أفغانستان
إسلام قلعة
وصلنا الحدود في ساعتين عندها مخفر فارسي أبرزنا له جوازاتنا ولم تمضَ إلا بعد أن عززناها بقروشنا، ثم دخلنا القلعة وإذا اسمها أكبر منها، وهي عبارة عن بناء كبير خرب أقيم من الآجر، كنت أخال حولها مدينة، فإذا بها تقوم وسط صحراء مجدبة يكسو أرضها الحامول والعاقول والهالوك اليابس، وقد كانت من قبل تسمى «كافر قلعة» يوم كانت ملكًا لفارس، وكانوا يطلقون عليها ذاك الاسم لاعتقادهم أن الشيعة من الفرس كفار، ولما أن ضمها ملك الأفغان السابق «أمان الله خان» لبلاده أسماها «إسلام قلعة». وقفنا وسط تلك الصحراء أو الداشت كما يسمونها أمام مدخل القلعة، وكان يتقدمها بعض الجنود في سراويلهم الفضفاضة تكسوها إلى الركبتين جلابيب طويلة، وعمائمهم الطويلة في شال ممدود تترك منه ذوائبه خلفية هادلة إلى العجز. طلبت لقاء رئيس القلعة، فدخلت إليه في غرفة تفرش بالبسط وهو ووكيله جلوس على الأرض فسلمته خطاب التوصية الذي حملته من سفارتهم في طهران، بعد أن عاونتني في ذلك مفوضيتنا العامرة هناك، فأشار أن أجلس وأشرب الشاي. والرئيس ذو وجه مقطب وسحنة غاضبة أُمِّيٌّ لا يعرف القراءة؛ لذلك ناول الكتاب لوكيله الذي أطلعه على ما فيه. طاف الغلام علينا بأقداح الشاي الأخضر وناول كلًّا منا بعض فتات السكر في أيدينا كي نلقي بقطعه في أفواهنا ونشرب وراءها الشاي، وكلما فرغ القدح عاد فملأه لنا جميعًا، رغم أني كنت أشير بأني اكتفيت ولا أستطيع المزيد، فكرر ذلك إلى القدح السادس، وهنا أضربت عن تناوله، فبدت عليهم علامات التأثر، وعلمت بعد من السائق أن من الواجب عليَّ أن أبقي في القدح بعض الشاي، ثم أنكسه بما فيه فوق الطبق علامة الاكتفاء. نزلنا لفحص الأمتعة فأقبل جمع من الموظفين والرقباء بعمائمهم المنتفخة وأحذيتهم الملتوية في ذؤابات رفيعة ومقوسة أمام الحذاء وخلفه، وجلس الجمع على الأرض وبيد كلٍّ ورقة، ثم أخذ الجند يحملون المتاع من السيارة قطعة قطعة ويفتشونها بكل دقة وبطء، وكلما وجدوا شيئًا غريبًا أو جديدًا أمسكوا به وأداروه عليهم جميعًا، وأخذوا يقصُّون حوله الأقاصيص في بطء عجيب، حتى إنَّا لم نفرغ من هذا العمل إلا بعد ثلاث ساعات. قلت: هلم فقد تم كل شيء. قالوا: إنا ننتظر الجوازات ولبثنا على تلك الحال النهار كله إلى الرابعة مساء، وخلال كل ذلك كان يُطالَب المسافرون بنقود دفعوها أربع مرات لأشخاص مختلفين، والجدل والمساومة والممانعة في تسليم الجوازات كانت علانية. وكلما وجد جنودهم شيئًا يروقهم من متاع المسافرين أخذوه ثم تكون مجادلة بين الجندي وصاحب المتاع حتى يتفقا، وقد أعجب جنديًّا إبريق من نحاس لكن صاحبه استعاده وهو غاضب، ولما وضعه في السيارة وأوشكت أن تستأنف السير أقبل الجندي خلسة وأخذه دون أن يعلم صاحبه. كل ذلك ولم يكن لديَّ طعام فأمضني الجوع حتى رجوت جنديًّا أن يجهز طعامًا من البيض والخبز والشمام، فكان شهيًّا رغم ما كان يسوده من حصى وقش ورمال. قمنا نشق طريقنا الوعر الرديء وسط تلك البادية، وبعد ساعة استوقفنا جمع من الناس غفير يريدون مكانًا في السيارة لأحد «الملاه» رؤساء الدين. ولا يمكن رفض ذلك وإلا كان ما لا تحمد عقباه، فأخلى جاري مكانه للشيخ، وأخذ الجميع يتكاثرون على يديه تقبيلًا رغم شيخوخة الكثير منهم وطول لحاهم التي نال منها الشيب، و«الملاه» هناك هم المسيطرون على أذهان الناس، وهم أكبر مقامًا وأنفذ كلمة من الحكام أنفسهم، وكان كلما رآنا أحد في الطريق يحيي الشيخ ويظهر له الخضوع والإجلال، وقد كنت أتفاهم مع الشيخ بصعوبة وهو من عائلة «المجددي». وطبقة «الملاه» يكادون يقسمون البلاد، فلكلٍّ ناحيته التي يطوف عليها بين آن وآخر ليقوي علاقاته بالناس، ويتقاضى حقوقه الواجبة عليهم قِبله. لبثنا نسير في تلك السهول الصحراوية تحفها على بعد سلاسل جبلية وطيئة، ولم يتغير المنظر منذ خروجنا من مشهد، إذ غالب أرضه مهملة مبسوطة، وحيثما يظهر الماء القليل تقوم القرى الصغيرة، وكثير منها بالطين في صفوف من الأقبية «كالقطاطي»، وكثير من سقوف الأفغان مسطحة، وقد مررنا بقرية جل أهلها من مهاجري التركستان الروسية هروبًا من جور الروس، وكان رجالهم وصبيتهم يحاولون التفاهم بصعوبة؛ لأنهم يتكلمون الروسية فقط. كانت التاسعة مساء وبينا نحن نتحدث عما بقي من المسافة إلى هيرات مبتهجين؛ لأنها لا تجاوز الساعة الواحدة، وإذا بالسيارة تقف فجأة والسائق يعلن نفاد البنزين، فكدنا نصعق لأن الوقت ليل بهيم والمكان مقفر مخيف، والجو عاصف مترب كادت الريح أن تقلب السيارة على ثقلها — وشهور آخر الصيف وأوائل الخريف ريحها هناك شمالية عاصفة لا تكاد تحتمل في بلاد الأفغان جميعها — لبثنا الليل كله ولم أنتقل من مكاني بالسيارة وصفير الريح وشدة البرد وكثرة التراب لا تحتمل، وزادها ضغثًا أن زجاج نافذة السيارة كان مكسورًا وأني كنت جائعًا خاوي البطن؛ لأني كنت أتوقع تناول العشاء في هيرات. أرأيت كيف يتعرض المسافر في تلك البلاد للأخطار وضياع الوقت؟ يعتزم السفر والعودة في ميعاد محدود، ويؤكد القوم ذلك، وإذا بالساعة عندهم يوم واليوم شهر، ويُخيَّل إليَّ أن وسائل النقل الرديئة هناك هي التي ولدت فيهم عدم احترام الميعاد أو تقدير قيمة الزمن، ترى السائق منهم وأنت تستعجله السير يلاقي زميلًا له في الطريق فيقف وتبدأ السير والأقاصيص بينهما، وهو لا يقدر مسئولية قط يقف بسيارته حيث كان وسط القفر من سهل وحزن، غير أن تلك الوسائل على إبطائها الممض اليوم خير من الإبل والحمير والبغال التي كانت تقطع تلك المسافات في شهور، وكنا نمر بها في سيرها الوئيد ليلًا ونهارًا في قاطرات طويلة تحمل المتاجر وتتدلى من رقابها أجراس ثقيلة لتنبه عن وجودها. أخيرًا قُدِّر لنا أن نصل هيرات صباحًا، وقد مرت بنا سيارة صغيرة حملت إلينا ما أعوزنا من بنزين فإذا هيرات (أو هرات) بلدة حقيرة على عظيم امتدادها في حضن جبل يكاد يطوِّقها وتحفها المزارع الممدودة، مبانيها باللبن وطرقها مختنقة وفي غير نظام، اللهم إلا بيوتات علية القوم التي أقيمت من الآجر الأبيض والأصفر، وشارعان متعامدان حديثان صفت عليهما الحوانيت الجديدة من بقايا ما خلفه الملك السابق «أمان الله خان» لما أن حاول الإصلاح. أما عن التراب والأوساخ فحدِّث، فهي أكداس في كل مكان، وأظهر ما في المدينة بقايا مسجد قديم بقبابه ومآذنه السبع التي كانت تكسى بالقيشاني الملون الجميل إلى أعلى ذراها، بدت مشرفة ونحن على بعد أميال من البلدة. بحثت عن نزل آوي إليه فعلمت أن ليس هناك من أمكنة معدة للنوم قط، حتى ولا مسافرخانات، فحرت في أمري وقلت لصاحب «الجراج» أليس لديك مكان أنام فيه؟ قال «ناخير» أي كلا، اقصد إلى أحد علية القوم ليضيِّفك عنده في داره قلت ألا توجد مطاعم عندكم؟ فقادني إلى المطعم الوحيد الذي لم يمضِ على وجوده في البلدة شهران، فأكلت فيه ثم رجوت صاحبه أن يعد لي فراشًا بسيطًا لديه فقال: «انجا أغاخوب نيست»؛ أي لا يليق هذا المكان، قلت هو خير من لا شيء، فزوَّدني ببساطين (سجادتين)، واحد افترشته عند مدخل المطعم والثاني التحفت به واستخدمت حقيبتي وسادة، ولم يكن للمدخل باب يحجبه عن الشارع، فكنت كأني أنام في الطريق، وكم من مرة كنت أنظر فأرى جمعًا من الناس يقفون وهم يرمقونني وأنا أقرأ أو أكتب جالسًا أو مضطجعًا، وبعد يومين علمت أن الرجل قد أقام غرفًا في أعلى المطعم لم يكمل بناؤها، فرجوته أن أنام في إحداها ولما تكن قد سقفت وحولها أكداس الطوب وأنقاض البناء، فآثرتها على مكاني عند مدخل المطعم. وهيرات هذه ثانية مدن الأفغان بعد كابل، وقد علمت أن كابل نفسها وهي عاصمة البلاد ليس بها إلا نزل صغير واحد، أما قندهار ثالثة المدن فهي شبيهة بهيرات تمامًا. بلاد لا تزال في معزل عن العالم الخارجي في كل شيء، تعيش على الفطرة التي لم تفسدها المدنية في زعمهم.
تناولت العشاء وأغرب شيء فيه أن الأرز يقوم مقام الخبز تدفن فيه قطع اللحم «الجوشت» وإلى جانبه بعض الباذنجان يسبح في الزيت «أو الروغان» كما يسمونه. سألت الخادم وكان اسمه «أفغان» أن يقودني إلى المراحيض وسرت وراءه حتى جاء خرابة مكشوفة على جانب الطريق، وقال «أنجا» أي هنا، قلت: كلا فأنا أريد مستراحًا، فعلمت أن ليس لذلك وجود يقيمون أبنيتهم ويغفلون هذا اتكالًا على الخلوات والأمكنة الخربة وسطوح المنازل، وهذه حالهم في جل بيوتهم إلا النادر، وفي الصباح أردت الاستحمام فقيل لي اذهب إلى الحمام، وهم هناك وفي فارس كلها لا يقيمون حمامات في البيوت مهما عظم شأنها ارتكانًا على الحمامات العامة التي لا يطمئن المرء إلى نظافتها وطهارتها أبدًا، على أنهم في فارس يستعيضون عنها بحوض الماء الذي يتوسط فناء الدار، أما في الأفغان فليس لذلك من وجود؛ لأن الماء شحيح ومستمده الآبار العميقة، طفت بأرجاء البلدة وراقتني قلعتها المشرفة التي يحتلها الجيش في هندامه المرقع، ومنها أوغلت في أسواق المدينة «بازار» وهي ضيقة مغلقة مظلمة، لكنها بالغة الطول غاصة بالمتاجر، وهيرات أشهر بلاد الأفغان كلها في التجارة.
والنساء هناك محجبات لدرجة مبالغ فيها، فالإزار الخارجي يحكي «الكيس» قد زر عند الرأس، بحيث يلبس فيها وهو فضفاض من أسفله، وأمام العينين قطعة منه مثقبة بخروق للنظر والتنفس، وتحت الإزار سروال أسود سميك يتدلى إلى الحذاء، ويربط فيه فترى السيدة تمشي وهي تدب دبيبًا في كتلة واحدة تسترعي النظر، وبقدر ما رأينا من إباحة الفرس كانت الرجعية هنا في أشدها، وغالب القوم هنا سنيون يمقتون الشيعة وتصرفاتهم، ورغم أن الحكومة اليوم تشجع لباسًا للرأس جديدًا كأنه قلنسوة يكسوها وبر وجديل أسود، فإنك لا ترى واحدًا في المائة ممن يلبسونها، وكلهم يلبس العمائم ذوات الذؤابات الطويلة والأحذية العتيقة، تنتهي بذؤابتين طويلتين معقوفتين، حتى الأغنياء منهم؛ لذلك لم أعجب للانقلاب السياسي الذي حدث وطردوا من أجله الملك السابق أمان الله خان، فهو لم يفهم قومه قط، إذ كيف ساغ له أن يُلبِسهم القبعات ويرغمهم على السفور وما إلى ذلك مما أتاه مصطفى كمال، ويحاوله اليوم رضا خان بهلوي؟ هم لا يؤمنون إلا بتقاليدهم ويتمسكون بدينهم في إيمان شديد، ويكاد يحكم البلاد جماعة «الملاه» الذين يجب على الحكومة إرضاؤهم قبل الشروع في إنفاذ شيء جديد.
ولم أكد أرى أجنبيًا واحدًا بينهم ولا غير مسلم؛ ولذلك كانوا يرمقونني أينما سرت في شيء من الريب ويسألونني «مسلمان»، فأسرع بالإجابة «بلى»، وسوادهم أميٌّ وفي جهل عميق، وغالبهم يتكلمون بالفارسية، وقد ظهر لي أن جل ثقافة المتعلمين منهم فارسية، يجيدون كتابتها ويروون أشعارها وآدابها، وقد نقلوا جل آدابهم عن فارس، وفي مدارسهم الساذجة يقرأ الصبية الأدب الفارسي إجباريًّا، وتكاد تكون اللغة السائدة في الطرقات هي الفارسية، وكثير منهم يتكلمون الهندوستانية، ولغتهم خليط من الفارسية والهندية؛ لذلك كنت أتلمس فيها ألفاظًا عربية كثيرة كانت هي وما عرفته من الفارسية عونًا لي على التفاهم بعض الشيء، والأفغانية الصحيحة يتكلمها أهل قندهار فقط، أما في هيرات وكابل فالفارسية والهندية. وموسيقاهم خليط من الفارسية والهندية أيضًا في نغمات سائغة لآذاننا على أنها بدوية، والغناء أميل إلى الصياح المرتفع، وأحب الآلات الطنبور وآلة أخرى أضخم منه يسمونها «مادام».
والحالة الاجتماعية تثير الدهشة، فرغم الحجاب الذي يحوط المرأة فإن الفساد منتشر سرًّا، والأمراض السرية شائعة، والعجيب أن ذلك يقع رغم إقامة الحدود، فالزاني إذا ثبتت جريمته بشهادة ثلاثة شهود، أو واحد يزكيه اثنان محترمان، أُلقي علانية من فوق قلعة البلدة إلى الأحجار المتراكمة من دونها مسافة لا تقل عن خمسة وعشرين مترًا، ويغلب أن يموت، والزانية توضع في كيس يحوطه الجند ويؤمر المارة برجمها إلى أن تموت. واليوم كان موعد قصاص ثلاثة من اللصوص ثبتت عليهم جريمة السرقة، فأُحضروا إلى السوق، وكان قد أعلن منادٍ ذلك في المدينة، ونُفذ فيهم قصاص قطع اليد، فتقدم رجل البوليس ولف حبلًا حول ساعد الرجل وضغط الرسغ بين عضادتين من خشب كي يمنع سيل الدم، ثم أمسك رجل البوليس بيد الجاني، وأتى الجلاد بالسلاح الحاد، ثم شرع يقطع الجلد والعروق في احتراس وبطء شديد، أعقب ذلك ضربة قوية بآلة ثقيلة من حديد، فانفصلت اليد بعيدًا ثم غمر الجرح على الفور في زيت (روغان) يضطرب غليانًا، وقد نُفذ ذلك في ثلاثة أشخاص وهم في تألم شديد، ونُقلوا بعد إلى مستشفى البلدة البسيط حتى تلتئم جراحهم، وقد حاولت أخذ صورة لذلك، فأبدى القوم امتعاضهم، فامتنعت واعتذرت لهم، وكان يزاملني الدكتور باشفتس الألماني. والعادة أن السارق لأول مرة يسجن، وإذا تكررت قُطعت يده ثم رجله، والذي يحكم بذلك «المولاه» وهو مفتي الحكومة، وطبقة العلماء هم القوَّام على القانون في تلك البلاد، وقد شاهدت رئيس الشرطة ونحن في مجلسه مرة يسأل الألماني عما يفعلون لمنع الفساد فوق ما هم فاعلون اليوم، فقال بأن شيئًا من الحرية والتسامح في الأحكام خير وأجدى! وقد اقترح إباحة البغاء الرسمي في مناطق معينة وهو هناك لا يباح قط.
وسرني ما لاحظته هناك من عدم وجود التسول رغم فقر البلاد وعوز أهلها، مما أشعرني بأن في نفوسهم شيئًا يأبى عليه الاستجداء، عكس ما لاقيته في فارس التي يرى الإنسان فيها من أمر المتسولين وكثرتهم عجبًا، والحكومة الأفغانية تحرم التسول، وقد أعدت «دار أيتام» في البلدة يأوي إليها العجزة والمعوزون، وهناك مستشفيان أحدهما عسكري والآخر مدني لعلاج المرضى وإيوائهم مجانًا، وتلك فضيلة أخرى. ويلحظ الزائر الفرق الشاسع في أجسام الناس في تلك البلاد، فهي ممتلئة تبدو عليها علائم القوة والصحة عكس أبناء فارس النحال الهزال من سوء التغذية والإسراف في المسكرات والأفيون والغانيات؛ ولأن كثيرًا منهم من اللقطاء الذين أهملتهم أمهاتهم من زواج المتعة فشبوا مفتقرين إلى الرعاية الصحية والتغذية الوافية.
زرت يومًا أحد سراة القوم وهو مختار زادة من أكبر تجار هيرات، وكان معي له خطاب توصية من بعض خلَّانه في مشهد، فدخلت داره وإذا مدخلها من السوق صغير لا يشعر بعظمة، لكني ألفيتها من داخلها فاخرة، قسم الحريم منعزل في الداخل، والجزء الظاهر (وهو المضيفة) أعد بالبسط الثمينة والحشيات والتكات، ويتوسط كل حجرة مصباح في طول قامة الرجل يوقد بزيت البترول، وقد استقبلني بعض ذويه، وشربت شايهم الممتع، ولبثت أنتظر حضور صاحب الدار نحو ساعتين فلم يحضر، فقمت وشكرتهم وتركت لهم خطاب التوصية، وأفهمتهم منزلي من المطعم السابق ذكره، وكنت أنتظر من كرمه الذي سمعت عنه أن يزورني في مكاني فلم يفعل ذلك، فقلت في نفسي وأنا آسف أن زرته: هل يقع مثل ذلك في مصر وهل يجيزه الكرم المصري؟ وخُيِّل إليَّ أن الكرم الذي سمعته عن ذاك الرجل لا بد أن يكون كرمًا نفعيًّا يختص به عملاءه ومن لهم قِبله مصالح مادية، وهيرات محط أغنى الممولين في إيران لأنها أكبر المحاط التجارية، وحولها مزارع غنية وأرض خصبة وماء وفير، وخير ما تصدِّره القطن والأفيون والرعي والفستق والجوز واللوز والبندق، على أن افتقار البلاد للتعليم ورءوس الأموال لم يمكِّنهم من استغلال أرضهم. ويخضع لولاية هيرات نحو مليونين من مجموع سكان الأفغان البالغ عددهم ستة ملايين، ووحدة النقود الأفغانية «القران الأفغاني»، وكان يعادل القران الفارسي، سُكَّ من معدن خفيف كأنه الألمنيوم الممزوج بالنحاس في لون أغبر قذر، وهو أكبر أنواع النقود، ولا يزيد حجمه على القرش عندنا، وله كسوره النحاسية الكبيرة، وليس في البلاد نقود ورقية (بنكنوت) قط لأنهم يجرمون إقامة المصارف، فالتعامل التجاري كله بالقران، فالتاجر يقبض دينه أو ثمن بضاعته منه مهما كثرت؛ لذلك ترى كلًّا منهم يحمل آخر اليوم أكياسًا ثقيلة كبيرة يكاد ينوء الواحد بحملها، وترى كلًّا ينتحي جانبًا ويكدس النقود بجواره ويشرع في عدها ويستغرق في ذلك زمنًا. وكان سائق السيارة التي ركبتها عائدًا إلى فارس يحمل كراءه من القرانات في أكياس ثقيلة، أعني خمسة عشر جنيهًا كلها من تلك النقود المعدنية، وكانت فوق ألف قطعة، وكم كان ارتباكي عظيمًا عندما دخلت فارس ولم يكن معي سوى ورق فارسي قيمته اثنا عشر جنيهًا، فلم يقبله مني أحد اللهم سوى جمهرة من صيارفة اليهود، وقد تقاضوا عليه عمولة فاحشة، وهم لا يقبلون أي نوع آخر من النقود أو الورق، أما الشيكات التي كانت معي فلم أستفد بها هناك قط؛ لذلك اقترضت من السائق ما احتجت إليه فوق ما معي من نقودهم، على أن أردها إليه في فارس، وقد أودعت معه بعض الشيكات رهينة حتى صرفتها في مشهد وأعطيته حقه.
ويظهر لمن يزورها لأول وهلة أنها بلدة قديمة أثرية بناها الإسكندر المقدوني على نهر آريوس الصغير المعروف بنهر هراة أو هرى، وسماها آرية باسم النهر والإسكندرية باسمه، وقد فتحها الأحنف بن قيس في خلافة عمر، وأظهر ما يُرى فيها أطلال سورها القديم وقلعتها المشرفة وبقايا مسجدين فاخرين تقوم منائرهما السبع وإحدى القباب يغشاها جميعًا القيشاني في لون اللازورد والفيروز وفي أشكال هندسية، وقد بناها هارون الرشيد، وفي البلدة مدافن لكثير من أولياء الإسلام وعلمائه، أذكر من بينهم الفخر الرازي وعبد الرحمن الجامي وعبد الله الأنصاري والحجة عبد الله المصري، ويقصُّون عن كراماته أن ماء البئر التي في مدفنه يرد من مصر، ويقولون: إن الأولياء الذين يدفنون حول أولئك اثنا عشر ألفًا؛ لذلك تُسمَّى هيرات عندهم بلدة الأولياء، وقد زرت كثيرًا منها وغالبها متهدم، ولعل أفخرها مدفن الأنصاري المؤرخ في ٨٥٩ﻫ، فهو وسط مسجد فاخر حول فنائه مجموعة من الأولياء وبه مدرسة لحفظ القرآن ووقفت بقبر الفخر الرازي طويلًا وهو من كبار مفسري القرآن الكريم وصاحب كتاب مفاتيح الغيب. وكل تلك المدافن في حجر الجبل وحولهم المزارع والأشجار، وفي مواسم خاصة يحج الناس إليهم وينامون في أماكن أعدت لذلك.
وفي المدينة بعض المنشآت التي اختطها الملك السالف أمان الله في شوارع فسيحة أقيمت على جوانبها المباني المتشابهة من الآجر الأصفر الكبير يتوسطها بعض الشجر والزهر، لكني ألفيت غالبها متهدمًا من يد الثوار، فقد كان ذلك الملك مصلحًا طموحًا إلى رفع شأن بلاده، وكان في أخريات حكمه ينقل نظمه كلها عن تركيا وألمانيا، ويجاهر بالنفور من الأجانب وبخاصة الإنجليز؛ لأنه علم بمدى مطامعهم في بلاده المجانبة للهند، لكن أولئك انتهزوا فرصة غيابه في رحلته وبثُّوا الدعوة ضده، وقام «لورنس» يهب الأموال للعشائر ويشوه سمعة الملك، وأنه أضحى ملحدًا يريد الاعتداء على الدين كما فعل مصطفى كمال في تركيا، بدليل أنه يريد نشر القبعات واختلاط السيدات بالرجال ومخاصرتهم إياهن، ونشر بعض صور للملك وزوجته يرقصان وسط الرجال في مراقص أوروبا، حتى قالوا: إن المال الذي أنفق في سبيل ذلك مليون ونصف مليون جنيه، وكان أمان الله قد نقل كثيرًا من العادات والأزياء الأوروبية حتى لبس كثير من أهل هيرات الأردية الإفرنجية، وظهرت القبعات فاهتاج الشعب الساذج، وقام بالثورة وحطم كل ما أقامه أمان الله من إصلاح حتى آلات توليد الكهرباء التي رأيناها محطمة هي والأسلاك التي مُدَّت في أرجاء المدينة، على أني كنت أسمع من الكثير نغمة الندم على ما فعلوا؛ لأنهم أدركوا مبلغ وطنيته، ولاحظوا مدى بسط النفوذ الأجنبي اليوم وإن كان خفيًّا. وكان يتفقد جنده بنفسه ويوصيهم بقوله: اعملوا لوطنكم أولًا ثم لدينكم ثانيًا ثم لأنفسكم، وكان ذلك مما أهاج عليه المولاه رجال الدين؛ لأنهم فهموا أنه يريد القضاء على شعوذتهم كما فعل مصطفى كمال.
وكان يسترعي نظري كثرة السحن الصينية وأولئك من التركمان، إذ إن جزءًا من التركستان داخل في حدود الأفغان، وتركستان الروسية على مسيرة أربع ساعات من هيرات فقط، وهؤلاء يتكلمون لغة خاصة، وأعجب ما في لباسهم غطاء الرأس فهو للرجال كرة هائلة من الوبر أو الصوف الأسود المنفوش، وللنساء شبه أسطوانة كبيرة القطر لكن ارتفاعها لا يعدو عشرة سنتيمترات تُكسَى بالقماش الملون. والأفغانيون طيبو القلب إلا أنهم على شيء من الجفاء في الحديث والخشونة في اللفظ، وغالبهم سذج لا يزالون على فطرتهم، ويبدو افتقار البلاد إلى المال من بساطة دور الحكومة وما فيها من أثاث لا يكاد يعدو البسط تفرش، ويجلسون عليها في جلابيبهم وأمام مدخلها الأحذية الغريبة تراها تصف في شكلها البدوي، وبعضها لعلية القوم ملونة مزركشة «بالقصب»، كذلك رجال البوليس والجيش فهندامهم مختلف، بعضهم بالجلابيب والبعض بالحلل المهلهلة، وعلى رءوسهم قبعات فطساء من أمام ومن خلاف، وفي قبعة الضباط ذؤابة من جدائل لامعة تتدلى إلى اليمين من وجوههم، وقد زرت رفقة صديقي الألماني رئيس الشئون الخارجية (مأموريتي خارجي)، ويجب على كل زائر أن يمر عليه ليتسلم منه جواز السفر مؤشَّرًا عليه منه، وإلا لا يسمح له بالخروج، وهم هناك كثيرو الشك في الوافدين والراحلين، تسلموا الجواز مني بمجرد دخول السيارة البلدة، وحفظوه في «النظمية»، وعند السفر كان لا بد من الذهاب لتسلمه من رئيس الخارجية، هناك قدمت خطاب التوصية فأحسن استقبالنا وشربنا الشاي، وبعد القدح الثاني نكسته في الطبق بعد أن أبقيت فيه جانبًا، فسألني رفيقي الألماني عن سبب ذلك فأفهمته، ففعل مثلي، وبعد أن تسلمنا الجوازات ضرب المأمور معنا موعدًا أن يوافينا عصرًا لزيارة بعض أماكن هيرات بمعاونته، فشكرناه وانصرفنا، على أنه لم يفِ بوعده ولم يعتذر، فلم يرقنا منه ذلك رغم ثقافته ومكانته في بلاده.
لبثت أقيم على مضض مني في هيرات انتظارًا لسيارة، وفي كل يوم يؤكد لي صاحب «الجراج» أن السفر «فاردا» أي غدًا، وفي اليوم الخامس قمت صوب قندهار، وبعد مسيرة يوم في تلك الأرض الجبلية المقفرة تعطلت السيارة، ولم نقطع ثلث الطريق، وفهمت أننا سنقف حيث نحن طويلًا، وإذا بسيارة راجعة إلى هيرات، وهي تنقل سلعًا تجارية، ففضلت أن أعود فيها؛ لأني خشيت فوات الوقت عليَّ، وفي هيرات مكثت يومين آخرين رفقة زميلي الألماني، وكنا نجول سويًّا ونجلس في المطعم نتناول الشاي، ومن حولنا بعض أهل البلدة، وقد بلغت بهم سذاجتهم أنهم كانوا كلما رأوا معنا شيئًا أحبوا أن يُهدَى إليهم وحتى الكوث (الشبشب) طلبه أحدهم مني وأصر على أخذه، وكانوا يسألوننا بعض صور السيدات فقط، فقدم لهم «پاسفتس» بعض صوره هو فرفضوا وقالوا: ما لنا وهذه نحن نريد صورًا لسيدات جميلات، وكانوا يشربون جميعًا «النرجيلة أو الشيشة»، وبعضهم يمضغ مسحوقًا أخضر من مركبات خمسة أو أكثر عرفت منها الطباق والجير والملح والزرنيخ، ويظلون يبصقون بشكل منفر بصاقًا أخضر كريهًا.
أما رفيقي پاسفتس فرجل واسع الاطلاع يتجول لحساب حكومته ويعمل على توطيد العلاقات بينها وبين البلاد التي يزورها، وهو يجيد عشر لغات، ومعه من الآلات الكاتبة وآلات التصوير الدقيقة شيء كثير، وقد قص عليَّ أنه كاد يفقد حياته لما أن دخل الحرم في مشهد ولم ينقذه من المسلمين إلا شهادة ابتاعها من أحد علماء طهران تقول بأنه مسلم، وتلك يعطيها عالم خاص هناك لكل من طلبها مهما كانت ديانته مقابل دفع عشرين تومانا (أي نحو جنيهين ونصف)، فأبرزها لهم وادَّعى أنه مسلم فعفوا عنه، والأفغانيون شديدو التعصب أيضًا، وقد حاول دخول مسجدهم الجامع في يوم الجمعة فأبوا عليه ذلك، وكان المسجد مكتظًّا بالمصلين وكانت جميع الأعمال معطلة؛ لأنهم يحترمون يوم الجمعة احترامًا كبيرًا.
قمت صباح ٢٩ أغسطس أتوقع خبرًا بالسفر من رب «الجراج» شأني في كل يوم، وقد نفد الصبر ومللت البقاء هناك، وإذا بسيارة كبيرة تقف أمام المطعم يناديني صاحبها، فاستبشرت وودَّعت الرفيق الألماني الذي كان ينتظر سيارة إلى كابل، وركبت برفقة وفد من المسافرين يقصدون مشهد، وفي طليعتهم «مولاه» أفغاني الأصل، لكنه يقيم الآن في مشهد، رجل وقور نال منه الشيب وأرسلت لحيته تحت فمه الكبير وأنفه المنتفخ الغليظ، وبعد أن قُرِئت الفواتح والدعوات وانهال الناس على يديه تقبيلًا تحركت السيارة بسم الله مجراها، وما كدنا نستغرق ثلاث ساعات حتى اعتراها عطب جوهري، وبعد محاولة فاشلة لإصلاحها استغرقت ساعة حمَّل السائق محور العجلتين (الأكس) رجلًا وكلَّفه أن يعود به إلى هيرات ماشيًا على الأقدام ليصلحه ويعود إلينا، وقد قرر الجميع أنه سيعود في «بنج ساعات فقط»، فقلت أيقطع الرجل في خمس ساعات ما قطعته السيارة في ست ذهابًا وإيابًا؛ مما أثبت لي عدم درايتهم بالزمن قط، ولبثنا ننتظر اليوم كله إلى الصباح أي نحو خمس عشرة ساعة. وكان وقوفنا هذه المرة في جوار رهط من البدو ضربوا خيامهم بجانب الطريق يجاورهم مجرى للماء، فأحاطوا بنا، وسرعان ما أحضروا خيمة أقاموها للنساء من ركبنا، ثم دعوا فريقًا منا لزيارة خيامهم، وكانت الداعية هي رئيسة القبيلة عجوز شمطاء قد أحنى ظهرها كر السنين، وقد بدا لنا أنها صاحبة الكلمة النافذة في كل من حولها. جلسنا وسط الخيام وكان عددها يناهز العشرين، أقيمت في شكل هلال، وأخذنا نسمع جلبة في داخلها وحركة اهتمام بأمرنا، وبعد قليل قُدمت لنا قصعة ملئت من فطير صب عليه المسلى في كثرة عافتها نفسي، وإلى جانب ذلك كثير من الرقاق وكعك أسمر تعوز كل أولئك النظافة، ولم تكد النفس تسيغ الأكل لولا أنه فُرض علينا، وكم تعثرت أسناني في الحصى والأوساخ، هذا إلى قذارة يد العجوز التي كنت أراها تكنس الأرض بها، وبين آونة وأخرى تمخط فيها، ثم أعدت لنا بعض الفطير بنفسها وقد تبين لنا أنهم فقراء مدقعون، فأدهشنا هذا الكرم الذي لا يفارق البدو حتى في بلاد الأفغان، وبعد أن أكلنا نحن الأضياف نُقل الإناء إلى العجوز جوارنا فأكلت منه قليلًا، ثم سلمت ما تخلف لرجال القبيلة فأكلوا جانبًا منه، وما بقي بعد ذلك حُمل إلى النساء داخل الخيام. وأكثر من ثلث سكان الأفغان من هذا الفريق المتنقل الذين يرحلون بقطعانهم من الإبل والحمير والخيل والأغنام، وقد هجمت تلك علينا ونحن نأكل عند الغروب حين وفدت من مرعاها فكانت كأنها أليفة مستأنسة يقرب البعير برأسه حول وجوهنا كأنه يقبلنا وكأنه ورث الكرم عن سادته. رجعنا إلى سيارتنا وكانت الريح الشمالية تعصف في شدة مؤلمة، فلبثت داخلها أرتعد من البرد الليل كله، أما سائر المسافرين فلديهم فراشهم، وهم يتوقعون ذاك العطل دائمًا؛ ولذلك تجدهم لا يهتمون لشيء قط، ويقابلون كل حادث بصبر عجيب. استأنفنا السير وسط تلك المتسعات شبه الصحراوية حتى وصلنا إسلام قلعة، وتعطلنا خمس ساعات بسبب تلكؤ الموظفين، وذلك أمر ألفناه من قبل، ثم جزنا الحدود الفارسية، وفي كاريز فُتشت أمتعتنا وواصلنا السير حتى خيم الظلام، فاضطررنا للوقوف حيث كنا لإمضاء الليل؛ لأن مصابيح السيارة أصابها العطب والسير في ضوء القمر في تلك الطرق الرديئة خطير جدًّا، فسحب كل فراشه ولبثت أنا أرصد النجم وسط قر البرد حتى الصباح، حين قمنا مبكرين نشق سهولًا مهملة إلا في بعض بقاع رأينا بها القطن في نوره الأصفر البديع، ولم يعدُ علوه القدم الواحدة مما يشعر بضعف نتاجه هناك، والقرى التي كنا نمر بها صغيرة نادرة، والأراضي مهملة إلا في زراعة البطيخ والشمام، وهذا جيد ورخيص، كنا نشتري بخمسة مليمات ثلاث شمامات أو أقة من «الانجور» أو العنب الذي تشتهر به البلاد، وكثير منه «بناتي» بالغ الحلاوة، وكنا كلما مررنا بقريةٍ أقبل أفواج من أهلها يقبلون أيدي الشيخ «المولاه» ويطول الحديث بينهم، وكان يزورهم أحيانًا في بيوتهم، وكلما مررنا ببلدة بها ولي قصد إلى زيارته ونحن له منتظرون، فلم أطق صبرًا على هذا العطل الممض، فأعلنت احتجاجي، وكان الشيخ يفهم شيئًا من العربية فكان كل ما يقوله هو وسائر المسافرين: «صبركون»، أي اصبر، لكني لبثت مظهرًا الامتعاض حتى أثر فيهم، وسرنا هذا اليوم بدون توقف حتى أقبلنا على مشهد الساعة التاسعة مساء، وكلما هموا بالتوقف للاستراحة صحت غاضبًا بالفارسية: «راحات لازم نيست»، وأول ما بدا قبس من أضواء المدينة المقدسة صاحوا جميعًا «لاهم سلى ألى مهمد آل مهمد»، ثم قرأ العالم دعوات طويلة جلها مدح في الرضا ولعنات على من قتله، ثم أخذ كل يناول السائق بعض إنعامه، وكنا كلما تقدمنا نحو المدينة في سيرنا البطيء، على قبس مصابيح السيارة الفاترة تنكشف أنوار الحرم حتى بدا متلألئًا بالثريات التي تكاد تكسو مآذنه وقبابه كلها، ونظل كذلك طوال الليل على الدوام فيبدو مشهدها ساحرًا، ثم مررنا بمخفر البوليس عند مدخل المدينة، حيث وقفنا للتأشير على جوازاتنا وأخذ رجال البوليس يتلكئون حتى ناولهم السائق بعض ما تيسر، وهكذا كان «القران» هو المذلِّل لكل الصعوبات في تلك البلاد! ونمت ليلتي في النزل نومًا عميقًا، وكنت أشعر بحمى خفيفة من أثر ما أصابني من برد الليلتين السابقتين.
وفي الصباح زرت صديقي «أمين غنيمة أغا»، وهو بيروتي على جانبٍ كبير من كرم الطبع ورقة الحاشية، يتجر في مشهد في شئون الحاكي (الجرامفون)، ويحبه القوم حبًّا جمًّا، وكانت معرفتي به، يوم حللت مشهد لأول مرة، فبينما كنت أسير في الطريق، وإذا شاب مهذَّب يناديني بالعربية، وهو يحب مصر ويشيد بذكرها، وحوله زمرة من السوريين يتجرون في السيارات ولوازمها، ويربحون من وراء ذلك ربحًا طائلًا، وفي الحق أن الشعب السوري لنشيط يسعى وراء الرزق في أقاصي الأرض، ولا ينسيه حنينه لوطنه المادة والمال، فهو يقيم حيث يطيب له العيش، ولا يقنع بالقليل زهدًا في التغرب والنزوح بعيدًا عن بلاده، ولقد كنت من قبل أسيء فهم السوريين لما كنا نراه من شرذمة نفعية ممن يعيشون منهم في بلادنا، ولكن تلك أقلية لا شك توجد في كافة شعوب الأرض مهما سمت.
إلى طهران ثانية
قمت في سيارة صغيرة جديدة، فكان حظي موفقًا هذه المرة، إذ سرنا في سرعة مدهشة عوَّضت شيئًا مما سلف، فقطعت المسافة كلها في يومين بالضبط، وكنا نسير النهار من مشرق الشمس إلى مغربها ونستريح الليل، وقد بدا طريق خراسان ممهدًا بالنسبة لطرق الأفغان الوعرة، لكن لم تخلُ رحلتي هذه أيضًا من تنغيص هو التراب الذي أفسد عليَّ كل شيء، مزاجي وملابسي، لذلك كنت أُضطر للوقوف مرة كل ساعتين أغسل وجهي بالماء، وأكثر من النصف الأول من الطريق سهول تَحُفُّهَا التلال في الآفاق وتكثر بها القرى وتزرع بها بقاع متفرقة، وهنا أرض التركمان الذين كانوا نذير الفزع وقُطَّاع الطرق، وكانت تخشاهم حتى الحكومة نفسها، فكم أبادوا من قوافل ونهبوا من متاع وأموال، لكنهم اليوم عادوا أطوع للحكومة من سائر الطبقات بفضل شدة الشاه الحالي الذي ضرب على أيديهم وأخذهم بالقوة، فأينما سِرْنَا كنا نرى محاط البوليس بأسلحتهم الكاملة، والإيرانيون يفاخرون اليوم بأن الأمن سائد في جميع بلادهم رغم ما فيها من مخابئ ومفاوز.
ويقولون بأن الشاه يمر بنفسه على الحكام ومخافر البوليس متخفِّيًا في الليل والنهار مهما بعدت أطراف الإقليم؛ ليقف بنفسه على ما يجري، ولا يترك صغيرة تنفذ في البلاد كلها دون أن يجيزها بنفسه، حتى ترقية الضابط أو الموظف الصغير. وكان يرافقني في السيارة شيخان عراقيان وسيدة وفدوا للحج إلى مشهد، وكانوا كلما مرت بنا سيارة تحمل الحجاج يصيحون عاليًا «التماس دعاء»، ولقد عجبت لكثرة تلك السيارات، فقد أحصيت في سبع ساعات من الليل ثلاثين سيارة كبيرة متوسط حمولة كلٍّ عشرون شخصًا، أعني نحو مائة سيارة في كل يوم بها ما بين ١٥٠٠ و٢٠٠٠ من الحجاج يفدون إلى مشهد، مع العلم بأنَّا لم نكن في موسم الزيارة، فأدهشني هذا الإيمان العجيب في الرضا ومكانته السامية من قلوبهم، وكثيرًا ما سألني رفقاء السفر «أفي مصر شيعيون؟» فأقول: كلا. وعندئذ يُبْدُونَ علامات الأسف ويرمقونني بنظرات كانت تنم عما تُكِنُّ قلوبهم لنا من لعنات.
استرحنا ليلتنا الأولى في «سبزوار» وهي عاصمة ولاية كبيرة، وفي ظهر اليوم التالي وقفنا قليلًا «بشاروت» وهي شبيهة بسابقتها وبعد «سمنان»، وهي من العواصم الكبيرة انتهت السهول وبدأت الربى بتعقيدها الشديد، فأخذنا نصعد ونهوي في ليات مخيفة من دونها الهوى والوديان السحيقة تتوسطها مجاري الماء، ومن حولها الشجر والقرى، وقد كان البرد شديدًا وبدت بقع من الثلج الأبيض فوق الذرى والثلج يكسو بلاد خراسان كلها، وغالب بلاد فارس مدى ثلاثة شهور الشتاء، وفيها يكون البرد قارسًا والسير في الطرق متعذرًا؛ لأن جوها قاري متطرف شديد الحر صيفًا قارس البرد شتاء. ومن هذا الثلج وما يجمد من النقائع يدخرون جليد الشرب «ياخ» في سراديب عميقة في الأرض تفرش بالغرائر (الخيش)، ومن هذا تستمد المدن والقرى مرطبات الصيف، وإننا لا نكاد نمر في طريق أو قرية إلا ونرى الصبية يحملون الماء والثلج في كتل غير مشذبة تمازجها الأتربة والأوساخ، وهم دائمًا ينادون «آب ياخ»، أي «الماء الثلوج»، وهو زهيد القيمة جدًّا. ومن أعجب المناظر في طهران الحمَّالون الذين يسيرون وعلى ظهورهم كتل من الثلج في حجم الصخرة الكبيرة يكسوها القش والأتربة، يسير الرجال بها وئيدًا وهي تقطر ماءً من جميع جوانبها ويقولون بأن هذا الثلج خير للصحة من الثلج الصناعي.
هبطنا آخر الربى فبدت طهران وسط صحراء مجدبة في بقعٍ متفرقة خضراء كأنها الواحة، وقد شعرنا بأنها أدفأ جدًّا من أرض خراسان. استرحت في طهران يومين زرت فيهما مساجدها الفاخرة بقبابها المتعددة ومناراتها القصيرة ثم البرلمان المتواضع، وكنت أمضي كثيرًا من وقتي في دار المفوضية المصرية، وهناك كان يؤنسني آلها بما جبلوا عليه من الخلق النبيل والطبع الكريم، وكم أسدوا إليَّ من خدمات سهلت لي كل عسير ورجال المفوضية على جانب عظيم من الإخلاص والجد والخلق العظيم، يمثلون مصر في تلك البلاد الإسلامية تمثيلًا مشرفًا، يشيدون بمجد مصر، ويقومون لها بدعاية طيبة، وللسفارة داران، أحدهما في وسط البلدة، وبها دار لوزيرنا الهمام ينزلها شتاءً، ومنزل الصيف في ضاحية تسمى «شمران» في حصن جبل «دمافاند»، ويقطنها طبقة الأرستقراطيين والأغنياء والسفراء، والداران من القصور الفاخرة التي تدل على الفرق الشاسع بين ما كان عليه الحكام والأرستقراطيون — وهم أقلية في قوم فارس — من البذخ والرفه، وبين ما كان عليه العامة من البؤس والشقاء، ويُخيَّل إليَّ أن همهم كان ابتزاز المال من الناس والاستمتاع به دون أن يعنوا بشئون العامة كثيرًا ولا قليلًا، وكان يُعرَف عن حكام الفرس أنهم يولون بكثرة ما يدفعون للشاه وللحكام والوزراء من مال، وكانت كل الوظائف تباع، وبعد قليل يوقف الموظف ليولي بدله على أن المرفوت يخرج موفور المال رغم قصر مدته في العمل ويقص البعض أن أحد المولاه هناك بكى ليلة ولما سُئل عن ذلك قال بأن النهار قد انقضى ولم يزد ما جمعه على ألف جنيه فقط، وكاد يؤيد هذا لدى ما رأيته.
فبعض تلك القصور قد بلغت من الوجاهة حدًّا لا يكاد يُرَى في الممالك الأخرى، بينما ترى سواد الأمة في أجحار وأقبية من الطين ليس فيها وسائل الراحة أو شئون الصحة، حتى شهر عن الفرس التقشف، وأنهم لا يُعنَون بوسائل الراحة والترف كما يُعنَى بها الأوروبي، وقلة وسائل الترف لا تؤثر على كرامتهم أو سمعتهم في نظرهم، وهم يعدون ذلك فضلًا يجب على الغربيين أن يتعلموه عنهم.
إلى بحر الخزر
قمت صوب شمال طهران لأرى الجزء الشمالي من إيران، وما كدنا نخرج بوابات المدينة — وبوابات طهران فاخرة تؤدي منها إلى جميع الجهات وهي أخص ما يسترعي نظر السائح هناك — حتى استوقفنا البوليس كعادته، ولما رأى الجواز قال هذا لا يكفي ولا يباح الخروج من طهران إلا بتذكرة من «النظمية»، قلت: ولكني سائح سأغادر بلادكم، قال هذا لا يكون، ولا بد من العودة والحصول على الترخيص المطلوب، وكان رفيقي في السيارة من كبار الموظفين، فتعاونا على إفهام رجال البوليس بأن تأشير النظمية موجود وأروهم طابعًا فيه، وبعد جدل طويل غلبتهم حيلتنا وجزنا النطاق، وقد ساعد على ذلك جهل البوليس فهو هناك لا يكاد يعرف القراءة.
لبثنا نسير من السادسة مساء إلى الأولى صباحًا، وقد تعب رفيقاي وكان أحدهما طالبًا في بروكسل وهو عائد لاستئناف دراسته عن طريق بحر الخزر والروسيا، فاضطررنا أن نوقف السيارة وسط الطريق، ونمنا ونحن قعود بها، وأدهشني أن رفيقيَّ قد شعرا بارتباك في المعدة أعقبه قيء من أثر ارتجاج السيارة، فأذكرني بمرض البحر وما كان يسيء إليَّ يوم كنت حديث عهد بركوبه، ومسافة الطريق إلى بحر قزوين ستون فرسخًا، أي نحو أربعمائة كيلومتر، كانت المناظر في النصف الأول منها مألوفة من ربى تحوط متسعات من أرض مهملة، وما كدنا نوغل في النصف الأخير حتى زادت عقد الجبال في صخرها الأغبر المنحل، وغالبه من الجير الذي اسودَّ بمضي السنين وكثرت الالتواءات الأرضية وزادت طياتها، وكنا نشاهد ذلك في جوانب الجبال واضحًا، وأخذ الطريق يعلو ويهبط ويلتوي على نفسه مرات متعاقبة وعورة لم نعهدها من قبل، وقبيل:
الرشت
وكلما قاربنا الرشت بعدت عقد الجبال وانفسح السهل وغص بالقرى والمزارع التي شهرت من أجلها البلدة، وبخاصة في الأرز والطباق، وهذه الناحية أشهر بلاد فارس في الزراعة والطباق اليوم آخذ في الزيادة هناك على حساب الأرز، وقبيل الساعة العاشرة صباحًا دخلنا: الرشت: التي كانت عاصمة بلاد الديلم قديمًا، وهي اليوم عاصمة مقاطعة جيلان بدت مدينة عامرة كبيرة أخف روحًا حتى من طهران نفسها، وأرضها أنظف وأهلها أكثر حركة ورشاقة، وقد حاكت المدن الأوروبية، ويظهر أنها تأثرت طويلًا بالروس يوم كان لهم النفوذ في هذه المنطقة؛ لذلك كانت جموعهم كثيرة في البلدة نساءً ورجالًا، واللغة الروسية منتشرة بين الجميع إلى جانب الفارسية وغالب مبانيها من طابق واحد تظهر وكأنها أقيمت كلها من جديد، والبيوت ذوات سقوف متحدرة يكسوها الآجر الأحمر خلاف ما شاهدنا في سائر جهات فارس؛ ذلك لأن مطر المنطقة غزير جدًّا يفوق مقداره المتر، ويظل المطر أكثر من ثمانية شهور، وبخاصة في شهور الشتاء، ولم تخلُ السماء من الغيوم ساعة واحدة، وكان الجو أميل إلى الرطوبة وسببها رياح سائدة تهب شمالية غربية من بحر الخزر على تلك المرتفعات فتغرقها مطرًا وتكسو ذراها ثلجًا، وفي الشتاء تزيدها أعاصير البحر الأبيض التي تندفع من قزوين إلى بحار الهند الدَّفِئة وخفيفة الضغط حتى في هذا الفصل الجاف؛ لذلك قل بها التراب الذي كان ينغصنا في بلاد فارس كلها، وكان جوها لطيفًا محتملًا عن طهران، إلا إذا انكشفت الشمس عن الغيوم، فعندئذ يصبح الحر شديدًا، على أن الجهة تعرف بكثرة الحميات في جوها غير الصحي بسبب الحرارة والرطوبة معًا، وقد زادها حرًّا انخفاض سطح بحر الخزر، وهو أوطأ من مستوى البحر الأسود ٨٤ قدمًا؛ لذلك يجري القول على لسانهم هناك: ماذا أذنب فلان حتى يولَّى حاكمًا على الرشت: على أن حظي كان موفقًا إذ كانت أيامي هناك أجمل أيام قضيتها في إيران كلها. وبالمدينة مجموعة من متنزهات منسقة أنيقة تقوم بها المقاهي الحديثة، وفيها يسمع المرء الموسيقى الشجية وقد اختلطت الأنغام الفارسية بالروسية، وكلاهما مما تستريح له آذاننا.
أقلتنا السيارة إلى بهلوي على شواطئ بحر الخزر — ولا يسمونه هناك بحر قزوين قط — والمسافة أربعون كيلومترًا فكان الطريق يتلوى وسط الأحراش الكثيفة المتعلقة التي حاكت الأحراش التي رأيتها في بنغالة في بلاد الهند، ويقولون بأن فيها كثيرًا من الحيوان المفترس خصوصًا النمر، ومن أعجب ما رأيت في الطريق كثرة الكروم البرية التي كانت تنمو في كل مكان، ويقول البعض: إن كروم أوروبا جاءت عن تلك الناحية وعن القوقاز. أخذ الشجر يقل كلما قاربنا البحر حتى انعدم وأضحت السهول تكسى ببساط من خضرة إلى البحر، وكنا نرى بيوت القوم أخصاصًا من أعواد الخشب يكسوها القش الثقيل في شكل مخروطي أو منحدر السقوف، فذكرت مساكن الغابات الاستوائية على ضفاف فكتوريا نيانزا تمامًا، والقوم يستأصلون الأحراش من مساحات يزرعونها من الأرز والطباق والقطن والكتان، والعمل يقع كله على السيدات اللاتي كن يظهرن في ملاءات بيضاء ناصعة، وقد استرعى جمالهن نظري، فهو مخالف للسحن الفارسية البحتة، ويظهر أن اختلاط الروس بالفرس، هنالك أكسب أولئكن جمالًا عالج كبر الأنف الفارسية وأشرب اللون الفارسي الأبيض الناصع بعض الحمرة الروسية الجذابة، والناس في تلك الجهة يموِّنون أنفسهم بكل شيء من عمل أيديهم، وحتى الملابس ينسجونها ويربون دود القز.
والمنطقة المجانية لبحر الخزر إلى شمال جبال البرز كلها كثيفة الغابات من مقاطعة «مازندران» شرقًا إلى «أذربيجان» غربًا، وسكانها يفوقون مائة ألف، وكل تلك السهول من مخلفات بحر الخزر الذي كشفها وهو آخذ في النقص من أثر البخر الشديد. أخيرًا دخلنا بهلوي: فكانت بيوت الفقراء أخصاصًا على نمط تلك التي في الغابات، يحوطها سور من غاب وحولها حدائق لا بأس بها، وعلى البحر أقيم الميناء تحفُّها مجموعة من أبنية غالبها للجمرك ومرسى للسفن، وتصفُّ إزاءها الزوارق للنزهة، وتلك الجهة تسمى «غازيان» وإذا ركبنا البحر أقبلنا على شبه جزيرة تبدو بها المباني الفاخرة والشطآن المنسقة، وهذه هي «بهلوي أو أنزيلي قديمًا». ركبت البحر إليها في ربع ساعة، وإذا بها آية في التنسيق والنظافة، بيوت فخمة وطرق مرصوفة ومتنزهات عدة، وقد مدت على شاطئ البحر الحدائق والمقاهي، فكنت وكأني في إحدى مدن الرفييرا، وفي الحق أن تلك الجهة من فارس فريدة تختلف عن سائر جهات فارس في كل شيء في طبيعة الأرض، وفي الجو وفي النبت وحتى في سكانها فهم أكثر نشاطًا وجمالًا أما الناحية الخلقية فهي هنا أكثر فسادًا، ولا شك أن للإباحة الروسية المقيتة أثرًا كبيرًا في ذلك. قامت الباخرة الروسية من الميناء تقل رفيقي إلى باكو في ثماني عشرة ساعة؛ ومن ثَم يستقل القطار الروسي إلى بركسل، وقد حدثني طويلًا عن الروس وما هم فيه من بؤس مميت، إذ لا يكادون يحصلون على القوت، يُجبَرون على العمل مقابل تذكرة تبيح للواحد منهم تناول الطعام من مطاعم الدولة، وكثيرًا ما ينتهي الطعام قبل أن يحصل جميع الناس عليه لكثرتهم، فيطرَدون إلى الغد، والحياة هناك غالية غلوًّا فاحشًا حتى لأهل البلاد، ورقابة البوليس بالغة الشدة، ولكن رغم ذلك يفد الكثير من الناس إلى البلدان المجاورة هروبًا من ظلم واقع وجوع محيق، وقد لاحظنا من هؤلاء جموعًا غفيرة في بلاد فارس والأفغان، ويقول صاحبي بأن سكة الحديد الروسية القوقازية قذرة جدًّا، لا يجد الواحد في الطريق شيئًا يبتاعه قط ليتبلغ به، ومن الغريب أن الجيش والبوليس وهم نفر قليل يسيِّرون الأمور على هذا الحيف القاتل، ولا يستطيع الناس القيام ثائرين لعجزهم وعوزهم، وأنت تدهش إذ ترى بعض المنتجات الروسية تغرق الأسواق الخارجية، فالسكر يرد إلى فارس بسعر قرانين للأقة (أي نحو قرشين)، ثم يعيده المهربون من فارس إلى روسيا ليبيعوه بعشرين قرانًا للروس أنفسهم، وكذلك السجاير وبعض المنسوجات. تفعل حكومتهم ذلك بقصد الدعاية للسوفييت، ولا أدري ما قيمة الدعاية لنظام فاسد أهلك الأهلين إلا نفرًا قليلًا من السادة هناك.
واليوم فقط (الخميس ٧ سبتمبر) حققت حلمًا طالما جال بخاطري هو أن أركب بحر الخزر — وهو بحر طبرستان — يومًا وأطوف بسواحله ذات الطبيعة المختلفة من غابات كثيفة تغص بها سهوله الجنوبية إلى غابات جبلية في غربه إلى كلأ وعشب شبه صحراوي في شرقه إلى أرض ملحة في شماله. لكن الشبح الروسي لم يتح لي التجوال كاملًا، فلبثت اليوم كله أجول في مياهه الفارسية وراء ثغر بهلوي، وقد كان ماؤه أملس هادئًا على أنه إبان العواصف يعلو موجه ويضطرب، وقد تذوقت ماءه فإذا به قليل الملح على خلاف ما عهدت، فخلت ذلك راجعًا إلى قرب بعض المصابِّ العذبة من تلك الجهة، لكن القوم خبروني أنه أميل إلى ذلك في كل أرجائه، ودللوا على ذلك بكثرة أسماكه نوعًا وعددًا، ولذلك كانت مصائده هامة للدولتين الروسية والفارسية، وكانت زوارق الصيد تسد الأفق سدًّا والسمك غذاء رئيسي للناس فهو والأرز عماد الطعام، وكان لهما أثر حسن في أجسامهم، فهي هناك ممتلئة عن سائر جهات فارس الأخرى، إذ لم أعثر على القامات الطويلة والأجساد السمينة إلا في تلك الناحية من بلاد فارس كلها.
أصبحنا يوم الجمعة والجو جميل والسماء تنتثر بالغيوم المتقطعة، وقد أمضينا ليلتنا في نُزُل «سافوي» في رشت، وهو يطل على ميدان البلدة الجديد الذي تمتد منه الطرق المستحدثة البديعة وتزيِّنه المتنزهات، والمنظر من شرفة النزل رائع: السماء تنقشها الغيوم والخضرة تمتد إلى الآفاق والمباني حولنا فاخرة وجماهير الناس في أنظف ثيابهم؛ لأنه يوم الجمعة يوم الراحة القومية، يروحون ويغدون في كثرة تسترعي النظر ولا يخلو الجمع من طائفتين: الغانيات في إزارهن الأسود المهفهف، والمتسولين الذين يمسكون بتلابيبك يصيحون في نغمة البائس المتماوت قائلين: أرباب، أغا. وأكفهم مبسوطة وكثير منهم من يظهر في هندام نظيف ووجه مشرق؛ مما أثبت أنهم على شيء من اليسار، لكن التسول أضحى في القوم عادة متأصلة ذميمة. وكثير من مباني الرشت وبهلوي بالخشب لكثرة الغابات حولهما؛ لذلك نرى في كلٍّ برجًا عاليًا يظل فيه الرقيب ليلًا ونهارًا لينذر بالحريق إذا ما بدا دخانه أو لهيبه في أية ناحية من البلدة.
قمنا في الأصيل مودعين رشت ومنطقتها البديعة التي تصلح خير مستراضٍ في الربيع والخريف، وأخذت سياراتنا تشق الخضرة التي زادت كثافتها تدريجًا، وبعد أن قطعنا ثلاثين كيلومترًا بدت جبال البرز، أعني أن السهول إلى البحر تمتد سبعين كيلومترًا، وكانت الأشجار الكثيفة تغطي الجبال إلى أعلى ذراها، والربى تبدو مدرجة الواحدة وراء الأخرى، وسحاب السماء يكاد يلامسها، وإن لم يبدُ للثلج فوقها من أثر، وكانت طيات الوديان بمائها الشحيح تختفي وراء الربى تارة، ثم لا تلبث أن تنكشف في مباغتة تقر لها العين، وكان المنظر العام ونحن وافدون من الرشت أروع منه لمن يدخل البلدة قادمًا من طهران، وظل جلال الغابات حولنا زهاء خمسة وعشرين كيلومترًا، ثم ندر الشجر وانعدم فجاءة، وأضحت عقد الجبال قاحلة منفرة مسافة ذرعها سبعون كيلومترًا، كان الطريق فوقها طيات قاسية رهيبة، خصوصًا في ضوء القمر الشاحب، وفي سكون الليل الموحش، وفي باكورة الصباح دخلنا طهران للمرة الثالثة، وكان معي موظف كبير في المالية ومعه أولاده الصغار، وقد لفت نظري أنهم يدللون النشء لدرجة أنك لو كلمت الرجل في شأن ابنه «حسين» مثلًا عاد فكرر الاسم قائلًا ابني «حسين خان»، ويبيحون لهم تدخين الطباق أمامهم وهم لم يبلغوا الحلم بعد. ولما أردت أن أتشرف باسم الرجل نفسه قال في نغمة: اسمي «أغا علي خان»، وقد زرت في رفقته بعض القصور، ثم كان وداعي لحضرات ممثلينا الكرام في المفوضية المصرية العامرة، وقد تناولنا طعام الغداء في مطعم فارسي بحت يسمونه «لوقانطة» أمام دار البرلمان، وهو بيت لوزير قديم حجراته مزركشة الجدران، عليها رسوم بعض ملوك فارس وعظمائها، وبها حجرة وسطى يحار اللب في تعقب نقوشها وزخرفها والفناء مكشوف تتوسطه بركة ماء هائلة نسقت حولها الزهور، وأخص ألوان الطعام الفارسي الأرز الفارسي عليه بعض الأفاويه ويسمونه «بيلوف» والكباب الشهي المسمى «شيشيك».
عرجت على «النظمية» لإنجاز جواز الخروج من طهران، فاضطررت أن أبقى يومًا كاملًا حتى فاتتني سيارة البريد التي تقوم إلى جنوب طهران مرتين في الأسبوع، وتضييق البوليس في فارس قد بالغوا فيه فأضحى من أكبر المنغصات على المسافرين حتى من أهل البلاد، فقمت في سيارة خاصة رفقة بعض الطلاب وقفوا بنا طويلًا في ناحية تبعد عن طهران بسبعة كيلومترات ويسمونها «حظرت عبد العظيم» على اسم عالم وولي أقاموا له ضريحًا هناك زرته فأدهشني اتساعه وعظيم زخرفه، وفي حجرة منه دفن السلطان نصر الدين شاه في ضريح من المرمر الشفاف في خرط بديع، ويقوم تمثاله ومن حوله عدة علماء تعلق فوق كل منهم صورته الزيتية الكبرى، وتلك ظاهرة استرعت نظري إذ لم يكن يباح في الإسلام إقامة التماثيل ولا وضع الصور المكبرة هكذا، ويظهر أن الشيعة أكثر مرونة وأميل إلى الإباحة من أهل السنة.
«وحظرت عبد العظيم» مزار مقدس، وبخاصة عند النساء اللاتي يعتقدن أنه يفك عسر العقيم منهن، هناك تعطلت السيارة؛ لأن رفقائي أضافهم للغداء أقرباؤهم، ولما طال بي المكث صحت محتجًّا، فتكاثروا عليَّ حتى أدخلوني دارهم، فإذا هي من الداخل فسيحة مشيدة تتوسطها الحديقة الفارسية وحوض الماء، وتلك شهرة لفارس من قديم، وهم يقيمون أوجه أبنية البيت في مواجهة المدخل، وبيت الحريم يبعد إلى الداخل، وفي غرفة الاستقبال جلسنا القرفصاء على البسط الوثيرة «وصموار» الشاي متقد إلى جانبنا لسقي الأضياف من الشاي الأخضر زكي الرائحة.
قمنا نشق طريقنا وسط سهول زراعية تربتها سوداء إلى مسافة ثلاثين كيلومترًا ثم بدأت التجاعيد المجدبة المنفرة، فأضحى المنظر صحراويًّا شديد المحل، وقد ظهر إلى يسارنا متسع لا نهائي من بسيط تكسوه الرمال يختلط بها الملح الأبيض، وندرت القرى جدًّا حتى إنَّا كنا نمر بالقرية الصغيرة كل ساعتين فلا نرى بها مجاري المياه التي ألفناها في جوانب الطريق من قبل، وهي تستقي من عيون أشبه بتلك التي في الواحات. وقد صادفنا في سيرنا سيارة البريد التي سبقتني من طهران أصابها عطب فوقفت اليوم كله فقلت في نفسي: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ بعد أن أسفت لفواتها أمس شديد الأسف وبعد مائة وخمسين كيلومترًا وقفنا ببلدة «قم» مدفن السيدة فاطمة أخت الإمام الرضا ويسمونها «معصومة»، وقد أقيم حول ضريحها مسجد فاخر، وهو من الأمكنة المقدسة الهامة التي يزورونها في مواسم معينة.
ومن البلدان التي مررنا بها قاشان، وتشتهر بصناعة البسط من الحرير في جميع الأحجام، استعرضت بعضها فإذا بها آيات فنية؛ لذلك لم أعجب من غلو أثمانها، فكان بعضها يباع بمائة جنيه للقطعة، على أن الإنسان يستطيع أن يبتاع قطعة صغيرة بمائة تومان «أي اثني عشر جنيهًا»، وقد أردنا إمضاء الليل هناك لكنهم أخافونا؛ لأنها تغص بالعقارب لدرجة مخيفة، حتى إن التجار أنفسهم لا يستطيعون المبيت فيها، فواصلنا سيرنا الليل كله، وفي الصباح أقبلنا على:
أصفهان
أو أصبهان (وطن أبي الفرج الأصبهاني صاحب كتاب «الأغاني»، وكثير غيره من أهل العلم والأدب) بعد أن قطعنا نحو خمسمائة كيلومتر في اثنتي عشرة ساعة فألفيناها في حجر جبل من دونه سهول مترامية في تربة سوداء غنية بمزارعها، على أن مدخل البلدة مترب منفر لا يوحي بشيء من العظمة التي خبروني عنها هنالك، ثم حللت نزل «أمريكا» الجميل الذي يطل على أهم شوارع البلدة ويسمى «خيابان جهار باغ»، أعني طريق الحدائق الأربع وهو في امتداد عظيم واستقامة تكاد تشق المدينة كلها، وتعبر النهر وتمتد إلى ضاحية «جلفا»، وكأنه ثلاثة طرق متجاروة الأوسط الفسيح تحفه أشجار الشنار الهائلة وهي متجاورة تكاد تظل الطريق كله يجانبه طريقان آخران أقل سعة، وبينهما وبين الإطارين شجر يماثل الأوسط، وفي مجاورة صفوف الشجر مجاري المياه المألوفة في بلاد فارس كلها، وهو مستراض الناس طيلة اليوم، وبخاصة عند الأصيل حين يغص بالغانيات يتلمسن من المارة رفيقًا، وتطل على وسطه مدرسة «جهاد باغ» الدينية تحت قبة زرقاء بديعة تمتد حولها الألونة في طابقين لإيواء ١٦٠ من طلاب العلم وفيها يتخرج المولاه، وواجهة أحد المداخل آية فنية في نقوشها وزخرفها الفارسي البديع أقامها الشاه حسين سنة ١٧٦٠، وفي أحد طرفي الطريق قنطرة جلفا التي تسترعي النظر ببنائها العجيب تقوم البوائك والمقاصير على جانبيها فتتخذ مأوى لمن أراد، وتتدلى خلال بعضها درجات تؤدي إلى بطن الوادي الذي لا يكاد يجري به ماء إلا في نقائع ضحلة آسنة لا تمنع المرور إلى الجانب الآخر مع أن النهر أكبر أنهار فارس كلها ويسمونه «زندة رود» الذي يصب في مستنقع داخلي اسمه «هامون»، ويخال البعض أنه هو الذي أغرى الشاه عباس أن يقيم عاصمته «أصفهان» على ضفافه، ويقول بعض الكتاب عن تلك القنطرة: إنها أفخر قناطر الدنيا وأبهاها، وقال عنها «كرزون»: إنها وحدها خير مبرر لزيارة بلاد فارس. على أني لم أرَ فيها من هذا الجلال شيئًا، اللهم إلا أنها غريبة في نظامها وهندستها، وكان يُخصَّص أحد جانبيها لمرور النساء والجانب الآخر للرجال، وعلى الجانب الآخر من القنطرة ضاحية جلفا، وهي مأوى لطائفة من الأرمن المسيحيين الذين خدموا السلطان عباس وبقيت لهم ولذراريهم إلى اليوم، وهي أنظف في مجموعها من أصفهان نفسها تتوسطها الكنيسة الرئيسية الهائلة في الهندسة الإيطالية البديعة التي بدت غريبة وسط بلاد فارس وفنها الشرقي البحت.
وفي وسط أصفهان «ميدان شاه» موضع شهرة أصفهان وهو فناء مستطيل الشكل في امتداد لا نهائي يشعر بالعظمة حقًّا يتوسطه حوض ماء كأنه البحيرة العظيمة، ويطل عليه من وسط أحد جوانبه «آلي كابو» أو الباب العالي مسكن الشاه عباس، وهو شاهق أقيم في سبعة طوابق يرتقيها المرء بسلم حلزوني ويرد كلًّا منها بليات وسراديب عجيبة بعضها كالتيه كان الغرض منه إخفاء طريق الهروب إن دعت الحاجة. والجدران كلها نقوش بالذهب والألوان التي يخالها الواحد مورقة، والطابق السادس أعد لسماع الموسيقى وجدرانه مخرمة إلى سقفه في أشكال آلات الطرب على اختلافها، وفي الطابق الثاني شرفة يسمونها «تالار»، أقيمت من خشب على عمد مزركشة وفي وسطها حوض ماء أنيق كان يرده الماء في أنابيب أرسلت من جبل شاهق في طرف المدينة، وفي مقابل القصر مسجد الشيخ لطف الله أقامه الشاه إحياء لذكر ذاك العالم، وهو عبارة عن قبة لا مآذن لها أقيمت على مجموعة من أقبية جوفاء تُتَّخذ مقرًّا في الصيف، والقبة بولغ في نقشها بالقيشاني الأزرق في إتقان تطوِّقها الآيات الكريمة في خط بالغ الحجم، وتحف بأركانها جدائل من الفيروز ويكسوها الزخرف من خارجها أيضًا، فهي في مجموعها قطعة فنية في رواء، خُيِّل إليَّ أنها صنعت اليوم. وإلى يمين القصر يطل على الميدان «مسجد شاه»، وهنا يعجز قلبي عن وصف آياته الفنية في النقش والزخرف الذي بالغ فيه مبدعوه. قبة هائلة أقيمت على عمدٍ ومن حولها مجموعة من الأقبية تحوطها الألونة تتوسطها أحواض الماء وتقوم على جوانبها الحجرات، وكل أولئك يكسى بالقيشاني من داخله وخارجه في نقوش وقفت أمامها مبهوتًا، فهو حقًّا أجمل مساجد إيران جميعًا، يأخذ بلبك خصوصًا إذا ما أقبلت على واجهته الزرقاء التي تعلوها مئذنتاه الدقيقتان الزرقاوان. ومن نقطة وسط المسجد إذا ضربت الأرض أو صحت ردد الصدى صوتك بشكل متكرر ومرتفع يسمع كأنه قهقهة عالية، وفي قبالة المسجد من جانب الميدان الرابع مداخل الأسواق، وهي أيضًا تكسى بالقيشاني مما أكسب الميدان جمالًا مقطوع النظير. وتروقك جلسة من شرفة قصر الشاه «تالار» تشرف على كل أولئك وأنت مأخوذ من عظمة ما ترى، مشهد يخدع المرء فيوحي إليه بأنه أضحى من ملوك الأرض الجبارة، ويذهب بخيال الواحد إلى يوم الشاه عباس وما كان عليه الإقليم من عظمة ورهبة، وقد نال منه الدهر اليوم، فأخفى من روائه الكثير وجعل رواده من فقراء السابلة وجماهير المتسولين بعد أن كانوا من علية القوم وعظمائهم، فسبحان مغيِّر الأحوال، كان الشاه يجلس في تلك الشرفة يستقبل الأضياف والسفراء والعظماء ويشاهد حاضرة ملكه وما فيها من حركة ونظام، يمر أمامه الجند يستعرضون من ثكناتهم التي تطوق الميدان كأنها سور من بوائك مزركشة، وكانت تقام الحفلات الرسمية، ومن أجلِّها حفلة عيد النيروز رأس السنة الفارسية، وكانوا يشاهدون بها مختلف الألعاب ومصارعة الحيوان والحواة والفرسان، وقد احتذى كثير من الملاعب الأوروبية حذو ملهى الميدان الفارسي، وهنا لُعبت كرة البولو لأول مرة أمام الشاه، وكان معاصرًا للملكة اليصابات في إنجلترا. وكانت تلك اللعبة معروفة للفرس منذ القدم، حتى روى القوم أن أحد ملوك فارس أرسل إلى الإسكندر وهو صبي كرةً ومضربًا، فرد الإسكندر قائلًا: إن الكرة ستكون في نظره الأرض كلها، والعصا الإسكندر نفسه، وقد عرفت فارس بعدُ صدق نبوءته، إذ دخلها الإسكندر وأسلمها للسلب والنهب. وظلت تلك اللعبة سائدة في فارس، وحتى هارون الرشيد لعبها رغم أنه كان قصير القامة، حتى إن عصاه لم تكن تدرك الكرة وهو ينحني بها من ظهر جواده، ولا تزال قوائم الملعب ترى بقاياها اليوم من حجر. ويمكن للسائح إن هو جلس هنيهة في تلك الشرفة أن يقرأ صفحة جلية عن أهل العجم وحياتهم، فأصفهان لا تزال فارسية بحتة في كل شيء، وهي خير بلادهم دلالة عليهم في أخلاقهم وحياتهم وفنونهم التي لم يكد يدخل عليها تبديل، وقد كان حكم الشاه عباس هو العصر الذهبي للفن والبناء حتى قال الناس فيه: لما أن مات مولانا عباس مات معه تقدم الفرس وفنهم.
وقد حكم الشاه عباس ٤٣ سنة، ونقل عاصمته قزوين إلى أصفهان، وقد زاره وفد إنجليزي لأول مرة فأكرم مثواه، ومن رجال هذا الوفد تعلم الفرس استخدام المدافع في القتال، ولم يكونوا يعرفونها من قبل، وكان متسامحًا في الدين، دعا سفراء أوروبا إليه وكان إداريًّا حازمًا صارمًا في الحق، ومن قوانينه أنه جعل حكام المديريات مسئولين أمامه عما يقع في مقاطعاتهم، وكان يباشر كل شيء بنفسه، ومن أوامره العجيبة «أن الابن إذا عصى القانون وجب على أبيه أن يقتله، فإن تراخى الأب في ذلك أمر الابن أن يقتل أباه، فإن توانى الابن في ذلك أُعدم الولد وأبوه!» وقد شجع العلم والفن والأدب، على أنه أهمل تربية أولاده؛ مما أضعف الأسرة بعده، وقد أعدم بعض بنيه خوفًا من مزاحمتهم إياه في الحكم، لذلك أعقبه خلف ضعيف تسيطر عليهم رجال الدين «المولاه» ثم غزا البلاد الترك إلى قزوين والأفغان إلى أصفهان نفسها، وخضعت فارس كلها لملوك الأفغان زمانًا.
ويجري القول على ألسنتهم بأن أصفهان نصف الدنيا، ولو لم تكن في الوجود لما خلق الله الأرض جميعًا، ولا يزال جهالهم يعتقدون أن في الباب العالي سرًّا؛ لذلك رأينا كثيرًا من الخيوط والخرق موثوقة به تبركًا. أما قصر الاستقبال الرسمي فاسمه «تشهل ستون» في مكان قريب من الميدان وسطه حديقة فيحاء، وهو من طابق واحد غالبه من الخشب الذي طُلي من داخله، وزين بالصور والنقوش للندامى في مجالس مختلفة والحسان يقدمن الشراب، والوقائع حربية من بينها انتصار جنود فارس على الأفغانيين مرة وعلى الأتراك أخرى، والصور الزيتية متقنة أذكرتني بما شاهدته في قصر الفاتيكان في إيطاليا، ويتقدم القصر بهو الأعمدة الأربعين، ولما عددتها ألفيتها عشرين، لكنهم يعدونها مضاعفة لأنها تنعكس على حوض الماء المستطيل الذي يمتد بعيدًا أمامها. هنا كان يستقبل الشاه عباس أضيافه يجلسون حول حوض ماء صغير تحت السقف الذي بولغ في نقشه وخرط أخشابه، وقد زُينت الأركان بقطع المرايا والبلور، وهي من أحب أنواع الزخرف لديهم. كل ذاك البذخ والإسراف جعلني أنكر على الشاه عباس ما ادَّعاه من تقوى يوم أن قام ماشيًا على قدميه حتى بلغ موطن الحج في مشهد التي تبعد عن عاصمته بأكثر من ألف كيلومتر.
طفت بأسواق البلدة بسقوفها الوطيئة وشعابها المختنقة، يسير الإنسان فيها وكأنه في تيه لا يعرف له أول ولا آخر، ويسترعي النظر نوع من الأقمشة المهفهفة يطبع الرجل فوقها النقوش الفارسية بأختام في الألوان التي ترغبها وتلك شهرة لأصفهان. ثم أشغال النحاس الدقيقة. وهناك تكثر المطاعم وباعة الفاكهة ومن أظهرها «الخربوزه» أو الشمام، وهي من نوع مستطيل في لون أصفر برتقالي خشن الملمس وحلاوتها فائقة. والفاكهة هناك رخيصة فأقة «الأنجور» أو العنب بنصف قرش، كذلك أنواع الطعام الأخرى، فلقد دخلت مطعمًا وأكلت الكباب الشهي حتى شبعت، وعند الحساب طلب الرجل قرانين أي نحو قرشين ونصف، وقد علمت أن الأهالي يستطيعون أن يعيشوا ببضعة شاهيات في اليوم، أي دون قرش مصري واحد.
وفي أسواق أصفهان ضمَّني مجلس مع طائفة من مثقفي أهل يزد التي تقع إلى شرق أصفهان، وهؤلاء كانوا من الزرادشتيين أو المجوس عبدة النار الذين فروا في تلك الصحراء — فيما بين يزد وكرمان — خوفًا من العرب والمسلمين، ولا يزال منهم عشرة آلاف فيما جاور يزد وحدها، وكانوا يضطهدونهم حتى إنهم خصصوا لهم عباءات صفراء، ولم يبح لهم لبس العمائم ولا ركوب الخيل إلى أمد قريب، وقد علمت منهم أن في يزد «برج السكون»، حيث يتركون جثثهم تأكلها العقبان؛ لأنهم من عبدة النار، وقد رأينا ذلك في بمباي في الهند، وكتبنا عنه في كتابنا «جولة في ربوع آسيا» وزرادشت فيلسوف عاش منذ أكثر من ٢٥٠٠ سنة، نشأ في أذربيجان، وكان ذا شخصية عجيبة، وكانت تعاليمه تقوم على فضائل كثيرة، وقد علم قومه أن الله (أهورا مازدا) يقول بأن هناك نضالًا بين الخير والشر، وأن الخير سينتصر، وقد شجع في قومه الزراعة وباركها وحرَّم قتل الكلاب، وكان يقول بأن الجنة فوق ذرى جبال دمافاند وراء طهران تتوجها منطقة بهيجة لا ليل فيها ولا مرض ولا فناء، وظلت ديانته سائدة ثلاثة عشر قرنًا حتى اجتاحها الإسلام وساعد على ذلك أن الحسين تزوَّج «شهربانو» بنت آخر الملوك الساسانيين، وبذلك ورث الحسين «العظمة الإلهية» التي ورثها من قبلُ الساسانيون، وكانت لكتب زرادشت المقدسة بقية في مكتبة برسبولس، وبعضها بخط يده، أحرقها الإسكندر المقدوني يوم أحرق برسبولس كلها، وتلك من أكبر الأخطاء التي ارتكبها الإسكندر.
وقد تفرَّع عن عبادة زرادشت المجوس الزرادشتية وظهر لهم رئيس في نيسابور أيام أبي مسلم، فدعا المجوس أن يهجروا عبادة النار، ووضع لهم كتابًا آخر وحرَّم عليهم الأمهات والبنات والخمر، وأمرهم باستقبال الشمس ركوعًا في كل يوم.
وبعد ذلك قام ماني الحكيم يدعو إلى دين بين المجوسية والنصرانية، وزعم أن العالم مركب من أصلين النور والظلمة، وأنهما متلازمان لكن أفعالهما متضادة، حسن وقبيح وخير وشر، ويضم النور خمسة: النار والنور والريح والماء وروحها النسيم، ويضم الظلام خمسة: الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان، وقد فرض ماني على أتباعه العشرة في المال والصلوات الأربع والصدق وترك السرقة والزنا والقتل والبخل والسحر وعبادة الأوثان، ويقول بأن الله بعث زرادشت إلى فارس والمسيح إلى الروم ومحمد إلى العرب، ولا يعترف بسيدنا موسى في تعاليمه قط.
ومن الضواحي التي يقصدها السائحون هناك «الشيخ عبد الله»، بها مدفن ذلك الشيخ تحت قبة تجانبها مئذنتان تسميان «منارات متحرك»، ركبت إليها عربة زهاء الساعة في طريق وعر مترب منفر، وصعدت فوق القبة ثم تسلق رجلان كلٌّ في مئذنة، وأخذ الواحد يهز المئذنة فتترنح هي ثم تنتقل هزاتها إلى الأخرى فتتبعها اهتزازًا، ويعزو القوم ذلك إلى كرامة للشيخ المدفون، على أني لما أنعمت النظر فيهما رأيت بهما كسورًا وصدوعًا هي التي تسمح لأجزاء المآذن أن تتحرك، وفي ظني أنهما ستنهاران لا شك يومًا، وبذلك تنهار تلك الكرامة الموهومة ويثوب القوم إلى عقولهم.
إلى شيراز
قمت صوب شيراز مسيرة خمسمائة كيلومتر تقريبًا قطعناها في شطر من المساء ونهار الخميس كله وسط أرض مغضنة كثيرة الربى، وكلها مجدب عارٍ عن النبت إلا القتاد، وكان جل مسيرنا في وديان جافة أشبه بوادي حوف عندنا، وكم مررنا بحوادث لسيارات انقلبت بمن فيها فأصيبوا جميعًا، وفي الخامسة مساء كنا في قرية «سعادت أباد»، وفيها اضطررنا للمبيت لكي نتمكن من زيارة برسبولس صباحًا، والقرية تشبه القرى المجانبة للجبال في صعيد مصر تمامًا، أو تحكي الواحات، بيوتها وضيعة، ولقد دعانا طبيب الجيش وأحد ضباطه أن نشرب الشاي في ثكنته، فإذا بها خربة متهدمة، دهشت كيف يطيقون البقاء فيها، ولقد آوينا ليلتنا إلى مسافرخانة بسيطة ونمت في «أطاق» زودني الرجل فيه «بسجادة» نمت عليها ليلتي نومًا عميقًا؛ لأني لم أنم الليلة الفائتة، وفي الصباح مررنا بكثيرٍ من الخرائب الأثرية، من بينها مدر سليمان أو قبر سيروز وخرابة كوجاست أو مسكن سيروز، وكلها أطلال لا تستحق الزيارة، وفي التاسعة صباحًا أقبلنا على:
برسبولس
وبعد أن غادرنا برسبولس بنحو ستين كيلومترًا جلها جبال معقدة أشرفنا على شيراز عاصمة مقاطعة فارس، وكانت عاصمة ابن بويه، بدت في وهدة وسط الجبال وعند مدخلها باب قديم فوقه غرفة بها مصحف كريم بخط الإمام علي نفسه، ويتبرك به القوم في غدواتهم وروحاتهم، وشيراز القديمة مجموعة أزقة ضيقة بيوتها بالآجر يتوسطها «البازار» أو السوق كثير الشعاب في أقبيته الفارسية المألوفة وامتداده اللانهائي حتى قيل: إن نصف سكان البلدة من التجار وخمسهم من اليهود. وجل دور الحكومة قصور قديمة شامخة البنيان فاخرة النقوش، أذكر من بينها مكتب البرق والبريد، ومقر الجيش قصر كأنه القلعة، وقد اختُطَّ خارج القديم قسم من البلد حديث رحب جميل تمتد طرقه الفسيحة إلى الآفاق، وتجانبها مجاري المياه غير أن الخضرة والأشجار نادرة بحيث تبدو البلدة تحت الجبال وكأنها حلوان. واختلاط القوم وازدحامهم الشديد في الطرقات الحديثة وبخاصة عند الأصيل يسترعي النظر وميلهم للمجون كبير رغم أن إزار السيدات هناك من النوع العتيق الذي يحكي ملابس الأفغانيين.
وشيراز تعد خير مراكز العلم والأدب الفارسي، فيها قبر سيبويه، وقد أنبتت كثيرًا من علمائهم وشعرائهم، نخص بالذكر منهم حافظ وسعدي، والأول كان يميل إلى شيء من الزهد والتصوف في شعره ويقول الغزل في الحضرة النبوية على مثال عمر ابن الفارض، أما سعدي فإباحي اشتهر بكثرة المجون والغزل في الغانيات والخمريات، وكان يعده الفقهاء هناك زنديقًا ملحدًا، ولقد زرت مدفنيهما في حجر الجبل فكان مدفن حافظ وسط بناء فاخر حوله شباك الحديد الملون وبه مشرب شاي، كانت جلستي فيه أقرب شيء إلى خيال الشاعر خصوصًا عند الأصيل، وقد أشرفت على شيراز كلها في مشهد ساحر لن أنساه، أما مدفن سعدي فأقل اتساعًا وأبهة، وهو في مكان ناءٍ عن البلدة، وعجبت إذ رأيت حول مدفنه يوم أن زرته جمعًا من النساء والرجال والصبية مرحين يغنون ويصفقون، فكأنهم كانوا يرددون شيئًا من نزعة الشاعر وما روى.
إلى بوشير
في الخامسة صباحًا دخلنا دمشق بعد أن سرنا أربعًا وعشرين ساعة سيرًا متواصلًا لم يتخلله إلا فترات قهوة عند الحدود، ثم وقفة الحيرة التي ضللنا فيها طريقنا، وبعد جولة وداع قصيرة في دمشق قمنا في سيارة أخرى إلى بيروت مسافة مائة كيلومتر قطعناها في ثلاث ساعات في طرق مرصوفة وسط مزارع جذَّابة، ثم أخذنا نعلو جبال لبنان، وكانت مدن المصايف وقُراها تنتثر على جنباتها في بيوتها الحجرية وسقوفها الحمراء المتحدرة حولها تتموج النجاد يكسوها الشجر في مشاهد ساحرة.
وقد مررنا بصوفر وبحمدون، وعندما وصلنا الذروة وأخذنا ننزل الصفحة الغربية كانت المناظر أبهى وأروع، وبدت بيروت مبسوطة في زائدة من الأرض ناتئة وسط مياه البحر الأبيض الذي امتد إلى الآفاق حتى اتصل ضبابه بسحاب السماء، وقبيل دخولنا بيروت رأينا «علية» من خير مصايف لبنان، ثم تجلت بيروت ثغرًا خفيف الروح جيد الطرق نظيفًا يحكي جانبًا من الإسكندرية، إلا أن جوَّه كان أميل إلى الحرارة، وهواؤه راكد رطب، هنا نال مني الجوع فآويت إلى مطعم وطني أكلنا به قديدًا «شورمه» من لحم شوي على سفود «سيخ» يدور ومن حوله وهج النار، وكلما نضجت طبقة منه أزالها الرجل بالمشرط وقدمها إلى وسط خضرة من النعناع، وإلى جانب ذلك طبق من «الحمص» سحق في الزيت والبهار، فكان شهيًّا لذيذًا. فقمت بعد الظهر في سيارة إلى حيفا: مسافة (١٦٠كم) في خمس ساعات ونصف في طريق يجانب البحر، ولم يتخللها وقوف إلا عند الحدود زهاء نصف ساعة، وقد مررنا من ثغور سوريا الهامة على: صيدا وكانت عاصمة مملكة كنعان، ثم صور، ومن ثغور فلسطين على عكا، وقد كنت أخالها تقوم على ربوة منيعة، لكني ألفيتها مبسوطة السطح ولم تشعرني بالمنعة التي قرأنا عنها أيام صلاح الدين ونابليون، وعلمنا أن بها قبر نبي الله صالح، وفي المساء كنا في حيفا: وهي مدينة يبدو على مبانيها القدم والإهمال، إلا أن الإنجليز بدءوا يعبِّدون طرقها ويصلحون ميناءها في أرصفة هائلة ستجعلها من الثغور الرئيسية، ويظهر أنهم يميلون إلى اتخاذها قاعدة حربية للجيوش والأساطيل والمطارات، ومن ورائها يقوم جبل الكرمل الذي أخذت المباني المستحدثة تقوم على مدرجاته، وفوق سطحه المبسوط وهو هناك الحي الأرستقراطي وجل ملَّاكه من اليهود. وهنا بدء سكة الحديد إلى الجنوب، وللبلدة محطتان، محطة حيفا ومحطة الكرمل. قمت عائدًا إلى بلدنا العزيز في قطار الصباح، فكان جل الطريق يجانب البحر في سهول زراعية، ثم أخذت الأرض تتغضن وكثرت بها منابت الفاكهة، وبعد غزة سادت الرمال وكثبانها الناعمة إلى الآفاق، ولما دخلنا الحدود المصرية زادت كثافة، وحف النخيل شاطئ البحر كله، وقد لبثنا بجانبه طويلًا، ثم أوغلنا في طور سيناء حتى دخلنا القنطرة مساء.