حياته وعمله
يُعَدُّ راسل من أشهر فلاسفة القرن العشرين. ويرجع ما يتمتَّع به من شهرةٍ أساسًا — ومن سوء سمعةٍ أحيانًا — إلى مشاركته في الجدل الاجتماعي والسياسي. ظلَّ راسل من الشخصيات العامة المألوفة على مدى نحو ٦٠ عامًا؛ إذ كان يظهر في الصحافة الشعبية أحيانًا كموضوعٍ للفضائح، وأحيانًا أخرى في الفترات التي حَظِيَ فيها بالاحترام كمثقَّف حكيم؛ وأثناء تلك الفترات ظهر كمذيعٍ أيضًا. كان يُدْلِي بدلوه كثيرًا في شئون الحرب والسلام والأخلاق والجنسانية والتعليم وسعادة البشر. ونشر الكثير من الكتب والمقالات الرائجة، وجلبتْ عليه آراؤه مجموعة متنوعة من ردود الأفعال تراوحت بين أحكام بالسجن وجائزة نوبل.
ولكن أعظم إسهاماته والأسس الحقيقية التي قامت عليها سمعته تكمن في النطاقات الفنية المتخصصة لمجالَي المنطق والفلسفة؛ فقد كان تأثيره شديدًا على مضمون الفلسفة وأسلوبها في البلدان الناطقة بالإنجليزية في القرن العشرين، حتى إنه أصبح يمثل اللحن الأساسي للفلسفة في تلك الفترة. صار الفلاسفة يستخدمون الأساليب والأفكار الناشئة من عمله دون أن يشعروا بالحاجة إلى ذكر اسمه — بل وأحيانًا دون إدراك وجود تلك الحاجة — مما يوضح مدى تأثيره. وبهذه الطريقة قدَّم راسل إسهامًا أهم بكثير في الفلسفة مقارنةً بتلميذه لودفيج فيتجنشتاين. لقد تعلمت الفلسفة دروسًا قيِّمة من فيتجنشتاين، ولكنها اكتسبت إطار عمل كاملًا من راسل، يشكل ما صار يُطلَق عليه حاليًّا «الفلسفة التحليلية».
ويُقصد بكلمة «التحليل» الاستقصاء الدقيق للمفاهيم الفلسفية المهمة، وكذلك للغة التي تجسِّدها، وذلك باستخدام طُرق وأفكار مشتقة من المنطق الصوري. لم ينشئ راسل الفلسفة التحليلية بالطبع من دون مساعدة؛ إذ تأثر بعلماء المنطق جيوسيبي بيانو وجوتلوب فريجه وبزملائه في جامعة كامبريدج جي إي مور وإيه إن وايتهيد. وكان من بين مصادر التأثر الأخرى مفكرو القرنَين السابع عشر والثامن عشر رينيه ديكارت وجوتفريد لايبنتس وجورج بيركلي وديفيد هيوم. كان أول كتاب فلسفي ألَّفه عبارة عن دراسة تحمل طابعًا متعاطفًا لثاني هؤلاء الفلاسفة. ولكنه جمع بين مصادر التأثر هذه بحيث أصبحت تقدم نهجًا جديدًا للمشكلات الفلسفية؛ مما ساعد في إيضاحها بضوءٍ منطقيٍّ كاشفٍ جديد؛ وبهذه الطريقة أدَّى دورًا محوريًّا في تغيير فلسفة القرن العشرين تغييرًا جذريًّا في التراث الفلسفي الناطق بالإنجليزية.
إذنْ كان راسل فيلسوفًا بالمعنى الشعبي؛ أي كحكيمٍ ومعلِّم للبشرية، وبالمعنى الأكاديمي المهني. في الفصول التالية سأقدِّم وصفًا لإسهاماته في هذين الوجهين الفلسفيَّين. أما في الفصل الحالي فأقدم صورة وصفية لحياته الطويلة الثرية، المضطربة أحيانًا، والتي تشكِّل في مجملها وتنوعها إحدى أهم السير الملحمية في العصر الحديث.
وُلد برتراند آرثر ويليام راسل في ١٨ مايو ١٨٧٢ في أسرة شهيرة، هي الفرع الأصغر من نبلاء بيدفورد. وكان جده لأبيه هو اللورد جون راسل الشهير الذي استحدث قانون الإصلاح في عام ١٨٣٢، وكانت تلك هي الخطوة الأولى نحو إضفاء الطابع الديمقراطي على البرلمان. وشغل اللورد جون منصب رئيس الوزراء مرتين — من ١٨٤٦ إلى ١٨٥٢ ومن ١٨٦٥ إلى ١٨٦٦ — ومنحته الملكة فيكتوريا لقب إيرل. وكان جد راسل لأمه — اللورد ستانلي أوف ألديرلي — من الحلفاء السياسيين للورد جون.
كان والدا راسل زوجين غير عاديين ومثيرين للجدل؛ إذ كانا ملتزمين بالقضايا التقدمية مثل تنظيم الأسرة وحق التصويت للنساء. واختار أبوه — الفيسكونت أمبيرلي — جون ستيوارت مِل ليكون أباه بالمعمودية بالمعنى غير الديني. وتُوفِّي مِل قُبيل عيد ميلاد راسل الأول؛ لذا كان تأثيره عليه غير مباشر، مع أنه كان كبيرًا.
كان أمبيرلي عضوًا للبرلمان لمدة قصيرة، ولكن مسيرته السياسية تهاوت حين أصبح معروفًا عنه تأييده لفكرة منع الحمل. ومن أمثلة آراء آل أمبيرلي التقدمية حالة دي إيه سبولدينج، وهو عالم بارع شابٌّ كان يعمل معلمًا خصوصيًّا لشقيق راسل الأكبر فرانك؛ إذ كان سبولدينج مصابًا بمرض السل؛ ولذا لم يكن وضعه يسمح له بالزواج وتكوين أسرة. وقرر آل أمبيرلي أن هذا ليس مبررًا لكي يصير متبتلًا؛ لذا فإن أم راسل «سمحت له بالعيش معها» — على حد تعبير راسل في سيرته الذاتية — ويضيف قائلًا: «مع أنه على حد علمي ليس هناك دليل على أنها كانت تستمد أي متعة من تلك العلاقة» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص١٢).
تُوفِّيتْ أم راسل وأخته بمرض الدفتيريا في ١٨٧٤ حين كان في الثانية من عمره، وتُوفِّي أبوه بعد ذلك بثمانية عشر شهرًا. كان أمبيرلي قد خصَّص اثنين من اللاأدريين أوصياء على أبنائه — كان سبولدينج أحدهما — ولكن جديه، الإيرل راسل وزوجته، رفضا رفضًا قاطعًا، ورفعا دعوى لإسقاط وصية أمبيرلي، وأخذا أحفادهما ليقيموا معهما في منزلهما في «بيمبروك لودج»، وهو منزل ملكي يقع في حديقة ريتشموند بارك. أحسَّ فرانك — وكان يكبر راسل بسبع سنوات — أن الإقامة هناك غير محتملة؛ فراح يسلك سلوكًا متمردًا. فأرسلوه إلى مدرسة داخلية. أما بيرتي — وكان لَيِّنَ العريكة ودمث الطباع — فقرَّرُوا أن يظلَّ مقيمًا في المنزل. تُوفِّي جده بعد ذلك بثلاث سنوات فقط، وأصبح خاضعًا تمامًا لتأثير جدته المتزمِّتة التي تعتنق مذهب الكنيسة المشيخية الاسكتلندية، وكانت ابنة إيرل أوف مينتو الثاني. وغالبًا ما يمكن تفسير شخصية راسل، بل تبريرها — حين تستدعي المناسبة ذلك فيما يبدو — بالرجوع إلى أصوله الأرستقراطية؛ ولكن التكوين الأوَّلي لشخصيته جاء نتيجة المذهب البيوريتاني المتشدد الذي كانت تعتنقه جدته، وهو المذهب الذي كان يميز الطبقة الوسطى أكثر مما كان يميز الطبقة العليا الأرستقراطية في العصر الفيكتوري. وقد كتبت له جدته على الصفحة البيضاء في مقدمة الكتاب المقدس الذي أهدته إياه في ذكرى ميلاده الثانية عشرة نصًّا من أهم النصوص المفضلة لديها: «لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر.» وظل هذا النص من المبادئ التي ظل يتبعها راسل طوال حياته.
بادئ ذي بدء، كانت طفولة راسل طفولة موحشة ولكنها لم تكن تعيسة. كان لديه مربيات ألمانيات وسويسريات، فبدأ يتحدث الألمانية مبكرًا بطلاقةٍ تضارع تحدُّثه بالإنجليزية. وكان يَهِيم حبًّا بالمساحات الشاسعة المحيطة بمنزل «بيمبروك لودج»، وهي مساحات تتميز بمناظرها الجميلة المطلة على الأراضي الريفية المحيطة. وجاء فيما كتبه: «كنت أعرف كل ركن من الحديقة، وكنت أبحث كل عام عن زهور الربيع البيضاء في مكانٍ ما، وعن عش طائر الحُميراء في مكانٍ آخر، وعن برعم زهرة الأكاسيا وهو يخرج من خميلة من اللبلاب» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص٢٦). ولكن مع دخوله مرحلة البلوغ، أخذت عزلته — الفكرية والعاطفية — تزداد ألمًا. كان وحيدًا بين أسرةٍ من كبار السن متباعدين عنه من كل النواحي. وكان الرابط الوحيد الذي يربطه بالعالم الأكبر هو مجموعة متعاقبة من المعلمين الخصوصيين. ومع ذلك أنقذته الطبيعة والكتب — وفيما بعدُ الرياضيات — من الإحساس بتعاسة جارفة. كان أحد أعمامه يُكنُّ اهتمامًا بالعلوم، وهو ما نقله إلى راسل؛ مما ساعد على تحفيز يقظته الذهنية. ولكن اللحظة الفارقة الحقيقية جاءت حين بلغ ١١ عامًا وبدأ أخوه يعلِّمه الهندسة. صرَّح راسل أن التجربة كانت «مبهرة مثل تجربة الحب الأول» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص٣٠). وبعد أن أتقن النظرية الخامسة بسهولة النظريات نفسها التي تسبقها، أخبره فرانك أنها عادةً ما يجدها الآخرون صعبة، وهذه النظرية الخامسة هي «جسر إقليدس» الشهير الذي يضع حدًّا للكثير من الناشئين في دراسة الهندسة. وكتب راسل: «كانت تلك المرة هي أول مرة يتبادر لذهني أنني قد أمتلك شيئًا من الذكاء.» ولكن ما أفسد الأمر هو أن إقليدس يبدأ ببدَهِيات، وحين طلب راسل إثباتها، رد عليه فرانك بأنه لا بد أن يقبلها كما هي، وإلا تعذَّر استمرار المسألة الهندسية. فقبل راسل ذلك على مضض، ولكن الشك الذي ساوره في تللك اللحظة ظلَّ يلازمه، وهو ما حدَّد سياق عمله اللاحق الذي قام على أسس الرياضيات.
عام ١٨٨٨ التحق راسل كتلميذ داخلي بمعهدٍ تابع للجيش مخصص لحشو أدمغة الطلاب بالمعلومات في مدة قصيرة؛ وذلك للاستعداد لاختبارات منحة جامعة كامبريدج. وكانت من المنغصات التي تخللت مدة إقامته هناك ما رآه سلوكًا فظًّا بين بعضٍ من الشباب الآخرين. ومع ذلك نال منحة للالتحاق بكلية ترينيتي، والتحق بها في أكتوبر ١٨٩٠ لدراسة الرياضيات.
شعر وكأنه قد دخل الجنة. وكان ألفريد نورث وايتهيد — الذي تعاون معه فيما بعدُ في كتابة كتاب «مبادئ الرياضيات» — قد نظر في أوراق إجابة راسل في المنحة الدراسية التي حصل عليها، وأوصى به عددًا من الطلاب والمحاضرين الموهوبين؛ ومن ثَمَّ وجد نفسه بين رفاقٍ يشابهونه إلى حدٍّ كبير، فلم يعد منعزلًا فكريًّا، ووجد أخيرًا سبيلًا إلى الصداقة؛ إذ كوَّن صداقات قوامها الاهتمامات المشتركة والمستوى الذهني المتجانس.
وفي أول ثلاث سنوات أمضاها راسل هناك، درس الرياضيات. وفي السنة الرابعة أصبح منكبًّا على دراسة الفلسفة، ودرس على يد هنري سيدجويك وجيمس وارد وجي إف ستاوت. وكان الفيلسوف الذي يعتنق المذهب الهيجلي، جيه إم إي ماك تاجارت، في ذلك الحين مؤثرًا بين الطلاب والمحاضرين الشباب في كامبريدج. وهو الذي حفز راسل على اعتبار الفلسفة التجريبية البريطانية — ويمثلها لوك وبيركلي وهيوم وجون ستيوارت مِل — فلسفة «غير مكتملة»، وشجَّعه بدلًا من ذلك على دراسة فلسفة كانط وخصوصًا هيجل. وبدافع تأثير ستاوت، أصبح راسل معجبًا بالفيلسوف المعتنق للمذهب الهيجلي القادم من جامعة أكسفورد، إف إتش برادلي، فأخذ يدرس أعماله بعناية، وكانت أعماله تروِّج لصورة من الرأي الفلسفي المعروف باسم «المثالية».
ولكن أكثر من أثَّر في راسل أشد التأثير كان أحد معاصريه الشباب، وكان ذلك هو جي إي مور، وقد بدأ كمعتنقٍ للفلسفة الهيجلية شأنه شأن راسل، ولكنه سرعان ما نبذها، وأقنع راسل أن يحذوَ حذوه. كان برادلي يرى أن كل ما يصدقه المرء بدافع المنطق السليم — مثل التعددية والتغير في عالم الأشياء — ليس إلا مظهرًا خارجيًّا، وأن الواقع ما هو إلا حقيقة ذهنية مطلقة. رفض كلٌّ من راسل ومور هذا الرأي من منطلق حِسٍّ عنيد بالتحرر. ومع أنهما تطورا بعد ذلك بطريقتين مختلفتين، ومع أن راسل بالتحديد حاول بكل جهده البحث عن بدائل مُرضية، فإن العمل الفلسفي الذي أنجزه كلٌّ منهما كان يسلم بالواقعية والتعددية (انظر الفصل الثاني للاطِّلاع على توضيحٍ لهذين المصطلحين).
ولكن التمرد الذي تزعَّمه مور جاء لاحقًا. نجح راسل وصُنِّف بين المتفوقين في امتحانات درجة الشرف بجامعة كامبريدج «ترايبوز» في الرياضيات لعام ١٨٩٣، وكان ترتيبه السابع في امتحانات الرياضيات بجامعة كامبريدج، وصُنِّف بين المتفوقين مع مرتبة الشرف في امتحانات العلوم الأخلاقية «ترايبوز» في العام التالي (كانت العلوم الأخلاقية الاسم الذي يُطلق على مواد مثل الفلسفة والاقتصاد في جامعة كامبريدج). ثم بدأ يكتب أطروحة الزمالة على أسس الهندسة، وذلك على خُطَا كانط الذي كان له التأثير الأكبر على آرائه في ذلك الحين. وإبان تلك الأحداث الحافلة، بلغ سنَّ الرشد، وأصبح لذلك حرًّا ليُقدِم على فعلٍ كان ينتويه على الرغم من المعارضة الشديدة التي أبدتها عائلته، وكان ذلك هو الزواج من أليس بيرسول سميث، وهي فتاة أمريكية من طائفة الكويكرز تكبره بخمس سنوات، كان قد التقاها وهام بها حبًّا على الفور في ١٨٨٩، مع أنها لم تبادله المشاعر إلا بعد ذلك بأربع سنوات. ورأت عائلة راسل أنها غير مناسبة على الإطلاق، وأخبرته أنه يُستحسَن على أي حالٍ من الأحوال ألا يُنْجِب منها لأن بعض أفراد عائلته كانوا يعانون من الجنون، وبرهنوا على ذلك بالإشارة إلى كلٍّ من عمه ويليام، وكان مقيمًا في مصحَّة للمرضى العقليين، وعمته أجاثا، وكانت تنتابها تهيُّؤات وتزداد غرابة أطوارها كلما تقدمت في السن.
في محاولة لإبعاده عن أليس، اتخذت عائلة راسل ترتيبات لتعيينه ملحقًا شرفيًّا في السفارة البريطانية في باريس. ومما لا شك فيه أنهم كانوا يأملون أن تلبيَ المغريات التي كانت تعجُّ بها باريس في تسعينيات ذلك القرن الدوافع التي كانت تدفعه نحو الزواج. ولكن التربية البيوريتانية المتزمتة التي فرضتها عليه جدته كانت مؤثرةً فيه إلى أقصى حد؛ وأحبطت تلك التربيةُ الخطةَ، وذلك كما يتَّضِح من الرسائل — وهي نماذج للتزمُّت — التي كان راسل يرسلها إلى عائلته ويشكو فيها من الحياة الباريسية؛ فجاء في رسالةٍ كتبها: «في باريس وجدتُ الجميع يسلكون مسلكًا بذيئًا، وكلما تلفت المرء حوله يرى نماذج لتدنيس الحب، إنهم يجعلونني أرتجف اشمئزازًا.» وما إن أصبح راسل يتحكم في أحواله المالية (كان يتلقى ميراثًا طيبًا قدره ٦٠٠ جنيه إسترليني سنويًّا، وكانت عروسه ميسورة الحال أيضًا) حتى تزوج من أليس، وفي البداية كانا سعيدين.
نال راسل بفضل أطروحته زمالة بحثية بمدة ثابتة في كلية ترينيتي دون أي واجبات مفروضة عليه؛ مما ترتب عليه أنه لم يكن مضطرًّا للتدريس في جامعة كامبريدج أو الإقامة فيها؛ ومن ثَمَّ سافر راسل مع أليس إلى برلين حيث دَرَس الديمقراطية الاجتماعية الألمانية وألَّف كتابًا عنها. كان هذا أول كتابٍ يؤلِّفه، وهو الأول بين كتبه وكتيِّباته الكثيرة إلى حدٍّ استثنائي؛ إذ بلغ عددها ٧١ كتابًا وكتيِّبًا (دون احتساب المقالات التي لا تُحصى) نُشرت إبان حياته. وأثناء وجوده في برلين، خطرت له فكرة إنشاء مشروع بحثي كبير، يضم خطين للبحث — أحدهما يتناول العلوم الطبيعية، والآخر يتناول المسائل الاجتماعية والسياسية — كان من المزمع أن يتضافرا في نهاية المطاف ليُكوِّنا «عملًا موسوعيًّا هائلًا». كان راسل لا يزال متأثرًا آنذاك بالفلسفة الهيجلية، والتي كان مشروع كهذا يتوافق معها؛ ولكن الخطة صمدت أمام التغير الجذري الذي اعترى رأي راسل الفلسفي — وإن لم تتخذ شكلًا منهجيًّا — إذ كتب راسل الكثير فعلًا عن المسائل النظرية والتطبيقية من بين أعماله الكثيرة.
وبعد نشر كتاب «الديمقراطية الاجتماعية الألمانية» بعام، ظهرت النسخة المنشورة من أطروحة الزمالة التي أعدها، وعنوانها «مقال عن أسس الهندسة». ثم نشر راسل في عام ١٩٠٠ كتاب «عرض نقدي لفلسفة لايبنتس». جاء تأليفه لهذا الكتاب بدافع صدفة، ولكنها كانت صدفة مهمة له؛ إذ كان لراسل زميلٌ من كامبريدج ألقى عدة محاضرات عن لايبنتس، وطلب منه ذلك الزميل أن يحلَّ محله لمدة عامٍ واحد، فرحَّب راسل بالفكرة، مع أنه لم يحظَ بفرصة لدراسة أعمال لايبنتس بالتفصيل. ونشأ الكتاب من المحاضرات التي كان يلقيها. كان راسل يختلف مع العقائد الأساسية لفلسفة لايبنتس، ومع ذلك ظلَّت جوانب منها مؤثِّرة في فكره.
إبان الفترة التي كان راسل يلقي خلالها محاضرات عن لايبنتس، أقنعه مور بالتخلي عن مذهب المثالية. وبعدئذٍ بمدة وجيزة اكتسب اهتمامه بفلسفة الرياضيات — وخصوصًا بمسألة ما إذا كان من الممكن إضافة أسس منطقية للرياضيات — قوةَ دفْع كبيرةً بفضل لقائه مع عالِم المنطق الإيطالي جيوسيبي بيانو في المؤتمر العالمي للفلسفة في باريس في يوليو عام ١٩٠٠. كان بيانو قد أنجز تطورات فنية معينة في المنطق، وهو ما أوحى لراسل بطرقٍ لتنفيذ الخطوة المرجوَّة، وهي إخضاع الرياضيات للمنطق. وأخذ يقرأ أعمال بيانو بِنَهَم، ثم بدأ يُحسِّن المناهج الواردة فيها ويوسِّعها ويطبِّقها. وفي فورة اهتمامه، وفي غضون بضعة أشهر فحسب، كتب مسودة كاملة للنقاط التي من المقرر أن تُبرهِن على أُولى أطروحاته الكبرى؛ كتاب «مبادئ الرياضيات». وانشغل بالمراجعات والتحسينات لمدة عامٍ آخر، ثم نُشر الكتاب في عام ١٩٠٣. وحين كتب راسل تمهيدًا لطبعة جديدة في عام ١٩٣٧، ذكر أنه ظلَّ مقتنعًا بصحة الفرضية الأساسية للكتاب؛ وهي «أن الرياضيات والمنطق متطابقان».
إن النشوة الفكرية التي شعر بها راسل في عام ١٩٠٠ لم تعاوده بعدها قط؛ وذلك لأن الأحداث التي وقعت في حياته الشخصية أثناء السنوات اللاحقة ألقت بسحب سوداء على عمله؛ إذ اكتشف أنه فَقَدَ حُبَّه لزوجته، وأخبرها بذلك. كتب فيما بعد: «كنت أرى في تلك الفترة (لست واثقًا من ماهية التجربة التي علمتني أن أفكر بهذه الطريقة) أن المرء يجب أن يصرح بالحقيقة في العلاقات العاطفية.» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص١٥١). وتسبَّب ذلك في بؤس جارف لكلٍّ منهما في غضون السنوات التسع اللاحقة التي عاشا فيها تحت سقف واحد. وفي الوقت نفسه تقريبًا كانت تعتمل ثورة في حياته العاطفية حين شهد معاناة المرض التي تعرضت لها إيفيلين وايتهيد زوجة معلمه السابق ألفريد نورث وايتهيد؛ فحين رآها في العزلة الشديدة التي يكابدها من يعاني الجزع، تغيَّرَتْ نظرته للعالم فجأة؛ وكانت تلك هي اللحظة التي أخذ يؤرخ منها لاحقًا بدْء مناهضته للحروب وتَوقه للأطفال، وبدايات ارتفاع إحساس مرهف من حيث تذوق الجمال، وظهور إحساس عميق بأن كلًّا منَّا قدَرُه أن يكون وحيدًا في نهاية المطاف. وقد أورد في سيرته الذاتية وصفًا مؤثرًا لتلك التجربة.
وعلى صعيد عمله في مجال الرياضيات — الذي كان من الممكن أن يمنحه السلوى — حدث تغيُّر جذري خطير مشابه، وهو أن راسل اكتشف تناقضًا في صُلب المشروع الذي كان يحاول تنفيذه. يأتي وصفٌ للتناقض وأهميته في المكان المناسب في الفصل الثاني أدناه. وبسبب تأثير ذلك التغيُّر توقَّف عمل راسل لمدةٍ تزيد على عامين، كان يحدِّق خلالها في صفحة بيضاء وهو لا يدري كيف يبدأ. وفي هذه الفترة كان منشغلًا بكتاب «أصول الرياضيات»، وهو كتاب ألَّفه بقصد أن يكون جزءًا ثانيًا لكتاب «مبادئ الرياضيات». وكان من المقرر أن يحتويَ هذا الجزء الثاني المفترض على التفاصيل الفنية للأفكار الواردة باختصار في كتاب «مبادئ الرياضيات»، إضافةً إلى معالجةٍ أشمل لعددٍ من الصعوبات التي لم يتناولها الكتاب الأول؛ ولكن سرعان ما اتَّضَح أن راسل يحتاج لما هو أكثر من ذلك لإنجاز هدف المشروع، وهو «إثبات أن كل الرياضيات البحتة تنبع من مقدمات منطقية بحتة ولا تستخدم إلا المفاهيم القابلة للشرح بالحدود المنطقية» (تطوري الفلسفي، ص٥٧). ولذلك طلب راسل تعاون وايتهيد معه في الكتاب، ومنذ ذلك الحين وحتى عام ١٩١٠ كرَّس راسل جُلَّ طاقاته الذهنية لإنتاج هذا العمل البارز. كان راسل مسئولًا عن الجوانب الفلسفية للكتاب وصياغته الفعلية انطلاقًا من المادة الفنية؛ وقدَّم وايتهيد إسهامات مهمة من حيث استخدام مجموعات الرموز، وأسهم بقدرٍ كبير في استنباط البراهين، وذلك من بين نواحٍ أخرى.
يروي راسل أنه كان يعمل في كتاب «أصول الرياضيات» لمدة ثمانية أشهر كل عام، بمعدلٍ يتراوح بين عشر ساعات واثنتي عشرة ساعةً يوميًّا. وعند تسليم المخطوطة أخيرًا لمطبعة جامعة كامبريدج كانت هائلة الحجم، حتى إنه كان لا بد من نقلها إلى هناك على عربة حصان بأربع عجلات. واحتسب موظفو المطبعة أن الكتاب سيُنزِل بهم خسارة قدرها ٦٠٠ جنيه إسترليني، وقالوا إنهم مستعدون لتحمُّل نصف ذلك المبلغ فقط. فأقنع راسل ووايتهيد الجمعية الملكية بمساعدتهما بالتصويت لصالح منحة مقدارها ٢٠٠ جنيه إسترليني، ولكن كان لا بد من دفع المبلغ المتبقي من جيبَيهما. وهكذا، كانت المكافأة المالية التي عادت عليهما بعد سنوات من العمل في هذا المشروع الهائل هي تكبُّد خسارة قدرها ٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا لكلٍّ منهما.
ولكن المكافآت الحقيقية كانت عظيمة؛ ففي أثناء إنجاز هذا الكتاب، وانطلاقًا منه، نشر راسل بعض الأبحاث الفلسفية المهمة للغاية. وانتُخب زميلًا للجمعية الملكية وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين، وكان ذلك أمرًا استثنائيًّا. ورسَّخ مكانته في تاريخ المنطق والفلسفة. وتحقَّق الكثير مما باشره وأنجزه راسل فيما بعدُ في مجالات أنشطته الكثيرة بفضل نيله للمنزلة الرفيعة التي منحه إياها تأليفه لكتاب «أصول الرياضيات».
لم يستسلم راسل للخمول في المناحي الأخرى إبان سنوات الكَدْح الفكري هذه؛ إذ ظل اهتمامه بالسياسة نشطًا؛ فكان يدافع عن حرية التجارة، ورشَّح نفسه للبرلمان متبنيًا قضية منح حق التصويت للنساء في الانتخابات الفرعية في دائرة ويمبلدون لعام ١٩٠٧. وكانت قضية منح حق التصويت للنساء قضية لا تحظى بقَبول على الإطلاق، وكان المدافعون عنها يتعرَّضُون للإساءة بل والعنف بصفة دائمة. وكان من الممكن أن يدخل راسل البرلمان في آخر الأمر لو لم يقف إلحاده في طريق ذلك؛ إذ كان في سبيله إلى الترشُّح عن دائرة بدفورد في انتخابات عام ١٩١١، ولكن حال دون ذلك معرفة منظِّمي حملته الانتخابية بأنه يرفض إخفاء إلحاده عن الناخبين، وأنه يرفض التوجه إلى الكنيسة؛ ومن ثَمَّ اختاروا مرشحًا آخر.
ولكن سنحتْ فرصة تناسبه أكثر بكثير بعد ذلك؛ إذ عيَّنته كلية ترينيتي في وظيفة محاضر لمدة خمس سنوات؛ فسلك راسل حياة المحاضر، ووجَّه انتباهه إلى تأليف كتاب صغير أصبح من الكتب المرموقة، وهو كتاب «مشكلات الفلسفة»، ويظل هذا الكتاب حتى اليوم من أفضل المقدمات القصيرة إلى هذا الموضوع.
كانت العلاقات العاطفية من النتائج غير المتوقعة لأنشطة راسل السياسية؛ ففي عام ١٩١٠ وأثناء إقامته بالقرب من جامعة أكسفورد، كان يساعد في حشد تأييد الناخبين للمرشح المحلي فيليب موريل، وكانت زوجة موريل الليدي أوتولين موريل من معارف راسل في طفولته. وتطوَّرت علاقتهما على مَرِّ العام التالي، وتحولت إلى علاقة غرامية. كان راسل يتمنى الزواج منها، وهو ما كان يستلزم طلاقه من أليس وطلاق أوتولين من فيليب. ولكن أوتولين لم تكن ترغب في ترك فيليب؛ ولذا ظلت علاقتهما علاقة زنًا، وتقبَّل فيليب علاقتهما، ولكن العلاقة لاقت معارضة شديدة من أليس وأسرتها. انفصل راسل وأليس في أوائل عشرينيات القرن العشرين، مع أنهما كانا منذ وقتٍ سابقٍ على هذا في حكم المطلَّقَين، ولم يلتقيا ثانيةً طوال ٤٠ عامًا.
كانت أوتولين مناسبة لراسل قطعًا. وكتب عنها راسل: «كانت تضحك عليَّ حين كنت أتصرف كمحاضر جامعي أو متزمِّت، وحين كنت أستبدُّ برأيي في الحديث. وشَفتْني تدريجيًّا من الاعتقاد بأنني أفيض بفجور شنيع لا يمكن كبحه إلا بقبضة حديدية من ضبط النفس. وساعدتني على أن أقلِّل من أنانيتي واعتدادي بنفسي وبآرائي» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص٢١٤).
وهكذا وفَّرت له إشباعًا لدوافع تذوُّق الجمال لديه، سواء بذاتها أو بالجمال البديع لكل ما يحيط بها. كان راسل يبلغ حينئذٍ نحو ٤٠ عامًا؛ أي إنها كانت صحوةً متأخرة ولكنها عميقة الأثر.
وفي عام ١٩١٤ زار راسل الولايات المتحدة، وألقى محاضرات في جامعة هارفرد، وذلك من بين أماكن أخرى. ونُشرت محاضراته فيما بعدُ في كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي». وكان تي إس إليوت من بين تلاميذه في جامعة هارفرد، وكتب إليوت قصيدة عنه بعنوان «السيد أبوليناكس»، وصوَّره فيها على أنه كائن أسطوري غريب بل ومفزع، قد يتدحرج رأسه المزين بأعشاب البحر فجأة تحت مقعد أو يقفز وهو يبتسم فوق حجاب مصباح؛ صوَّره على أنه يضحك — حسبما يقول إليوت: «مثل جنين مستهتر.» ومع ذلك فإن «حديثه القوي الحماسي» يستهلك كل فترة بعد الظهيرة، مذكرًا إليوت بوقع حوافر وحش القنطور الخرافي فوق أرض صُلبة. ترك لقاء إليوت براسل انطباعًا قويًّا عليه؛ أما عن غيره من الحاضرين، فلم يتذكر إلا أنهم كانوا يأكلون شطائر الخيار.
أثناء زيارة راسل لشيكاجو أحبَّ ابنة مضيفه — ولا يرد اسمها في السيرة الذاتية — وكانت آنذاك طالبة في كلية برين مور. وأعدَّا العدة كي تلحق به في إنجلترا حتى يتمكَّنا من الزواج بعد أن يطلِّق أليس. وقد سافرت الفتاة فعلًا، ولكن الحرب العالمية الأولى كانت قد اندلعت في ذلك الحين؛ مما أصاب راسل بصدمة نفسية، لكن مشاركته الحماسية في الأنشطة المناهضة للحرب أدَّت إلى محو مشاعره تجاهها. وتفاقمت كارثة زيارتها إليه بإصابتها بالجنون. ويسرد راسل في سيرته الذاتية هذه القصة القصيرة المحزنة بندمٍ ملؤه الألم.
كان رد فعل راسل على اندلاع الحرب معقَّدًا؛ إذ كانت سِنُّه كبيرة؛ فلم يكن من الممكن أن يصبح محاربًا؛ لذلك لم يكن قط في موقف الرافض للخدمة العسكرية لأسباب أخلاقية. (ترك عددٌ من معارفه ممن اتخذوا هذا الموقف — مثل ليتون ستارشي — واجباتهم الزراعية الإجبارية وراحوا يمضون وقتهم في عزبة أوتولين في جارسينجتون.) وشأنه شأن الكثير من المثقفين الذين عاصروا عهد الملك إدوارد، كان راسل يُكِنُّ ضعفًا تجاه ألمانيا والثقافة الألمانية. كان يتحدث الألمانية بطلاقة، وكان يقرأ الكتب الألمانية بحكم الطبع، وسبق له أن أقام هناك وكتب عن السياسة الألمانية. ولكنه كان أيضًا وطنيًّا متحمسًا؛ إذ كتب ذات مرة أن «حب إنجلترا يكاد يكون أقوى عاطفة أمتلكها.» ولم يكن كذلك من مناهضي الحروب مناهضةً مطلقة؛ إذ إنه أيَّد الحرب ضد النازية أشدَّ التأييد بعد ذلك بربع قرن. وكان يرى أن اندلاع الحرب في عام ١٩١٤ لم يكن بدافع مبدأٍ معين، وأن الحرب لم تكن تبشر بأي فوائد، بل إن حماقة السياسيين هي التي تسبَّبت فيها، وإنها تهدد بالزجِّ بالحضارة في فوضى عارمة تضيع فيها حياة الشباب سُدًى. وكتب في رسالة موجَّهة إلى الأمة عقب اندلاع القتال: «كل هذا الجنون وكل هذا الغضب وكل هذا الموت المشتعل الذي أصاب حضارتنا وآمالنا، تسبَّبتْ فيه مجموعة من المسئولين الرسميين الذين يعيشون حياة مرفهة، ومعظمهم أغبياء، وكلهم مجرَّدون من سعة الخيال والعاطفة، واختاروا أن تندلع الحرب بدلًا من أن يتحمل أيٌّ منهم أي انتقاص ولو بسيطًا من كرامة بلاده.»
كانت بصيرة راسل بشأن الحرب ثاقبة في ذلك الوقت، تمامًا مثلما كانت حيال حرب فيتنام التي اندلعت بعد ذلك بنصف قرن. لم تكن المجازر الفظيعة التي راح ضحيتها الجنود في الخنادق قد بدأت بعدُ، ومع ذلك رأى راسل أنها محتومة، وأن عواقبها بشعة على المدى الطويل. لم يستطع سوى القليلين حينئذٍ أن يتنبَّئُوا بأن هناك عملية عسكرية قد بدأت ومُقدَّر لها أن تستدرج معظم العالم في حربٍ فعلية أو كامنة لبقية القرن، وسينتج عنها سقوط عشرات الملايين من الضحايا، وتوجيه الموارد الهائلة توجيهًا خاطئًا إلى تطوير التكنولوجيا العسكرية، كل خطوة جديدة في تطويرها أخطر وأشدُّ فتكًا من التي تسبقها. لم يستطع راسل بالطبع أن يتنبَّأ في عام ١٩١٤ بالبلشفية والنازية والمحرقة النازية (الهولوكوست)، والأسلحة النووية والحرب الباردة، والنزعة القومية التي زادت من غلوائها تجارة الأسلحة العالمية، والأصولية التي حفزتها الفجوة المسببة للغيرة القائمة بين الدول الغنية والفقيرة. ولكن كان لديه حسٌّ يقظٌ أوحى له بأن اندلاع الحرب معناه أن الأبواب انفتحت على مصاريعها لكارثةٍ من نوعٍ ما؛ وأتت عقود طويلة من الكوارث كما توقَّع تمامًا.
روَّعه أيضًا الدعم الشعبي للحرب في البلدان المشاركة في الحرب، وما اتَّسمت به من طابع «البربرية البدائية» وإطلاق العنان «لغرائز الكراهية والتعطش للدماء»، وهي العناصر نفسها — كما أشار هو — التي جُبلت الحضارة على مناهضتها. وكان أسوأ ما في الأمر هو ظهور هذه الانفعالات نفسها على غالبية أصدقائه ومعارفه. لم يستطع راسل الوقوف مكتوف الأيدي؛ فطوال سنوات الحرب كان يكتب مقالاتٍ ويُلقي خُطبًا، يؤيد فيها المعارضة المنظمة للحرب في صورة اتحاد القيادة الديمقراطية وجماعة لا للتجنيد. وفي بداية الحرب أخذ يؤدِّي أنشطة خيرية فيما بين الألمان المقيمين في إنجلترا ممن أصبحوا معوزين بعد أن تقطعت بهم السبل عن بلادهم. ولم تستمرَّ الحاجة إلى أداء هذه الأنشطة الخيرية طويلًا؛ نظرًا لأن مواطني البلدان المعادية سرعان ما جرى اعتقالهم ووضعهم رهن الإقامة الجبرية.
كان قائد جماعة لا للتجنيد شابًّا يُدعى كليفورد ألين (وأصبح فيما بعدُ اللورد ألين أوف هيرتوود)، وكان قد سُجن أكثر من مرة لرفضه التخلِّيَ عن نشاطه في مجال مناهضة الحرب. وفي إحدى محاكمات ألين، التقى راسل بالليدي كونستانس ماليسون، وهي ممثلة كان اسم شهرتها هو كوليت أونيل، وكانت تشارك في النشاط المناهض للحرب هي الأخرى، وكانت تقضي أمسياتها في المسرح وتقضي ساعات النهار في مَلء المظاريف في مكاتب الجماعة. أصبح الاثنان عشيقَين؛ إذ وجد راسل في هدوئها ملاذًا يهرب إليه من قسوة الصراع إبَّان زمن الحرب.
وقع راسل عدة مرات تحت طائلة القانون لنشاطه المناهض للحرب؛ ففي عام ١٩١٦ رُفعت عليه دعوى قضائية بسبب مقالٍ كتبه، وحُكم عليه بدفع غرامة قدرُها ١٠٠ جنيه إسترليني. ولكنه رفض الدفع؛ فقضت المحكمة بالحجز على متعلقاته، ولكن أصدقاءه كانوا كرماء فاشترَوْها وأعادوها إليه؛ مما أبطل تأثير الموقف الذي اتخذه. وبعدئذٍ مُنع من دخول أي منطقة عسكرية في بريطانيا، وخصوصًا أي منطقة ساحلية (وافترض هو ساخرًا أن السبب في ذلك هو منعه من إرسال إشارات للغواصات المعادية). ورفضت السلطات منحه جواز سفر حين حاول السفر إلى أمريكا في عام ١٩١٦. وفي عام ١٩١٨ سُجن لمدة ستة أشهر بسبب مقالٍ كتب فيه أن القوات الأمريكية القادمة إلى أوروبا قد تُستخدم في فضِّ الإضرابات، وهي مهمة سبق أن نفَّذتها القوات الأمريكية في بلادها. وبفضل علاقاته الاجتماعية (أقرَّ متهكمًا أنه من المفيد أن يكون المرء أخًا لإيرل) وضعوه في الشعبة الأولى من السجن؛ أي إنه كان يقيم في زنزانة مخصصة له وحده، وكان يُسمح له بالاحتفاظ بكتب؛ ومن ثَمَّ كان يقرأ ويكتب، وأنتج كتابًا واحدًا — «مدخل للفلسفة الرياضية» — وبدايات كتابٍ آخر — «تحليل العقل» — إضافةً إلى عددٍ من العروض النقدية والمقالات. وأُطلق سراحه في سبتمبر من عام ١٩١٨، وذلك حين أصبح من الواضح أن الحرب شارفت على أن تضع أوزارها.
تسببت أول معركة قصيرة خاضها راسل مع القانون في إنزال عقوبة إضافية به. كان كل المحاضرين الشباب في كلية ترينيتي قد ذهبوا للمشاركة في الحرب؛ فتولى مسئولية شئون الكلية حفنةٌ من الرجال الأكبر سنًّا. وكان هؤلاء يشعرون بعداء شديد تجاه نشاط راسل المتعلق بالحرب. وحين علموا بإدانته، أجرَوْا تصويتًا لحرمانه من منصبه كمُحاضر. وشعر عالم الرياضيات جي إتش هاردي بالاستياء من معاملة راسل بهذه الطريقة؛ فكتب فيما بعدُ سردًا لما حدث. وحين عاد المحاضرون الشباب بعد أن وضعت الحرب أوزارها، أجرَوْا تصويتًا لإعادة راسل إلى منصبه، ولكن بحلول ذلك الوقت كانت اهتمامات راسل تُوجهه إلى خارج البلاد.
من بين التغيرات الجمة التي انتابت راسل بسبب الحرب اتساعُ مدى نشاطه الأدبي؛ فقد أنتج كتابَين غير فلسفيَّين إبَّان هذه السنوات، وهما: كتاب «أسس لإعادة البناء الاجتماعي» (وكان عنوانه في الولايات المتحدة «لماذا يحارب البشر؟») ونُشر في عام ١٩١٦، وكتاب «الطريق إلى الحرية»، ونُشر في عام ١٩١٨، وكان هذان الكتابان باكورة كتبه الأخرى الرائجة التي تتناول مسائل اجتماعية وسياسية وأخلاقية. كان راسل يُلقي محتويات كتاب «مبادئ إعادة الإعمار الاجتماعي» كسلسلة من المحاضرات في عام ١٩١٦، وفي تلك الأثناء التقى راسل بدي إتش لورانس وبدأ معه في ما كان يُفترض أن يصبح مشروع تأليف كتاب مشترك، ولكن سرعان ما أصبح أسلوب لورانس عدائيًّا. في البداية انزعج راسل انزعاجًا شديدًا من اتهامات لورانس الموجَّهة إليه بأن نشاطه المناهض للحرب كان قناعًا يُخفي مشاعر عنيفة من كراهية البشر؛ لأنه كان يظن أن لورانس كان يتمتع بفهم عميق للطبيعة البشرية، ولكن رسائل لورانس ذات اللهجة المسعورة واللاذعة، والتي أخذت تتزايد حدتها، جعلت راسل يكتشف ميول لورانس السياسية الفاشية وعبادته للفلسفة اللاعقلانية، وانقطعت الصلة بينهما.
حين كان راسل في السجن في عام ١٩١٨، عكف — كما ذكرت — على تأليف كتابَين فلسفيَّين. ولكن عودته إلى الفلسفة كانت قد بدأت قبل ذلك؛ إذ إنه ألقى سلسلة من المحاضرات في الشهور الأولى من عام ١٩١٨ بعنوان «فلسفة مذهب الذرية المنطقية»، ونُشرت بعد ذلك بمدة قصيرة في أعداد متعاقبة من دورية اسمها ذا مونيست. وبكرمه المفرط المعروف عنه، نسب راسل أفكاره للودفيج فيتجنشتاين، الذي تتلمذ على يديه لمدةٍ قصيرة في كامبريدج قبل الحرب. في الواقع، فإن معظم الأفكار الواردة في محاضرات راسل كانت واضحة في الأعمال التي أنتجها قبل أن يلتقيَ بفيتجنشتاين بمدةٍ طويلة؛ ولكن كما نلاحظ من كتاب فيتجنشتاين «دراسة منطقية فلسفية» — وهو كتابٌ ألَّفه فيتجنشتاين حين كان مجندًا على الجبهة في الجيش النمساوي — فإن الاثنين قد ناقشا هذه الأفكار بشيءٍ من الاستفاضة قبل الحرب. تلقَّى راسل رسالة من فيتجنشتاين من محبسه في معسكر للأسرى في إيطاليا، يُطلعه فيها على كتابه «دراسة منطقية فلسفية». وبعد أن أطلق الإيطاليون سراح فيتجنشتاين، حاول أن ينشر كتابه، ولكنه فشل في ذلك؛ لذا قدَّم راسل له المساعدة، وأقنع أحد الناشرين بنشر الكتاب بعد أن اتَّفق معه على كتابة مقدمة له. قدم راسل مساعدات مهمة إلى فيتجنشتاين عدة مرات — ومن أهمها تدبير حصوله على زمالة بحثية في كلية ترينيتي بعد ذلك بعشر سنوات — ومع ذلك انقطعت الصلة بين الرجلين بسبب خلافات مزاجية وفلسفية شديدة.
وقع راسل في الحب مرةً أخرى، وكانت من أحبها هذه المرة شابة تخرَّجت في كلية جيرتون تُدعى دورا بلاك. وفي عام ١٩٢٠ زار كلٌّ منهما الاتحاد السوفييتي وحده، وعادت دورا من الاتحاد السوفييتي وهي متحمسة له، فيما عاد راسل وهو يشعر بالعداء حياله. ألَّف راسل كتابًا لاذعًا عن البلاشفة، وتشاجر هو ودورا بسببه. ولكن ذلك لم يمنعهما من السفر معًا إلى الصين في عام ١٩٢١؛ إذ تلقَّى راسل دعوة لقضاء عام هناك كأستاذ زائر في بكين.
أحب راسل الصين، شأنه في ذلك شأن الكثيرين ممن يقضون أي مدة في الصين. وشأنه شأن أغلب هؤلاء الكثيرين، كان يميل إلى إضفاء طابع شاعري على الصينيين أنفسهم. وأشاد بحس الفكاهة الذي يتمتعون به وبحكمتهم وقدرتهم على الاستمتاع بكل ما هو جميل وحبهم الشديد التحضر للثقافة والعلم. ولكنه على نحوٍ ما لم يدرك مدى قسوة حياة غالبية الناس في ذلك البلد الكبير، ولا كيف كانت التقاليد العتيقة تقهر الصين وتُعِيقها. وأثناء إقامته هناك رفض أن يُنصِّب نفسه كناصحٍ للكثيرين الذين طلبوا نصحه بشأن طريقة حياتهم وتفكيرهم، وعن الكيفية التي يتسنَّى بها للصين الخروج من فقرها والاضطراب الإقطاعي الذي كانت تعاني منه. كان الفيلسوف الأمريكي جون ديوي يزور الصين في الوقت نفسه، ولم يتردد أن يتحدث في كل هذه الموضوعات؛ مما نتج عنه أنَّ ذكراه لا تزال ذات تأثير أقوى من ذكرى راسل. إن ميراث الحكماء شديد القوة في الصين؛ ومن ثَمَّ ضاعت من راسل فرصة لإفادة هذا البلد. ألَّف راسل كتابًا يعرض فيه آراءه عن الصين ومستقبلها، بَيْدَ أن هذا الكتاب الذي نُشر في وقتٍ لاحق في بلدٍ بعيد عن الصين مثل إنجلترا لم يصلح بديلًا عن النبوءات التي كان ضيوفه يأملون أن يسمعوها منه. بدلًا من ذلك، ألقى عليهم راسل محاضرات عن المنطق الرياضي.
وقرب نهاية إقامة راسل في بكين، مَرِض مرضًا شديدًا؛ إذ أصيب بنزلة شُعبية وكاد يموت. وبسبب التحمُّس الزائد لبعض الصحفيين اليابانيين أُعلن خبر وفاة راسل؛ وهكذا أتيح له أن يقرأ نعيه بنفسه، وقرأ أيضًا نعيًا من سطرٍ واحد ظهر في دورية تبشيرية أضحكه بصفة خاصة، وكان يقول: «ها قد سنحت الفرصة للبعثات التبشيرية ليتنفسوا الصُّعَداء لسماع خبر وفاة السيد برتراند راسل.»
كانت أليس قد وافقت أخيرًا على الطلاق؛ لذا تزوج راسل ودورا في سبتمبر عام ١٩٢١ عند عودتهما إلى إنجلترا، وسرعان ما رُزقا بعدئذٍ بمدة وجيزة بابنهما الأول جون كونراد، ورُزقا بعد ذلك بسنتين بابنةٍ أطلقا عليها كيت. ترشح راسل مرتين لعضوية البرلمان كمرشحٍ عن حزب العمال في منطقة تشيلسي، وذلك في عامَي ١٩٢٢ و١٩٢٣، ولكنه لم يفُز. كان ينوء تحت إلحاح المسئوليات الأسرية؛ وكان بحاجة إلى كسب رزقه؛ مما دفعه إلى التخلي مرةً أخرى عن فكرة المشاركة السياسية البرلمانية، والانكباب على الكتابة والتدريس في الجامعة. وكانت أكثر أوساط التدريس الجامعي ربحًا موجودةً في الولايات المتحدة، فزارها أربع مرات خلال العشرينيات من القرن العشرين. وكان من بين الكتب الرائجة التي نشرها كتب «ألف باء النسبية» و«ألف باء الذرات» و«ما أُومِن به» و«عن التربية» و«مقالات متشككة» و«الزواج والأخلاق» و«الفوز بالسعادة». وحققت بعض هذه الكتب نجاحًا ماليًّا، وتسبَّب بعضها في التشهير به، وكان ذلك غالبًا بسبب ما تحتويه من آراء ليبرالية عن الأخلاقيات الجنسية. لم يهمل راسل الفلسفة أيضًا؛ إذ ظهر كتابه «تحليل العقل» — الذي بدأ تأليفه وهو في السجن — في عام ١٩٢١؛ وقد وُجهت إليه الدعوة لإلقاء «محاضرات تارنر» في كامبريدج عام ١٩٢٥، ونُشرت في عام ١٩٢٧ بعنوان «تحليل المادة». وأنتج كذلك كتابًا دراسيًّا تمهيديًّا بعنوان «موجز للفلسفة».
أشبع مجيء الأطفال تَوقًا طالما كان يراود راسل. أمدَّه طفلاه ﺑ «محور عاطفي جديد» استغرقه في الاهتمامات الأبوية لبقية عقد العشرينيات من القرن العشرين. اشترى بيتًا في كورنوول حتى تقضيَ فيه الأسرة العطلات الصيفية، وحين بلغ جون وكيت سن المدرسة، قرَّر راسل ودورا إنشاء مدرسة تخصهما حتى يتعلم الأطفال على النحو الأفضل من وجهة نظرهما. واستأجرا القصر الريفي الذي يملكه أخو راسل في التلال الجنوبية، وأسسا مدرسة يرتادها ٢٠ طفلًا كلهم في السن نفسها تقريبًا. كان القصر كبيرًا، ويقع على مساحة ٢٠٠ فدان من أراضي الغابات البكر، والتي تعجُّ بأشجار الزان وأشجار الصنوبر، وكانت تجوبها كائنات من مختلِف أشكال الحياة البرية، بما فيها الغزلان. وكان المنظر من القصر نفسه جميلًا.
ومع كل هذه المثاليات والموقع الريفي الساحر الذي تتمتع به المدرسة، فشلت التجربة في النهاية؛ إذ لم تتمكن المدرسة قط من تغطية تكاليفها، وكان الهدف الذي يسعى إليه راسل من تأليف الكتب والمقالات الصحفية الرائجة، والسفر عبر المحيط الأطلنطي ذهابًا وعودة في جولات لإلقاء محاضرات — مع أنه كان يكره الرحلات البحرية — هو دعم المدرسة في المقام الأول. قامت دورا أيضًا بجولة لإلقاء محاضرات في أمريكا، ولكن مسئوليتها الأساسية كانت إدارة المدرسة. واتَّضح أنه من بين الصعوبات التي واجهت المدرسة طاقم موظفي المدرسة؛ إذ لم يعثر راسل ودورا على معلِّمين يمكنهم تطبيق مبادئهما باستمرار، وكانت تلك المبادئ تشمل السماح بالحرية التي يحكمها الانضباط؛ إذ لم تكن مدرسة راسل مكانًا فوضويًّا للصغار، وذلك بالرغم من ادِّعاءات كانت تقول عكس ذلك؛ وكتب راسل فيما بعد: «السماح للأطفال بالانطلاق من شأنه أن يُفسح المجال لمكان يسوده العنف، يرعب فيه الأقوياءُ الضعفاءَ؛ فأي مدرسة هي أشبه بالدنيا؛ لا يمنع العنفَ الوحشيَّ فيها إلا وجودُ حكومة.»
ومن الصعوبات الأخرى أن المدرسة كانت تجتذب نسبة مرتفعة من الأطفال المشاغبين، الذين حاول أولياء أمورهم إرسالهم إلى مدارس أخرى، ولكن اضطُروا في النهاية إلى تجربة المدارس التجريبية. ولما كان راسل وزوجته بحاجة إلى المال، قبلوا هؤلاء الأطفال، ولكنهما اكتشفا أن وجودهم تسبَّب في صعوبة شديدة في إدارة المدرسة.
ومع ذلك كان أسوأ ما في الأمر هو تأثير ذلك على أطفال راسل. كان التلاميذ الآخرون يظنون أن طفلَيه يتلقَّيَان معاملة تفضيلية دون وجه حق؛ لأن والدَيهما يديران المدرسة؛ ولكن راسل ودورا حاولا أن يعاملاهما على قدم المساواة مع الآخرين، في محاولةٍ منهما ليكونا عادلَين، وتسبَّب ذلك في حرمان جون وكيت من والدَيهما في واقع الأمر، وكم تألَّمَا لذلك. وعلى حد وصف راسل، فإن أول فرحة في حياة الأسرة «تبددت وحل محلها الإحراج» (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص٣٩٠).
في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى سادت العالم آمال معقودة على التعليم كطريقة لتغيير وجه العالم؛ ففي النمسا، على سبيل المثال، حيث كان لسقوط الإمبراطورية النمساوية المجرية تأثير مدمر، امتهن الكثير من المثقفين الشباب التدريس في المدارس أملًا في بناء البشر من جديد. وكان كارل بوبر ولودفيج فيتجنشتاين من بينهم. كان راسل منتميًا إلى هذا الاتجاه بطريقةٍ غير مباشرة. ولكن التفاصيل الواقعية للتدريس ومدى تعقيد الطبيعة البشرية سرعان ما جعلت معظمهم يُفِيق من وهمه، وتخلَّوْا عن مهنة التدريس.
وفي عام ١٩٣١ تُوفِّي شقيق راسل — فرانك — فجأة، وورث راسل عنه لقب إيرل، وورث أيضًا ديون أخيه والتزامًا يقضي بأن يدفع ٤٠٠ جنيه إسترليني سنويًّا كنفقة لثاني زوجات أخيه الثلاث السابقات. كان موقفه من لقب إيرل ساخرًا بعض الشيء، ولكنه لم يكن يمانع في استغلاله بعدة طرق، كان أهمها استغلال ما منحته إياه من حق الدخول تلقائيًّا إلى منابر دوائر أهل الحل والعقد؛ فهناك كان من الممكن لآرائه المستقلة التي تنتقد الأفكار والمعتقدات الراسخة السائدة أن يكون لها أكبر الأثر. ولكنه لم يكن يكثر من حضور جلسات مجلس اللوردات، وكان يُكِنُّ شيئًا من الاحتقار للنظام الطبقي البريطاني.
وفي هذا التوقيت تقريبًا كان زواج راسل ينوء تحت وطأة التوتر بسبب المدرسة والعلاقات الغرامية المتعددة التي كان كلا الزوجين ينغمسان فيها. ولم يكن راسل يعارض في أن يكون لدورا علاقات غرامية، ولكنه لم يكن يرغب في أن يكون مسئولًا عن أي أطفال يأتون ثمرةً لتلك العلاقات. حملت دورا بطفلة من عشيق أمريكي، وسُجلت الطفلة في البداية باعتبارها ابنة راسل؛ ولكنه حين وجدها فيما بعدُ مسجلة باسمه في كتاب ديبريتس الذي يشتمل على أسماء النبلاء، اتخذ إجراءات قانونية لشطب اسمها من الكتاب. كان راسل إذنْ يملك دوافع تتعلق بالحفاظ على نقاء السلالة.
وفي أعقاب ما حلَّ براسل من نكبات بسبب المدرسة وانفصاله عن دورا، فضلًا عن الأعباء المالية الإضافية التي ورثها عن أخيه، كان راسل لا يزال بحاجة إلى كسب عيشه من نتاج قلمه. انتهت علاقة العمل المجزية التي جمعت راسل بصحف هيرست في أمريكا — وكان راسل يكتب عمودًا فيها — في أوائل ذلك العَقد؛ ولذا اضطُر إلى تكريس كل طاقته لتأليف الكتب. وفي عام ١٩٣٢ نشر كتاب «الاستشراف العلمي»، وفي عام ١٩٣٤ نشر كتابًا من أفضل كتبه، وهو يتناول التاريخ السياسي، وهو بعنوان «الحرية والتنظيم ١٨١٤–١٩١٤». ونشر في عام ١٩٣٥ كتاب «في مديح الكسل»، وفي عام ١٩٣٦ كتاب «أين الطريق إلى السلام؟» وفي هذا الكتاب أعاد التأكيد على اتجاهه المناهض للحرب مع بعض التحفظات والتزامه بفكرة الحكومة العالمية. ولكن بحلول توقيت نشر هذا الكتاب كان قد أدرك من قبلُ ضرورة وجود تحفظات أكبر على حركة مناهضة الحرب، وخصوصًا — كما تبيَّن من الأحداث التي شهدتها ألمانيا على مدى العامين أو ثلاثة الأعوام السابقة — في مواجهة خطرٍ رأى أنه «منفِّر للغاية» مثل النازية. وبحلول وقت اندلاع الحرب العالمية الثانية كان قد قرَّر أن مقاومة هتلر يجب أن تكون بلا تحفظات.
في عام ١٩٣٧ نشر راسل كتاب «أوراق أمبيرلي»، وهو سيرة لحياة والدَيه يتألف من ثلاثة أجزاء. كان يرى أن هذا العمل «مريح»؛ لأنه كان معجبًا بالآراء الجريئة التي كان يعتنقها والداه وكان متفقًا معها تمامًا، وكان يشعر بالحنين إلى العالم الرحب والمفعم بالأمل — هكذا كان يبدو لراسل — الذي كانا يناضلان فيه دفاعًا عن آرائهما. كانت تعاون راسل في هذا الكتاب وفي كتاب «الحرية والتنظيم ١٨١٤–١٩١٤» امرأة شابة — كانت تعمل معلمة في مدرسته سابقًا، ثم أصبحت عشيقته، ثم زوجته الثالثة في عام ١٩٣٦ — تُدْعَى باتريشا سبينس (وكانت تُدعى عادةً «بيتر»). وفي عام ١٩٣٧ رُزقا بابنٍ، سمَّيَاه كونراد. وانتقلا إلى منزلٍ بالقرب من جامعة أكسفورد حيث كان راسل يدرس مقررًا من المحاضرات ويعقد مناقشات مع مجموعة من الفلاسفة الشباب، من بينهم إيه جيه آير. ثم نشر كتاب «القوة، تحليل اجتماعي جديد» في عام ١٩٣٨، وتحوَّلت محاضراته التي ألقاها في جامعة أكسفورد — التي كانت بعنوان «كلمات وحقائق» في البداية — إلى كتابه الفلسفي التالي، بعنوان «ما وراء المعنى والحقيقة»، ونُشر عام ١٩٤٠.
عام ١٩٣٨ سافر راسل مع زوجته بيتر وكونراد إلى أمريكا لتسلُّم منصب أستاذ زائر في جامعة شيكاجو. وعقد مناقشات منشطة هناك مع طلاب وزملاء أذكياء — كان من بين الزملاء رودولف كارناب — ولكنه لم يكن على وفاق مع رئيس قسم الفلسفة، وكان يكره شيكاجو، ووصفها بأنها «مدينة بغيضة ذات طقس سيئ.» وفي أواخر العام انتقلت أسرة راسل إلى كاليفورنيا؛ حيث وجد طقسها ألطفَ بكثير. كان راسل يُدرِّس في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. وفي صيف عام ١٩٣٩ جاء جون وكيت لقضاء عطلة في كاليفورنيا، ولكن اندلاع الحرب حال دون عودتهما إلى إنجلترا؛ لذلك أدخلهما راسل في جامعة كاليفورنيا.
وبرغم الطقس المشرق في كاليفورنيا، كان راسل يشعر بقدرٍ أقل من الرضا في جامعة كاليفورنيا عما كان عليه شعوره في شيكاجو؛ لأن الموظفين والطلاب لم يكونوا مؤهلين، وكان رئيس الجامعة سيئ الطبع إلى حدٍّ كبير من وجهة نظر راسل؛ ولذلك، بعد عام واحد، قَبِل عرضًا لشغْل منصب أستاذ في كلية سيتي كوليدج أوف نيويورك. ولكن قبل أن يتمكن من تسلُّم منصبه، ثارت حوله فضيحة بسبب الإلحاد والفجور. وكان أول من فجَّر شرارة الفضيحة هو أسقفًا من الكنيسة الأسقفية، ونقلها الكاثوليكيون بكل حماس، وذاعت أنباؤها بسبب دعوى قضائية رفعتها أم طالبة كانت ستدخل الكلية. وقالت الأم — وتُدعى السيدة كاي — إن وجود راسل في الكلية سيكون خطيرًا على عفة ابنتها. ولم يتمكَّن راسل من الدفاع عن نفسه في المحكمة؛ لأن الدعوى كانت مرفوعة ضد بلدية نيويورك ولم يكن هو طرفًا فيها. ووصف محامي السيدة كاي أعمال راسل بأنها «فاسقة، وداعرة، وشهوانية، وشَبِقة، ومثيرة للشهوة، وماجنة، وتتسم بضيق الأفق، وكاذبة، ومجردة من القيمة الأخلاقية.» وكان من أسباب هذا الوصف أن راسل ذكر في كتابٍ له أنه لا ينبغي عقاب الأطفال الصغار على الاستمناء. وتفوَّق القاضي الأيرلندي الكاثوليكي في سبِّ وذم راسل على محامي السيدة كاي وهو يوجز الاتهام الموجه لراسل. وربحت القضيةَ السيدةُ كاي طبعًا.
ولم تتسبب القضية في تأليب مدينة نيويورك وولاية نيويورك بأكملها ضد راسل فحسب، بل تسببت في تأليب البلاد بأكملها ضده. وبعد طرده من وظيفته في نيويورك، لم يستطع في البداية أن يجد أي مكان آخر يقبل بمنحه وظيفة في مجال التدريس، ولم يستطع كذلك أن يجد أي جريدة تعرض عليه كتابة عمود فيها، ونظرًا لظروف الحرب كان من المستحيل الحصول على المال من إنجلترا؛ وهكذا تقطَّعت به السبل خارج بلاده دون مورد للرزق، وهو مسئول عن أسرة عليه أن يعولها.
أنقذ راسل من هذه المعضلة جامعة هارفرد أولًا؛ إذ وجَّهت إليه دعوة كريمة للتدريس فيها في عام ١٩٤٠، ثم أنقذه مليونير من مدينة فيلادلفيا، يُدعى د. بارنز، وكان من هواة جمع القطع الفنية وصاحب مؤسسة مخصصة في المقام الأول لدراسة تاريخ الفنون. منح بارنز راسل عقدًا مدته خمس سنوات للتدريس في المؤسسة. ومن الأمور التي وجدها راسل مسلية أن القاعة التي كان يُلقي فيها محاضراته كانت معلَّقةً على جدرانها لوحاتٌ فرنسية تصور أشخاصًا عراة، بَيْدَ أنه كان يعتقد أن ذلك لا يتناسب مع الفلسفة الأكاديمية. كان بارنز غريب الأطوار ويُشتهَر بالتشاجر مع الموظفين العاملين لديه؛ فأصدر فجأة إخطار فصل بعد أقل من نصف مدة عقد راسل؛ لأن محاضرات راسل كانت — في رأيه — سيئة الإعداد. نُشرت هذه المحاضرات بعدئذٍ ككتاب بعنوان «تاريخ الفلسفة الغربية»، وأصبح أكثر كتب راسل نجاحًا بفارق كبير على المستويين الشعبي والمالي. ورفع راسل دعوى على بارنز لخرق العقد، وأعطى المخطوطة للقاضي ليقرأها، وربح القضية. ومن نافلة القول أنه توجد أجزاء من هذا الكتاب الشهير مختصرة إلى حدٍّ يجعل المرء يشعر بشيءٍ من التعاطف مع مليونير فيلادلفيا. ولكنه من نواحٍ أخرى عبارة عن دراسة شاملة رائعة تتناول الفكر الغربي تتَّسم بأسلوب ممتع سهل القراءة، ويتميَّز الكتاب بوضع الفكر الغربي في سياقه التاريخي على نحوٍ مفيد. من الواضح أن راسل استمتع بكتابته، ويظهر هذا الاستمتاع في الكتاب، كما تُظْهِر تعليقاته اللاحقة عن الكتاب أنه كان يدرك مواطن القصور فيه.
استكمل راسل العمل في كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» في مكتبة كلية برين مور بعد انفصاله عن بارنز. ويعود الفضل في ذلك إلى كَرَم الأستاذ الجامعي بول فايس، الذي وجَّه الدعوة لراسل للعمل في الكلية، وذلك حين كان راسل ينتظر الحصول على إذنٍ من السفارة البريطانية في واشنطن للعودة إلى إنجلترا. عرضت كلية ترينيتي على راسل فرصة الحصول على درجة الزمالة؛ مما أنقذ راسل من الصعوبات التي كان يواجهها، وأنقذه كذلك التقدم الهائل الذي كان يُحرِزه كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية». وقبل عودة راسل بحرًا وسط أخطار الغواصات الألمانية التي كانت تجوب المحيط الأطلنطي، أمضى راسل مدة قصيرة في جامعة برينستون، حيث كانت له مناقشات مع أينشتاين وكيرت جوديل وفولفجانج باولي. وعلى مدى السنوات القليلة التالية، درَّس راسل في جامعة كامبريدج، ونشر كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» في عام ١٩٤٥ وكتاب «المعرفة الإنسانية: نطاقها وحدودها» في عام ١٩٤٨. كان هذا الكتاب هو آخر الأعمال الفلسفية لراسل، وقد أصيب بخيبة أمل حين تلقَّى الكتاب اهتمامًا محدودًا من الأوساط الفلسفية. ونسب ذلك إلى الشعبية الهائلة التي كانت تحظى بها أفكار فيتجنشتاين آنذاك ولفترة بعد ذلك. وفي عام ١٩٤٩ — وهو عام وصفه بأنه «أوج الرفعة» التي نالها — تغيَّرت الزمالة التي حصل عليها في كلية ترينيتي إلى زمالة مدى الحياة دون تحمُّل واجبات تدريس، واختير للحصول على زمالة شرفية للأكاديمية البريطانية، ودعته هيئة الإذاعة البريطانية لإلقاء أول سلسلة من محاضرات رايث، ومنحه الملك جورج الخامس وسام الاستحقاق، وفي العام التالي فاز بجائزة نوبل للآداب، ووصله نبأ نيله الجائزة وهو في زيارة جديدة للولايات المتحدة.
سُرَّ راسل لمنحه وسام الاستحقاق، وتوجَّه إلى قصر باكنجهام لحضور حفل تقليد الوسام. وشعر الملك جورج بالحرج لاضطراره إلى التعامل بلطف مع رجلٍ ارتكب الزنا وسبقت إدانته ويميل إلى انتقاد الأفكار والمعتقدات الراسخة، وفضلًا عن ذلك — على حد وصف الملك — عجيب المظهر؛ فقال له الملك: «لقد كنتَ تسلك أحيانًا مسلكًا لن يكون من اللائق أن يكون مسلكًا شائعًا.» وكان الرد الذي كاد يفلت من بين شفتَي راسل، ولكنه تمكَّن من كبحه: «مثل أخيك.» وكان يقصد الملك إدوارد الثامن الذي تنازل عن العرش؛ لكنه قال بدلًا من ذلك: «يتوقف السلوك الذي ينبغي على المرء أن يسلكه على مهنته؛ فساعي البريد، مثلًا، ينبغي أن يدقَّ على كل الأبواب في شارعٍ معين ليسلم الخطابات، ولكن إذا دق أحدٌ غيره على كل الأبواب، فسيُعتبر ذلك من قبيل الإزعاج.» وعندها غيَّر الملك الموضوع بسرعة (السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص٥١٦-٥١٧).
وبفضل المكانة الرفيعة الجديدة التي اكتسبها راسل، ولا سيما معارضته الطويلة الأمد للشيوعية في الاتحاد السوفييتي، استعانت به الحكومة البريطانية في زيادة برودة الحرب الباردة. وفي سبيل تحقيق هذه المهمة زار ألمانيا والسويد لإلقاء محاضرات. وأثناء زيارته للسويد سقطت الطائرة المائية التي كان يستقلها في ميناء تروندهايم، واضطُر عندئذٍ إلى السباحة في مياه شديدة البرودة لينجو؛ أما خلال زيارته لألمانيا فقد أصبح مؤقتًا فردًا من أفراد القوات الجوية البريطانية، وهو ما أسعده كثيرًا.
كان راسل كثير السفر في خمسينيات القرن العشرين — إلى أستراليا والهند وأمريكا مرة أخرى، وكذلك أوروبا والبلدان الإسكندنافية — وكان يُلقي محاضرات هناك طوال الوقت، وكان يحظى بشهرة كبيرة هناك. وبعد انفصال راسل عن بيتر سبينس بثلاث سنوات تزوَّج من صديقته الأمريكية التليدة إيديث فينش، وأمضيا شهر العسل في باريس؛ ولكن حتى حينما كان راسل يتجول بأرجاء المدينة لمشاهدة معالمها — ولم يكن أيٌّ منهما قد تجوَّل فيها كسائحٍ قط؛ لأن كلًّا منهما سبقت له الإقامة فيها — كان الناس يتعرفون عليه ويتجمَّعون حوله.
تحوَّلت الأسفار وجولات إلقاء المحاضرات إلى كتب، كدأب راسل دومًا. وظهرت محاضرات رايث ككتاب بعنوان «السلطة والفرد». وفي عام ١٩٥٤ نشر كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة»، وهو الكتاب الذي أدرج فيه الخطبة الرسمية التي ألقاها بمناسبة تسلُّمه جائزة نوبل. ولما كان راسل قد نال جائزة نوبل في الآداب (ورد في خطاب التنويه كتاب «الزواج والأخلاق»)، حفزه ذلك على الكتابة القصصية. وفي عام ١٩٢١ كتب رواية ولكن لم يحاول نشرها، وكتب مجموعتين من القصص القصيرة — أو إن شئنا الدقة قلنا الحكايات الرمزية القصيرة — وكلها ذات مغزًى فلسفيٍّ أو جدلي، بعنوان «الشيطان في الضواحي» و«كوابيس المرموقين». وفي عام ١٩٥٦ نشر كتاب «صور من الذاكرة»، وهو سلسلة من المقالات الوصفية لأشخاص مرموقين تعرف عليهم، وفي عام ١٩٥٩، قدَّم للعالم سيرته الذاتية الفكرية، وعنوانها، «تطوري الفلسفي»، وتلخِّص التقدم الذي شهدته آراؤه منذ الطفولة فصاعدًا.
لكن أي فكرة مفادها أن راسل قد تمكَّن أخيرًا من الدخول إلى دوائر أهل الحل والعقد — وأنه سيُخفف من غلوائه ويركن إلى الشيخوخة الهادئة المكللة بالجلال والاحترام — كانت خاطئة؛ إذ إن راسل كان يرى أن العالم يحدق به خطر داهم ومتزايد بسرعةٍ، وكان يرى أنه من المحتم مقاومته. وكان هذا الخطر هو انتشار أسلحة الدمار الشامل. وبدءًا من منتصف خمسينيات القرن العشرين وحتى وفاته في فبراير عام ١٩٧٠، ظلَّ يناضل ضد الأسلحة والحرب بحماس شابٍّ في مقتبل العمر؛ مما أدى إلى الحكم عليه بالسجن مرة أخرى، وذلك فضلًا عن عواقب أخرى — خُفف الحكم بسبب تقدُّمه في السن (كان آنذاك في التسعينيات من عمره)، بحيث أصبحت العقوبة أسبوعًا في مستشفى السجن — وجلب عليه موقفه ذلك الكراهية والعداوة في سنواته الأخيرة، خاصةً بسبب معارضته الطائشة المفرطة بل والمسعورة — فيما كان يبدو — للأفعال الأمريكية في حرب فيتنام. اتضح فيما بعدُ أن اتهاماته للولايات المتحدة بارتكاب جرائم حرب كانت قائمة على معلومات صحيحة في معظمها. وفي إطار هذه المساعي أصبح راسل أول رئيس للحملة المعنية بنزع السلاح النووي، ونشر كتابَين — «المنطق السليم والحرب النووية» و«هل يوجد مستقبل للبشر؟» — وأدَّى دورًا مهمًّا في تأسيس مؤتمر بوجواش وفي تأسيس المحكمة الدولية لجرائم الحرب تعبيرًا عن المعارضة لحرب فيتنام، وذلك بمشاركة جان بول سارتر.
تَرِدُ مناقشةٌ للصراعات السياسية التي شهدها راسل إبان السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياته في الفصل الرابع. كان راسل يبدو وكأنه يزداد شبابًا مع الزمن عند خاتمة حياته، رغم شيخوخة الجسد وشيءٍ من الوهن (ولكنه كان نشطًا ومتيقظًا حتى النهاية، حين تُوفِّي وهو في عامه الثامن والتسعين)؛ إذ قدمته جدته إلى العالم على صورة كهل فيكتوري، لكنه غيَّر من نفسه إلى فارس مطوف دائم الشباب؛ فارس صادق وصارم ذي فكر مهيب ومقدرة هائلة ككاتب، يستخدم مواهبه — ولعل من أهمها قدراتِه الفريدةَ المتعلقة بالمنطق وخفة الظل — للتصدي للقوى الغاشمة.
إن منظور الزمن من شأنه إما أن يضخم من شأن مَن شغلوا المشهد العام وإما أن يقلل منه. ويتضاءل السواد الأعظم من هؤلاء ويظلون في السفوح، فيما يسمو قلائل إلى قمم الجلال. ويظهر راسل صرحًا منيفًا بين القمم.