد إلى أنقرة، وكثيرًا ما كنا نمر بالناس يقيمون الصلاة في حقولهم وعلى رءوسهم قبعاتهم في كثرة أشعرتني بأن النزعة الدينية ما زالت قوية. وكانت تُحصد الغلال كالقمح والشعير، أما المراعي من البقر والضأن فلا حصر لها إذ هي المورد الرئيسي، وكان اللبن والجبن يبيعه الصبية في كل المحاطِّ وبخاصة اللبن الحامض الذي يشربونه بدل المرطبات جميعًا. والخيل مطيتهم الرئيسية وبيوت القرى بالحجارة الصغيرة متحدرة السقوف، لكن طرقها ضيقة مهملة رديئة والأهلون يرتدون حللهم الإفرنجية وعلى رءوسهم القبعات (في شكل الكسكت) والنساء سافرات لا يفترقن عن الإفرنجيات، وقد ساغ هذا الانقلاب الاجتماعي اليوم للناس بعد أن كان معارضوه كثيرين في بدئه شأن كل جديد، وشتان بين حالتهم يوم زرتهم في إسطنبول سنة ١٩٣٠ وبينها اليوم، دخلنا أفيون قره حصار: ومعناها «قلعة الأفيون السوداء»؛ لأن أحسن منابت للأفيون تقوم حولها، ولأن قلعتها تعلو فوق ربوة سوداء هائلة (٨٠٠ قدم) جعلتها منيعة والمدينة كبيرة وتقوم وسط سهل تربته مختلفة بعضها في لون أسود والبعض أصفر والبعض جيري يكسوه الحصى، ولا تقوم المدن الكبيرة هناك إلا وسط الوهاد المبسوطة التي تنأى عنها الجبال وعندما وصلنا اسكي شهر: أخذت سكة الحديد تتفرع إلى عدة نواحٍ وهي مركز زراعي وتجاري هام، وبها مصنع لسكر البنجر يموِّن قسمًا كبيرًا من البلاد، وبيوتها حجرية ومن طابق واحد، وبجوارها رأينا مدرسة الطيران التي لا يزال البناء فيها مستمرًا، وفي جوار المطار هناك استشهد في حرب الاستقلال خمسة آلاف تركي سفك اليونان دماءهم ظلمًا، فأقامت الدولة لهم مدفنًا خاصًّا كُتب عليه «مدفن شهداء الوطن»، وكان يرمقه المسافرون جميعًا بنظرات الإكبار، وعند الأصيل قبيل دخولنا أنقرة بساعتين وقفنا بمحطة كبيرة اسمها: بولاتلي وهنا كانت الموقعة الفاصلة بين الأتراك والإغريق الذين اجتاحوا البلاد من أزمير إلى هنا، وكانوا يطمعون في احتلال أنقرة ومحو تركيا من الوجود، وكانت تعاونهم على ذلك بعض الدول العظمى وأمدتهم بالمال والأسلحة، ولكن بفضل وطنية الغازي وسحر بيانه استحث الحماسة التركية فاستمات الأتراك في الدفاع عن حوزة الوطن نساءً ورجالًا، فسحقوا في هذا المكان الجيش اليوناني عن آخره، وقد حفزهم على ذلك ما كان يأتيه اليونان من الفظائع في قتل أهل القرى وإحراقهم، وهناك أيضًا أقاموا مدفنًا فاخرًا للشهداء سرت إليه وانحنيت إكبارًا وقرأت لأولئكم الأبطال الفاتحة، وقد نزل معي من القطار أغلب ركابه وهم يشيرون إليهم قائلين: هؤلاء بقيادة الغازي هم الذين طاردوا العدو واكتسحوه حتى ألقوه البحر وراء أزمير وطهَّروا البلاد منه وكان عدد العدو الذي هلك ٢٤٠ ألفًا، مع أن عدد الأتراك لم يزد على ٤٥ ألفًا. ذكريات خالدة كان يقصها عليَّ بعض أبناء الأتراك والوطنية تكاد تنفرج من وجناتهم، وكان الغازي يأخذ نصف أملاك الناس ومتاعهم جميعًا للإنفاق على الجيش على أن يردها إليهم بعد النصر، وكان القوم يقبلون ذلك قبولًا حسنًا، ولا تزال الدولة تسدد لهم ديونهم هذه إلى اليوم. وبعد أن أجلوا الإغريق ومكَّنوا لأنفسهم في الجهات الغربية ولوا وجوههم صوب الحدود الداخلية، فطاردوا الأرمن إلى ما وراء أرضروم وبحيرة فان، وأخذوا بلاد الأكراد وأعادوها لحظيرتهم، وانمحت دولة كردستان من الوجود، ثم طاردوا الفرنسيين وألزموهم حدود سوريا الطبيعية وراء جبال طوروس. دهشت من هذا الفوز في أناس يكادون يكونون عزلًا، وكان يطوقهم العالم من جميع جوانبهم، ولكن كيف يكون أعزل من صح عزمه وصدقت وطنيته وجعل نفسه فداءً لوطنه. كانوا يحاربون العدو بقلوبهم الراسخة وإيمانهم الوثيق نساءً ورجالًا، وبعد أن استتب لهم النظام العسكري قام الغازي العظيم يصلح البلاد من وجوهها الأخرى اجتماعيًّا واقتصاديًّا، فبدأ سياسة الإنشاء والتعمير وأخذ في تعبيد الطرق ومد سكة الحديد وهي في نظري تعادل أرقى الخطوط الأوروبية نظافة ودقة، يديرها الأتراك في نشاط حميد، ثم أخذ يمهد للشركات الوطنية ويعاونها بالقروض والتسهيلات حتى كثر عددها جدًّا وأسس المصارف الوطنية، وأخذ يقيم الأبنية في البلدان الكبرى — وبخاصة أنقرة — على أحسن طراز، ثم إنه لم يغفل حالة الفلاح فقد كانت الأراضي ملكًا لطائفة قليلة من الأغنياء، فمثلًا كانت سهول أدنا الشاسعة ملكًا لعائلة واحدة، فابتاع كل المساحات الشاسعة وقسَّمها قطعًا صغيرة باعها لصغار الفلاحين بشروطٍ سهلة، واتخذ نفسه مثلًا حسنًا إذ وهب من أرضه الكثير، وأعلن أن أملاكه جميعها لن تورث أحدًا من عائلته بل سترثها الدولة، وهو يكاد يكون معبود القوم جميعًا كلما حدَّثك أحدهم عن البلاد ذكره بالخير وفاخر باسمه، وحتى معارضوه قد قل عديدهم جدًّا، وذلك شأن المصلح الذي يغامر ويخدم مبدأه دون خوف، وكلما ظهرت ثمرات أعماله أحبه الناس وأيده خصومه ويكاد يتفق الجميع على أنه ليس في البلاد سواه هو ووزيراه عصمت ورشدي، فهم القوة المنشئة المنفذة، يرتب الغازي الفكرة ويغامر بتنفيذها واثقًا من النجاح. وفي شئون التعليم قام بقسطٍ من الإصلاح كبير، فأدخل في المدارس أحدث النظم ومحا العتيق وسهَّل اللغة بالحروف اللاتينية التي تعلمها الجميع وقد فرضها على الناس إلى سن الأربعين نساءً ورجالًا، ومن زادت سنه فله الخيار، وقد علمت أن الجميع حتى الشيوخ يقرءونها اليوم بسهولة، يؤيد ذلك كثرة الجرائد التي كان يقرؤها الفلاحون ويتخاطفونها من القطار على سذاجة منظرهم ورث ثيابهم، ولقد جعل التعليم إجباريًّا وقسَّم المدارس إلى ابتدائية وثانوية وعليا، وجعل برامج التعليم قومية وطنية لا يتعلم الطالب اللغة الأجنبية إلا في المدرسة الثانوية، ولم يختصها بلغة معينة، فبعض المدارس تعلم الإنجليزية، والبعض الفرنسية وهي الغالب، والبعض الألمانية وهلم جرًّا، وهو لا يحتم على الطالب إضاعة جل وقته في اللغات الأجنبية كما نفعل في مصر؛ لأن ذلك لا شك سيكون على حساب التوسع في العلم نفسه، فهو يعلمهم مبادئ اللغة ويترك التبحر لمن تخصص بعد، وهناك قسم لترجمة مستحدثات العلم إلى لغة البلاد؛ لذلك وجدنا صعوبة كبرى في التفاهم معهم؛ لأن من يعرف الفرنسية أو الإنجليزية لا يجيدها قط بل لا يكاد يتفاهم بها، وهم متعصبون للغتهم جدًّا لا تراهم يكتبون بطاقاتهم ولا عنوانات متاجرهم، إلا بها في حروفها اللاتينية والغازي يتعقب بنفسه الكلمات التي من أصل عربي ويمحوها ويمنع استخدامها منعًا باتًّا ويحل محلها كلمات تركية صميمة، وقد كانت الألفاظ العربية شائعة بين الطبقات الممتازة وفي اللغة الرسمية من قبل أما اليوم فيحاول محوها.
أنقرة
دخلناها ليلًا فبدت أضواؤها خاطفة وثريات الكهرباء بها منثورة على الربى وفي السهول في مشهدٍ جميل، وقد أقيمت قبل أنقرة مباشرة ضاحية «الغازي»، حيث يقوم قصره وتمتد حدائقه المنسقة امتدادًا فسيحًا، وهي تكاد تلتهب ضوءًا، حللت نُزُل «أناضول» وقمت في الصباح أجوب أنقرة، وإذا بها قسمان قديم وحديث، فالقديم في أزقته الحجرية المتحدرة وبيوته المكتظة الصغيرة المطلة بشرفاتها نصف العربية ولياتها غير المنظمة تشرف عليها قلعة المدينة في ربوة شاهقة وتقوم كثير من الأبنية على منحدراتها وتعوزها النظافة وحسن البناء، وفيها يدفن امرؤ القيس وقد فتحها المعتصم الخليفة العباسي وفيها وقع السلطان «بلدرم بايزيد خان» أسيرًا في يد تيمور لنك سنة ١٤٠٢. والقسم الحديث يعادل أرقى البلدان نظامًا قصوره فاخرة بولغ في ضخامتها وتجميلها والطرق به فسيحة ومنابت الكلأ تحفها الأشجار في امتداد رائع وفي وسط غالب الميادين تقوم تماثيل الغازي، ولعل أجملها ميدان «ملت ميدان» والغازي يمتطي جوادًا ووراءه تركيا في امرأة عجوز تحمل قنبلة ووجهها مقطب كئيب وقد أعياها التعب، وإلى جانبها الأمامي جنديان بأسلحتهما يكشفان الطرق ويتأهَّبان للفوز. والمدينة على صغرها كثيرة الحركة أهلها أهل نشاط وشعور عجيب بالعزة القومية شأن كل أبناء الأتراك، وهم جميعًا مؤدبون كريمو الطبع يزين ذلك وقار ورزانة جعلت لهم مهابة وأنفة وهم فخورون بفوزهم لا يفتأ الواحد يقص عليك نبأ حرب الاستقلال ويمجِّد لك في تركيا وما فيها ويعتذر عن بعض النقص والتأخر في البلاد التركية، فحركة الإصلاح لم يمر عليها عشر سنين، وقد خلَّفت الحكومات الماضية للحكومة الحاضرة تراثًا موبوءًا ثقيلًا يتطلب الاضطلاع به وإصلاحه مجهود الجبابرة وأموال الملايين، وكم كان عجبي عظيمًا عندما كنت ألمس حركة النهوض في كل شيء وفي سرعة عجيبة رغم عوز البلاد المالي الشديد، لكن الإخلاص وخلو البلاد من الدخيل هو الذي أكسب القوم قوة تدفع بهم إلى النجاح المتواصل، وحتى في الناحية الدينية هم يمتدحون للغازي تصرفه، فقد أوقف كل الترهات والشعوذة التي تحطُّ من شأننا وشأن ديننا كثيرًا، وحرَّم الزواج بغير واحدة، وأباح للشاب انتقاء خطيبته، وحتَّم على المرأة التعليم على قدم المساواة مع الرجل، فما دخلت مكتبًا أو متجرًا إلا وكان للنساء فيه عمل واضح، وحتى في الصلاة تقام الشعائر الدينية ويدخل الناس المساجد بالقبعات، وإن شاءوا خلعوها ووضعوها على الحمالات في جوارهم، وإن شاءوا أداروا أفاريزها إلى أقفيتهم وأدوا الصلاة، مثبتًا بذلك أن الدين لا يحتِّم زيًّا خاصًّا قد يقعد بتقدم الشعب حتى عن الحركة والنشاط، وكنت كلما جلت في البلدة وتفقدت مختلف نواحيها زادني الإصلاح الذي يجري بها سراعًا دهشة وإعجابًا. صعدت الربوة المشرفة على أنقرة حيث القلعة القديمة ونقبت في أزقتها التي تضم طائفة من الأهلين في أكواخٍ بائسة وكان يبدو على الناس الفقر وهم في أسمالهم المهلهلة، ولكنهم كانوا رغم ذلك فخورين بتركيتهم واستقلالهم، وما فائدة الغنى في الأسر والأغلال! وكانت تتجلى من دوننا أنقرة الجديدة في طرقٍ فسيحة وقصورٍ مشيدة بولغ في تنسيقها وتضخيمها وبخاصة دور الحكومة، والدولة آخذة في إقامة العمارات في كل مكان، وفي تنسيق المتنزهات للشعب تفتح أبوابها دائمًا وتعرف فيها الموسيقات كل أصيل، وبخاصة في متنزه البرلمان الذي تزيِّنه الأبنية وأحواض من الماء مدرجة صفت المقاعد حولها، فكنت أرى الجماهير يغص بهم المكان والنساء سافرات يختلطن بالرجال في رزانة وصمت وهدوء حتى كان يخيَّل إليَّ أني في مونت كارلو تمامًا.
والدولة تقصد بعزف الموسيقى هكذا أن تدرِّب آذان الناس على الأنغام الغربية، فإذا طوَّحت ببصرك لمست إخلاص الدولة وتفانيها في النهوض بكل شيء، وكنت أتساءل من أين لهم تلك الأموال ونحن رغم توافر مواردنا لا نفي بالواجب؟ حقًّا إن كل قرش يدخل خزانة الدولة ينفق في التعمير والإنشاء. ويزيد إعجابنا إذا علمنا أنهم ينفقون على جيش كبير بمعداته وطياراته وبواخره، هذا إلى الهمة المدهشة التي يبذلونها في ربط أطراف البلاد بسكة الحديد رغم تكاليفها الباهظة في تلك البلاد الجبلية الوعرة، فالخط إلى البحر الأسود مد إلى طربزون وفي شرق أنقرة كاد يصل إلى أرضروم، وفي الجنوب وصل البحر الأبيض وفي الجنوب الشرقي وصل إلى نصيبين، كل هذا كان يدهشني والحكومة فقيرة والناس معوزون، ولكن كفى بالاستقلال معينًا على ذلك، فغياب الأجنبي من المجال الاقتصادي أفسح المجال لأبناء البلاد فعدوا إلى التقدم سراعًا، وأنت لا ترى اليوم للأجنبي في بلادهم من أثرٍ قط.
ونساء الأتراك رغم سفورهن بعيدات عن الخلاعة والإسراف في التزين، فهن يسرن في وقار، وهن في نظري لسن ساحرات في الجمال، والجمال الفاتن نادر بينهم، فالشاميات أوفر جمالًا كذلك تعوزهن الرشاقة، ولم يقع نظري على سيدة تحكي «كرمان هانم» ملكة الجمال لديهم، ولذلك لم أعجب لانتخابها رغم أنها دون ذاك المقام في ظننا، لكني أعود فأمتدح فيهن هذا الاتزان والوقار، فالتركية زوجة فاضلة لا محالة، وكنت ألاحظ كثيرين منهن يلبسن ملاءات وفوق الرأس قناع أسود كالستار لكنه بدل أن يُسدَل على الوجه يُرفَع فوق، الرأس فظننت أن هذا من أثر الرجعية الأولى.
وتكثر هنالك المقاهي والمقاصف، وفي غالبها تسمع الحاكي بأنغامه التركية وأغانيها الشجية، ويظهر أن الكثير منهم ميَّال إلى المسكرات، وبخاصة «العرقي والزبيب»، فما يكاد الليل يقبل حتى تراهم عاكفين على شربه ولا يخف قرع النرد ليلًا ولا نهارًا. دخلت مرة مُغنًّى تركيًّا شرقيًّا على نمط «ألف ليلة» في مصر، فكانت الآلات الموسيقية: الكمان والعود المعدني والقانون يعزف بالمضارب لا بالأصابع، ثم الرق والناي، وأمام كل أولئك سيدتان في حشامة ووقار، وكانت الأغاني مقطوعات على نمط الموشحات تتقدمها الموسيقى الصامة في بشارف قصيرة ومقطوعات مثل «اللونجا»، ولم ألاحظ بينهم عادة التقاسيم الفردية من العود والكمان وغيرها. أعقب ذلك فاصل آخر عرض فيه العازفون بعض الموسيقى الإسبانية في شبه طنبورة ومزمار طويل ودف، وكان يلبس العازفون أردية عجيبة من سراويل ضيقة «وجكتات» زرقاء ورئيسهم في معطف أخضر طويل، وأمام أولئك صف من السيدات تغطي رءوسهن بمنطقة بيضاء، بدءوا العزف في دور موسيقي صامت، ثم أعقبه مغنًّى حماسي، ثم رقص إسباني يصحبه تصفيق من الفتيات وصيحات من الرجال فيما يحكي «الرقص البلدي» عندنا، فكان الطرب آخذًا منا كل مأخذ فقلت في نفسي لِمَ لا يحاول معهد موسيقانا عرض مثل هاتيك الشرقيات، فيعطينا فكرة عن موسيقى جيراننا: الأندلس والمغرب والشام والترك والعرب، وهي أقرب إلى أسماعنا من موسيقى الغرب التي لا تروقنا كثيرًا؟
قصدت إلى مقر الغازي حيث قصره المنيف يشرف على ربوة حولها حدائقه ودونها حي «تشان كايا» الحديث في طرقه الممدودة وقصوره الفاخرة، وهي مسكن الطبقات الأرستقراطية ودور السفارات، ومن بينها سفارتنا، وكنت أعجب لاختيارهم أنقرة في ذلك الموقع المجدب الجاف تحيطه الربى التي عريت عن النبت في منظرٍ غير جذَّاب، على أن موقعها المتوسط من هضبة الأناضول وسهولة تحصينها بسبب ما يحوطها من ربًى يبرر في نظري هذا الاختيار، إذ لو أقيمت في أطراف الدولة وهي أوفر خصبًا لتعرضت لهجمات العدو، والقوم مبالغون في نشر المتنزهات ووسائل التجميل في كل ناحيةٍ، وترى أفراد الشعب يدخلونها بدون قيد حتى متنزهات دور الحكومة وقصور الغازي، وكنت أرى ديمقراطيتهم بادية في تجاور الفقراء بأسمالهم الرثة وهم الأغلبية إلى جانب الأغنياء. وعناية القوم بأطفالهم زائدة فكنت أرى الأب المدقع في ثيابه البالية يحمل طفله في هندام نظيف ووجه أبيض ناصع لا تشوبه قذارة قط، والرجال يعنون بأطفالهم ونسائهم، فترى زوجة هذا الفقير في أردية نظيفة فلا تكاد تصدق أنها زوج ذاك الصعلوك. وأجمل ما يروقك هندام الضباط من الجيش والبوليس، مظهرهم مهيب في ملابس أنيقة، على نقيض الجنود، فأرديتهم رديئة مهلهلة، والغريب أن كل أولئك الأفراد على مظهرهم الرث يقرءون ويكتبون، وقد علمت أن نسب من يعرفون القراءة من عامة الشعب ٨٩٪ بعد أن كانت لا تزيد على ١٠٪ من قبل، وذلك بفضل الجهود الجبارة التي بذلها الغازي منذ افتتح المدارس الشعبية والليلية في جميع القرى، وأجبر الأميين أن يحضروها إلى سن الستين، ومن تخلَّف عوقب، فهل هذه جهود سنوات عشر؟ ونحن في مصر الغنية الموارد لبثنا فوق العشر سنوات في نهضتنا، ولم نستطع رفع نسبة القراءة إلا قليلًا؟ فهم لم يشترطوا للتدريس مكانًا كامل العدد والشئون الصحية كما نفعل، ولم يحتم أن يكون المدرسون ممتازين، فإن ذلك يصعب توافره في البدء، فالأمر الهام لديهم أن يصبح جميع الناس ممن يستطيعون القراءة، أما المثل العليا فسبيلنا إليها لا يكون إلا بعد محو الأمية كلها.
ويحرم القانون التركي الكتابة بغير الحروف اللاتينية، وهي أسهل على الناس كثيرًا من الحروف العربية، كذلك الصلاة لا تكون إلا بالتركية، فلا يقول المؤذن «الله أكبر»، بل يصيح بمعناها التركي، وقد تُرجِم القرآن، وتلك الترجمة هي التي تدرس في المدارس، ولمن خالف ذلك وقرأ أو صلى بالعربية سُجن ثلاث سنين.
اعتزمت السفر إلى نصيبين فالموصل مخترقًا بلاد كردستان، ولم أكن قد بدلت نقودي، فقمت مبكرًا يوم الجمعة (١٤ يوليو) وإذا بالبلدة كلها مغلقة؛ إذ هو يوم العطلة الأسبوعية، وكنت أخاله من قبل يوم الأحد، ولم أجد حتى صرَّافًا، فحرت في أمري واضطرني ذلك أن أسافر في الدرجة الثالثة، حيث لم يكف ما كان معي من نقود ثمنًا لتذكرة الدرجة الثانية، والحكومة تحتِّم على الناس جميعًا أن يغلقوا متاجرهم كلها إظهارًا لقوميتهم، وحتى محال البدالة والفنادق كانت تغلق أبوابها وتُعَلَّق عليها الأعلام وفي الحق لم أتمالك أن أحترم الأتراك ففيهم وحشية الطورانيين تلك التي هذَّبها الأثر العربي والدين الإسلامي، فالتركي في أرضه عامل مُجِدٌّ صادق رزين شريف غير منافق متقشف يقطن أكواخًا فقيرة من طين ليس بها من وسائل الراحة شيء، مظهره جدي مقطب ويكاد يكون فدائيًّا، ورغم حكوماته السالفة التي كانت تستبد به ظل التركي ديمقراطيًّا في مجتمعاته وبعيدًا عن الإجرام كل البعد، وأنت تراهم في الطرقات يسيرون في نظام وفي غير جلبة ولا ضحك، ففي أخلاقهم شيء كبير من الخلق الإنجليزي والياباني، وهم مؤدَّبون في الحديث، فبدل أن يقول لك الواحد عند لقائك مثلًا: «مسرور بلقياك»، يقول: «إن أسعد ساعات السعادة ساعة ألقاك فيها».
قام بنا القطار ووقف على محطة الغازي حيث مزارعه الشاسعة، فكان سيل المتريضين دافقًا من كافة الطبقات، فكنت أرى الفقراء المدقعين مسافرين إليها بعائلاتهم ليمضوا في الخلاء وسط تلك المناظر الساحرة سحابة يومهم، والغازي يشجع ذلك تشجيعًا للديمقراطية وإصلاحًا لصحة بني قومه. بعد ذلك سار بنا القطار وسط تلك الهضاب الفقيرة التي لا يكاد يكسوها سوى العشب القصير إلا في بقاعٍ نادرة كان بها نبات القمح والشعير والطباق والأفيون، ومررنا ثانية بأسكى شهر وأفيون قره حصار وقونية، وبعدها أوغلنا في عقد الجبال، وتحسَّن المنظر لما أن دخلنا عقد جبال طوروس بلياتها وأنفاقها المدهشة، ثم كساها الشجر وكانت بقع الثلج تكسو ذراها تنزل منها مسايل الماء، وقبيل أدنا بدا خانق كيلكيا المنيع الذي هزم الأتراك فيه الجيوش الفرنسية هزائم سُجِّلت لهم بالفخار، وكنا نشاهد الأخشاب التي تقطع من تلك الغابات توسق في تلك المحاط، وأخيرًا وصلنا أدنا وبعدها «فوزي باشا» حيث غيَّرنا القطار صوب حلب، ثم اخترقنا جبال «انتي طوروس»، وهي أقل من جبال طوروس روعةً، وفي حلب غيَّرنا القطار ثانية بعد أن مضى علينا ٤٨ ساعة من أنقرة، وقمنا إلى نصيبين فدخلنا الحدود التركية كرة أخرى.
في أرض كردستان
بعد أن قطعنا ثلث المسافة إلى نصيبين (مسافة ٤٠٠كم) دخلنا أرض كردستان فغابت الجبال إلا في شبح فاتر عند الأفق الشمالي، وهي الحافة الجنوبية لهضبة الأناضول، وكانت السهول مهملة تكسوها أعشاب برية يابسة وعند بلدة اسمها جرابلس عبرنا نهرًا باسمها عظيم الاتساع وإن كان ماؤه شحيحًا آسنًا إذ هو موسم الجفاف هناك، وكان الإقليم شبه صحراوي حره لافح ممض ولم نستطع شراء شيء من المرطبات على المحاط سوى القثاء والبطيخ، وكدت أسمي تلك الجهة ببلاد «البراغيث»؛ لأنك تسمع تلك الكلمة على لسان الجميع، والبرغوت عملة البلاد الرئيسية، وهو من بقايا النقود التركية القديمة؛ لذلك كنا نراه ذائعًا في شمال سوريا أيضًا، وهنا تغيرت القرى فأضحت بالطين بدل الحجارة، وكان المنظر شبيهًا بمصر في انبساطه إلا في عدم وجود شجرة به قط، والناس هناك يتكلمون أربع لغات: التركية (ثلثها عربي وثلثها فارسي وثلثها تركي)، والكردية (غالبها فارسي)، والأرمنية، والعربية، وفي باكورة الصباح وصلنا نصيبين أي بعد سبع عشرة ساعة من حلب، فإذا هي قرية كبيرة ليس بها ما يُذكَر سوى حصن قديم، وفيها يقيم جيش الحدود التركي، وفي ملصقتها تمامًا يقف جيش فرنسي؛ لأن حدود سوريا تبدأ بعدها مباشرة، والناس هناك خليط عجيب من الأرمن والكرد والعرب والشوام في أشكال قذرة ومظهر مخيف فكأنهم جميعًا من قطاع الطرق، وكان يسترعي النظر الكردي بعيونه السوداء البراقة الواسعة وأنفة الأشم وقامته الطويلة وشعره الأسود الغزير، ونساؤهم يلبسن خرقًا مرقعة ويدلين من الصدغين خصلتين ثقيلتين طويلتين من الشعر وتربط الجبهة بمنديل ملون وكأنهن «الغجر»، والبلاد يظهر عليها الفقر والجوع بشكلٍ مخيف.
إلى الموصل
قمنا بالسيارات مسافة (٢٠٥كم) قطعناها وسط سهول ممدودة إلى الآفاق ليس بها نتوء واحد، تربتها سوداء يعوزها الماء وتُزرَع بقاع منها غلالًا وأعشابًا، وفي نحو نصف المسافة دخلنا حدود العراق دون تغير في تلك المناظر المملة، وكم كان يضايقنا في تلك البلاد كلها تشديد البوليس في مراقبة جوازات السفر، ففي تلك المسافة فُحصت ست مرات مما أشعرني باضطراب الأمن فيها.